الدكتور خليل أبو ذياب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    عضو أساسي
    • 14-10-2007
    • 867

    الدكتور خليل أبو ذياب

    أ.د. خليل أبو ذياب
    ..................

    أولا : الحالة الشخصية :
    .......................
    1-الاسم : خليل إبراهيم أبوذياب .
    2-تاريخ ومكان الميلاد :16/ 8/ 1941م . السوافير –قضاء المجدل –فلسطين .
    3-الحالة الاجتماعية : متزوج ، عدد الاولاد : 8 .
    4-الجنسية الحالية : فلسطيني .
    5-العنوان الدائم : قطاع غزة ، فلسطين .
    6-العنوان الحالي : الرياض ـ السعودية: ص ب 20169 – الرمز البريدي 11455- ت 4111128
    جوال / 053265171
    ***
    ثانيا : السيرة التعليمية :
    .......................
    أ- المراحل قبل الجامعة :
    1- من المرحلة الابتدائية فالمتوسطة حتى الثانوية في قطاع غزة حتى سنة 1958م.
    ب- المرحلة الجامعية :
    1- الليسانس : كلية الآداب –قسم اللغة العربية –جامعة القاهرة 1958م-1962م .
    2- الماجستير : كلية الآداب –قسم اللغة العربية –جامعة القاهرة 1968م.
    موضوع الرسالة : " أثر المتنبي في أبي العلاء المعري في ديوان " سقط الزند"
    بتقدير : جيد جداً " .
    3- الدكتوراه : قسم اللغة العربية –جامعة القاهرة 1974م . موضوع الرسالة " ديوان لزوم مالايلزم لأبي العلاء : دراسة موضوعية فنية ، مرتبة الشرف الأولى .
    ******
    ثالثا : السيرة العلمية :
    .....................
    1- ممارسة التعليم لمدة سنة واحدة في إحدى مدارس قطاع غزة الثانوية (1962-1976) .
    2- ممارسة التعليم لمدة ثلاث عشرة سنة في مدارس الكويت المتوسطة
    والثانوية (1963-1976) .
    3- عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالمملكة العربية السعودية بالقصيم / بريدة ، والرياض منذ سنة 1976/1396هـ - 2000/1421هـ
    ولمدة أربع وعشرين سنة .

    رابعا : السيرة العلمية : الإنتاج العلمي :
    .......................................
    1- الدراسات المطولة :
    ......................
    أولا : مكتبة الدراسات العلائية :

    1-النزعة الفكرية في اللزوميات . . . . مطبوع 1995
    2-المعمار الفني في اللزوميات . . . . . مطبوع 1995
    3-علوم اللغة في " رسالة الصاهل والشاحج " لأبي العلاء المعري . . مطبوع 2000
    4-الرحلة الخيالية بين أبي العلاء وابن شهيد ودانتي : دراسة تحليلية مقارنة .
    5-الاتجاهات الثقافية والأدبية عند أبي العلاء المعري . . . تحت الطبع .
    6-أثر المتنبي في أبي العلاء في ديوان " سقط الزند " . . . مخطوط .
    7-العروض في أدب أبي العلاء المعري .
    8-المعجم اللغوي لأدب أبي العلاء المعري ( تحت الإعداد ) .

    ثانيا : دراسات في الشعر الهذلي :
    ................................
    1-الصورة الفنية في شعر هذيل .
    2-التشكيل الاجتماعي والفني للمرأة الهذلية .
    3-ظاهرة الموت في الشعر الهذلي .
    4-أبو صخر الهذلي : حياته وشعره .
    5-أمية بن أبي عائذ : حياته وشعره .
    6-مليح بن الحكم : حياته وشعره .
    7-ساعدة بن جؤية : حياته وشعره .
    8-المعجم اللغوي لشعر هذيل ( تحت الإعداد ) .

    ثالثا : مكتبة الدراسات الأدبية :
    .............................
    1-النابغة الجعدي : حياته وشعره .
    2-مروان بن أبي حفصة : حياته وشعره .
    3-عمر بهاء الدين الأميري : حياته وشعره .
    4-دراسات في أدب الجاحظ .
    5-الصورة الاستدارية في الشعر العربي – مطبوع 1999
    6-التشكيل النفسي لشعر الصعاليك .

    رابعا : مكتبة الدراسات القرآنية :
    ...............................
    1- ظاهرة التفسير العلمي للقرآن الكريم . . . . . مطبوع .
    2- منهج " المنار " في تفسير القرآن الكريم . . . . مخطوط .
    3- سورة يوسف : دراسة أدبية تحليليلة . . . . مخطوط .
    4- ظاهرة التقابل في القرآن الكريم . . . . . . تحت الإعداد .
    5- دراسات في فن القص . . . . مطبوع .
    6- دراسات في الأدب الإسلامي . . . . مخطوط .
    7- دراسات في الشعر الحديث . . . . مخطوط .
    ***
    خامسا : مكتبة الدراسات النقدية :
    ................................
    1- تاريخ النقد الأدبي عند العرب ( جزءان ) مخطوط .
    2- منهج ابن رشيق في النقد في كتاب " القراضة " مخطوط .
    3- المرتضى ناقدا ( تحت الإعداد ) .
    ***
    سادسا : نصوص مختارة من الأدب العربي : دراسة تحليلية :
    .................................................. .........
    1- الأدب الجاهلي . مطبوع .
    2- أدب عصر صدر الإسلام . مطبوع .
    3- الأدب الأموي . مخطوط .
    4- الأدب العباسي . مخطوط .
    5- الأدب الأندلسي . مخطوط .
    6- أدب الحروب الصليبية والدول المتتابعة . مخطوط .
    7- الأدب الحديث . مخطوط .

    ب- البحوث القصيرة والمقالات والمحاضرات والندوات ، وهي كثيرة نشر بعضها
    في بعض المجلات والصحف المحلية والعربية ، وألقي بعضها في بعض
    المنتديات العلمية والأدبية ، ومايزال كثير منها لم ينشر .

    ج- الإشراف على بعض الرسائل الجامعية ، والاشتراك في مناقشة بعض الرسائل
    الجامعية للماجستير والدكتوراه ، والاشتراك في تحكيم بعض البحوث
    والدراسات التي أعدت للترقية إلى درجات علمية أو نشرها في دوريا ت علمية
    جامعية .
  • ريمه الخاني
    مستشار أدبي
    • 16-05-2007
    • 4807

    #2
    تشرفت بالتعرف على سيرتك الذاتية استاذنا الكريم
    ندعو لك بالتوفيق دوما وقضاء اوقات مفيدة بيننا

    تعليق

    • يسري راغب
      أديب وكاتب
      • 22-07-2008
      • 6247

      #3
      الدكتور خليل ذياب الموقر
      اسم علم فلسطيني يرفرف خفاقا عالي البنيان
      سيره ذاتيه في العلم والتربيه والتعليم جابت البلدان
      ذكاء وموهبه واجتهاد وابداع رائع التكوين والكيان
      والشكر موصول للقدير الدكتور حسين اهدانا العنوان
      مع كل التقدير والاحترام
      دام الواصل والموصول غانمان سالمان منعمان مكرمان

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        عضو أساسي
        • 14-10-2007
        • 867

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة يسري راغب مشاهدة المشاركة
        الدكتور خليل ذياب الموقر
        اسم علم فلسطيني يرفرف خفاقا عالي البنيان
        سيره ذاتية في العلم والتربيه والتعليم جابت البلدان
        ذكاء وموهبه واجتهاد وابداع رائع التكوين والكيان
        والشكر موصول للقدير الدكتور حسين أهدانا العنوان
        مع كل التقدير والاحترام
        دام الواصل والموصول غانمين سالمين منعمين مكرمين
        شكراً على المُشاركة الجميلة،
        وكل عام وأنتم بخير.

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          عضو أساسي
          • 14-10-2007
          • 867

          #5
          «القط الأسود » لأدغار ألان بو: نص ونقد

          بقلم: أ.د. خليل أبو ذياب
          ---------------

          القط الأسود
          ...........

          لست أتوقع منكم، بل لست أطلب أن تصدقوا الوقائع التي أسطرها هنا لقصة هي أغرب القصص
          وإن كانت في الآن عينه مألوفة للغاية .
          سوف أكون مجنوناً لو توقعت أن تصدقوا ذلك، لأن حواسي ذاتها ترفض أن تصدق ماشهدته
          ولمسته .
          غير أنني لست مجنوناً – ومن المؤكد أنني لا أحلم- وإذ كنت ملاقياً حتفي غداً فلا بد لي من أن
          أزيح هذا العبئ عن روحي .
          ما أرمي إليه هو أن أبسط أمام العالم، بوضوح ودقة، وبلا أي تعليق، سلسلة من الوقائع
          العادية جداً. إنها الوقائع التي عصفت بي أهوالها و واصلت تعذيبي ودمرتني. مع ذلك لن
          أحاول تفسيرها وإذا كنت لا أجد فيها غير الرعب فإنها لن تبدو للآخرين مرعبة بقدر ما ستبدو
          نوعاً من الخيال الغرائبي المعقد .
          قد يجيء في مقبل الأيام ألمعي حصيف يبين له تفكيره أن هذا الكابوس مجرد أحداث عادية –
          وربما جاء ألمعي آخر أكثر رصانة وأرسخ منطقاً وتفكيره أقل استعداداً للإثارة من تفكيري،
          ليرى في الأحداث التي أعرضها بهلع مجرد تعاقب مألوف لأسباب طبيعية ونتائجها المنطقية .
          عر ْفت منذ طفولتي بوداعتي ومزاجي الإنساني الرقيق، حتى أن رقة قلبي كانت على درجة من
          الإفراط جعلتني موضوع تندر بين زملائي .وقد تميزت بولع خاص بالحيوانات مما جعل أبواي
          يعبران عن تدليلهما لي بإهدائي أنواعاً من الحيوانات المنزلية. مع هذه الحيوانات كنت أمضي
          معظم أوقاتي ، ولم أعرف سعادة تفوق سعادتي حين كنت أطعمها وأداعبها. نمت هذه الطباع
          الغريبة مع نموي، وكانت لي في طور الرجولة أكبر منابع المتعة .
          الذين عرفوا مشاعر الولع بكلب أمين ذكي سوف يفهمون بسهولة ما أود قوله عن مدى البهجة
          المستمدة من العناية بحيوان أليف .إن في تعلق الحيوان بصاحبه تعلقاً ينكر الذات
          ويضحي بها مايخترق قلب الإنسان الذي هيأت له الظروف أن يعاني من خسة الصداقة
          وضعف الوفاء عند الجنس البشري .
          تزوجت في سن مبكرة، وقد أسعدني أن أجد في مزاج زوجتي مالايناقض مزاجي. وإذ لاحظت
          ولعي بالحيوانات المنزلية لم تترك مناسبة تمر دون أن تقتني منها الأجناس الأكثر إمتاعاً
          وإيناساً. هكذا تجمع لدينا طيور وأسماك ذهبية وكلب أصيل وأرانب وقرد صغير وقط .
          كان هذا القط كبير الحجم بشكل مميز، جميل الشكل، أسود اللون بتمامه، وعلى قدر عجيب من
          الذكاء، كانت زوجتي التي لا أثر للمعتقدات الخرافية في تفكيرها، حين تتحدث عن ذكائه تشير
          إلى الحكايات الشعبية القديمة التي تعتبر القطط السود سحرة متنكرين. هذه الإشارات لاتعني
          أنها كانت في يوم من الأيام جادة حول هذه المسألة. أذكر هذا لسبب وحيد هو أنه لم يرد إلى
          ذهني قبل هذه اللحظة .
          كان بلوتو – وهذا هو اسم القط- حيواني المدلل وأنيسي المفضل، أطعمه بنفسي، ويلازمني
          حيثما تحركت في البيت. بل كنت أجد صعوبة لمنعه من اللحاق بي في الشوارع .
          دامت صداقتنا على هذه الحال سنوات عديدة، تبدل خلالها مزاجي وساء سلوكي بفعل ادماني
          على المسكرات (إني أحمر خجلاً إذ أعترف بذلك) ويوما بعد يوم تزايدت حدة مزاجي
          وشراستي، واستعدادي للهيجان، وتزايد استهتاري بمشاعر الآخرين. ولكم عانيت وتألمت بسبب
          التعابير القاسية التي رحت أوجهها إلى زوجتي، حتى أنني في النهاية لجأت إلى العنف الجسدي
          في التعامل معها .
          وبالطبع فقد استشعرت حيواناتي هذا التغير في مزاجي. ولم أكتف بإهمالها بل أسأت معاملتها.
          وإذا كان قد بقي لبلوتو بعض الاعتبار مما حال دون إساءتي إليه فإنني لم أستشعر دائماً في
          الإساءة إلى الأرانب أو القرد، أو حتى الكلب، كلما اقتربت مني مصادفة أو بدافع عاطفي. غير
          أن مرضي قد تغلب علي – وأي مرض كالمسكرات!- ومع الأيام حتى بلوتو الذي صار هرماً
          ومن ثم عنيداً نكداً بدأ يعاني من نتائج مزاجي المعتل .
          ذات ليل كنت عائداً إلى البيت من البلدة التي كثر ترددي إليها وقد تعتعني السكر؛ وخيل إلي أن
          القط يتجنب حضوري؛ فقبضت عليه، وإذ أفزعته حركاتي العنيفة جرحني بأسنانه جرحاً طفيفاً
          فتملكني غضب الأبالسة. وبدا أن روحي القديمة قد اندفعت على الفور طائرة من جسدي؛
          وارتعد كل عرق في هيكلي بفعل حقد شيطاني غذاه المخدر. فتناولت من جيب سترتي مطواة،
          فتحتها وقبضت على عنق الحيوان المسكين واقتلعت عامداً إحدى عينيه من محجرها! إنني
          أحتقن، أحترق، أرتعد حين أكتب تفاصيل هذه الفظاعة الجهنمية .
          لما استعدت رشدي في الصباح – لما نام هياج الفسوق الذي شهده الليل- عانيت شعوراً هو
          مزيج من الرعب والندم بسبب الجريمة التي ارتكبتها، غير أن ذلك كان في أحسن الحالات
          شعوراً ضعيفاً وملتبساً لم يبلغ مني الأعماق. ومن جديد استحوذ علي الإفراط في الشراب.
          وسرعان ما أغرقت الخمرة كل ذكرى لتلك الواقعة .
          في هذه الأثناء أخذ القط يتماثل للشفاء تدريجياً. صحيح أن تجويف العين الفارغ كان يشكل
          منظراً مخيفاً لكن لم يبد عليه أنه يتألم،
          وعاد يتنقل في البيت كسابق عهده، غير أنه كما هو
          متوقع، كان ينطلق وقد استبد به الذعر كلما اقتربت منه. كانت ماتزال لدي بقايا من القلب
          القديم بحيث ينتابني الحزن إزاء هذه الكراهية الصارخة التي يبديها لي كائن أحبني ذات يوم.
          لكن سرعان ماحل الانزعاج محل الحزن. وأخيراً جاءت روح الانحراف لتدفعني إلى السقوط
          الذي لانهوض منه. هذه الروح لاتوليها الفلسفة أي اعتبار. مع ذلك لست واثقاً من وجود
          روحي في الحياة أكثر من ثقتي أن الانحراف واحد من الموازع البدئية في القلب البشري، واحد
          من الملكات أو المشاعر الأصيلة التي توجه سلوك الإنسان. من منا لم يضبط نفسه عشرات
          المرات وهو يقترف إثماً أو حماقة لا لسبب غير كون هذا العمل محرماً؟ أليس لدينا ميل دائم،
          حتى في أحسن حالات وعينا، إلى خرق مايعرف بالقانون لمجرد علمنا بأنه قانون؟ روح
          الانحراف هذه هي التي تحركت تدفعني إلى السقوط النهائي. إنها رغبة النفس الدفينة لمشاكسة
          ذاتها – لتهشيم طبيعة ذاتها- لاقتراف الإثم لوجه الإثم، هذه الرغبة التي لايسبر غورها هي
          التي حرضتني على مواصلة الأذى ضد الحيوان الأعزل، وأخيراً الإجهاز عليه .
          ذات صباح وعن سابق تصور وتصميم لففت حول عنقه أنشوطة وعلقته بغصن شجرة ..شنقته
          والدموع تتدفق من عيني، وفي قلبي تضطرم أمر مشاعر الندم؛ شنقته لعلمي أنني بذلك أقترف
          خطيئة،خطيئة مميتة سوف تعرض روحي الخالدة للهلاك الأبدي، وتنزلها إن كان أمر كهذا
          معقولاً، حيث لاتبلغها رحمة أرحم الراحمين والمنتقم الجبار .
          في الليلة التي وقع فيها هذا الفعل الشنيع، استيقظت من النوم على صوت النيران. كان اللهب
          يلتهم ستائر سريري والبيت بكامله يشتعل. ولم ننج أنا وزوجتي والخادم من الهلاك إلا بصعوبة
          كبيرة. كان الدمار تاماً. ابتلعت النيران كل ما أملك في هذه الدنيا، واستسلمت مذ ذاك للقنوط
          واليأس .
          (يتبع)

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            عضو أساسي
            • 14-10-2007
            • 867

            #6
            لم يبلغ بي الضعف مبلغاً يجعلني أسعى لإقامة علاقة سببية بين النتيجة وبين الفظاعة التي
            ارتكبتها والكارثة التي حلت بي. لكنني أقدم سلسلة من الوقائع وآمل ألا أترك أي حلقة مفقودة
            في هذا التسلسل .
            في اليوم الذي أعقب الحريق ذهبت أزور الأنقاض. كانت الجدران جميعها قد تهاوت باستثناء
            جدار واحد، هذا الجدار الذي نجا بمفرده لم يكن سميكاً لأنه جدار داخلي يفصل بين الحجرات
            ويقع في وسط البيت، وإليه كان يستند سريري من جهة الرأس. وقد صمد طلاء هذا الجدار
            وتجصيصه أمام فعل النيران. وهو أمر عزوته إلى كون التجصيص حديثاً. أمام هذا الجدار كان
            يتجمهر حشد من الناس وبدا أن عدداً كبيراً منهم يتفحص جانباً مخصوصاً منه باهتمام شديد،
            فحركت فضولي تعابير تصدر عن هذا الحشد من نوع (عجيب!) (غريب!) دنوت لأرى رسماً
            على الجدار الأبيض كأنه حفر نافر يمثل قطاً عملاقاً. كان الحفر مدهشاً بدقته ووضوحه، وبدا
            حبل يلتف حول عنق الحيوان .
            عندما وقع نظري لأول مرة على هذا الشبح، إذ لم أكن أستطيع أن أعتبره أقل من ذلك، استبد
            بي أشد العجب وأفظع الذعر. غير أن التفكير المحلل جاء ينقذني من ذلك .لقد كان القط على ما
            أذكر معلقاً في حديقة متاخمة للبيت؛ فلما ارتفعت صيحات التحذير من النار، غصت الحديقة
            فوراً بالناس، ولابد أن شخصاً ما قد انتزعه من الشجرة وقذف به عبر النافذةإلى غرفتي،
            وربما كان القصد من ذلك تنبيهي من النوم. ولابد أن سقوط الجدران الأخرى قد ضغط ضحية
            وحشيتي على مادة الجص الحديث للطلاء؛ اختلط كلس هذا الطلاء بالنشادر المتصاعد من الجثة
            وتفاعل به بتأثير النيران فأحدث الرسم النافر الذي رأيته .
            ومع أنني قدمت هذا التفسير لأريح عقلي، إن لم أكن قد فعلت ذلك لأريح ضميري، فإن المشهد
            الغريب الذي وصفته لم يتوقف عن التأثير في مخيلتي، وعلى مدى أشهر لم أستطع أن أتخلص
            من هاجس القط؛ خلال هذه الفترة عاودني شعور بدا لي أنه الندم، ولم يكن في الحقيقة كذلك.
            لم يكن أكثر من أسف على فقد حيوان، وتفكير بالحصول على بديل من النوع نفسه والشكل
            نفسه ليحل محله .
            في إحدى الليالي، فيما كنت جالساً، شبه مخبول، في وكر من أوكار العار، إذ أنني أدمنت الآن
            ارتياد هذه الأماكن الموبوءة، جذب انتباهي فجأة شيء أسود فوق برميل ضخم من براميل الجن
            أو شراب الروم، البراميل التي تشكل قطع الأثاث الرئيسية في ذلك المكان، كنت طوال دقائق
            أحدق بثبات في رأس البرميل، وما سبب دهشتي هو أنني لم أتبين للحال طبيعة الشيء باستثناء
            شيء واحد. إذ لم تكن في أي مكان من جسم بلوتو شعرة بيضاء واحدة؛وكانت لهذا القط بقعة
            بيضاء غير واضحة الحدود تتوزع على منطقة الصدر بكاملها .
            حالما لمسته نهض وأخذ يخط بصوت مرتفع ويتمسح بيدي، وبدا مسروراً باهتمامي له، وإذن
            هذا هو بالضبط ماكنت أبحث عنه. للحال عرضت على صاحب البيت شراءه، لكن هذا أجاب بأنه
            لايملكه ولايعرف شيئاً عنه، ولم يره من قبل .
            واصلت مداعبتي له، ولما تهيأت للذهاب، اتخذ وضعية تبين أنه يريد مرافقتي، فتركته
            يصحبني، وكنت بين الحين والآخر أتوقف وأربت على ظهره أو أمسح رأسه. لما وصل إلى
            البيت بدا أليفاً ولم يظهر عليه أي استغراب. وعلى الفور صار أثيراً لدى زوجتي .
            أما أنا فسرعان ماوجدت المقت يتصاعد في أعماقي، وكان هذا عكس ماتوقعته. ولم أستطع أن
            أفهم كيف تعلق القط بي ولاسبب هذا التعلق الواضح الذي أثار اشمئزازي وأزعجني. وأخذ
            الانزعاج والاشمئزاز يتزايدان شيئاً فشيئاً ويتحولان إلى كراهية مريرة، فأخذت أتجنب هذا
            الكائن؛ كان إحساس ما بالعار، وذكرى فظاعتي السابقة يمسكان بي عن إلحاق الأذى الجسدي
            به .وامتنعت طوال أسابيع عن ضربه أو معاملته بعنف، لكن تدريجياً - وبتدرج متسارع-
            أخذت أنظر إليه بكره لايوصف وأبتعد بصمت عن حضوره البغيض كما أبتعد عن لهاث مصاب
            بالطاعون .
            ما أكد كرهي لهذا الحيوان هو اكتشافي، صبيحة اليوم التالي لوصوله أنه مثل بلوتو، قد فقد
            إحدى عينيه، غير أن هذا زاد من عطف زوجتي عليه لأنها كما ذكرت تملك قدراً عظيماً من
            المشاعر الإنسانية التي كانت ذات يوم ملامحي المميزة، ومنبعاً لأكثر المسرات براءة ونقاء .
            كان هيام القط بي يزداد بازدياد بغضي له، فكان يتبع خطواتي بثبات يصعب إيضاحه، فحيثما
            جلست، كان يجثم تحت مقعدي، أو يقفز إلى ركبتي ويغمرني بمداعباته المقززة، فإذا نهضت
            لأمشي اندفع بين قدمي وأوشك أو يوقعني، أو غرز مخالبه الطويلة الحادة في ثيابي ليتسلق إلى
            صدري، ومع أنني كنت أتحرق في مناسبات كهذه لقتله بضربة واحدة فقد كنت أمتنع عن ذلك
            بسبب من ذكرى جريمتي السابقةإلى حد ما، لكن بصورة أخص – ولأعترف بذلك حالاً- بسبب
            الرعب من هذا الحيوان .
            لم يكن هذا الرعب خوفاً من شر مادي مجسد، مع ذلك أحار كيف أحدده بغير ذلك، يخجلني أن
            أعترف أجل، حتى في زنزانة المجرمين هذه، يكاد يخجلني الاعتراف بأن الرعب والهلع اللذين
            أوقعهما في نفسي هذا الحيوان ازدادا حدة بسبب من وهم لايقبله العقل .
            كانت زوجتي قد لفتت انتباهي، أكثر من مرة إلى طبيعة البقعة البيضاء على صدر القط، والتي
            أشرت إليها سابقاً، تلك العلامة التي تشكل الفارق الوحيد بين هذا الحيوان الغريب وذاك الذي
            قتلته .
            هذه البقعة على اتساعها لم تكن لها حدود واضحة، غير أنها شيئاً فشياً وبتدرج يكاد لايلحظ،
            تدرج صارع عقلي لكي يدحضه ويعتبره وهماً، اكتسبت شكلاً محدداً بوضوح تام. صار لها الآن
            شكل ارتعد لذكر اسمه ..هذا الشكل هو ماجعلني أشمئز وأرتعب، وأتمنى التخلص من الحيوان
            لو تجرأت ، كان الآن صورة لشيء بغيض شيء مروع هو المشنقة! أوه أي آلة شنيعة جهنيمة
            للفظاعة والجريمة للنزع والموت !
            والآن لقد انحدرت إلى درك ينحط بي عن صفة الإنسانية! كيف ينزل بي حيوان بهيم – قتلت
            مثله عن سابق تصميم -حيوان بهيم ينزل بي أنا الإنسان المخلوق على صورة كريمة، كل هذا
            الويل الذي لايحتمل! وا أسفاه! ماعدت أعرف رحمة الراحة لا في النهار ولا في الليل! ففي
            النهار لم يكن ذلك البهيم ليفارقني لحظة واحدة، وفي الليل كنت أهب من النوم مراراً يتملكني
            ذعر شديد لأجد لهاث ذلك الشيء فوق وجهي، وثقل جسمه الضخم – مثل كابوس متجسد لا
            أقوى على زحزحته- يجثم أبدياً فوق قلبي .
            وهكذا انهارت بقايا الخير الواهية تحت وطأة هذا العذاب، وصارت أفكار الشر خدين روحي،
            أشد الأفكار حلكة وشيطانية، ازدادت مزاجيتي سوداوية حتى تحولت إلى كراهية للأشياء كلها
            وللجنس البشري بأسره، وأخذت نوبات غضبي المفاجئة المتكررة التي لم أعد أتحكم بها
            واستسلمت لها كالأعمى، أخذت تطال وا أسفاه زوجتي، أعظم الصابرين على الآلام .
            رافقتني ذات يوم لقضاء بعض الأعمال المنزلية في قبو المبنى القديم حيث أرغمتنا الفاقة على
            السكنى، تبعني القط على الدرج وكاد يرميني، فاستشاط غضبي الجنوني؛ رفعت فأساً متناسياً
            ماكان من خوفي الصبياني الذي أوقفني حتى الآن، وسددت ضربة إلى الحيوان كانت ستقضي
            عليه لو أنها نزلت حيث تمنيت، غير أن يد زوجتي أوقفت هذه الضربة. كان هذا التدخل بمثابة
            منخاس دفع بغضبي إلى الهياج الشيطاني؛ انتزعت يدي من قبضة زوجتي وودفنت الفأس في
            رأسها، فسقطت ميتة دون أن تصدر عنها نأمة .
            لما ارتكبت هذه الجريمة البشعة، جلست على الفور أفكر في التخلص من الجثة. عرفت أنني لا
            أستطيع إخراجها من البيت لا في الليل ولا في النهار دون أن أخاطر بتنبيه الجيران. مرت
            برأسي خطط عديدة. فكرت بأن أقطع الجثة إرباً ثم أتخلص منها بالحرق. وفكرت في حفر قبر
            لها في أرض القبو. كما فكرت في إلقائها في بئر الحوش، أو أن أحشرها في صندوق بضاعة
            وأستدعي حمالاً لأخذها من البيت. وأخيراً اهتديت إلى أفضل خطة للتخلص منها. قررت أن
            أبنيها في جدار القبو، كما كان الرهبان في القرون الوسطى يبنون ضحاياهم في الجدران .
            كان القبو مناسباً لهذه الغاية. فقد كان بناء جدرانه مخلخلاً وقد تم توريق الجدران حديثاً بملاط
            خشن حالت الرطوبة دون تصلبه. وفوق ذلك كان في أحد الجدران تجويف بشكل المدخنة تم
            ردمه بحيث تستوي أجزاء الجدار، وتأكد لي أن باستطاعتي انتزاع قطع الطوب من هذا
            التجويف وإدخال الجثة، وبناء التجويف ليعود الجدار كما كان بحيث لاترتاب العين في أي
            تغيير .
            ولم تخطئ حساباتي. استعنت بمخل لانتزاع قطع الطوب، وأوقفت الجثة بتأن لصق الجدار
            الداخلي ودعمتها لتحتفظ بوضع الوقوف، فيما كنت أدقق لأعيد كل شيء إلى ما كان عليه. كنت
            قد أحضرت الملاط والرمل والوبر، فهيأت الخليط بمنتهى الدقة والعناية بحيث لايميز من الملاط
            السابق، وأعدت كل قطعة طوب إلى مكانها. عندما أكملت العمل أحسست بالرضا عن النتيجة. لم
            يكن يبدو على الجدار أدنى أثر يدل على أنه قد لمس. نظفت الأرض بمنتهى العناية ونظرت
            حولي منتصراً وقلت في نفسي: ’’لم يذهب جهدي سدى .‘‘
            كانت الخطوة الثانية هي البحث عن الحيوان الذي سبب لي هذه الفاجعة الرهيبة، ذلك أنني
            قررت القضاء عليه، لوعثرت عليه في تلك اللحظة لما كان هنالك من شك في أمر مصيره؛ لكن
            يبدو أن الحيوان الذكي أدرك عنف غضبي فاختفى متجنباً رؤيتي وأنا في ذلك المزاج .
            يستحيل علي أن أصف عمق الراحة والسكينة التي أتاحها لروحي غياب ذلك الحيوان. لم يعد
            للظهور تلك الليلة. وهكذا ولأول مرة منذ وصوله إلى البيت نمت بعمق وهدوء، أجل نمت على
            الرغم من وزر الجريمة الرابض فوق روحي .
            مر اليوم الثاني ثم الثالث ولم يظهر معذبي، ومن جديد تنفست بحرية. لقد أصيب الوحش
            بالذعر فنجا بنفسه نهائياً! ولن يكون علي أن أتحمله بعد الآن! كانت سعادتي بذلك عظيمة! ولم
            يؤرق مضجعي وزر الجريمة السوداء إلا لماماً. جرت بعض التحقيقات وقدمت أجوبة جاهزة.
            بل كانت هناك تحريات، غير أن شيئاً ما لم يكتشف، وأدركت أن مستقبل سعادتي في أمان .
            في اليوم الرابع بعد وقوع الجريمة جاءت فرقة من الشرطة إلى البيت بشكل لم أتوقعه وبدأت
            تحريات واستجوابات دقيقة، لكن بما أنني كنت مطمئنا إلى إخفاء الجثة لم أشعر بأي حرج.
            سألني ضباط الشرطة أن أرافقهم إلى القبو، فلم ترتعد ف  ي عضلة واحدة. كان قلبي ينبض بهدوء
            كقلب بريء نائم. رحت أذرع القبو جيئة وذهاباً عاقداً ذراعي فوق صدري. اقتنع رجال الشرطة
            بنتائج بحثهم واستعدوا للذهاب، كانت النشوة في قلبي أقوى من أن أكتمها. كنت أتحرق لقول
            كلمة واحدة، لفرط ما أطربني الانتصار، ولكي أزيد يقينهم ببراءتي .
            ’’أيها السادة - قلت أخيراً، لما كان الفريق يصعد الدرج - يسرني أن أكون قد بددت كل
            شكوككم. أتمنى لكم تمام الصحة ومزيداً من اللباقة، بالمناسبة أيها السادة، هذا بيت مكين البناء
            - في رغبتي العارمة لقول شيء سهل،لم أجد ما أتلفظ به - إنه بيت مبني بشكل ممتاز. هذه
            الجدران- هاأنتم ذاهبون أيها السادة- هذه الجدران متماسكة تماماً ‘‘
            وهنا ، وبنوع من الزهو المتشنج- طرقت طرقاً قوياً على الجدار بعصا كانت بيدي، تماماً في
            الموضع الذي أخفيت فيه زوجة قلبي .
            لكن ليحمني الله من مخالب إبليس الأبالسة! لم تكد اهتزازات ضربتي تغرق في الصمت حتى
            جاوبني صوت من داخل القبر! صرخة مكتومة متقطعة بدأت كبكاء طفل، لكن سرعان ما أخذت
            تتعاظم وتتضخم لتغدو صرخة واحدة هائلة مديدة شاذة غريبة وغير آدمية بالمرة.. غدت
            عواء.. عويلاً مجلجلاً يطلقه مزيج من الرعب والظفر، وكأنما تتصاعد من قيعان الجحيم تتعاون
            فيها حناجر الملعونين في سعير عذاباتهم والشياطين إذ يهللون اللعنات .
            من الحماقة أن أحدثكم عن الأفكار التي تلاطمت في رأسي.. ترنحت منهاراً وتهاويت *****اً
            إلى الجدار المقابل ..للحظة واحدة ظل فريق الشرطة مسمراً على الدرج بفعل الرعب
            والاستغراب. وفي اللحظة التالية كانت بضع عشرة ذراعاً شديدة تهدم الجدار. إنهار قطعة
            واحدة. كانت الجثة قد تحللت إلى درجة كبيرة وغطاها الدم المتجمد، وهي تنتصب واقفة أمام
            أعين المشاهدين وعلى رأسها يقف القط الأسود الكريه بفمه الأحمر المفتوح وعينه الوحيدة
            النارية، القط الذي دفعتني أفعاله إلى الجريمة ثم أسلمني صوته الكاشف إلى حبل المشنقة. كنت
            قد بنيت الجدار والقط داخل القبر...
            (انتهت)

            تعليق

            • د. حسين علي محمد
              عضو أساسي
              • 14-10-2007
              • 867

              #7
              قراءة في النص

              بقلم: أ.د. خليل أبو ذياب
              .........................

              هذه القصة القصيرة هى إحدى قصص المجموعة التى كتبها الأديب الأمريكى المبدع أدغار ألان بو " وأطلق عليها عنوان "قصص الغموض والخيال" (tales of mystery and imaglnatuon).
              ونود بين يدى هذه الدراسة أن نقدم تعريفا موجزا بهذا الأديب الذى لم يجاوز الآربعين من عمره (1809-1849) وعلى الرغم من أنه لم يكمل دراساته المنهجية التى بدأها فى إنجلترا وانشغل ببعض الأعمال الصحفية فقد كان بعد من ابرز الأدباء الأمريكيين فى العصر الحديث حيث كان متعدد الإبداع متنوع الفنون ولم يقف عند فن واحد من فنون الأدب فكتب القصيدة وغدا من رواد الرومانسية، ومارس النقد وكتب الرواية، وكتب القصة القصيرة وأبدع فيها إبداعا أهّله ليتبوّا مكانة مرموقة بين أدباء العصر الحديث وربـطها وثيقا حتى غدا من روادها المتميزين، وكان يعتنق مذهب "الفن للفن" مما جعله يعنى بالأسلوب وجمالياته أكثر من المضمون، كما تمتاز قصصه بدقة الحبكة الفنية وإحكام البناء وبراعة الصنعة وروعة الأسلوب، وإن غلب عليه الإفراط فى الغموض والخيال والمبالغة فى نشر الخوف والرعب فى أجوائها كما تجسد ذلك هذه المجموعة التى أنتقينا منها هذه القصة الرائعة "القط الأسود" والتى أبدع فى ترجمتها الأستاذ الأديب صالح المطيرى وتفضلت بنشرها مجلة الخطوط السعودية "أهلا وسهلا" والحديث عن "أدغار ألن بو" شيّق وذو شجون، ولكنه قد يبعدنا عن جوّ القصة التى نريد أن نوليها وقفة خاصة لما تمتاز به من مزايا متعددة، وسبنان أن هذا الأديب قد حظى بكثير من الدراسات التى جلت جوانبه المختلفة فغدا الاطلاع عليه ميسورا..
              ذكرت آنفا أن هذه القصة هى إحدى قصص "من قصص الغموض والخيال"؛ وهذا يعنى أن القاصّ يهيّئنا، أو يضعنا مباشرة فى مواجهة أمور غريبة قد لا تفهم ولا تفسر، أو فقد لا نجد لها تفسيرا معقولا..وبالفعل نجد هـذه الأمور تتقاطر فى أحداث القصة تقاطرا عجيبا وغنيّا وكلما حاول البطل الانفلات من ربقة الخيال والعودة إلى الواقع ليمارس حياته بشكل طـبيعى عادى معقول انجذب بقوة وعنف ليتصرف تصرفات غريبة من وراء إرادته، ولا يملك بعدها إلا الإحساس البالغ بالندم والأسف وتجرع غصص المرارة، ويشعرنا بأنه لن يعود مرة أخرى إلى مثل تلك التصرفات الشائنة..ولكنه سرعان ما يعود إلى أمثالها وبأسوأ من ذى قبل!! ومن هنا يضعنا القاص الأمام تطور طبيعى للأحداث التى أقام عليها قصته وتصعيد مجرد من الافتعال والمصادفة؛ وهو تصعيد يتواءم تماما مع ملامح وأبعاد شـخصية البطل فى مراحلها المتعددة برغم ما يسود ذلكله من غموض مطبق مثير..
              أما الفكرة التى بنى عليها "بو" قصته، وإن لم يفصح عنها مكتفيا بإيحاء العنوان الذى مهر به المجموعة "من قصص الغموض والخيال"، فهى العلاقة الخفية بين الإنسان والجان وما يقوم عليه من تأثير عميق ينعكس على سلوك الإنسان وتصرفاته وما يسودها من غرابة تدفع إلى وصفها بالجنون، وصلة الجنون الذى يصيب الإنس بالجن لغوية وفكرية واقعية وحميمة ومقررة ومتواترة غير منكورة فى كل المجتمعات البشرية على اختلاف حظوظها من الثقافات والفكر والحضارة، وإن كانت المجتمعات القليلة الحظ من الثقافة والفكر، المحدودة الحضارة أكثر حظا من غيرها فى هذا الجانب الـخفى الذى تحاول من خلاله تفسير كثير من المظاهر الغيبية والظواهر التى لا يسعفها العقل بتفسيرها دون أن يعنى هذا القول خلوّه من حظ ما من الصواب أو الحقيقة قلّ أو كثر..وقد دارت أحداث القصة حول شخص تميز باللطافة والمودة وحسن العشرة والحنان فى علاقاته بالآخرين فى بداية حياته، أو المرحلة الأولى من حياته حتى مع الحيوانات التى حرص على اقتنائها وعـنى بها عناية بالغة ومن بينها ذلك "القط الأسود"..ثم كانت المرحلة الثانية من حياته بعد الزواج وما شهدت من تطور واسع أو قل تغير بالغ فى سلوكياته "حدة مزاج وسرعة غضب"..وهو تطور قلب حياته رأسا على عقب، أو كما يقول: "غير حياته وشخصيته بالكامل"، وانعكست تصرفاته السيئة على حيواناته وعلى زوجته، وهى الشرائح التى ارتبط بها من المجتمع فـى القصة، وكان أشدها وأقساها ما صبه على صاحبه الأثير "بلوتو" "القسط الأسود، حيث قبع إحدى عينيه فى إحدى حالات الاضطراب النفسى والـتغير المزاجى التى عصفت به..ولم يجده الندم على سوء فعلته أو جريمته البشعة فتيلا، وكان طبيعيا أن تترك هذه الفعلة أثرا بالغا فى نفسية القط فصارت حياته معه يسودها قدر كبير من الحذر والجفاء والذعر مما ضاعف من حنقه وغضبه عليه حتى أفضى به إلى شنقه..ولم يمض غير وقت قصير على هذه الحادثة أو الجريمة البشعة حتى التهمت النيران بيته ولم تترك منه سوى جدار غرفته الذى ظهرت عليه صورة القط المشنوق..وإذا لم يتبين الجيران الذين هرعوا إلى المنزل لإخماد النيران لهذا الأمر الغريب العجيب تفسيرا ما، فقد كـان البطل يدرك فى قرارة نفسه حقيقته وصلته بفعلته أو جريمته البشعة مما جعل هذا المنظر الرهيب يترك فى نفسه شيئا كثيرا من الرعب والخوف، وأعقب فيها قدرا من الأسف والندم..وتسوقه الأقـدار إلى مطعم يجد فيه قطا أسود بشبه إلى حد كبير "بلوتو" القديم ما يلبث أن يرافقه إلى منزله ليكتشف أنـه بعين واحدة، ولكنه لا يحاول الربط بـينهما، أو قل إن الكاتب لم يحاول أن يعلن عن الرابطة التى تربط بين ذينك القطين اللذين ظهرا فى صورة واحدة حرصا على حبكة القصة الفنية لتسير حياته معغه هادئة مطمئنة، وبرغم نفوره منه فقد كان حريصا على التقرب منه والالتصاق به وكأنه يريد أن ينسيه جريمته الشنعاء مع صنوه أو قل نسخته الأولى "بلوتو" القديم، ولكنه لم يستطع، وأخذ يحس برهبة شديدة وخوف بالغ منه وضاعف ذلك من فساد مزاجه وشدة غضبه وسوء معاملته للآخرين، وضاعفت محاولات القط التقرب منه والتمسح به من غضبه عليه مما جعله يهوى عليه بفأس ليقتله، وتدخلت زوجته لتمنعه من تكرير هذه الجريمة، فأهوى بالفأس ليغرسه فى رأسها بدلا من القط لتسقط جثة هامدة..ويجد البطل نفسه أمام مشكلة جديدة وهى إخفاء الجثة قبل أن ينتشر خبرها بين الناس، وقرر رأيه على دفنها فى أحد جدران القبو مطمئنا إلى أن أحدا لن يستطيع اكتشاف أمره..وبمصرع الزوجة وإخفاء جثتها اختفى "القط الأسود" ولم يعد يجد له أثرا برغم محاولاته الدائبة للبحث عنه والعثور عليه ليقتله انتقاما لما حدث لزوجته..وشاع خبر اختفاء الزوجة وبلغ رجال الشرطة الذين هرعوا إلى المكان لاستجواب الزوج الذى بدا فى أتم حالاته النفسية هدوءا واطمئنانا؛ وأوشكت عملية التفتيش أن تنتهى دون أن تسفر عن أى اتهام له..وهنا يندفع البطل/ الزوج تحت تأثير خفى ليثبت لرجال الشرطة متانة البناء الذى تجرى فيه عملية التفتيش فيضرب بعصاه الجدار الذى دفن فيه الجثة لتكون المفاجأة المذهلة عنما سمعوا صياحا مريعا ينبعث من وراء الجدار دفعهم إلى هدمه لتظهر الجثة وقد جلس أمامها ذلك "القط الأسود" ذو العين الواحدة ليكون شاهد الإثبات الوحيد على تلك الجريمة التى ارتكبها صاحبه، وليقوده إلى حبل المشنقة ليشنق كما شنق "بلوتو" المسكين، أو قل صورته الأولى!!
              (يتبع)

              تعليق

              • د. حسين علي محمد
                عضو أساسي
                • 14-10-2007
                • 867

                #8
                هذه هى الفكرة الأساسية التى بنى عليها "بو" قصته القصيرة "القط الأسود"؛ وواضح أنها قصة يسودها قدر كبير من الغرابة والغموض الذى خالط كثيرا من أحداثها وشخوصها وأدى إلى تعقيد أحداثها وغموض شخوصها وتصرفاتهم وبالتالى إلى غرابة ما يمكن أن يقوم عليها من تفسير لا يخضع لعقل أو منطق بطبيعة الحال..وكل هذا يظهر عند التحليل الدقيق لأحداث القصة وشخوصها..فبالنسبة للأحداث التى انطوت عليها القصة نلاحظ أن القاص يقدم لنا منذ البداية إضاءة واعية لطبيعة الحدث فيها وما يسوده من غرابة وغموض وإغراق فى الخيال وبعد عن الواقعية والعقلانية عندما يجعل الراوى يفضى بانطباعاته ولا يخفى ما سيجد القارئ/ المتلقى من استغراب وإنكار فى أحداث القصة لدرجة قد يصفه معها بالجنون أو الخبال ز اخـتلاط العقل مع أنه يؤكد سلامته العقلية وبراءته من الجنون، بل إنه يؤكد أنه يحلم وأنه فى تمام وعيه.. ولن لما قامت عليه القصة من أحداث غريبة غامضة لا تخضع للتفسير العقلى أو المنطقى أراد أن يفضى بها قبل ينفذ فيه حكم الإعدام، أو بعبارة أدق قبل أن يموت بعد اكتشاف جريمته ليريح ضميره..ومضى يسرد وقائع قصته وأحداثها منذ طفولته المبرة مؤكدا ما كانت تتميز به من طبيعية وألفة ومودة وحنان وعطف عشرة وحسن معاملة وطيب علاقة مع كل شئ مع الناس ومه الحيوان على السواء..ثم أخذت القصة تركز على علاقته بالحيوانات التى حرص على اقتنائها والعناية بها، وكان ذلك من دواعى سروره وسعادته، وقد تضاعف ذلك عندما وجد زوجته تشاركه هذه الهواية وتشاطره حب تلك الحيوانات..ويبدأ التركيز على "بلوتو" القط الأسود بكل مواصفاته الكبير الجميل ذى التصرفات الحكيمة اللافتة للنظر مؤكدا استمرار العلاقة الحميمة بينهما لسنوات عدة شهدت القصة انحرافا حادا فى أحداثها عندما تغيرت شخصية البطل تغيرا كاملا وانقلبت تصرفاته فصارت شديدة السوء وتسودها الأنانية المفرطة وحدة المزاج وفساد الـطبع وسرعة الغضب والرغبة فى إيذاء الآخرين..وأخذت زوجته تعانى من كل ذلك أشد المعاناة، وكذلك حيواناته الأليفة عامة و "بلوتو" القط الأسود خاصة حيث حظى بأبشع تصرف وأسوأ أذى منه، وهو يمهد لذلك تمهيدا يكشف عما سينزله به من أذى وشر عندما يطلعنا على اعتلال مزاجه وفساده بسبب مجهول، وهو أمر انعكس على القط فجعله يتجنبه تخلصا من أذاه وشره وحاول الانفلات من قبضته وخمش يده، فأثار غضبه وفقد صوابه فقلع إحدى عينيه..حتى إذا استعاد بلوتو صحته وشفى من آلامه عادت علاقته معه وإن لم تكن كما كانت من قبل وكأنه لم ينس فعلته الشنعاء مما ضاعف من حنقه وغضبه عليه حتى لم يعد يحتمل تجاهله له؛ وهنا يبلغ الحدث ذروته عندما يشنق القط ويعلقه فى شجرة!! وإذا كان هذا الحدث قد بلغ ذروته بـالنسبة للقط "بلوتو"، فقد كان مرحلة متوسطة لأحداث القصة بالنسبة للراوى البطل لتبدأ مرحلة جديدة تتمثل فى حريق المنزل وتهدم جدرانه سوى جدار غرفة نومه وظهور رسم فوقه يمثل شكل القط "بلوتو" وقد لف حول حبل!!وإذا كان هذا الأمر مثيرا للغرابة والعجب أمرا يمكن تفسيره لأنه يعرف حقيقته تماما، ويعلم من أمر القط ما لا يعلمون، ويدرك من حيثيات القضية ما لا يدركون..وتمضى الأحداث حتى يضع القدر فى طريقه وهو فى أحد المطاعم نسخة أخرى من القط "بلوتو" ذى العين الواحدة، وإن تميز عن سابقه ببقعة بيضاء احتلت صدره دون أن مندرى سببا منطقيا معقولا لهذا التغيير المقصود فيما وراء الرغبة فى التخلص من ربقة الوهم الذى يمكن أن ينسرب إلى نفس المتلقى وهو يعايش نسخة أو صورة أخرى من ذلك القط..على أية حال فقد أخذت علاقته بالقط الجديد يسودها قدر لا كبير من الألـفة وإن غدا أثيرا لدى زوجته خاصة..ولكنه سرعان ما تبدلت هذه الـعلاقة وسادها نفور شديد بلغ حد الكراهية برغم ما كان يظهر له من الحب والألفة خصوصا عندما عندما اكتشف أنه بعين واحدة، وازداد مزاجه حدة وسوءا حتى بدأ القط يرهبه..وتتدافه الأحداث عندما ينزل مع زوجته إلى القبو يتبعهما القط بطريقة مثيرة للاستفزاز ويعرقله حتى يكاد يسقط على الدرج فيتضاعف حنقه عليه فيمسك بفأس ويهوى بها على رآسه ليفلقه، وتحاول زوجته منعه فتهوى الفأس لتنغرس فى رأسها لتسقط جثة هامدة تحت قدميه لتنتهى المرحلة الأخيرة من الأحداث الأساسية فى القصة فى انتظار إضافية أزو ثانوية تسهم فى الحبكة الفنية للقصة بطبيعة الحال..وهنا ينشغل البطل فى إخفاء الجثة بطريقة تضمن له ألا يكتشف أمره..وتتراءى له طائفة من الحلول والطرائق يرى واحدة منها مناسبة ومعقولة وشرع فى تنفيذها..ويصحبنا القاص لنشاهد هذه العملية دقيقة بدقيقة حتى انتهى منها وقد عاد إليه هدوؤه واطمئنانه ليقينه أن أحدا لن يكشف سره ويعرف ما جرى لزوجته..وهنا التفت إلى القط ليقتله انتقاما لما حدث لزوجته فلم يجد له أثرا، وهاله هذا الأمـر فى البداية ولكنه سرعان ما وجد فيه راحة نفسية بالغة غسلت ما يغمر نفسه من إحساس بالغ بالذنب لقتله زوجته التى لفت غيابهها نظر الجيران وأثار فضولهم وأخذوا يتساءلون عنها فاختلق لهم قصة ظن أنها أرضت فضولهم..ويبدو أنهم لم يقتنعوا بهذه الحكاية الملفقة فاستدعوا الشرطة لتحرى الأمر وأخذوا يفتشون المكان بدقة متتاهية دون أن يعثروا على شـئ..وهنا يتحرك الراوى البطل بقوة خفية دونما سبب أو داع ليثبت للشرطة متانة البناء ودقته وإتقانه فيدق بعصاه الجدار الذى دفن فيه زوجته..وكانت المفاجأة المذهلة عندما انبعثت منه صيحات أخذت مثيرة الرعب والهلع فى نفسه وفى نفوس الشرطة الذين شرعوا فى هدم الجدار لتبدو لهم الجثة وقد أقعى القط أمامها ليكون شاهد الإثبات الوحيد على هذه الجريمة البشعة وليلف من حول رقبته حبل المشنقة الذى كان قد شنقه به قبلا جزاء وفاقا..وهكذا تدافعت الأحداث فى هذه القصة تدافعا تلقائيا وطبيعيا حتى بلغت ذروتها أو عقدتها ثم كان الحل أو لحظة التنوير التى جاءت عفوية وطـبيعية بعيدة عن الافتعال أو المصادفة..ومن هذا تميزت الحبكة فيها بالدقة المتناهية والتتابع الدقيق لمجريات الأحداث بصرف النظر عما يشيع فيها أو يسودها من غرابة وغموض على نحو ما سنرى..وهكذا وجدنا الأحداث تدور فى ثلاث مراحل، كل مرحلة تمثل قصة متكاملة التقنيات من حيث بنية الحدث وتطوره وتصعيده ليبلغ ذروته أو عقدته..فقد بدأت المرحلة الأولى بتصوير شخصية البطل "الراوى" من لدن صباه وما يمتاز به من ألفة ومودة وعلاقة حميمة مع الناس والحيوانات عامة وعلاقته بالقط الأسود "بلوتو" خاصة وبداية التغير بعد زواجه..وكانت النهاية بقلع عين "بلوتو"..ثم تبدأ المرحلة الثانية أو المتوسطة باستعادة علاقته الودودة مع "بلوتو" مع ما كان يسودها من نفور أثار فى نفسه حنقا بالغا تطور ليبلغ ذروته عندما لف الحبل حول رقبته وشنقه وعلقه فى شجرة..وقد كان من المظنون أن تكون هـذه الخاتمة هى لحظة التنوير لأحداث المرحلة المتوسطة ولكن القاص مضى يبحث عن لحظة أغرب وأعجب تتناسب مع ما يسود جو القصة من غرابة وغموض فأنهاه بذلك الحريق الهائل الذى التهم المكان سوى جدار غرفة نومه لينفش عليه من خلال صورة أو لوحة القط "بلوتو" الاتهام المباشر الذى سيلاحقه ويطارده جراء فعلته البشعة بحق هذا القط الأليف..وإذا وجد الـناس فى هذه اللوحة غرابة وعجبا لا تفسير لهما عندهم فقد كان لهما تفسير عميق وظاهر بالنسبة للبطل!! ثم تبدأ أحداث المرحلة الأخيرة عندما يعود البطل لممارسة حياته الطبيعية مع زوجته وعلاقاته بالآخرين حتى يلتقى بـالقط الأسود(!!) من جديد فى أحد المطاعم وتتوثق الصلة بينهما ويصطحبه إلـى منزله ليكتشف أنه بعين واحدة مثل "بلوتو" القديم، وأنه يكاد يكون صورة أو نسخة أخرى من "بلوتو" وإن تميز صدره الأسود ببقعة بيضاء..وحتى لو لم تكن تلك البقعة فقد كان البطل يعيش تحت تأثير خفى جعله يتناسى أو يتغافل عن هذا التشابه الشديد بين القطين "بلوتو" القديم و "بلوتو" الجديد أو المحسن أو المطور!! وما يمكن أن ينجم عنه من أحداث مثيرة للرعب والخوف..المهم أخذت أحداث المرحلة الأخيرة فى التدافع بـسرعة واضحة مبتدئة بشعور غامر بالخجل ملأ نفسه بسبب جريمته الـبشعة بشنق "بلوتو" تمهيدا لتوطيد علاقته بالقط الجديد..بيد أن نفورا واضحا غمر نفسه عندما اكتشف أنه يعين واحدة، وأغلب الظن أنها نفس الـعين التى كان يفتقدها "بلوتو" القديم وإن لم يفصح عن ذلك القاص ربما نفيا لـقصدية المصادفة وسذاجة الأفتعال مع أن الأمر يتجاوز المصادفة والافتعال كما سنرى..ويقف القاص عند ظاهرة التقابل فى علاقة البطل بالقط حيث يزداد نفورا من القط، ويزداد القط محبة وألفة له..وكأنه يذكرنا بالمثل الـشعبى "البس/ القط يحب خناقه!!" ويرصد أطرافا من تصرفات القط الألوفة المحبة الراضية، وكأنه يريد أمن يغسل ما يرين على نفس صاحبه من إحساس بالندم والذنب لشنقه "بلوتو" القديم بعد قلع عينه لما كانت تمتلئ به من غل وغضب لا يدرى لهما سببا، ولسان حاله يردد: "عفا الله عما سلف!!" ولم يكن يخطر فى وهمه أن هذه المحاولات ستعقد الموقف وستسفر عن جريمة أخرى لا تقل بشاعة عن سالفتها وذلك بعد تصعيد آخر للأحداث عبر تصرفات القط الألوفة المتحرشة التى آذت صاحبه وهيجته وأثارت حنقه وغضبه عليه وهو ينزل الدرج إلى القبو مع زوجته ليفقد صوابه ويهوى بفأسه على رأس القط ليفلقه، وتتدخل الزوجة لتمنعه من تكرير جريمته السابقة دون أن تعلم أنها ستكون هى الضحية الثانية بدلا من القط عندما أهوى بفأسه على رأسها لتسقط جثة هامدة..وكما أسلفنا قد يخيل للقارئ أن هذه هى لحظة التنوير فى أعقاب التصرفات التى بدرت من القط مثيرة غضبه وحنقه ولأنها بالفعل تشكل ختاما مناسبا للقصة لو أراد القاص..ولكن القصة وماتتنفس فيه من جو الغرابة والغموض المقصود أسقطت هذه اللحظة التنويرية من حسابها وأرجأتها إلى موقف آخر يتفوق بما ينطوى عليه من غـرابة وغموض مما جعل الأحداث تتدافع عبر قنوات عدة، أولا عبر طرائق إخفاء الجثة واختيار الطريقة الأمثل، ثم عبر تساؤلات الجيران عن سبب غياب الزوجة، ثم عبر التفتيش الدقيق الذى قام به رجال الشرطة ليتراءى للمتلقى أن لحظة التنوير أو الحل سيتردد على لسانهم وهم يعلنون، معتذرين له، عدم وجود ما يؤكد اتهامهم له بقتل زوجته ليصبح هذا الموقف ذروة الأحـداث فى انتظار لحظة التنوير المناسبة على يد الزوج نفسه مدفوعا بقوةو خفية قاهرة متباهيا بمتانة بنيان منزله وعراقته وما تمخض عنه مـن اكتشاف الجثة وظهور القط الغائب..وهكذا جاءت الحبكة محكمة ودقيقة، كما تلاحمت أحداث المراحل الثلاث فيها تلاحما دقيا واعيا لتشكل حدثا واحدا، ومع ذلك فقد تثير القصة كثيرا من التساؤلات التى تحاول أن توجد تفسيرا معقولا ومنطقيا لبعض الأحداث والسلوكيات التى تلقانا فيها..وقد يبدو ميل الطفل إلى الحيوانات طبيعيا مما يهيئ أو يمهد لظهور شخصية "القط بلوتو"، الشخصية الحيوانية المهمة فى القصة؛ ولكن تقلص هذا الحب ومـحدودية العلاقة مع تلك الحيوانات فى فترتى الشباب والرجولة، وانـزواءها واختصارها فى علاقته بالقط الأسود مثيرة للتساؤل خاصة ما كان يمثله القط من ظهور متميز ودائم فى القصة أخفى سائر شخوصها الحيوانية ليظل محتفظا بحبه له وعلاقته الحميمة به، وهو يؤكد لنا أن تلك المعاملة السيئة التى لم يفلت منها حتى القط "بلوتو" بل التى حظى منها بما لم يحظ به غيره من الحيوانات كانت بغير سبب ظاهر بطبيعة الحال والتى تدرجت من قلع العين إلى الشنق بالنسبة للقط الأول "بلوتو" إلى الدفن حيا بعد محاولة فلق رأسه بالنسبة للقط الثانى وإن كان غير مقصود أو مصادفة لـتتحول الضربة إلى رأس زوجته لتكون الضحية البديلة عن القط الـثانى..فما الذى كان يحرك البطل ليتصرف هذه التصرفات؟ وما حقيقة ذينك القطين اللذين قاما، أو قل قام بدور رئيس فى توجيه أحداث القصة وتـدافعها وتشكيل حبكتها على هذا النحو العجيب؟ ثم لماذا بدأت علاقته بالقط ومن ورائه سائر حيواناته تسوء بعد الزواج حتى لو لم تحدد القصة فـترة التغير وتربطها بهذا الزواج الذى ربما كان له دور فيها؟ ثم هل للزوجة دور فيها - صلة ما خفية بطبيعة الحال بهذا القط؟ وهل لإشارتها العابرة تعليقا على ما وجدت هى وزوجها من عقلانية ظاهرة فى تصرفات "بلوتو"، وحكمته اللافتة للنظر إلى الاعتقاد القديم بأن القطط السود هى فى الحقيقة ساحرات متقمصات أشكال قطط!! ألا توحى هذه الإشارة بأن هناك علاقة خفية بين الزوجة والقط، علاقة انتماء إلى عالم الجن والسحر والساحرات، قد يؤكدها محاولتها منه/ زوجها من قتل "بلوتو" الآخر لتتحول الـضربة إلى رأسها فتكون الضحية البديلة للقط؟؟ حتى إذا أخفى الجثة اختفى القط بجانبها دون أن يشعر به مع أنه كان يملك فرصة الهرب والانفلات من يده وهو منشغل بالبحث عن طريقة لإخفاء الجثة..ثم كيف اختفى الجثة..ثم كيف اختفى القط مع الجثة دون أن يراه طوال الفترة التى استغرقها فى إعادة إصلاح الجدار كما كان؟؟ ومع أن التساؤل يظل قائما عن موقف الزوجة السالب أو الصامت إزاء "بلوتو" عند قلع عينه وعند شنقه وعـدم الإشارة إلى اعتراضها أو رفضها لهذا السلوك واختفاء دورها فى هذه الأحداث اختفاء غير طبيعى وغير مبرر، إذ لابد أن تكون علمت بها أو رأتها، وإذن فلماذا لم تعترض عليها؟ فهل كانت الزوجة تشكل قسيما للقط "بلوتو"؟ وهل لهذه العلاقة صلة بتغير مزاج الزوج وفساد طبعه وسوء سلوكه وعـشرته بها خاصة وبغيرها عامة؟ وهل لوصف "الساحرات" الجنيات اللاتى يتحولن إلى قطط صلة بالزوجة، بمعنى آخر، هل هى/ الزوجة كانت إحـدى تلك الجنيات المتحولات إلى صورة آدمية؟؟ ولماذا ظل صامتا فى قلب الجدار بصحبة الجثة ولم يكشف عن وجوده بأصوات صاخبة وهو يواجد الموت اختناقا إلا بعد قرع الجدار بالعصا أمام رجال الشرطة؟ ثم ما الذى دفعه إلى هذه الحركة الغبية الرعناء وهذا التصرف الأحمق الذى تمخض عن كشف الجريمة الكاملة، فهل كان يتحرك من تلقاء نفسه مع أن الكاتب يخبرنا أنـه كان مدفوعا بقوة خفية أو كما برغبة حمقاء، إذن كمان هناك شئ يحركه رغما عنه، فما هو هذا الشئ؟ وهل له صلة بزوجته وبالقط..وبالجن؟ ربما..والحقيقة أن تصرفات الزوج منذ تحوله إلى مرحلة الشباب والزواج قد تؤكد أنه كان يتحرك بفعل تأثيرات خفية جعله أولا يغير من سلوكياته وتعامله مع حيواناته الأليفة ومع الناس عموما ثم مع زوجته، ثم تركز هذا السلوك الغريب مع القط بلوتو الذى كان يشكل القرين الأظهر له، ويبدو أنه رفض هـذا القرين تحت تأثير خفى لم يفهمه ولم يقو على مقاومته مما جعله يمارس بحقه أبشع ألوان العنف: قلع عينه وشنقه، ومحاولة قتله فى المرة الأخيرة وإفـلاته لتكون الزوجة البديل له وليختفى مع جثتها فى الجدار دون أن يشعر بـذلك أو يفطن إليه..فهل كان ذلك مجرد تقنية قصصية أبدع فيها "إدغار ألان بو"، أم أنها مرتبطة بحقيقة الأحداث وما يسودها من غرابة وغموض؟؟ وأخيرا وليس آخرا، هل يجوز لنا أن نطرح بعض التصورات فى محاولة للكشف عن شئ من ذلك الغموض فنزعم أن القط "بلوتو"، والزوجة من قبله، كانا ينتميان إلى عالم الجن وتحولا إلى هاتين الصورتين الحيوانية والإنسانية ليمارسا هذا الدور فى حياة الزوج الإنسى وعقله وسلوكه، ذلك أن الجن كما هو معروف ومقرر يمكنهم الحولة أو التحول إلى أى صورة يشاءون وإن تصادم هذا مع الزعم بأن الجنى إذا قتل على حالة مغايرة لا يعود إلى طبيعته الجنية السابقة كما تقرر ذلك كثير من قصص الجن والخرافات الشعبية الشائعة..وإذا صح هذا مع الزوجة التى قتلت ولم تعد على الأقل فى القصة فإنه لم يصح بالنسبة للقط الذى عاد بعد الشنق فى صورته التى ظهر عليها أولا مع تغيير طفيف لا يكاد يلفت النظر "بقعة بيضاء فى صدره"..كما أن تصرفاته معه كانت هى ولم تتغير، مثيرة لحنقه وغضبه ودافعة له ليقرر قتله كما قتل سلبقه وأخبار الجن وأقاصيصهم فى تحولاتهم المختلفة شائعة ذائعة مشهورة وتشكل جزءا مهما من تراث الإنسانية فى أطوارها البدائية خاصة فيما يعرف بالخرافة والأساطير والخيال عندما كانت تحاول تفسير الظواهر التى لا تجد لها تفسيرا عقليا مقنعا فتلجأ إلى هذه الأمور تستجديها تفسيرا أو تعليلا يرضيها على الأقل.والقصص أو الفلكلور الشعبى مملوء بهذا اللون من الإبـداع الذى يرونه فى مجالسهم ومنتدياتهم يزجون به أوقات الفراغ مخالفين طبيعة وجودها الأول عند أسلافهم..وكثيرا ما يحكون عن تحولات الجن إلى قطط وكلاب سوداء خاصة حتى إنها تمارس ظهورا واضحا على هـيئاتها الحيوانية، بل إن بعضهم يربط اختفاءها بإقبال شهر رمضان الـمبارك لتظهر من جديد بعد انقضائه!! والأدب الشعبى فى كل مكان المملوء بحكايات الجن والخرافات والأساطير يؤكد انتماء هذه القصة إليه ليقصر تفسير مظاهرها الغامضة على هذه الزاوية اقتنع بها الناس أو لم يقتنعوا!! وهكذا يظل سر "القط الأسود" فى هذه القصة خفيا غير معروف لا نملك إزاءه غير التساؤل عما إذا كان جنيا تحول إلى قط، أو تقمص صورة القط الأول ثم صورة القط الآخر، وكذلك الأمر بالنسبة للزوجة التى تشعرنا ربما بانتمائها إلى عالم الجن فكانت جنية تقمصت صورة فتاة إنسية وتزوجت هذا الشاب البطل لتقلب حياته رأسا على عقب وتشيع فيها الاضطراب والقلق وتقلب المزاج وتدفعه إلى كل هذه التصرفات البشعة!!
                (يتبع)

                تعليق

                • د. حسين علي محمد
                  عضو أساسي
                  • 14-10-2007
                  • 867

                  #9
                  وإذا خلفنا هذه الأمور ألفنيا قضية أخرى من قضايا الإبداع تتمثل فى شخوص القصة الذين أقلم عليهم الكاتب أحداث حيث نجد فيها شخصيتين محوريتين رئيستين تقاسمتا البطولة والأحداث: شخصية البطل "الراوى" وشخصية القط الأسود "بلوتو"، ونستطيع أن نؤكد تفوق ظهور القط بلوتو على مسرح الأحداث على شخصية البطل نفسه ليكون أهم الشخصيتين فيها وإن ظل التفوق للبطل ظاهريا باعتباره محركا للأحداث ومحققا لمظاهر الصراع أو التدافع فيها والمصعد لها منذ التغير المزاجى والاضطراب النفسى الذى سيطر على سلوكه وتصرفاته مرورا بما أحدث للقط من أذى وانتهاء بقتل زوجته..هكذا ظل البطل محركا للأحداث ومطورا لها ظاهريا؛ بيد أن تصرفاته كلها كانت تدل على أن ثمة قوة خفية تحركه وتتحكم فى تصرفاته وتدفعه إلى ذروة الحدث لتشكل العقدة فيه ثم تأتى بالحل المناسب..والمتأمل فى هذه الأحداث يجدها تشير إلى القط مؤكدة أنه القوة الخفية التى كانت تحركه وتحدث فيه تغير المزاج واضطراب النفس وسوء التصرف الذى صبه عـلى الأقرباء والبعداء: زوجته وحيواناته عامة والقط بلوتو خاصة حيث قلع عينه ثم شنقه وما نجم عن ذلك من حرق المنزل وظهور صورة القط على الجدار الباقى من غرفة نومه ليظهر فى صورة جديدة تكاد تكون طبق الأصل لولا البقعة البيضاء التى أقحمها فى صدره، وهو تغيير لا يقصد منه أكثر من تعقيد الموقف أو الحدث وصرف المتلقى عن التوهم بتكرار ظهور شخصية القط اعتقادا بكونه جنيا يملك القدرة على التشكل والتحول..وبقدر ما حاول صرف الأنظار عنه بقدر ما لفتها إليه ليؤكد أنه هو لم يتغير ولم يتبدل، بل إن تصرفاته كانت امتدادا طبيعيا لتصرفات "بلوتو" القديم، كما لم يكن فقدان عينه مصادفة..وإذن فهذه البقعة البيضاء لم تكن لتفسد هذا التوهم وتنفى عنه ظاهرة التكرر أو العودة من جديد ليواصل دور البطولة فى أحداثها، وليجد نفسه تحت ضربة قاتلة يوجهها إليه صاحبه بفأسه لتتحول إلى رأس الزوجة لتسقط جثة هامدة ولتكون الضحية الثانية غير المتوقعة.. وقد أشرنا آنفا إلى أن ارتباط الاقط بالزوجة هو الذى جعله يختفى معها فى الجدار ليكون وسيلة اكتشاف أمره وجريمته عبر ذلك التصرف الرعن غير الإدارى الذى دفع إليه، إذ إن تلك الرغبة الحمقاء التى دهمته وسيطرت عليه ودفعته ليثبت متانة البناء وعراقته لم تكن غير أثر خفى للقط الأسود الذى آلمه مصرع الزوجة الذى ربما وضع نهاية لعلاقته به وحدا لوجود الزوج نفسه بعد اكتشاف الجريمة وأوشك أن ينفذ فيه الشنق..وواضح أن شخصية القط الأسود محورية فاعلة ومحركة للأحداث ومحققة للصراع بصورة دقيقة واعية تؤكد تفوقها على شخصية البطل التى ظلت محركة للأحداث وصانعة لهاه ظاهريا حتى قتل زوجته واكتشاف جثتها ليسلم الراية لصديقه القديم "بلوتو" في صورته الجديدة لينتهي هذه العلاقة التي ربطت بينها على طول أحداث القصة التي إستغرقت زماناً طويلاً جداً فى مراحل الطفولةوالشباب والرجولة، وإن تمركزت في مرحلة الزواج، أما مرحلة الطفولة فقد سادها السرد.. ومثل هذا الـزمن الطويل مفسد لتقنيات القصة القصيرة في نظر بعض النقاد الذين يرؤو ضرورة التركيز في تحيد زمن الأحداث..
                  وعلى هذه الشاكلة تقاسمت أو تنازعت البطولة في القصة شخصيتان رئيستان محوريتان هما البطل الراوى والقط الأسود عملا على تطوير الأحـداث وتدفعها وتحقيق الصراع بصورة طبيعية فكان الزوج يشكل البطولة الظاهرة وكان القط يشكل البطولة الخافية عبر التأثير الخفى الذى كان يمارسه على الزوج حيث كان يتحكم في تصرفاته وسيطرت عليه التغيرات الغريبة إبتداء من تغير المزاج وسوء العشرة وفساد العلاقة وإنزال الأذى بالقط بقلع عينه ثم شنقه وما نجم عنه من حرق المنزل سوى جدار غرفته الذى ترك القط عليه صورته إنذاراً شديد اللهجة ومؤشر بالغاً على طبيعة الوجود الحقيقى للقط ودوره في الأحداث.. وهو أمر من الوضوح واللاء بحيث لا يحتاج إلى جدال أو نقاش.. ثم ظهوره في صورة طبق الأصل ما عدا بقعة التمويه البيضاء التي أقمحها القاص في صدره متغافلاً عن عينه المفقودة وشكله ولونه وحجمه وغير ذلك مما يؤكد التناسخ، أو "الاستنساخ" بلغة العصر بينهما ليواصل مسيرة الأحداث والتحكم فيها بدءا من محاولة قتله وإفلاته لتقتل الزوجة بدلا منه ثم محاولة إخفاء جثتها ووشك إفلاته من مساءلة الشرطة واتهاماتهم له حتى ظهور صياح القط من وسط الجدار لـيكشف أمر الجثة، ويفلت القط أخيرا دون أن يخبرنا عن وجهته التى مضى إلـيها..وهنا ربما جاز لنا أن نزعم أن القط سيواصل علاقة بصديقه اللدود فى مرحلة السجن فى انتظار المشنقة، بل ربما لكشف لنا عن ظهور القط "بـلوتو" للمرة الثالثة فى صورة طبق الأصل ليشهد اللحظات الأخيرة من حياة صديقه القديم الذى أساء عشرته ليؤكد لنا جميعا أن شخصية القط لم تكن شخصية حيوانية عادية بل شخصية جنية استدعاها القاص لتتقمص صورة القط التمارس هذا الدور الخطير فى القصة..بل ربمكا جاز لنا أن نزعم أن الزوجة لم تكن من عالم الإنس بل كانت جنية تقمصت صورة الإنسانية لتشكل مع القط ثنائيا عجيبا غريبا ارتبطا بوضوح منذ الزواج وافترقا عند قتل الزوج لها ربما ليلتقيا فى عالم الجن بعد هذه الرحلة الغريبة التى قاما بها فى عالم الإنس.
                  أما عن تقنيات القصة فقد رأينا الحبكة تمتاز بقدر كبير من الدقة والتكامل والتصعيد الطبيعى التلقائى والمباشر للأحداث لبلوغ الذروة أو العقدة ومن ثم لحظة التنوير أو الحال، وكذلك الدقة المتناهية وروعة الإبداع فى رسم الشخوص وتحديد ملامحها وأبعادها خاصة شخصية القط وشخصية الـبطل، وكذلك الحرص على وحدة المكان الذى دارت فيه الأحداث والذى لم يكد يتجاوز المنزل الذى كان يقيم فيه..بيد أن وحدة الزمان أصابها شئ من الترهل فانفلتت من يده ولم يسيطر عليها إلى حد ما حيث استغرقت أعواما طويلة استمرت منذ مرحلة الطفولة حتى مرحلة الرجولة والزواج، وتبعا لذلك انفرط عقد الحدث لينتظم أحداثا كثيرة متعددة يصلح كل منها لبناء قصة قصيرة مستقلة..مثلا علاقته ببلوتو حتى شنقه، وعلاقته به حتى ظهور صورته على الجدار..علاقته بالقط الآخر حتى مصرع الزوجة، وكذلك علاقته به حتى اكتشاف أمره ونهايته..وهنا قياسا على ماسبق يمكن أن يستمر القاص ليواصل تحديد ملامح علاقته بالقط فى فترة السجن وتنفيذ الحكم فيه..إلخ وواضح أن هذا الأمر يفسد بنية الحدث المحصور المحدود فى القصة القصيرة إلى حد كبير فى نظر كثير من النقاد، وإن تسامح فيه نقاد آخرون.
                  ..........................
                  *من كتاب «دراسات في فن القص»، للدكتور خليل أبي ذياب.

                  تعليق

                  • د. حسين علي محمد
                    عضو أساسي
                    • 14-10-2007
                    • 867

                    #10
                    كتاب جديد للدكتورين حسين علي محمد وخليل أبو ذياب

                    عن دار النشر الدولي بالرياض صدر كتاب: «النثر العباسي: تطوره، أنماطه، أعلامه» في 260 ص من القطع الكبير، وعلى غلافه الخلفي هذه الكلمة للناشر:
                    «ازدهرت الحياة الأدبية في العصر العباسي، وطرأ على النثر تطور هائل خرج به من مجالاته الضيقة التي كان يدور فيها من قبل إلى مجالات رحبة، فتعدَّدت مناحيه وتشعبت فنونه.
                    ويُلقي هذا الكتابُ الضوء على فنون الأدب في العصر العباسي، ومنها: الخطابة، والمناظرات، والتوقيعات، والرسائل، والمقامات.
                    ويتناول عدداً من أعلام الكتابة في هذا العصر، ومنهم: ابن المقفع، والجاحظ، وابن العميد، وبديع الزمان الهمذاني، وأبو العلاء المعرِّي، والحريري، والقاضي الفاضل ويقدم عدداً من نصوصهم الأدبية في الفنون النثرية المختلفة».

                    تعليق

                    • د. حسين علي محمد
                      عضو أساسي
                      • 14-10-2007
                      • 867

                      #11
                      قراءة في قصص فؤاد قنديل القصيرة (1 ـ 4 )

                      بقلم: أ.د. خليل أبو ذياب
                      ........................


                      [ثلاثية "بهانة" من مجموعة "عسل الشمس" للقاص فؤاد قنديل]
                      ***
                      شكلت "ثلاثية بهانة" قسما كبيرا مهما من مجموعة "عسل الشمس" للـقاص المبدع فؤاد قنديل؛ وقد دارت الثلاثية على ثلاثية شخوص رئيسة لكل منها حدثها المستقل الخاص بها؛ فجاءت القصة او الحلقة الأولى تجسد "أمنيات بهانة"، وجاءت القصة أو الحلقة الثانية تصور طرفا من حياة زوج بهانة "العسكرى محفوظ"، وجاءت الثالثة أو الأخيرة لتعرض حدثا مهما يتعلق بابن بهانة "جلال" الطالب فى الجامعة!!وهذه وما قبلها تشكلان جزءا آخر من أمنيات "بهانة" بطلة الثلاثية!!
                      أما القصة الأولى "أمنيات بهانة" فقد أدارها القاص فؤاد قنديل حول بـهانة ورغب أن تكون القطب الذى تتحرك أحداثها وشخوصها من حوله، أو الشخصية المحورية الرئيسة المحركة لأحداثها وشخوصها الأخرى، وربما كان ذلك لما امتلأت به نفسها من أمنيات حلوة وآمال باسمة لونت أحاسيسها ومشاعرها، ورسمت بدقة متناهية كل حركاتها وسكناتها واستغرقت أبعاد وملامح الشخصيتين الأخريين "محفوظ وجلال" حتى لو أن القاص أغفل القصتين الأخريين من العناوين لما وجد القارى فيهما شيئا من الخلل أو النقص لما يقوم بينهما وبين القصة الأولى من وشائج وروابط تحقق الانسجام والتلاحم، فما سيحصل عليه زوجها "محفوظ" من ترقيه عندما يركب الشريطة الثالثة ليس إلا جزءا مهما آخر من أمنيات بهانة العريضة، وكذلك نجاح ابنها "جلال" وتفوقه فى الدراسة الجامعية وحصوله على المكافأة المجزية التى تطوعت بها إحدى الجمعيات الخيرية، لم يكن غير جزء آخر من تلك الأمـنيات..كذلك الأحلام التى ربما كانت لا تقل عن أمنياتها تلك، والتى كانت تداعب خيالها أو قل تسكن نفسها وتموج فى أعماقها، بالخطوة بذلك المكان الاستراتيجى المناسب فى السوق وما يهيئ لها من سهولة توزيع بضاعتها من البقدونس والجرجير والكرات التى حملتها من القرية إلى المدينة مؤملة أن تحظى برزق وفير..وكل تلك الأمنيات لا تقل أبدا عن أمنيتها بأن تحظى بعشاء دسم فى دوار العمدة بمناسبة الليلة التقليدية التى اعتاد أن يقيمها العمدة كل سنة، خصوصا إذا جاء ذلك العشاء الدسم فى أعقاب خيبتها الكبيرة غير المتوقعة فى السوق بيد أن القاص الفاضل أراد أن يعطى أو يحقق خصوصية للحدث وللشخصيتين فى القصتين أو الحلقتين الأخريين من الثلاثية، وإن وفق فى الحلقة الأخيرة منها مالم يوفق فى الحلقة الثانية على نحو ما سنرى11.
                      أما الحدث الذى أراد القاص سرده فى القصة أو الحلقة الأولى من الثلاثية فهو رحلة بهانة من القرية إلى المدينة وهى تحمل فوق رأسها القفة المحشوة بحزم البقدونس والجرجير والكرات تستحث الخطى حريصة على بـلوغ السوق فى وقت مبكر لتحط متاعها فى المكان المناسب الذى تتوق إليه نفسها..وقد بدأ القاص الحدث من على بعد كيلة متر واحد من المدينة مهملا سائر المسافة التى تمتد ما بين قرية "بهانة" كفر سندنهور "والمدينة" بنها" بله القرية نفسها التى لم تغب عنها أمنيات بهانة بطبيعة الحال منذ أن أخذت فى حصاد البقدونس والجرجير والكرات وتوزيعها فى حزم متناسقة؛ ولكن يبدو أن القاص رصد بذلك نقطة استعار الأمنيات أو لحظة انفجارها فى نفس بهانة عـندما أصبحت من المدينة قاب قوسين أو أدنى، إذ إن مسافة الكيلو متر التى كانت تفصل ما بينها وبين المدينة لم تكن فى تقديرها أكبر من قلب القوسين، على أن تلك المسافة كانت قادرة على تكريس أمنيات تلك القروية بصورة رائعة، ولعل أهم ما جسدته تلك الأمنيات أنها جعلت خريطة السوق لا تكاد تبرح مخيلتها عبر الأمل العريض بالحصول على ذلك المكان الاستراتيجى الذى يحقق لها الكسب المناسب..بيد أن المشكلة التى كانت تعانى منها أنها لا تستطيع المحافظة على هذا المكان باستمرار وتأكيد ملكيتها له بـرغم تفكيرها الدائم فيه وتبكيرها فى الرحلة اليومية إليه وقطع ذلك المشوار الطويل لعدم امتلاكها عربة يد تحتله بها، أو أى شئ آخر يحرسه لها..وهذه مشكلة قد لا تتنبه لها بهانة، أو تنفجر فى رأسها إلا عندما توشك أن تـبلغ السوق وترى الباعة قد احتلوا مواضعهم فى السوق وسبقوها إلى هذا المكان وغيره ونشروا بضاعتهم فيها تأهبا لاستقبال الزبائن..وهنا يطوف بـنا القاص فى جولة واسعة فى رأس بهانة وهى تسترجع أطرافا من ذكريات زوجها محفوظ وابنها جلال وأحلامها التى لا تنقضى حتى تصل إلى ليلة العمدة السنوية وما تحمل لها ولأسرتها من خير منتظر!! وتتلاقى هذه الليلة مع جلال الذى تتمنى أن يحضر لينال نصيبه منها..على أن احلامها كلها التقت عند نقطة أو مركز إقامتها فى السوق وهى تمنى نفسها أن تعود مبكرة لتحظى بالتئام شمل الأسرة: لقاء زوجها محفوظ العائد بترقيته الكبيرة "الشريطة الثالثة"، وابنها جلال الذى سيعود اليوم من الجامعة فى إجازته الأسبوعية، والليلة الموعودة فى دوار العمدة..وواضح أنها أمنيات كبيرة قادرة على مضاعفة الجهد وبذل كل ما تطيق على طول الطريق من الكفر إلـى المدينة؛ حتى إذا بلغت السوق وأخذت تبحث عن مكانها المأمول فوجئت باحتلاله من قبل حسنية زوجة رجب الأعرج، فمضت تمسح السوق بحثا عن مكان آخر، فلم تجد غير موضع صغير على حدود السوق فقبلته كـارهة متوجسة الشر من العسكرى سليم مراقب السوق لولا قهقهة عالية منه تناهت إليها حملت لها الأمل بيوم سعيد ضاحك لاشرّ فيه خاصة وأنه يوم ترقية زوجها وعودة ابنها، وهى أمنيات حلوة دفعتها إلى تغيير سياستها وأسلوبها مع حميدة بائع الطماطم الذى اعتاد ملاطفتها ومداعبتها، ولكنها كانت متوجسة شرا من سلوكه هذا مسيئة الظن فيه، بل إنها قررت تغيير سلوكها وأسلوب تعاملها مع الجميع، وأحست أن بهجة ظاهرة سرت فى أعماقها واستقر قلبها المرتجف فاطمأنت نفسها ورحبت بزبائنهها وتساهلت معهم ورضيت عن الدنيا..وقد كانت هذه اللحظة تمثل قمة الهدوء النفسى للحدث الذى دارت حوله القصة فى انتظار التحول الرهيب وذروة الصراع وقسوة المفاجأة التى ستحدث خاصة بعد التمهيد بخلافها من خلال حالة الانسجام البالغ بين سليم العسكرى وتاجر الخضروات الكبير دون أن يخطر فى وهم أحد أنها لم تكن غير تمهيد خادع لتنفيذ المؤامرة القذرة البشعة التى قررها كبار التجار ضدّ صغار وشراذم السوق من أمثال بهانمة وحسنية وكريمة وسنية وحميدة الذين يعكرون صفو النهر الذى يشرب منه أولئلك الذئاب المفتوسون، ويحتجزون الرزق الذى يعتبره اؤلئك التجار الشرهون حقا مـشروعا لهم ليس لأحد أن يسلبهم إياه فضلا عن أن يشاركهم فيه..وإن كانت بهانة هى المقصودة بهذه الحملة الشرسة لتطاولها ومزاحمتها ذلك التاجر الكبير فى رزقه واستيلائها على حقه المشروع..لذلك لم تشعر بهانة إلا وحذاء العسكرى سليم الرهيب يجتاح القفة ويقذفها بعيدا لتتناثر حزم البقدونس والجرجير والكرات متلطخة بالتراب، فضلا عما أثارته من فزع ورعب فى نفسها ونفس طفلتها الصغيرة ورضيعها الذى لم تجد بدّا من القائه أو طرحه على الأرض لتلملم ما تقدر عليه من بضاعتها المتناثرة بمعونة حميدة بائع الطماطم الذى كان أول من هبّ لمساعدتها فى هذه المحنة11 وعاد العسكرى بعد أن أنهى مهمته المقدسة للجلوس من تاجر الخضر المنفوش الذى كان يقيس فى زهو كرشه الكبير!!
                      وقد جاءت هذه العاصفة مدمرة لكل الآمال التى كانت تموج بها نفس بهانة ولم يبق لها غير الحزن الطويل والقلب المنكسر والنفس الممزقة أسفا على ما آلت إليه!!
                      وواضح أن القاص وفق فى رصد الحدث وتصعيده حتى بلغ ذروته بصورة تلقائية مجردة من الافتعال والمصادفة منذ أن بدأت الرحلة من لاقرية باتجاه المدينة وما كان يخامرها من أمل عريض فى رزق وفير حتى بلغت السوق فأخذت تبحث عن مكان مناسب فعجزت عن العثور عليه ورضيت آخر قصى فى نهاية السوق فى جوار تاجر الخضروات الكبير لتزاحمه فى رزقـه المحدود ليحاول اقتلاعها من السوق بهذه الطريقة البشعة التى مارسها العسكرى المأجور بنفثة من أرجيلة التاجر الذى لم يخف إعجابه وزهوه بفعلة العسكرى!!
                      وقد وفق القاص كثيرا فى تصوير التطور النفسى والوجدانى الذى ألمّ ببهانة وطفلتها عقب العاصفة المروعة التى اجتاحتهما..وعلى الرغم من أن المنولوج الداخلى الذى استعرض فيه القاص أطرافا من آمال بهانة وأمنياتها جـاء استطرادا خارج إطار الحدث، خصوصا وأن الحدث فى القصة القـصيرة لا يحتمل مثل هذه التفاصيل والاستطرادات إلا إذا كانت هى الحدث المقصود الذى بنيت عليه القصة، فقد كان يشكل جزءا مهما من ملامح شخصية بهانة وخريطة آمالها وأمنياتها التى كرستها الثلاثية تكريسا واضحا..
                      بيد أن العبارات التى أنهى بها القاص هذه القصة أو الحلقة الأولى من الثلاثية والتى تتنلول أحاسيس المارّة المصبوغة بالأسف والشفقة على بهانة وما ألم بها، وما وصف به بهانة غبّ هذه العاصفة كانت فى نظرنا وتقديرنا مـن أبرز عوامل الفتور التى اجتاحت الحدث فى القصة وتركت آثارها الـسيئة فيه، ولو أنه أوقف الحدث عند معاونة حميدة بائع الطماطم لبهانة وقد إحـساس العسكرى بالزهو على فعلته القذرة لربما وفق أكثر، وأعطى الحدث عند معاونة حميدة بائع الطماطم لبهانة وقد إحساس العسكرى بالزهو على فعلته القذرة لربما وفق أكثر، وأعطى الحدث قدرا من الحرارة والقوة والحبكة المناسبة!!
                      وإذا تركنكا الحدث فى هذه القصة إلى الشخصية فإننا نجد القاص قد وفق إلى حد كبير فى رسم أبعاد شخصة "بهانة" من خلال آمالها وأمنياتها، واستطاع أن يشخص لنا هذه المرأة الريفية بكل مظاهرها ودقائق شخصيتها وملامحها الجسمية والنفسية: أما الجسمية فقد وصف رقبتها المشدودة التى تعين رأسها على حمل القفة الثقيلة المملوءة بالبقدونس والجرجير والكرات، وذراعها اليمنى تحرسها من الوقوع، بينما تحتضن رضيعها بالذراع اليسرى تضمه إلى الصدر المجهد والقلب، الرضيع بفمه وبقيضة وعدد من الأظافر الناعمة يتشبث بالثدى الذى يشبه بالونة فرغت من الهواء "..ولو أتيح لرسام لأبدع هذه الصورة إبداعا يجسد هاتيك الملامح المعبرة لتوضع بإزاء ذلك الوصف..كما عنى برسم صورة بارعة لقدمى بهانة الحافيتين وهما تنتهبان الطريق نحو المدينة وما أصابهما من طول الحفاء من صلابة وتشقق، حتى إذا بلغتا المدينة أخذتا تشقان بحيرات الماء وتدوسان الحصى وتخوضان فى النفاية..ثم عاد إلى هاتين القدمين مرة أخرى فى نهاية القصة يصف ما ارتسم فيهما من خطوط متقابلة وشقوق جلستها المتميزة عند بلوغها موضعها فى السوق واتخاذ مكانها فيه على نحو ما سنرى، كما وصف عينيها وما يترقرق فـيهما من دمع يصدر عنهما من نظرت تتطلع إلى المدى البعيد المبهم..كذلك جاء وصفه لملامح بهانة عند اجتياح العاصفة لها وبعثرة العسكرى لقفتها وبضاعتها دقيقا ومفصلا، وكامن يمكن أن تخرج فى لوحة رائعة غنية بالتفاصيل والدقائق، نابضة بالأحاسيس والمشاعر والانفعالات..بل إننا كنا نود أن لو اكتفى بلوحة تجسد ما آلت إليه بهانة وما علا وجهها من أمارات الأسف والحسرة والحزن بدلا من الوصف الذى ختم به القصة لأن تأثير اللوحة فى هذه الحالة ربما كان أعمق وأجمل من تعبير الكلمة!!
                      وهكذا تبينت لنا ملامح شخصية بهانة القصة واشلخصية المحورية الرئيسة فيها بكل أبعادها الجسمانية..كذلك حرص القاص على رسم ملامح بهانة النفسية وتسجيل أبعادها على طول القصة منذ أن أصبحت على قيد كليو متر واحد من المدينة عندما آخذت تستعرض أمانيها وأحلامها غب هذه الرحلة المجهدة من الكفر إلى المدينة وما سيتحقق لها من رزق وفير مناسب؛ وقد استدعى ذلك إعلان رغبتها أو أمنيتها بالحصول على المكان الاستراتيجى المناسب فى السوق مما جعلها تحرص على البكور فى رحلتها..ووراء هذه الأمنية كان هناك الاستدعاء لذلك المنولوج النفسى الـداخلى الطويل الذى دعت إليه وعثاء الطريق وشدة الإرهاق وثقلة الأحمال التى كانت تنوء تحتها: القفة المحشوة بالخضر والرضيع والطفلة المقطورة التى كانت تمارس بطريقة عشوائية لآ إرادية ضربا من ضروب الرهق والعناء لها..وطبيعى أن مثل هذه الرحلاة تتيح مجالا واسعا لاسترجاع الذكريات واستعراض الأمنيات عبر ذلك المونولوج الداخلى الذى سرده القاص والذى دار حول أمنيات بهانة التى تمثلت فى ترقية زوجها محفوظ وقدوم ابنها جلال من الجامعة لزيارتها والحظوة بما سيكون فى ليلة العمدة السنوية، وكذلك تباهيها العريض بتلك الترقية المرتقبة ونجاح ابنها فى الجامعة وما سيحصل عليه من وظيفة معتبرة فى الخارجية..وقد كان تلك ذلك كله مدعاة للحسد من إحدى قريناتها فى السوق "كريمة الصفراء" التى استكثرت عليها كل تلك الأحلام ولم تكق الصبر عليها..كذلك كان التحول فى معاملتها لحميدة بائع الطماطم ضربا من الانفتاح النفسى الحياة التى حملت إليها كل هذه السعادة الغامرة، وإن لم تقدر على ممارسة هذا السلوك أو الموقف مع سليم العسكرى الذى سيتفوق عليه زوجها بالترقية المنتظرة أو الوشيكة، ربما لما تجد، أو ستجد من صلفه وسوئه وشره وأذاه..وتبلغ تلك الملامح النفسية ذروتها مع العاصفة التى اجتاحتها بوساطة حذاء العكسرى سليم وهو يبعثر قفتها وينثر حزمها ويبدد أحلامها ويطفئ الوهج الذى أنار ظلمات نفسها ولم يبق لها غير يدها التى أسندت إليها خدها وقلبها الذى انفطر حزنا وأسفا على ضياع أمنياتها..ولعل هذا الموقف النفسى يذكرنا من وجه مغاير بقصة بائع السمن إحدى قصص ألف ليلة وليلة الذى ابتنى صروحا من الآمال والأحلام لم يلبث أن قوضها بضربة هوجاء من عصاه وجهها إلى ابنه المشاكس فأصابت جرة السمن التى انكسرت فأراقت مافيها من سمن على التراب..
                      ووراء شخصية بهانة وملامحه أمشاج نفسية متناثرة واكبت أطرافا من أحداث القصة وشخوصها من ذلك فزع وصها من ذلك فزع الطفلة "الـمقطورة" وصراخ الطفل الرضيع حين طرحته أمه على الأرض فجأة وفى عنف حنون!!، ومنها ما خامر بعض المارة من إحساس عابر بالشفقة والحقد وهم يرون بهانة تقتلع من السوق بكل هذه القسوةو البشعة!! وكذلك الخضرى المنفوش الذى كان يقيش كرشه الكبير فى زهو!!
                      (يتبع)

                      تعليق

                      • د. حسين علي محمد
                        عضو أساسي
                        • 14-10-2007
                        • 867

                        #12
                        قراءة في قصص فؤاد قنديل القصيرة (2 ـ 4)
                        .............................................
                        وهكذا جاء التعبير النفسى مواكبا مواكبا لأبعاد الحدث الذى دارت عليه القصة ليسجل بقوة وعمق قدرة القاص وإبداعه فى هذا المجال..
                        وعلى صعيد التشخيص نتبين أن نهاية كانت الشخصية الوحيدة المحورية فى القصة التى حركت الحدث منذ اللحظة الأولى فيه وحتى نهايته، ولـم يكن هناك شخوص أخرى عنى القاص برسم ملامحها على نحو ما صنع مع شخصية بهانة أو على نحو قريب منه برغم وجود كثير منها، ولكنه لـم يرد لها أن تكوكن محورية رئيسة محركة للحدث أو صانعة له، بل جعلها عابرة تأتى حينا بعد حين وفقا لعلاقتها ببهانة أو بالحدث فى القصة، وهى بالفعل شخوص ثانوية غير محورية ممنها كريمة الصفراء "وسنية أم الواد فتحر" و "حميدة" بائع الطماطم و "سليم" العسكرى..
                        وإذا تتركنا هذا الجانب ألفينا الحبكة والسرد والحوار وهى عناصر جاءت على مستوى عال من الإجادة والإمتاع..فأما الحبكة فقد حرص القاص على بنائها بناء فنيا متماسكا وفقا لعرض الأمنيات التى خامرت نفس بهانة وجالت فى خاطرها على طول الحدث منذ انطلاقها من الكفر إلى سوق الـمدينة، مرورا بالمونولوج الداخلى الذى عرضت فيه أطراقا من ملامح تلك الأمنيات فيما يخص زوجها "محفوظ" وابنها "جلال" وما يخص وضعها الاجـتماعى الريفى وما يرين عليه من فقر وشظف وبؤس حينا آخر، وانتهاء بتصوير المشوار الذى اعتادت أن تقطعه بهانة كل يوم طفلتها المقطورة ورضـيعا من القرية إلى المدينة حتى تصل إلى السوق وتتخذ لها مكانا مناسبا وإن لم تحظ هذه المرة بغير ذلك المكان المجاور لمعرض أحد كبار تجار الخضروات وما نجم عنه من إتلاف بضاعتها وتدمير أحلامها وتبدبد أمنياتها..
                        وقد جاء السرد على لسان القاص أو الراوى معتمدا على تتبع مجريات الحدث حريصا على توظيف الحوار الواسع واستغلاله لنقل مواقف شخوصه وأقوالهم..وقد جاء الحوار ممتعا لولا سيطرة العامية عليه بشكل بالغ لافت يمكن أن يعد من أظهر المآخذ اللغوية والأسلوبية على القاص دون أن يكون له سند لدى من يرى من النقاد جواز التعبير الواقعى عن الشخوص بـاللهجات المحلية العامية فى الإبداع القصصى عامة، وحتى لو تسامح بعض النقاد فى هذا الجانب، فما كان ينبغى للقا ص أن يتوسع فيه على هذا الـنحو لا فى هذه القصص الثلاث ولا فى غيرها من قصص مجموعة "عسل الشمس"، وكذلك سائر مجموعاته القصصية، وكنا نتمنى على القاص وزملائه من أبناء هذا الجيل أن يتخففوا كثيرا من استخدام العامية وضرورة تكريس الفصحى فى أدائهم القصص لئلا يكونوا من وسائل الهدم والتدمير للغة خاصة وأنهم يكتبون للمثقفين والقراء الذين ينبغى لهم أن يرتقوا بـمستواهم اللغوى لا أن يهبطوا به إلى هذا الدرك!!أما اللغة أو الأسلوب الذى صاغ فيه الاقاص أحداث قصته فقد جاء سهلا ميسورا لا تقعر فيه ولا تعقيد، وكانت الألفاظ تنساب فيه انسيابا يتناسب مع طبيعة فن القص والحكى..كما ان القصة حظيت بكثير من العبارات الجيدة والصور الرائعة الـموحية التى انتشرت فى جوانبها، من ذلك وصف الرضيع الذى كان يتشبث بثدى أمه بهانة بفمه وقبضته وعدد من الأظافر الناعمة، كما جاء وصفه للثدى رائعا عندما جعله بالونة أفرغت من الهواء!! كذلك تشخيصه للمكان والزمان حيث يقول: "الأفق يضيق، والسماء معتمة، الضباب كثيف وقطرات الندى تطير وتسقط على كل شئ.."، وقوله فى وصف بهانة "القدمان الحافيتان تتقدمان فى إيقاع ثابت ولحوح فى محاولة لدفع الطريق إلى الوراء، والبرد القارس يصفع معالم الوجه الجاد.."، و "الوقت يقفز مثل لحظات الغروب فوق الأعمار"، وكذلك وصف الطفلة المرافقة للأم بـ"المقطورة الـصغيرة"، وصف موح وجيد فى مقابل وصفه للحياة فى السوق بعد أن توافد عليه طلاب الحاجات" غول الحياة"!! كذلك يستوقفنا تصوير القاص لبهانة وهى تضع قفتها وتأخذ مجلسها فى السوق ويقدم لنا صورة واقعية دقيقة الملامح تجرى على هذا النسق: " علمت نفسها أن تجلس والقفة لا تزال على رأها دون معاونة، هبطت أولا على ركبتها كالجمل، وجعلت مؤخرتها فوق الكعبين كجلسة المصلى، ثم سحبت ساقا من تحتها فأصبحت أمامها، وسـحبت الأخرى وربعت، ثم وضعت الرضيع (ص12)..كذلك وصفه لـبهانة وهى تهز حزم البقدونس والجرجير والكرات كأنها توقظها من النوم!! كذلك وصفه لكريمة وما يموج فى صدرها من جسد ب،"الصفراء"!! أما العبارة الأخيرة التى ختم بها القصة فقد شاع فيها قدر غير يسير من الاضطراب والفساد، فقد ثنى كلمة "بطن"، وكان الجمع أولى لإضافتها إلى المثنى، ثم ذكر "الممدين" وصفا للقدمين وهى مؤنثة، ثم جاء بكلمة "اللحم" فى وضع غير مناسب لأن ذكر هذه اللفظة يوحى بالطراوة والطزاجة وهو مناف لطبيعة القدمين اللتين أصبحتا من طول الحفاء قطعتين عنيدتين من العظم والجلد المشقق، كما ذكر فى (ص8)!!ولذا كان عليه أن يغير الفقرة الأخيرة من القصة لتصبح "استرخت أعضاؤها فى يأس ورأى الناس بطون القدمين الممددتين فى استسلام حيث كانت الشقوق المزدحمة تحفر فيهما خطوطا متقابلة"!!.
                        2- عصر بهانة

                        وهذه هى القصة أو الحلقة الثانية من ثلاثية بهانة للقاص فؤاد قنديل، وقد جعل لها عنوانا غريبا هو "عصر بهانة"؛ وهو عنوان مغاير لعنوان القصة الأولى "إمنيات بهانة"، ولعنوان القصة الثالثة "ابن بهانة"!! 1لك أن القصة الأولى إذا كانت مجسدة لأمنيات بهانة التى كانت تحلم بها وتشغل بالها وتمنى نفسها بتحقيقها، وكانت تشكل نسيج القصة والحدث فيها وإذا كانت القصة الثالثة مصورة لابن بهانة، وتعرض إطارا زمنيا واحدا، وتحدد بعدا مكانيا واحدا مماثلا، وكانت كل عناصر الحدث تدور حوله بل وتلتحم حاما يجعل العنوان متناسبا ودقيقا على نحو ما كان أيضا فى القصة الأولى، نقول: إذا كان ذلك كله كذلك فإن أظهر ما يشكل فى القصة الثانية التى نقوم هنا بعرضها وتحليلها هو العنوان الذى اصطفا القاص لها وهو "عصر بهانة" إذ إن هذه القصة لا تجسد بحال ما يمكن أن يسمى "عصر بهانة"، ذلك أن هذا العنوان من الاتساع والشمول بحيث لا تحصره أحداث بله حدث قصة قصيرة استغرقت بضع صحف؛ ومهما كانت خصوصية الشخصية الرئيسة/ البطل فـى القصة القصيرة فإنها لن تكون قادرة على تصوير إطار عصرى مناسب، او تحديد معالمه وأبعاده، هذا إذا كانت الأحداث أو الحدث يدور حول هـذا الإطار الزمنى الفسيح، فكيف إذا وجدنا الأحداث أو الحدث لا يمثل غير مرحلة زمنية محدودة ومتباينة بالنسبة للشخصيتين الرئيستين، فيها "بهانة ومحفوظ"، ذلك أن القصة تعرض فى طرف منها بعض مظاهر حياتية تتصل بهانة، كما تعرض فى الطرف الآخر مظاهر أخرى تتصل بزوجها "محفوظ"؛ وهذا هو أبرز إشكال يقوم على العنوان الذى مهر به القاص قصته "عصر بهانة"، فهل كان القاص يقصد فى هذا العنوان ما يتصل ببهانة نفسها وما تتميز به من همة ونشاط وقدرة فائقة على إنجاز ما يوكل إليها من اعمال كما تجلى ذلك فى دوار العمدة لإعداد الوليمة المناسبة فى هذه الليلة التى اعتاد الـعمدة إقامتها كل سنة..وهى أعمال باهرة حقيقة، وهمة ونشاط لافتان للنظر مـثيران للإعجاب: إعجاب القرويات العاملات معها فى هذه المناسبة المهمة، وإعجاب الحاجة صفية زوجة العمدة التى كانت تراقب العمل بين حين وآخر..وهذا أمر مناسب لارتباطه بقطاع واسع من أحداث القصة، وهذا ما قرره القاص وهو يصف التطور الهائل الذى أحدثته بهانة فى مجريات العمل لإعـداد الوليمة حيث قال: "شهد عصر بهانة تحرك الجميع..وإن كنا لا نوافق القاص على مثلب هذا التعبير "عصر بهانة" أولا لعدم مناسبته للوقت المحدود الذى استغرقته وثانيا للنظر إلى بهانة وكأنها شخصية وطنية أو تاريخية أو ذات اتجاه فنى متميز يجعلها جديرة بمثل هذا الوصف الذى يجعلها تبدو نموذجا من النماذج البشرية كشهرزاد وكليوباترا وغيرهما..وإذن فمن المبالغة المسرفة نسبة "العصر" إلى بهانة، ويبدو أن القاص يقع تحت تأثير عامى بحت يتردد فى مثل هذه المناسبات عندما يقال: "اليوم يومك يا بطل!!"، "الليلة ليتك يا فلان!!" وهكذا..ثم خانه التعبير بتحويله إلى العصر ليكون "عصر بهانة" العظيمة!! أو أن القاص كان يقصد "عصر محفوظ" زوج بـهانة، أو عصر المظاهرات التى ارتبط بها محفوظ وما شاع من مهارته فى فض المظاهرات وتفريق المتظاهرين، وما تميز به من اقتدار بالغ على مواجهة أعتى المظاهرات وإخمادها بأبسط الوسائل ودون استخدام القنابل المسيلة للدموع التى تستخدم عادة فى المظاهرات العنيفة؛ وهو ما مارسه محفوظ على طول حياته السياسية المتمثلة فى مواجهة مظاهرات طلاب الجامعات والعمال خصوصا وأن هذا هو القطاع الآخر من أحداث القصة!! وما دامت القصة تتناول حدثين متباينين، كل منهما يدور حول شخصية مستقلة عن الأخرى، فقد كان بمقدور القاص أن يخلص لحدث واحد منهما يفصله ويستقصيه ويطوره ليبلغ به ذروته وليحدد له العنوان المناسب "عصر، أو يـوم بهانة"، أو "عصر محفوظ زوج بهانة"!! على أن الحدث الذى استملت عليه القصة أو دارت عليه، يبدو أنه غير مناسب وغير مكتمل لأنه كما سنرى لم يكن أكثر من أمشاج من حياة بهانة مجردة من التطوير والصراع والعقدة والحل؛ ذلك أننا إذا رجعنا إلى القصة فى محاولة لتحديد إطار الحدث فيها نجدها تفتتح بعبارة "ياما أنت كريم يا رب!! يقطع ويوصل - حكمتك يا رب!!" وهما عبارتان تقومان بدور الرابط القوى الواصل بين القصة أو الحلقة السابقة وهذه الحلقة أو القصة الثانية، ذلك أنها ترصد آخر مراحل الحدث السابق فى قصة "أمنيات بهانة" وتبلورها عقب العاصفة الـهوجاء التى اجتاحت باعتها واقتلعتها من السوق محطمة كل أمنياتها وآمالها وما تمخضت عنه من خسارة ظاهرة وخيبة بالغة وحسرة مرة!! وهى المقصودة بطبيعة الحال بعبارة "يقطع"؛ أما "يوصل" تلمح أو تشير إلى ما ستحظى به هى والعيال من عشاء دسم وتتقوت به من لحم طيب فى دوار العمدة فى هذه المناسبة السنوية المعتادة المهمة، ناهيك بما تنطوى عليه البارتان الأخريان "ياما انت كريم يارب"، "حكمت يا رب" من إيمان ريفى عميق بتدبير الله وتقديره والرضا بقضائه كائنا ما كان!! وهكذا جاءت هذه القصة استكمالا لمسيرة الحدث فى القصة السابقة وإن انفصلت عنه لتجسد أو تقص حدثا آخر شأن القصة القصيرة، ومضى القاص يتابع بهانة راصدا ومتحسسا نشاطها وهمتها وما تمتاز به من قدرة هائلة مذهلة على العمل المخلص الجاد الذى لا يعرف الكل أو الفتور والتهاون مما جعلها تمسح المكان وتراقب القرويات العاملات فى إعداد الوليمة مستكملة ما ينقصها من أشياء ورافضة ما بدا من فتور بعضهن "تلك الفتاة الصبية الجميلة الطرية ذات المنديل المدندش على رأسها والكحل فى عينيها..وغير ذلك من الصفات الـجميلة الحلوة وإن كانت غير مناسبة للموقف، مما جعلها تبدو غريبة فى مثل هذه الأعمال والمناسبات التى أنكرتها عليها بهانة!!
                        وهى صورة مناقضة تماما لصورة بهانة مما جعلها ترفض أسلوبها فى العمل محاولة توجيهها إلى الطريقة المثلى فيه..وكل هذا دفع الحاجة صفية إلى إعلان إعجابها البالغ ببهانة "أيوه كده!!" وتتابعت ملامح الحدث عـندما باركت الحاجة صفية لبهانة على ما تنتظره من ترقية زوجها محفوظ، ثم مضت تستحثهن بصورة ممتازة ليتناسب مع هذه الليلة التى تتميز عـن سائر الليالى السابقة لكثرة المعازيم ومكانتهم مخبرة بوجود شاعر شـعبى لإحياء هذه الليلة الموعودة. ومضت بهانة تتابع مسيرة العمل حريصة على إبرازه بصورة متميزة عندما فاجأها ابنها بخبر إصابة والده محفوظ فى المظاهرة وإحضار العساكر له!! وإلى هنا ينتهى الحدث الخاص ببهانة فى هذه القصة، كما ينتهى العنوان الذى وضعه للقصة" عصر بهانة لـينتقل إلى ملامح الحدث الآخر الخاص بزوجها "محفوظ" يسردها مكنذ دعوة الضابط لمحفوظ وزملائه العساكر للآستعداد للانطلاق لإخماد إحدى الـمظاهرات الطلابية حريصا على إبراز مكانته ودوره فى مثل هذه المهمات الصعبة..ويدور حوار ودى بين محفوظ وبعض زملائه الجدد يكشف عن غبطتهم بترقيته وأملهم أن تكون هذه آخر مظاهرة أو آخر فصل فى مسرحية المظاهرات (!!).
                        كما يؤكد ذلك محفوظ دائما..ويستطرد القاص فى حديثه عن محفوظ وإمكاناته الفذة فى إخماد أعتى المظاهرات بعصاه الغليظة التى أطلق عليها "الصاعقة" التى تحطم الرؤوس والجباه والعظام، ثم بقدمه الضخمة القوية الأسطورية التى تشبه كلبا شرسا أسود، والقادرة على قذف أى شخص عدة أمتار ليكون قادرا على الإجهاز عليه من ثم!!
                        ومضى القاص يسرد طرفا من أمجاد محفوظ "رجل المهمات الصعبة" حيث ضرب طلبة جامعة القاهرة فى عدة مناسبات وطلبة جامعة عين شمس والإسكندرية وعمال شبرا وحلوان والمحلة وعموم الشعب الخارج فى مظاهرات من الجامع الأزهر وميدان التحرير والحسين والسيدة وغيرها..كما اختير مرة أخرى لفرض مرشح الحكومة فى دائرة بنها إبان السبعينات أيام الديمقراطية، وسافر إلى أسيوط ومدن أخرى عدة مرات خصيصا لوقف نشاط الجماعات الإسلامية وغير الإسلامية!! ويواصل القاص سخريته المرة وهو يرسم ملامح شخصية محفوظ الرهيبة مما سنعرض له فى موضع آخر من الـدرس، كما يتابع طرفا من الاحوار الذى دار بين محفوظ واثنين من زملائه الجدد اللذين أعربا عما أشيع عن قسوته وشدته فى معاملة المتظاهرين مؤكدا لهما طيبة قلبه وبساطته وحبه البالغ للناس..وليثبت ذلك الموقف لهما أخرج قصاصة من صحيفة أجرت معه حديثا صحفيا يؤكد فيه مـوقفه من المظاهرات ورأيه فى المتظاهرين الذين هم مجرد أدوات يسخرها زعماء شيوعيون كبار، كما يرى أن لمظاهرة تتعاون فى صنعها ثلاث فئات: مفكرون أو مخططون، مقاولون أنفار أو منفذون، ثم وقود المظاهرة أو أدواتها، وقد يضاف إليها فئة رابعة داخلية أو خارجية هى الـممولة للمظاهرة!! وينقطع الحوار عند وصول اللورى الذى يقلهم إلى مـكان المتظاهرين حيث كان آلاف الطلبة يجلسون على الأرض أمام الجامعة ويسدون الطريق، وبعضهم يحملون لافتات تعبر عن حرية الرأى؛ ومضى القاص يتابع أحداث المظاهرة وما أصاب المتظاهرين من أذى وإصرارهم على الصمود مما جعل الجنود يتراجعون ليعيدوا تنظيم صفوفهم ومحاولات قادتهم تشجيعهم للصمود أمام المتظاهرين وتهوين أمرهم بمثل قولهم" دول حبة عيال، إيه اللى جرالكم؟" وأخذت الإمدادات تتتابع والأوامر تترى، ولم يجدوا بدا من استخدام القنابل المسيلة للدموع، ولم يتراجع الطلبة بل أمطروهم بوابل هائل من الحجارة التى أحدثت فيهم إصابات بالغة لعل أبرزها تلك التى أصابت رأس "محفوظ" فكادت تودى به وأفقدته الوعى وشغل بعض الجنود بتضميده وإسعافه ونقله من ميدان المظاهرة إلى أقرب مستشفى لعلاجه ومن ثم نقله إلى قريته..ويستطرد القاص فى سرد طرف من ذكريات محفوظ..بيد أن أهم ما يلفت النظر هو التحول الفكرى الذى انتتهى إليه محفوظ تحت تأثير الإصابة التى نزلت به فى هذه المظاهرة على نحو ما سنرى!!
                        وإذا تأملنا مسيرة الحدث فى هذه القصة ألفيناها تدور فى إطارين متمايزين، إطار بهانة وما قامت به من اعمال فى دوار العمدة لإعداد الوليمة السنوية المعتادة، وقد بدأت عند عودتها من سوق المدينة فى أعقاب الجرمة البشعة التى مورست بحقها ونفذها العسكرى سليم تحقيقا لرغبة تاجر الخضار الكبير لاقتلاعها من السوق حتى لا تكون منافسا خطيرا لأولئك التجار الجشعين!! وفى أثناء عودتها خائبة تذكرت هذه المناسبة العظيمة؛ حتى إذا وصلت إلى منزلها ألفت دعوة الحاجة صفية زوجة العمدة فلبتها بأقصى ما تطيق واندفعت تملأ المكان بنشاطها العجيب وعملها الدؤوب وهمتها الـبالغة..واستمرت على هذه الحال حتى جاءها ابنها يحمل خبر إصابة زوجـها محفوظ وإحضار الجنود له..ثم تبدأ مسيرة الحدث فى الإطار الثانى، إطار محفوظ رجل المهماتا الصعبة وقاهر المتظاهرين مبتدئه بأمر الضابط لـجنوده بالتوجه لقمع بفض المظاهرات وتحريضهم للقيام بواجبهم المقدس فى تأديب المتظاهرين مستديعا محفوظ ليصحب بعض الجنود المبتدئين فى هذا المجال الأمنى الخطير، ويدور بينهم حوار حول ترقية محفوظ، ويستطرد القاص فى سرد أطراف من سيرة محفوظ وشهرته فى تفريق المتظاهرين وفض المظاهرات وطريقته المتميزة فى ذلك بعصاه الغليظة "الصاعقة"، وقـدمه الضخمة "الكلب الشرس"؛ ورأيه فى حقيقة المظاهرات؛ ثم يعدد بعض تلك المظاهرات التى شارك فيها بدوره المتميز، ويمضى الحوار بينه وبـين زميليه حول ما يشاع عن قسوته وجبروته وشدة بأسه مؤكدا لهما طيبة قلبه وبراءته وصدق مقاصده، حتى إنه يستطرد فيسرد طرفا من التحقيق الصحفى الذى أجرى معه ليؤكد قناعته بحقيقة المظاهرات..وينتهى هذا السرد عند وصولهم إلى مكان المظاهرة ليبدأ محفوظ ورفاقه بممارسة عملهم، ويأخذ القاص فى وصف المظاهرة والمتظاهرين واستعداد الجنود لتفريقهم، ويمارس المتظاهرون أسلوب الانتفاضة فيمطرون الجنود بوابل من الحجارة أعجزتهم عن تفريقهم وأحدثت فيهم إصابات بالغة
                        (يتبع)

                        تعليق

                        • د. حسين علي محمد
                          عضو أساسي
                          • 14-10-2007
                          • 867

                          #13
                          قراءة في قصص فؤاد قنديل القصيرة (3 ـ 4)
                          .............................................
                          ربما كان أهمها إصابة محفوظ التى كادت تودى بحياته مما تطلب نقله إلى المستشفى ومن ثم إلى منزله..وقد توقف القاص عند طرف من أفكار محفوظ التى توافدت على خاطره وهو فى هذه الحال العصيبة فتذكر ابنه جلال الذى لا يشارك عادة فى مثل هذه المظاهرات، كما تذكر زوجته بهانة، كذلك تذكر سيل الحجارة المنهمر عليه وعلى سائر الجنود مؤكدا أنها حجارة من نوع جديد، حجارة صادقة مخلصة غير مأجورة ولا عميلة، بل إنه يعبر عن إعجابة بهؤلاء الطلاب المتظاهرين، بل إنها أحدثت تحولا فكريا جذريا لديه فى موقفه من المظاهرات ورأيه فيها وضرورة بحثها من جديد لمعرفة حقيقتها..حتى إذا اطمأنت بهانة على زوجها انصرفت إلى عملها فى دوار العمدة لإعداد الوليمة المنتظرة وانتظار العشاء الدسم، وهكذا ألفينا القاص يدور فى دوامة حدثين لا حدث واحد فى هذه القصة، وبإزاء شخصيتين لا شخصية واحدة "بهانة ومـحفوظ"، وإذا كان حدث بهانة قد شاركت فيه ووجهته وأدارته بنفسها برغم سرد القاص له حيث كانت بهانة هى الفاعلة والموجهة له، فقد كان حدث محفوظ مجرد سرد من القاص سواء فى ذلك ما يتصل بمحفوظ نفسه وما يتصل بالمظاهرة التى رصدها مما أفسد حبكة الحدث فيها وتفلتت خيوطه من يده تحت وطأة التداخل والتداعى واستحداث الحوار بين حين وآخر، واسـتدعاء الذاكريات فضلا عن سرد أحداث المظاهرة ووصفها وسرد ملامح شخصية محفوظ المتميزة ومواقفه المتعددة..وهكذا تمزق نسيج الحدث الـذى طكان يكمن أن يكون أهم ما فى القصة لو حرص القاص على تطويره وتصعيده بصورة مجردة عن السرد والاستطراد والتداعى..مما جعل القصة أشبه بتقرير أو تحقيق صحفى آخر عن حياة محفوظ وأسلوبه فى التعامل مع المتظاهرين وحقيقة رأيه فى المظاهرات من قبل هذه المظاهرة ومن بعدها 11.
                          وإذا تحولنا إلى شخوص القصة ألفينا شخصيتين رئيستين: شخصية بهانة التى احتلت القسم الأول من القصة وبدت متميزة بالجد والنشاط فى أداء مختلف الأعمال والقيام بالأعباء التى تتطلبها المناسبة السنوية؛ وهى صورة تتداخل بشكل أو بآخر مع صورتها فى القصة الأولى السابقة ولا تختلف عنها وإن لم يشر إلى ملامحها هنا لعدم الحاجة إليها.زوهذا أمر طبيعى، إذ إن بهانة هى فى القصتين مما يجعلها شخصية نمطية محورية واحدة..أما الشخصية الأخرى فهى شخصية محفوظ، وقد رسم القاض من خلال سرده الواسع ملامحها بدقة متناهية وتبدأ الإشارة إلى أبرز ملامح تلك الشخصية عـند حرص الضابط على وجود محفوظ لانتدابه لهذه المهمة الصعبة التقليدية "فض مظاهرة طلابية"، ويذكرنا القاص بترقية محفوظ التى شغلت حيزا من أحداث القصة الأولى "أمنياتا بهانة"، مضيفا إليها طرفا من ملامحه الجسمانية "طويل عريض تضئ وجهه ابتسامة مرتب الهندام"، ويحاول القاص سرد بعض ملامحه النفسية من خلال ظنه أو وهمه أن هتاف المتظاهرين إنما كان ضده هو!!، فضلا عن تأكيد طيبة قلبه وحبه للناس وبساطته..ثم مضى القاص يسرد أطرافا من شخصية محفوظ الذى ذاعت شهرته فى فض المظاهرات وتفريق المتظاهرين حتى غدا مضرب المثل، مما جعل جيش الـدفاع الإسرائيلى يطلب من الداخلية المصرية إعارته لها ثلاثة أشهر لإخماد الانتفاضة الفلسطينية، كما قدمت طلبات أخرى لإعارته لبورما وباكستان والفلبين وكوريا الجنوبية وأمريكا اللاتينية..وإن رفضتها الحكومة المصرية كما يقول القاص..وهذا يذكر باستخدام الإدارة المصرية عناصر سودانية لقمع المظاهرات التى انفجرت فى قطاع غزة والتنكيل بالمتظاهرين فى مطالع الخمسينات من هذا القرن لإسقاط مشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين فى صحراء سيناء..على أية حال كان هذا ما جعل الضابط يحرص على تواجد محفوظ واستدعائه لهذه المهمة الصعبة، وقد ساعدته على ذلك ضخامة جسمه وخفة حركته وتوقد ذهنه وشجاعته..إلى جانب ذلك قناعته بأن المظاهرات تمثيليات منظمة تشارك فيها فئات متعددة لزعزعة الأنظمة وإفساد الأوضاع وإثارة القلاقل والفتن، وإن كان الذى رسخ ذلك كله فى دماغه الإعلام الموجه..بيد ان هذا الرأى أو الموقف قد أخذ يتزعزع عقب هذه المظاهرة الأخيرة والإصابة البلغة التى نزلت به، وبدأ التحول الفكرى عندما تبين له أن حجارة المتظاهرين التى انهالت عليه وعلى سائر الجنود لم تكن حجارة مأجورة، حجارة فلوس بل حجارة عفية مرمية بقلب جامد مغلول"!! وأنهم كذلك لم يكن وراءهم مخطط أو ممول لأنهم كانوا يريدون إنقاذ زملائهم وتخليصهم من السجون والمعتقلان" جدعنة منهم برضه رغم اللى جرالى"…. ومن ملامح شخصية محفوظ أيضا" القدم الضخمة القوية القادرة على الفتك بأعتى المتظاهرين والتى وصفها القاص بالكلب الشرس، ثم العصا الغليظة التى وصفت بالصاعقة مما جعله لا يلجأ إلى القنابل المسيلة فى تفريق المتظاهرين والإجهاز عليهم!!
                          إلى جانب ذلك ملامح شخصية محفوظ النفسية المتمثلة فى نظرية إلى المظاهرات وتعامله معها تعاملا نفسيا من منطلق الهواية والمزاج الشخصى لا الواجب الوظيفى حيث كان يجد لذة بالغة فى فض المظاهرات والفتك بالمتظاهرين المتمردين "المجرمين" كما أكد ذلك فى التحقيق الصحفى المرافق، مما جعله يرفض ممارسة الأعمال البوليسية التى تقوم على المراقبة والملاحظة والحراسة وتنظيم المرور وغيرها لأنها لا تناسب نفسيته وطبيعته!!
                          وجانب آخر تمثل فى بساطته وطيبة قلبه وحبه للناس وبراءته من كل ما ينسب إليه من قسوة يصفها بقسوة الطبيب الجراح على أجسام مرضاه لتحقيق الشفاء لهم، وكل ما يفرق بينه وبين الطبيب أن علاج الجراح لداء فرد، بينما علاجه لأدواء الأمة كلها..
                          ولعل من أبرز ملامح شخصية محفوظ بداية التحول الفكرى وتغيير فكرته ورأيه فى حقيقة المظاهرات، وأنها ليست كما صورها الإعلام الـمضلل، بل هى ذات أهداف نبيلة وغايات سامية ومقاصد إنسانية رفيعة مما يحتم عليه إعادة حساباته فيها!!
                          وهكذا كانت ملامح شخصية محفوظ ونفسيته تؤكد أنه شخصية سلطوية قاهرة غسل دماغه وبرمج وفق مخطط دقيق جعله يمارس أعماله العنيفة بلذة نفسية بالغة ويرفض ممارسة الأعمال البعيدة عن الغلف والقسوة والبطش حتى وقعت له تلك الإصابة التى جعلته يعيد حساباته وتفكيره فى تلك القضايا..
                          أما لغة القصة وأسلوبها فلا يختلفان عن نظائر هما فى القصة السابقة بل وفى سائر قصص المجموعة "عسل الشمس"، حيث جاءت سهلة بسيطة لا عمق فيها ولا توعر مما تفرضه طبيعة فن القص، كما شاعت العامية فيها شيوعا ظاهرا حيث سادت حوارياته وكأن القاص كان يترصد كل جملة حوارية تعرض على لسان أحد شخوصه ليخرجها فى صورة عامية بحتة..بل امتدت العامية إلى جوانب أخرى من أسلوبه وعباراته على نحو ما نجد فى قوله يصف مقدم بهانة وانكبابها على العمل فى دوار العمدة: "ولكنها دخلت على الشغل طوالى"..
                          على أنه يستوقفنا فى القصة الصورة الطريفة التى رسمها القاص للحاجة سفية وهى ترصد القرويات العلامات فى إعداد الوليمة حيث يقول: "خطت الحاجة صفية خطوتين وكأنها تتقدم بحذر إلى البحر وقد أغرتها المياه الشقية!!" كذلك الصورة الفرعونية التى رسمها لها عندما ظهرت فى طولها وعرضها والعباءة على كتفيها كأنها كاهنة فى معبد آمون!!" كذلك صورة الفتاة الريفية الجميلة التى كانت تقوم ببعض الأعمال بنعومة بالغة لم تعجب بطبيعة الحال بهانة..كذلك وصفه للجنديين الجديدين المرافقين أو التابعين لمحفوظ بأنهما من "روضة الأمن القومى"، ووصفه أحدهما بـ ""الأخضر" كناية عن طراوته وحداثته وقلة تجربته وتمرسه بالأحداث الجسام والأعمال الشاقة المجهدة!!
                          ومرة أخرى كنا نتمنى على القاص أن يولى لغته فضل عناية وأن يرفع من مستواها وينأى قدر المستطاع عن العامية الهابطة كائنة ما تكون حجته النقدية!!
                          3- "ابن بهانة"

                          هذه هى القصة أو الحلقة الثالثة من ثلاثية "بهانة" التى كتبها القاص المبدع فؤاد قنديل فى مجموعة "عسل الشمس" تحت عنوان "ابن بهانة"، وهى تدور حول "جلال" ابن بهانة، وترصده عند تأهبه للعودة من الجامعة لزيارة أهله فى الريف "كفر سندنهور"؛ و ربما يغلب على ظننا أن هذه الزيارة كانت موقوته مع مناسبة الليلة الموعودة الكبيرة التى اعتاد العمدة إقامتها كل سنة، مما جعلها مناسبة مهمة محسوبة بدقة من قبل عائلة ومنها الابن جلال، كما هى كذلك من قبل أهل الكفر الذين يتوقعون أن يحصلوا فيها على عشاء دسم، وإن لم يفصح جلال عن شئ من ذلك خلال أفكاره وأحلامه التى كانت تعتاده بين حين وآخر فى أثناء الرحلة المجهدة فى القطار، خلافا لبهانة التى كانت تـشكل أمنية ظاهرة محسوبة أعلنتها فى القصة أو الحلقة الأولى على نحو ما مر بنا..ومن هنا كانت زيارته محققة لهدفين كبيرين: زيارة الأهل وطمأنتهم على دراسته وتفوقه وما حصل عليه من مكافأة مجزية، ثم شهود الليلة الكبيرة والـحظوة بوليمة مناسبة، وهى أمنية طفحت على لسان بهانة فى حنايا القصة الأولى حينما قالت: "ياريتك يا ابنى تيجى النهار ده علشان تتقوت بحتة لحم"!! علما بأن جلال نفسه نسى أو تناسى هذا الأمر فى ختام قصته وفى اثناء مسيرة أحداثها، ولم يطفح على سطح ذاكرته عند وصل بيته سوى الخطاب الذى كان يحتفظ به فى جيبه ليطلع عليه أباه وأمه ليفرحا بهذه المكافأة العظيمة العظيمة!! على أية حال فقد رصد القاص صاحبنا جلال/ ابن بهانة منذ أن عزم على هذه الرحلة حريصا على التبكير فى الحضور إلى المحطة قبل الرحلة بوقت كاف ليتسنى له الحصول على مقعد مناسب، وليخلص من الزحام المعتاد فى رحلات الخميس أو نهاية الأسبوع، ذلك الزحام الذى وصفه القاص بأنه "بروفة حقيقية مسرحها القطارات ليوم الحشر"!!، وبالفعل فقد وفر له البكور الحصول على مقعد خال مناسب فى إحدى عربات القطار ليتبوأه فى انتظار قدوم "الجرار"/ رأس القطار الذى يحتوى على المحرك ويقوم بجر صف العربات الطويل..وقد كان صاحبنا محفوظا حيث حصل على هذا المقعد الذى لم يتهيا له منذ عدة أسابيع..ويسرد لنا القاص أطرافا رائعة من مشاهد القطارات فى هذه المناسبات التقليدية المألوفة من الداخل من الخارج ومن فوق سطوح العربات وفى كل مكان منها، حيث غدا كل مكان فى تلك القطارات لهذه الغاية "الركوب" دونما غضاضة أو برم ومضض!! ومضى يرصد ما يدور فى خاطر جلال من أفـكار وذكريات انثالت عليه من كل مكان وفى كل مناسبة..مثل تلك المواقف والمناسبات مدعاة لاستعراض الكثير من تلك الذكريات على اختلافها وتنوعها، ولم يكد ينقذه منها غير التفكير والتساؤل عن بدء الرحلة وانطلاقة القطار ليرحل فى ذكريات أخرى لا يرده منها غير أحداث القطار الناجمة عن ازدحام المسافرين..وهكذا عاش جلال هذه الفترة السابقة لتحرك القطار ولم يرده إلى الواقع غير سؤاله أحد الركاب عن وصول الجرار برغم ما عتاده من علامة ذلك الأمر وهو إضاءة اللمبات المتناثرة فى العربات؛ ثم أخذ الركاب يتوافدون على العربات، وبدأ الجنود يتبوأون أماكنهم المفضلة فوق سطوح العربات وما يمارسون من حركات وأفعال بالغة الخطورة ينخلع لها القلب..ويقف بنا القاص على مونولوج درامى داخلى آخر على عادته حتى غدا من أهم خصائصه الأسلوبية فى حبكة القصص، وفيه يتصور جلال لقاءه بأمه وأبيه وما سيغمرهما من سعادة وغبطة وهما يستقبلان نبأ مكافاته الشهرية المجزية التى حصل عليها من غحدى الجمعيات الخيرية لتفوقه فى دراسته..ثم يكر راجعا إلى عربات القطار التى أخذت تغص بالركاب فضلا عمن بقوا خارجها فى انتظار تحرك القطار هربا وتخلصا من معاناة الزحام المبكر وإرجاء احتماله إلى وقت آخر..حتى إذا أخذ القطار يتحرك تسابق الركاب إلى الصعود إليه وتسلقه والتعلق بكل مكان من عرباته..وفى هذه الآثناء استأذن أحد الجنود من جلال ليصعد إلى رف الحقائب، وسرعان ما احتله وتبوأ فيه مكانا ثمينا ودلى ساقيه فوق رأس جلال حتى كاد حذاؤه الضخم بلامسه مما أثار حنقه وغيظه، وغدا الحذاء مشكلة جلال وحاول جاهدا أن يبعده عن رأسه دون جدوى لعدم وجود سنتيمتر واحد خال فى العربة، واقترح الجندى خلع الحذاء وسرعان ما وافق جلال ظنا منه أن الأزمة ستنفرج قليلا، ولكنها كانت الكارثة التى لم يحسب لها جلال حسابا ولم تخطر فى وهمه حيث انبعثت من جوارب الجندى رائحة كريهة قاتلة لم يطقها وكاد يختنق منها وحاول عبثا التخلص منها حتى أعاد الجندى لبس حذائه فـاختفت الرائحة، وعاد ليعيش مع ذكرياته الحلوة لحظات أخرى قبيل وصول القطار محطة بنها لينتقل منها إلى بيته فى كفر سندنهور..
                          هذا هو الحدث الذى أدار عليه القاص الحلقة الثالثة من ثلاثية بهانة..وواضح أنه حقق تكاملا فنيا رائعا للقصة حيث لم يتوسع فيه ولم ينوعه ويـعدده، بل طوره وصعده بصورة تلقائية مناسبة منذ أن تأهب للرحلة واتخذ مكانه فى العربة فى العربة وانطلاق القطار وصعود الجندى واستقراره فى رف الـحقائب وممارسة الحذاء الضخم وجواربه ذات الرائحة الكريهة البشعة دورهما الاستفزازى لنفسية جلال وتفجير أحاسيه، ليرجع من جديد ليعيش مع أحداث اللقاء المنتظر بوالديه وما يسوده من بشر وحبور..وهكذا حقق القاص لقصته وحدة الحدث بصورة محكمة رائعة برغم ما حرص عليه من استدعاء المونولوج الدرامى الداخلى وما يحمل من انشطار حاد لتلك الوحدة..
                          (يتبع)

                          تعليق

                          • د. حسين علي محمد
                            عضو أساسي
                            • 14-10-2007
                            • 867

                            #14
                            قراءة في قصص فؤاد قنديل القصيرة (4 ـ 4)
                            .............................................
                            وكما أبدع القاص فى رسم أبعاد الحدث وتطويره وتصعيده فقد أبدع فى رسم ملامح الشخصيتين الرئيستين فيها وهما "شخصية جلال وشخصية الحذاء"؛ أما شخصية جلال فقد بدت ملامحها تقليدية لا تميز لها، فهو مجرد راكب، مسافر فى القطار استبد به الشوق لزيارة أهله، وتأهب لهذه الرحلة، حرص على التبكير فى الحضور إلى المحطة ليجد مكانا مناسبا فى قطار الخميس، ومتوقعا ما يمكن ومالا يمكن أن يحدث فى مثل هذه الرحلات المحشرية..وكان من أبرز ملامح شخصية جلال/ البطل ذلك الخوف الذى استبد به وهو يرصد جرى وقفز وسباق الجنود فوق سطوح العربات والقطار ينطلق بأقصى سرعة لما يتوقع فى ذلك من الأخطار المرعبة والقاتلة!! كذلك كـان المونولوج الدرامى الداخلى يشكل ملمحا مهما من ملامح شخصية جلال وما كان يسوده من إحساس بالغ بالسعادة والحبور بلقاء أمه وابيه وإخبارهما بالمكافأة المجزية التى حظى بها من تلك الجمعية الخيرية لتفوقه..
                            ويقف القاص عند ملمح آخر من ملامح شخصية جلال يمثل أبرز مظاهر التطور والانعطاف فى مسيرة الحدث عند صعود الجندى إلى رف الحقائب وإنزال حذائه فوق رأسه ليمثل نقطة أبو بؤرة التحول النفسى فى شخصية جلال عندما غدا الحذاء مشكلته الأساسية حتى خيل إليه أن جميع ركاب القطار قد تسلطت عليه أنظارهم وأنهم منشغلون برصده وتأمله وأنهم يـنتظرون منه تصرفا عمليا يثأر لكرامته التى عبث بها ذلك الحذاء الشرس!! وقد حاول جاهدا أن يتخلص من هذا الحذاء دون جدوى إلى أن عرض عليه الجندى خلعه وأعلن موافقته على هذا الاقتراح ظنا منه أنه يحمل له حلا معقولا، وتبدأ مرحلة أو مشكلة جديدة كانت أشد وطأة عليه من سابقتها بما انفجر عنها من رائحة الجوارب المتعفنة القاتلة!! وحاول جاهدا أن يـحتملها، بل إنه فكر تحت وطأتها فى أن يتخلص من الجندى نفسه بقذفه من النافذة..وظل على هذه الحال حتى أنقذه منها إعادة لبس الجندى للحذاء..
                            وهكذا يضعنا القاص أمام ملمحين بارزين من شخصية جلال: ملمح السعادة والغبطة عبر المونولوج الداخلى، وملمح الألم والوجع النفسى والغيظ الذى أحدثه له الحذاء الذى غدا مشكلته الرئيسة أو الوحيدة فى الكون!!
                            أما شخصية "الحذاء" فقد حظيت بملامح دقيقة رائعة متميزة حرص القاص على رسمها بدقة بالغة، وقد كان من أهم ملامحها "الضخامة الظاهرة"، فالحذاء كبير، له ملامح فظة، بدا كأنه يفغر فاه ويكشر عن انيابه ويهدد بعينيه، حفر فى نعله المتجهم رقم 7، أو 8 أو 77 مكررا عدة مرات..وقد رأينا آنفا كيف أصبح الحذاء مشكلة جلال الرئيسة لما اثار فى نفسه من حنق بالغ وغضب شديد، وكيف كان عاملا فاعلا فى تصعيد الحدث وتـطويره وتفجير الصراع فى نفس جلال وفى القصة، ويظهر ذلك من خلال الإلحاح الحاد الذى نجده فى قول القاص "المشكلة الوحيدة الآن فى العالم كله هى هذا الحذاء الذى يسكن بالضبط فوق رأسه، كيف يبعده عنه..عاد جلال ينظر محتشدا بالسخط فى عيون الجالسين، كانوا يرمقونه والحذاء كانوا لا شك يفكرون فيه والحذاء، كانوا لا شك يتصورونه دائما والحذاء..كان هو فى عيونهم دائما والحذاء..أحس أن الحذاء يهبط تدريجيا ويلمس رأسه، اندلعت فى رأسها لنار، هبط الحذاء..نفذ من جلدة رأسه إلى جمجمته..حفر فيها حفرة تكفيه..واصل هبوطه إلى المخ..ضغط، أظلم الكون ولم يعد يرى شيئا أو يسمع أو يجيب..غاص الحذاء فيما وراء عينيه تحت خديه وبلغ شدقيه وأطل من فمه ثم تابع الطريق إلى رقبته واستقر فى صدره..ضغط على رئتيه وقلبه وكبده..فقع مرارته.."!!
                            كذلك تظهر شخصية الحذاء بالمقارنة مع شخصية الجندى وشكله الذى يبدو متناقضا تماما مع شكل حذائه، حيث بدت ملامحه "منمنمة وطيبة"، كما أن شكله لم يكن كأشكال الجنود الآخرين من ذوى الخبرة بالعراك والسفالة محترفى التبجح والتحدث بالذراع قبل اللسان الوقح" ويختفى الحذاء مـؤقتا لتحل محله الجوارب المتعفنة ذات الرائحة الكريهة القاتلة لتمارس فعلا عدوانيا أشد شراسة من فعل الحذاء الغليظ خلافا لما خطر فى وهمه بادئ الرأى من أنه قد استراح من شر الحذاء الشرس واذاه مما كان ينعكس بعنف وقوة على وجوه الركاب المحيطين به وعيونهم الراصدة لهما معا ليعود من جديد إلى أحلامه بلقاء أمه وأبيه وما سيغمرهما من سعادة وفرحّّ ولم يمض طويل وقت حتى أخذت الرائحة الكريهة تمارس فعلها البشع فى جلال، حيث لم تقف عند النفاذ فى أنفه وإنما تسللت إلى عينيه وإلى شفتيه وإلى معدته حتى شرع جسده كله ينتفض من التقزز والغثيان فاضطر لحبس أنفاسه حـتى أو شك أن يختنق ولم ينقذه منها غير اقتراح الجندى بإعادة لبس الحذاء الذى تاكد لديه أنه أرحم ألف مرة وأهون خطرا من تلك الجوارب العفنة..وهكذا عاد جلال ليتصالح مع الحذاء الممدد فوق رأسه ويبدأ معه مرحلة جديدة من الأحلام العذبة التى كانت تملأ نفسه..
                            ومن خلال شخصية الحذاء المرتبط بالجنود يمكننا أن نلمح خيطا رفيعا مهما يمكن أن يكون مشتركا فى الثلاثية حيث نجد أولا "الحذاء الضخم" يظهر فى جميع حلقاتها، فقد كان فى "أمنيات بهانة" حذاء العسكرى سليم "العاصفة" التى مارست بحق قفة بهانة وما احتوته من حزم البقدونس والجرجير والكرات نفس الدور الذى كان يمارسه حذاء محفوظ زوج بهانة "الكلب الشرس" فى تفريق المتظاهرين والفتك بهم خدمة لأسياده/ النظام الـحاكم فى "عصر بهانة"، كما وجدنان "الحذاء الضخم" الخاص بالجندى يمثل إحدى أبرز شخصيتين فى الحلقة الثالثة "ابن بهانة"، ويمارس بحق جلال ضربا بشعا من ضروب الإيذاء لا يقل عن دور سلفيه الغليظين مع أنه حرمه من وصف مشابه لأوصاف صنويه السابقين مع أنه قد من عين الطينة/ الجلد الذى قدا منه. وربما عوضه أو عوض الجوارب عن ذلك بصورة "الكلاب الألـف الميتة المتجيفة "التى استعار رائحتها القاتلة لجوارب الجندى القابع فى رف الحقائب فوق رأس جلال..ويبدو أن القاص حرص على أن يربط بين شخوص الحذاء فى الثلاثية وبين العسكر كما رأينا..
                            وعلى هذه الشاكلة قدم لنا القاص المبدع الأستاذ فؤاد قنديل شخوص الحلقة الثالثة من ثلاثية "بهانة" بكل أبعادها وملامحها، كما قدم لنا حدثا متميزا حـرص على تطويره وتصعيده ليبلغ الذروة بصورة تلقائية واعية ليؤكد تفوقه وعبقريته فى فن القصة القصيرة والوعى البالغ بتقنياتها وخصائصها الفنية..كذلك ظهر اهتمامه بالحوار شأن الحلقتين الشابقتين والذى جاء أيضا عاميا بحتا التحاما بطبيعة المتحاورين الثقافية واللغوية فيها..وقد قام القاص بسرد الأحداث التى دارت حولها القصة ورصد مسيرتها موفرا لها قدرا كبيرا من التلقائية والبعد عن المصادفة والافتعال، وإن أفراط فى الإلحاح على بعض المظاهر الوصفية فيها على نحو ما نجد فى وصف العلاقة بين جلال والـحذاء، وبينه وبين الرائحة الكريهة المنبعثة من الجوارب المنتنة..ولعل من أبرع مظاهر السرد ما يتعلق برحلة القطار وأصناف المسافرين وطبقاتهم وتصرفاتهم وخاصة سلوكيات المكرورة حيث قدم لنا لوحة رائعة نابضة بالحياة والحيوية مغرقة فى الواقعية دقيقة التفاصيل..
                            أما اللغة والأسلوب اللذين صاغ فيهما قصته هذه فهما اللذان وجدناهما فى القصتين/ الحلقتين السابقتين بكل خصائصهما..على أنه يستوقفنا هـنا مجموعة من الصور الدينية التى استعارها لبعض مظاهر القصة من ذلك تصويره لمسافرين وما يسودهم من ازدحام هائل وما تغص به القطارات من الركاب بسفينة نوح عليه السلام التى تنقذهم من خطر الطوفان والغرق؛ أمـا لحظة انطلاق القطار فهى تعدل فى نظر القاص أو المسافرين الذين طال انتظارهم "ليلة القدر".
                            إضافة إلى نماذج كثيرة من الوصف الرائع والصور الطريفة التى تلقانا فى جوانب القصة فيما يتعلق بالمسافرين فى قطارات الخميس خاصة..كذلك وصف الضوء الذى بدأ ينسرب فى لمبات/ مصابيح العربات "نبتت الضوء الشاحب فى اللمبات القليلة المتناثرة"، ووجد اللمبة التى تقبع فوق رأسه بالكاد ضوءا رماديا مختنفا"، "والعربة كالنفق"، والإضاءة شاحبة والقطار يجرى ويدمدم"، "ورائحة الجوارب الكريهة القاتلة التى اندلعت فى أنفه فجأة لم يتصور إلا أنها رائحة تصدر من جثث ألف كلب ماتت منذ أيام وتعفنت"، ويعقب على هذه الرائحة البشعة بقوله: "كم هى بشعة رائحة اللحم الحى بعد أن تخرج منه الروح وينفجر فيه الموت"، وقوله معقبا على رائحة الجوارب" تلك الجوارب البشعة التى يمكن أن تستخدم كوسيلة من وسائل الحرب الكيماوية" أو وسيلة من وسائل التعذيب، بل إنها يمكن أن يعذب بها المتهم كى يعترف والأسير حتى يكشف كل أسرار شعبه!!
                            وعلى هذه الشاكلة طوفنا فى ثلاثية "بهانة" للقاص المبدع فؤاد قنديل، والتى لم تكن غير حلقات مترابطة يسودها قدر كبير من الاشتراك وإن حرص على تنويع الأحداث فيها إلى حد ما وفق ما يتطلبه فن القصة القصيرة، على أن القاص لو أراد أن يتابع هذه الحلقات فى محاولة لكتابة رواية عن بهانة لتجلى التلاحم بينها بصورة عميقة خصوصا فيما يتصل بالحلقة الثانية "عصر بهانة" ذات الحدثين المنفصلين التابعين لكل من "بهانة" و "محفوظ" على نحو ما رأينا..
                            ***
                            [فصل من كتاب "دراسات في فن القص"، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية 2000م].

                            تعليق

                            يعمل...
                            X