الدكتور أحمد زلط

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    عضو أساسي
    • 14-10-2007
    • 867

    الدكتور أحمد زلط

    الدكتور أحمد زلط

    أ.د. أحمد زلط
    --------

    *أحمد علي عطية زلط.
    *من مواليد: شنبارة الميمونة ـ شرقية 1952م.
    *أحد مؤسسي سلسلة "أصوات مُعاصرة" ومجلة "القاقلة الجديدة" المحتجبة.
    *ماجستير (1985م) من كلية الآداب ـ جامعة الزقازيق.
    *دكتوراه (1990م) في الأدب الحديث ـ من كلية الآداب (بنها) ـ جامعة الزقازيق.
    *أستاذ بقسم اللغة العربية ـ كلية الآداب ـ الإسماعيلية ـ جامعة قناة السويس.
    *وكيل كلية الآداب ـ الإسماعيلية ـ جامعة قناة السويس.
    (أ) كتب في الأدب العربي ونقده:
    1-الدكتور هيكل بين الحضارتين الإسلامية والعربية، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1986م، ط2-دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.
    2-قراءة في الأدب الحديث، ط1، دار الشرق، 1986م، ط2-دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.
    3-في جماليات النص، ط1، الشركة العربي للنشر والتوزيع، القاهرة 1996م. ط2-الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 1997م.
    4-دراسـات نقدية في الأدب المعاصر، ط1، دار المعارف، القاهرة 1993م، ط2-دار الوفـاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.
    5-مدخل إلى علوم المسرح، ط1-دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.
    6-تراجم مصرية وعربية، ط1-دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.
    7-نظرات نقدية في ثلاث مسرحيات شعرية لحسين علي محمد، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 2001م.
    (ب) كتب في الأدب العربي
    (فرع أدب الطفل ونقده):
    8-ديوان السنهوتي للأطفال، ط1، الفارس العربي، الزقازيق 1992م.
    9-رواد أدب الطفل العربي، ط1، دار الأرقم، الزقازيق 1993م.
    10-أدب الأطفال بين أحمد شوقي وعثمان جلال، ط1، دار الجامعات المصرية، القاهرة 1994م.
    11-أدب الطفولة بين كامل كيلاني ومحمد الهراوي، ط1، دار المعارف، القاهرة 1994م.
    12-أدب الطفوله .. أصوله ومفاهيمه، (الطبعات 1-5) الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 1997م.
    13-أدب الطفل العربي: دراسة في التأصيل والتحليل، ط1-هبة النيل، القاهرة 1998م. ط2-هبة النيل، القاهرة 1998م. ط3-دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.
    14-الطفل مبدعاً، ط1-دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.
    15-الخطاب الأدبي والطفولة، ط1، الهيئة العامة لقصور الثقافة، وزارة الثقافة، القاهرة 1997م.
    (ج) كتب في ثقافة الطفل وبحوثه:
    16-الطفولة والأمية، سلسلة «اقرأ»، ط1، دار المعارف، القاهرة 1995م.
    17-أدب الطفل وثقافته وبحوثه في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، (بالاشتراك مع د. محمد بن عبد الرحمن الربيع) نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض 1998م.
    18-مدخل إلى أدب الطفولة (أسسه، أهدافه، وسائطه)، ط1، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1421هـ-2001م.
    (د) كتب في الأدب المقارن:
    19-من روائع القصص الخيالي الشرقي، ط1-دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية 1999م.

    (هـ) كتب في المعاجم:
    20-معجم مصطلحات الطفولة، ط1، القاهرة ـ الرياض (بالاشتراك) 2001م.
    (و) كتب في الأدب القصصي (قصص قصيرة):
    21-وجوه وأحلام، ط1-سلسلة «أصوات معاصرة»، الزقازيق 1982م، ط2-الفارس العربي، الزقازيق 1988م.
    22-المستحيل، ط1، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 1997م.
    23-عفاريت سراي الباشا، ط1، هبـة النيل، القاهرة 1999م.
    24-أصابع متوحشة، ط1، هبة النيل، القاهرة 2001م.
    25-شهد وأخواتها، ط1، هبة النيل، القاهرة 2007م.

    (و) كتب تحت الطبع:
    26-حسين علي محمد شاعراً.
    27-محمد جبريل وعالمه القصصي.
    28-أروع أشعار المواطنة والمُقاومة.
    29-القصيدة السياسية العربية
  • د. حسين علي محمد
    عضو أساسي
    • 14-10-2007
    • 867

    #2
    ثلاثة نماذج للإنسان المأزوم
    في مجموعة «وجوه وأحلام» لأحمد زلط

    بقلم: أ. د. حسين علي محمد
    ............................

    القسم الأول
    ..........
    (1)
    أحمد زلط في مجموعته الأولى «وجوه وأحلام»(1) ـ كاتب أخلاقي، وهو في ذلك يتوافق مع طبعه الشخصي، وميوله الخلقية، ومكوّناته الفكرية التي درسَت جيل الرواد، وتعاملت مع فكرهم وأدبهم.
    ولقد كان جيل الروّاد يعي هذا الدور جيداً وهو يتعامل مع الفنون الأدبية الوافدة. فالكاتب الرائد محمد عثمان جلال حينما أراد أن يترجم روائع مسرحيات الغرب، قال في مقدمة ترجمته: «ليكن في علم العامة، وليخلد في أذهان تلك الأمة، أن التياترات موضوعة للتعليم والتأديب، والتربية والتهذيب، وأن … ذلك لما فيها من تعليم للصبيان، وتدريب للشبان، وأنها تورث الجرأة عند المكالمة، وتُلهم الحجة لدى المخاصمة»(2).
    وقد مضى الجيل التالي ومن أعلامه: أحمد شوقي، والمنفلوطي(3) في نظرتهم للأدب على هذا المنوال، فجدلوا من الأدب والأخلاق فرائد في الأدب العربي. وعلى نفس المنوال كانت إبداعات وكتابات كثيرة لأحمد حسن الزيات، ومصطفى صادق الرافعي، ومحمد حسين هيكل، ومحمود تيمور .. وغيرهم.
    ويقف أحمد زلط هذا الموقف الأخلاقي في قصصه؛ فنراه في قصصه ينتصر للفضيلة، حتى وبطله مأزوم، وربما لو تخفف البطل قليلاً من التزامه الخلقي لحُلت بعض مشاكله، ولكن دون ذلك «خرط القتاد» كما يقول أسلافنا.
    فصابر أفندي في قصة «آمال من هناك» مأزوم، وسر أزمته أن ابنته «أمل» مخطوبة من ست سنوات للنقيب «ثروت الكفراوي» الذي لا يقدر أن يجهزها إلا بمعاونة أبيها، لكن أباها غير قادر على المساعدة، رغم أنه لو تنازل قليلاً لاستطاع أن يُساعد ابنته، فهو من العاملين في هيئة الإسكان.
    ويكون الذروة حوار الخطيب مع خطيبته:
    ـ سنين انتظار الشقة طالت .. طالت قوي.
    ـ الصبر طيب يا ثروت.
    ـ لا طيب ولا خبيث .. حبالكم طويلة .. طويلة.
    ـ الأمل .. الأمل.
    ـ أحب أعرفك أن مثالية أبيك طريقها مسدود مع المقاولين(4).
    ولكن إيمان أمل الذي رضعته من صلابة أبيها لم تهتز لحظة، حتى حينما تصلها ورقة الطلاق «وقفت بين تلاميذها في فناء المدرسة التي تعمل بها، أميرة تنتصر على ظروف طلاقها .. »(5).
    وكان من الممكن أن تنتهي القصة عند هذه النهاية الرائعة، ولكن الاتجاه الأخلاقي عند أحمد زلط، يأبى إلا أن ينتصر للفضيلة، وأن يأخذ الجاني جزاءه.
    فقد جاءتها دعوة من أختها «دعاء» للعمل في مدرسة العريش النموذجية، وبينما هي متجهة مع والدها للعريش «جذبت من أحد الركاب في غير وعي جريدة «الأخبار»، حيث تصدر صفحة الحوادث المصورة تعليق مثير يقول: «أصدرت المحكمة العسكرية العليا حكماً بالسجن المؤبد على النقيب ثروت الكفراوي ومساعديه بتهمة التلاعب في مواد البناء الخاص بإحدى الوحدات العسكرية» شهقت أمل شهقة طويلة مفعمة باللوعة والسكينة، بينما راح بصرها يقرأ في صفحة السماء خاتمة المشهد المهيب»(6).
    و«صابر أفندي» هنا نموذج للإنسان المأزوم، وأزمته متمثلة في محاصرة الخارج / للداخل. الخارج هنا ثروت الكفراوي، والداخل / ابنته أمل، لكن الإيمان ينتصر في النهاية، والبطل يحس باستقراره حتى لو وقف الخارج كله ضده.
    *النموذج الثاني للإنسان المأزوم من الداخل يتمثّل في «نجوان» التي يصفها الراوي المحب «أشرف» بقوله: «تذكرت يومئذ عينيها الضاحكتين، فرط نشوة الفرحة، بدت كملاك(7) يُعطِّر الوجود بشذاه .. العود قد استقام واستبانت أناقته، يبرز مفاتنها خصر طري يعلوه صدر ناهد ثائر. أما شعرها فقد تهدّل على كتفيها في سواد لامع، مع براءة رسمت بسمة صافية وديعة، فازدانت هذه الخميلة … إلخ»(8).
    ما مأساتها؟ .. أمها لعوب، فاتنة غاوية، في الرابعة والأربعين، اسمها «هانم الشهواني» (لاحظ دلالة الاسم واللقب: هانم: محاولتها التجمل والتشبه بالهوانم، والشهواني: الواقع الذي تمثله هذه الأنثى الجامحة المنفلتة).
    يقول عنها صاحب الراوي:
    « ـ أم أربعة وأربعين .. جارتك يا سيدي. تطلبني لألعب معها الورق .. ولد وبنت»(9).
    هنا الحصار من الداخل / في مواجهة الداخل:
    تُزوِّجُها أمها من عشيقها «مرعي الدنف». ولكن العشيق الذي كان سادراً في غوايته مع الأم لا يُبالي بإعراض زوجته عنه.
    وتذهب للمستشفى فيظن الراوي أنها ذاهبة لتلد، ولكن «سنة كاملة أو يزيد مضت على زواجها، ومازالت نجوان بكراً.
    قطع جدار الصمت كبير الأطباء الذي خرج لتوه من غرفة العمليات ليُعلن الكارثة:
    ـ البقية في حياتكم، بنتكم ماتت. الورم الخبيث سمم دماءها. كان أكبر من جسمها النحيل»(10).
    حينما يكون الصراع من الداخل في مواجهة الداخل، فإن الموت يكون هو الحل، والورم الخبيث هنا ليس إلا تعبيراً عن سوء العلاقة بين الأم والابنة، حيثُ يُفضي بالأخيرة إلى الهلاك.
    والإنسان المأزوم في هذا الإطار ينتهي موتاً، ولا يكون قادر على المقاومة، ربما لأنه جزء من هذه الظروف التي يُريد مقاومتها، فيكون الموت هنا نهاية مبررة، وربما يكون عند المؤلف انتصاراً، لأن إنسانه استطاع أن يُحقق التوازن الداخلي ـ المفقود في الواقع ـ في هذه الحياة، بموته.
    *النموذج الثالث لإنسان أحمد زلط المأزوم، هو ذلك الإنسان الذي يُطارده قدره، ونلمح ذلك في «بلية» بطل قصة «انكسار القاعدة» ـ وأحسب أن هذه القصة من أروع ما كتبه أحمد زلط ـ مع قصة أخرى لم تُنشر بعد، ولم تضمها هذه المجموعة بعنوان «المستحيل».
    البطل هنا: قصير ودميم، يحاصره القصر وتُطارده الدمامة وهما قدره، فهل يستطيع أن يفر من قدره؟
    أطلقت عليه الحارة لقب «بلية».
    في عمله ـ كاتباً للجلسات في محكمة بالزقازيق ـ يتعرف على «ليلى فؤاد»، ويصف الكاتب العلاقة بينهما في جمل سريعة موحية:
    «مست «ليلى فؤاد» من بين الشاكيات شغاف قلبه، لم ير في حارة الصيادين مثلها دلاً وأبهة وبهاء. طار عقله، بهرته أناقة آسرة، وجمال قتّال. قتله أكثر هدوؤها في طلب إجراءات طلاقها من زوجها المغترب في دول الدولار.
    لقد عرف صاحبنا «بلية» أن الزوج الثري كان قد وفد إلى المدينة في عطلة الصيف، وغرّر بها، وتركها لوحيدها الصغير، ثم راحت تنتظره، وهو يخدعها بالرسائل غير المنتظمة، ودون عنوان … تكررت صوب صاحبنا غمزات ليلى فؤاد، عيون عطشى وجريئة في آن واحد .. لم يدر سرها بعد .. حسناً .. اختصر بريق عينيها المسافة بين مرّات ترددها إلى المحكمة، وبين محكمة الأحوال الشخصية .. المزيد من الظلمة والعزلة، فمضى يقتل ساعات نهار يومه بين أكوام الورق الصفراء»(11).
    وتدعوه «ليلى فؤاد» لحضور حفل عيد ميلاد ابنها، ويبتسم «بلية» ـ هذا المطارد بقصره ودمامته ـ هاهي الدنيا تبتسم له بعد طول نَكَد، وهاهو قد رُقِّي منذ عدة أيام، وهاهي «ليلى فؤاد» تدعوه لحضور حفل عيد ميلاد في قصرها الكبير الغارق في الخمر والعطر والدخان.
    ويذهب إلى الحفل فتقابله «ليلى فؤاد» مقابلة يحسن أن نترك القاص يرويها لنا:
    «الكأس على حافة البار، واستدارت في رشاقة تتلوّى في خطوات لعوب، واتجهت نحوه وأمسكت بذراعه:
    ـ تفضل .. أهلاً بالباشكاتب. قلت لي اسمك؟
    لم يدر .. انحنى قليلاً والتقط الصندوق، وانسحب خارجاً تتبعه بفستان عاري الصدر .. وربتت على كتفه في إشفاق، وقالت:
    ـ تبقى خدمتني قبل ما تسخن الحفلة .. ابني يشم معاك هوا في الجنينة.
    ـ حفلة .. وهوا؟
    ذابت أفكاره، وانعقد لسانه، وراح لتوه يداعب الطفل البريء خارج الحلبة، وخيوط المشهد تروح وتغدو، وشريط من طموحات مدمرة بعيدة عميقة تجثم فوق صدره كوخز الشوك. وبقية من نجوى تأسره، فيتنفس الصعداء، والصمت المطلق يحتويه.
    ـ ولا يهمك، سأكون معها بطلاً لليلة عيد الميلاد .. سيخرجون بعد قليل، وأولد من جديد»(12).
    ولكن الحفل ينتهي، ويخرج المدعوون، ويراها تصعد السلم شبه مخمورة إلى الطابق العلوي مع شخص آخر لتمضي بقية الليل، وينظر إليها «بلية» وهو يفكر في «هيئة الرجل الذي صعد معها إلى أعلى، هناك .. قامته المديدة، وصدره الواسع، وصوته الواثق. كلها أشياء تنقصه»(13).
    ويعود محبطاً، وكأنما طفل حارة «الصيادين» القديم هو الذي يعود، والحارة في شرف استقباله بنداءٍ باقٍ:
    ـ روح يا بلية .. تعال يا بلية(14).
    إن أزمة الإنسان في «انكسار القاعدة» هي أزمة قدرية، لا يملك «بلية» منها فكاكاً، فهو قصير قبيح، وسوف يقابله القصر والدمامة والقبح في كل مكان.
    وعليه أن ينطوي، وألا يعمل على تغيير عالمه، لأنه لا يُفلح في تغيير عالم متآمر، وقدر قاهر.
    (يتبع)
    .........
    الهوامش:
    (1) الطبعة الأولى صدرت في سلسلة «أصوات معاصرة» 1983م، والطبعة الثانية صدرت عن مؤسسة العصر الحديث، الزقازيق 1991م، ونحن سنحيل إلى الطبعة الثانية.
    (2) محمد عثمان جلال: المسرح العربي، اختيار وتقديم: د. محمد يوسف نجم، دار الثقافة، بيروت 1964م، ص3.
    (3) انظر في معالجة هذه الفكرة «عدنان مردم بك شاعراً مسرحيا»، رسالة ماجستير مخطوطة للباحث، كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة 1985م، ص ص426 ـ 428.
    (4) أحمد زلط: وجوه وأحلام، ص27.
    (5) السابق، ص27.
    (6) السابق، ص31.
    (7) الصواب: مَلَك.
    (8) السابق، ص38.
    (9) السابق، ص40.
    (10) السابق، ص44.
    (11) السابق، ص12.
    (12) السابق، ص16.
    (13) السابق، ص17.
    (14) السابق، ص17.

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      عضو أساسي
      • 14-10-2007
      • 867

      #3
      القسم الثاني
      ..........
      (2)
      لا يتوقف بطل أحمد زلط ـ المأزوم غالباً ـ أمام أزمته، بل يُحاول أن يتعمّقها، يعرف ملابساتها، وكيف وقعت، وهل يتجاوزها، أم تكون نهايته منها؟
      ولعل قصته «الرجل والشمس» توضح ذلك؛ فالبطل ـ عبد الله كأنه رمز للإنسان المأزوم عند أحمد زلط الذي هو محور قصصه جميعاً. هذا البطل محام يسكن في قرية مجاورة للزقازيق، ويعي مقولة قديمة لجده «اضبط ساعتك يا عبد الله، لا بل اضبط مواقفك على حقيقتين: نظام السكة الحديد، ونظام المحكمة»(1).
      إنه إنسان جاد، يريد أن يصل في موعده، ويدرس قضيته جيداً ليترافع وينتصر للمظلوم، ويصل المحامي إلى المحكمة ..
      «أشعل سيجارته بين أصابعه، وبدّل نظارته غير مرة وهو يتفحّص أوراق القضية. احتشد جمع غفير في أروقة(2) الجلسة .. الانتظار يطول .. وفجأة أعلنت سكرتارية هيئة المحكمة تأجيل النظر في قضايا اليوم لتعذر وصول الهيئة الاستشارية، صدم الجميع، غمغم عبد الله:
      ـ أيصل أتوبيس قريتي المتهالك في موعده ويتعثّر قطار القضاء؟
      سقطت أبعاد مقولتك يا جدي .. يرحمك الله»(3).
      ويدور حوار طويل داخل نفس البطل بينه وبين خلية من خلايا مخه، يصفها بأنها الخلية الأم، يستغرق أكثر من صفحتين، لنجد في نهايته نصيحة الخلية الأم «أبوح لك يا صاحبي بآخر طوق نجاة: كن كالنحل في مملكته الجادة، وإلا فالسقوط ينتظرك على الحلقة»(4).
      إن هذا البطل الإيجابي يتجاوز المثبطات والمعوقات التي تملأ طريقه، وكأن شعاره «انفراج حالنا اليوم مقرون بأن نسعى ونؤمن، يومئذ نجتاز المسافة بين إسار الدوائر إلى آفاق الضياء»(5).
      (3)
      في هذه المجموعة ـ كما يرى الدكتور صابر عبد الدايم ـ بحق ـ يستفيد أحمد زلط من خصائص «الأسلوبية الحديثة الممتزجة بالواقعية، وتتمثَّل في التركيب والتركيز والتكثيف والتجزيء، والجمل القصيرة المتوازنة ذات الإيقاعات الداخلية المتعلقة بنسيج العمل الفني ـ الأداء الشاعري ـ الحوار المعبر برغم ندرته ـ .. الأسلوب السينمائي»(6).
      لكن هذه المجموعة تُثير ـ فنيا ـ عدداً من الملاحظات:
      1-أن فن القصة القصيرة عموماً يميل إلى التركيز والتكثيف، ومن ثم فإن التكرار الأسلوبي ـ غير المبرر ـ يجب بتره، بلا رحمة.
      ومن أمثلة ذلك قوله في قصة «الرجل والشمس»:
      «ـ آه .. لكم تحملين إلينا أيتها الشمس ملايين المعاني المليئة .. المليئة بالدفء .. المليئة بالوضوح و…»(7).
      وكان من الممكن التوقف بالجملة عند كلمة «المعاني»، فتصير: «آه .. لكم تحملين لنا أيتها الشمس الملايين من المعاني»، فهو هنا حزين، ويتعجب لأن البشر يتغزلون في القمر، ولا يتغزلون في الشمس، أو على حد قوله بعد ذلك: «إنه غزل بلا زحام لا يُشاركني فيه أحد»(8).
      وإذا أراد الإبقاء على عجز الجملة، فكان من الأجمل أن تكون هكذا: «المليئة بالدفء والوضوح». فماذا أفاد تكرار «المليئة مرتين، وماذا أفادت «الواو» وبعدها «النقط»؟ هل يفيد التوكيد والكثرة؟ .. لقد فهمنا هذا .. فما الداعي لكثرة الكلمات؟
      وعدم التركيز هذا يتضح في أكثر من صفحة ونصف في مقدمة قصة «عفواً حواء آثمة» وفي قصة «وداع في موسم الحصاد».
      2-استرفاد أحمد زلط للتراث ملمح من ملامح هذه المجموعة، وهو يستخدمه لإثراء تجربته، وإعطائها آفاقاً أكثر رحابة، مثلما استخدم نصوص «كتاب الموتى» و«الفلاح الفصيح» في قصته «وداع في موسم الحصاد» ليُعطي التراثُ آفاقاً متجددة لمصرع «نجوان الغزاوي»، وأنه منذ القديم تتصارع الفضيلة والرذيلة، ومن هنا فإن هذه المقاطع:
      «احذر. إن الأبدية تقترب».
      «في مكان الصدق هذا، لم آت ذنباً، ولم أعرف أية خطيئة، أو أي شيء خبيث».
      «لم أغتصب لبناً أو خبزاً من فم طفل، ولم أرتكب الزنا قط»(9).
      هذه النصوص التراثية تُمارس دورها في بنية جديدة، هي نص قصصي معاصر، وتكون قادرة على الإيحاء، بالتناص المثري للتجربة، المعمق لها.
      لكن هذا «التناص» يكون أحياناً مُعيقاً للتجربة مُفسداً لها، إذا لم يكن الكاتب واعياً لمفردات نصه، ومثال ذلك استدعاء نص الهوية لصابر عبد الدايم:
      اسمي: صابرْ
      عمري: سنواتُ الصّبّارِ جهلتُ بدايتَها
      أوْ حتّى كيفَ تُسافِرْ
      بلدي: مصْرُ ـ القريةُ ـ والموّالُ السّاخرْ
      والمهنةُ: شاعرْ
      وهواياتي فكُّ الأحجبةِ وهدْمُ الأسْوارْ
      والبحْثُ عن الخِصْبِ المُتواري خلفَ الأمطارْ
      والتّنقيبُ بصحراءِ النفسِ عن الآبارْ
      وقراءةُ ما خلْفَ الأعْيُنِ من ْ أسْرارْ(10)
      فالبطل اسمه «صابر أفندي» وهو رجل شريف يرفض السرقة، ويرفض أن يتنازل عن بعض مبادئه، حتى تطلق ابنته من أجل ذلك، فكيف يُمكن أن «يقتبس» ـ كما يقول القاص ـ نصا لشاعر آخر دون أن يسميه .. فيكون سرقة؟
      بمعنى آخر: كيف يسرق «صابر أفندي» ـ البطل الشريف في النص ـ قصيدة صابر عبد الدايم «الهوية»؟ وهو ـ أي البطل ـ في النص يرفض السرقة، ويقدمه القاص لنا مثلاً للطهر والفضيلة.
      وهناك خطأ فني وقع فيه القاص أنه كتب الشعر السابق كتابة نثرية في سطور متتالية دون المحافظة على جماليات كتابة السطر الشعري التفعيلي، مما يجعل القارئ العادي يقرأه وكأنه يقرأ النثر. ومعروف أن «معرفة السياق وإدراكه عملية ضرورية لتذوق النص وتفسيره، وهذه هي معرفة «الجنس الأدبي» للنص. وكل عمل أدبي تختلف قيمته بناء على جنسه .. حتى الجملة اللغوية تختلف قيمتها بين نص وآخر حسب جنس النص …»(11).
      وهكذا فنص «الهوية» لصابر عبد الدايم، يتحول إلى نثر داخل نص قصصي، ويفقد بذلك القدرة على الإيحاء والتأثير والنفاذ.
      3-تكثر أحداث القصة أحياناً، وتطول تداعياتها حتى يمكن أن تُشبه رواية، وليس قصة قصيرة، ومن حسن الحظ أننا لا نجد ذلك إلا في قصتي «آمال من هناك»(12) و«وداع في موسم الحصاد»(13)؛ ففي القصة الأولى أحداث وأماكن متعددة، وفي القصة الثانية أحداث تستغرق أكثر من عام.
      ولعل الذي أوقع القاص في هذا ميله إلى الاهتمام بالحدث في القصة، أو لعل رغبة تستحوذ عليه أن تتحول قصصه في المستقبل إلى أفلام ومسلسلات، فسيجد كتاب السيناريو والحوار مادة ثرية تُعطيهم إمكان تحويلها إلى أفلام ذات أحداث ثرية وعريضة.
      4-أفسد تذوقنا بهذه النصوص الجميلة كثرة الأخطاء التي لا تكاد تفلت منها صفحة واحدة من المجموعة، وهي آفة انتشرت بكثرة في النتاجات المطبوعة في دور النشر الرسمية، فكيف تسللت إلى دور النشر الخاصة.
      ***
      أحمد زلط قصاص واع، يجرب بتأن.
      قرأ وأفاد من إنجازات القصة الحديثة والمعاصرة.
      أفاد من إنجازات محمود تيمور ومحمد عبد الحليم عبد الله ومحمود البدوي، فأخذ منهم طلاوة الأسلوب وثراء الحدث.
      وأفاد من إنجازات نجيب محفوظ في رصد العلاقة بين البطل وبيئته من جهة، والقاص وبيئته من جهة أخرى.
      فأبطال أحمد زلط من «الصيادين» (أحد الأحياء الشعبية بمدينة الزقازيق)، أو من القرية (أكاد أقول من القرية التي أنجبت أحمد زلط، وهي قرية «شنبارة الميمونة»: هذه القرية التي ولد فيها الكاتب، ويعشق اسمها فيضعه دائماً مع اسمه في مقدمة مؤلفاته).
      وإذا كانت المجموعة الأولى لأحمد زلط بهذا الثراء .. وتُثير هذا القدر من المتعة والفكر والملاحظات، فالمستقبل له مشرق، والأمل فيه ـ قاصاً ـ كبير بإذن الله.
      (انتهت الدراسة)
      .............
      هوامش القسم الثاني:
      (1) السابق، ص115.
      (2) في النص «أوراق»، ولعل الصحيح ما أثبتُّه.
      (3) السابق، ص115 ، 116.
      (4) السابق، ص119
      (5) السابق، ص120.
      (6) تُنظر مقالة د. صابر عبد الدايم عن مجموعة «وجوه وأحلام»، وقد نشرت في جريدة «الندوة»، العدد (8739)، وفي كتابه «التجربة الإبداعية في ضوء النقد الحديث»، مكتبة الخانجي، القاهرة 1990م، ص227.
      (7) أحمد زلط: وجوه وأحلام، ص113.
      (8) السابق، ص47،48.
      (9) هذه النصوص وغيرها في السابق، ص33 ، 34.
      (10) د. صابر عبد الدايم: المسافر في سنبلات الزمن، مطبعة الأمانة، القاهرة 1982م، ص4.
      (11) د. عبد الله الغذامي: الخطيئة والتكفير: من البنيوية إلى التشريحية، ط1، النادي الأدبي الثقافي، جدة 1985م، ص11.
      (12) السابق، ص ص19-21.
      (13) السابق، ص ص33-44.
      .................................................. .
      *من كتاب "جماليات القصة القصيرة"، د. حسين علي محمد، ط1، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 1996م، ص ص33 ـ 44.

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        عضو أساسي
        • 14-10-2007
        • 867

        #4
        قراءة في مجموعة «أصابع متوحشة» للدكتور أحمد زلط

        بقلم: أ.د. حسين علي محمد
        ..................................

        هذه هي المجموعة الرابعة للقاص الدكتور أحمد زلط، وقد صدرت عن دار هبة النيل للنشر والتوزيع بالقاهرة (2001م)، وتضم أربع عشرة قصة قصيرة كتبها جميعاً خلال العام الدراسي 2000/2001م، وهو عام دراسي خصب للدكتور أحمد زلط، أتمَّ فيه معجمه للطفولة، وكتب مسوّدة كتاب عن «نظرية الأدب»، وأنجز كتاباً آخر في المطبعة الآن.
        وكان الدكتور أحمد زلط قد أصدر ثلاث مجموعات قصصية قبل هذه المجموعة، هي: وجوه وأحلام (1982م)، والمستحيل (1997م)، وعفاريت سراي الباشا (2000م).
        ومن الواضح أن لغة السرد عند الدكتور أحمد زلط قد تطورت في مجموعته هذه ـ عن مجموعاته السابقة ـ فقد كانت لغته السابقة سردية بسيطة مُباشرة، ولكنه في هذه المجموعة أقرب إلى الشعرية المكثفة، يرتقي بها حيناً، ويتوارى خلف سطور الحوار التي تبدو أقرب إلى الحوار المعتاد مرة أخرى.
        ومن الملاحظ على هذه المجموعة أنها تلجأ في تشكيلها الفني إلى استخدام عدد من الأدوات أهمها المفارقة، ونلمح هذه المُفارقة في قصص المجموعة جميعاً. ففي القصة الأولى «مائدة لكائنات البر» نرى مائدتين كبيرتين؛ الأولى أقامها صاحب شركة توظيف أموال، و«المناسبة توقيع عقد بيع مشروع ثروة حجرية خاسرة إلى شركة توظيف أموال كبرى»، والمائدة الثانية «لنائب برلماني وسعته قلوب أكبر المدن اتساعاً ومساحةً» ( ).
        ويتسع السرد لرصد المُفارقة بين المائدتين، مائدة المظاهر الكاذبة التي قصدها البشر والكلاب «من أين جاءت جموع الكلاب؟ ما سر احتشادها مع جمهور الحفل؟» إن السارد يسأل صديقه فيرد عليه «بسخرية تغلفها بسمة تعلو لحيته البيضاء: جاءوا مثلما جئنا، أخبرني المشرف على موائد الحفل أن وفود الكلاب بدأت في الوصول من ليلة الأمس، كانت طلائعها الأولى حولنا مع ظهور روائح الذبح والطهو وإعداد الموائد»( )، وإذا كانت هذه هي كما يصفها القاص «مأدبة القرن» ( )، لما أنفق فيها فإن «المأدبة الحقيقية» ( )، والتي نرى فيها الكرم الحقيقي ـ لا المظهرية الكاذبة ـ «مشاعر حب تملأ وجوه المدعوين، والفرحة الحقيقية مرتسمة على الأوجه والشفاه».
        ويلخص السارد المفارقة بين الحفلين في فقرته الختامية: «خرجت عن صمتي ولساني يلهج: مرحى لأهل البر، وويل للناهبين، وويل للمتطفلين، وآه يا كائنات البر».
        الخاتمة ضرورية لتأكيد المقولة التي تطرحها القصة، والعنوان «مائدة لكلاب البر» سيُشير من بعيد لرواية حيدر حيدر «مائدة لأعشاب البحر» التي أثارت ضجة في مصر في مطلع عام 2000م، قبل كتابة القصة بعدة أشهر، والقاص حر في اختيار عنواناته، لكني أرى هنا أن القاص أراد أن يعمل مُفارقة مع عنوان حيدر حيدر. فإذا كانت رواية حيدر تُسف في تعاملها مع اللغة، وتستخدم الألفاظ التي تعف الأقلام عن كتابتها، فهنا قصة تكتب لغة موحية راقية، وإذا كان حيدر حيدر ينعى على الثوار القدماء ابتعادهم عن ثوريتهم، فهاهنا السارد يُمارس ثوريته من غير أن يقول خطبة عصماء، ولكن من خلال مشهد مؤثر لمائدة، يستدعي مائدة أخرى. والقصة عند أحمد زلط ترصد مشاهد الكرم المُفرط الذي يُساق ـ في اللوحة الأولى ـ لغير وجه الله، وإنما يُساق في إطار «البيزنس» والدعاية!
        وفي قصة «شهيق وزفير» نرى المُفارقة التصويرية بين صورة المصعد الذي نتمثّله في أذهاننا، وهذا المصعد الذي يُصوره في جمالية شفيفة: «ضج منه كل زبائنه ... سئم دورات الصعود والهبوط المتكررة طوال الوقت، بات يئن في غدوه ورواحه من السلوكيات والأحمال، بل من اللعب والعبث، من فتح وإغلاق بلا رحمة! أُصيب كالبشر»( ).
        إنه يجعلنا نرثي لهذا المصعد الذي صوره لنا بصورة المريض «هو كهل متهالك ... له صوت أشبه بدوّامة ماء عاتية تشفط غريقاً، أو أنات ساقية لا تعرف للصيانة سبيلاً»( ) .
        وتبلغ المُفارقة مداها حينما يضرب له المصعد موعداً، ويحدثه بقضيته، ويكون وفيا، فيهبط به أمام مسكنه.
        *وفي قصة « ولد .. بنت .. بنت .. ولد» يرُينا مُفارقة بين الولادة الماضي التي عرفناها مع «الداية» أو «الطبيب» في سهولة ويُسر، والولادة الآن في المُستشفيات الخاصة التي تقترب من الفنادق ذات النجوم الخمسة!
        فبينما تجلس زوجة السارد في المستشفى / الفندق تنتظر الولادة بعد خمسين ساعة، يتذكّر «أم إبراهيم البدري التي ولدت وهي تعمل وسط الماء والطين وشتلات حقل الأرز بكل حيوية .. لن يغيب مشهد الولادة عن الخيال .. سقوط الوليد في قلب الماء والطين .. والتقاط أمه القوية له والحنو عليه، تابعتها إلى رأس الحقل، حيث استقرت تُرضعه تحت شجرة التوت»( ).
        ويتذكّر امرأة أخرى هي ابنة درويش أبو سويلم «التي كانت تضرب بالفأس مربعات ومستطيلات أرضكم عقب كل حصاد، وحين باغتها المخاض استمرت يومها صابرة تستأصل بقايا محصول سابق، وتمهد بفأسها التربة لمحصول جديد، وحين سقط وليدها على مشهد من الجميع وتصايحوا في نداء رائع ابتسم، وابتسمتْ معه»( ). بينما زوجة السارد ـ بعد فترة الانتظار ـ رُزقت مولوداً، لكنه وُلِد مبتسراً، فنقل إلى الحاضنة الاصطناعية»( ).
        وتتضح أطراف المُفارقة في نهاية القصة حينما يموت المولود، وكأن السارد يريد أن يقول: إن أمهات الجيل الماضي كن يلدن الحياة وهن يصنعنها ويُشاركن فيها، بينما نساء الجيل الحالي المترفات لا يلدن إلا الخواء. وهي نظرة متشائمة، وليست حقيقية على إطلاقها.
        لكن من قال إن الفن يعنى بحقائق الحياة؟ إنه تصوير من إحدى الزوايا، وقد تكون الزاوية ضيقة، ويجتهد المبدع في تصويرها، كأنها حقيقة.
        *وفي قصة «قمر الزمان يتماوت» يُقدم مُفارقة كبرى طرفها الأول مُضمر، وهو ما نعرفه عن الأستاذ الجامعي، الذي يكون قدوةً وكريماً على نفسه، وطرفها الثاني «قمر الزمان المحاقي» ـ لاحظ المفارقة بين قمر ومحاق ـ أستاذ الكيمياء الحيوية، الذي يُعار إلى إحدى الجامعات، ويمتهن التسول من أصدقائه، ويكفي أن نقدم سطوراً قليلةً من قول القاص عنه: «زاحم البسطاء في شهر رمضان الماضي على موائد الرحمن، جمع شعره تحت طاقيته كي لا يذهب للحلاق، لم يذهب منذ جاء إلى المدينة لقصّاب أو سمّاك، أو فاكهي، أو ورّاق، أو حائك ... أو غيرهم»( ).
        وتنتهي القصة بهذا المقتر الممسِك وهو يُصارع «سكرات الموت في مستشفى المدينة»( ).
        وهكذا لم ينفع قمرَ الزمانِ تقتيرُه وإمساكُه، وبموته كأن السارد يعبر عن رغبته في اختفاء أمثال هذه النماذج الشائهة من حياتنا.
        وفي قصة «نوافذ من أمن .. سدود من خوف» يذهب السارد / المُعِدُّ للحلقات الناجحة إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون ليقف أمام صرّاف الخزينة، وتكون المفارقة أن أجور المعدين وأساتذة الجامعة أقل الأجور، ويخرج السارد وهو يردد «أخطأتُ كثيراً في تقدير حكمي على فئات الطوابير المُجاورة، فئات بضاعتها القدم والخصر والحنجرة؛ فرسان اليوم .. وربما الغد»( ).
        وفي قصة «الليلة الكذوب» يُريد الأب العامل أن يتمتّع بليلة مع زوجته المتشوقة إلى لقائه، ولكن أبناءه يضعون له المنوم، فينام دون أن يقضي وطره!
        وهي قصة تتماس مع التيّار الجنسي الذي بدأ يغزو أفقَنا مع الأقمار الاصطناعية، والفضائيات وقصص شباب التسعينيات التي يحتفي بالجنس، ولكن يُحمد للقاص أنه لم يكتب كلمةً نابية في هذه القصة التي تختلف كثيراً عن قصص يوسف إدريس التي تحتفي بالجنس في مجموعته «بيت من لحم»، مثل قصتي «بيت من لحم» و«أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور؟».
        وكل ما عند أحمد زلط إشارات في ألفاظ مهذبة، مثل قوله «أطفأت الزوجة أزرار الكهرباء .. شعرت أن كل ما حواليها قد تهيأ لإسعادها، غلّقت الأبواب والمنافذ، تأكّدت وهي تستبدل بملابسها ملابس النوم أن زوجها قد شرب كوب الشاي عن آخره، حلمت بفارس الليلة أحلاما مُنتظرة وشيكة الوقوع، الجو العام يُشير بإمكان التحقيق ... إلخ»( ).
        لقد قدّم لنا أحمد زلط عالماً فنيا ثريا من خلال مفارقة تصويرية تحتويها كل قصة، لتؤكّد عنوان المجموعة «أصابع متوحشة»، ولترينا أن عالمنا هذا يقع فريسة للأشرار، فها هي الأصابع المتوحشة تملأ فضاء المجموعة
        ................................
        *عن منتدى: أزاهير ـ في 27/4/2006م.

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          عضو أساسي
          • 14-10-2007
          • 867

          #5
          عفاريت سراي الباشا..الرؤية والفن

          بقلم: أ.د. خليل أبوذياب
          .......................

          تقف هذه المجموعة شامخة مع مجموعاته الأخرى "وجوه وأحلام" و"المستحيل" و"أصابع متوحشة" وغيرها، لتؤكد الطاقات الإبداعية التي يختزنها الأديب الفذ الأستاذ الدكتور "أحمد زلط"، ورسوخ قدمه في مجال فن القصة القصيرة، إضافة إلى إبداعاته الأكاديمية في مجال أدب الطفولة خاصة والدراسات النقدية والأدبية عامة.
          وتضم مجموعة"عفاريت سراي الباشا" خمس عشرة قصة، إحداها سبق نشرها في مجموعة "المستحيل" وهي "الطريق إلى القنطرة"، وقد أفصح القاص عن دافع نشرها هنا، بل ونشرها في أية مجموعة تصدر له، وذلك "لكونها واقعية، وتمثل الحقيقة الكاملة التي شهدها في القرن العشرين" كما يقول (ص122).
          كما يلفت النظر في هذه المجموعة الإهداء الذي طرز صدرها به، وما يتجلى فيه من فيوضات الوفاء والدعاء والتقدير لروح الأديب الكبير الدكتور نجيب الكيلاني، وهي لمسة وفاء تُحسب للقاص، وتنمّ عمّا يتمتع به من أخلاق رفيعة.
          والمتأمل لهذه المجموعة يتبيَّن أنَّ القاص أقامها على ثلاثة محاور رئيسية: محور الثنائية أو التقابلية، سواء أكانت عامة تتعلق بفكرة الطبقية الاجتماعية، أم خاصة تتمحور حول همومه الذاتية.
          وقد التقط القاص في هذه المجموعة طائفة من الثنائيات المتناثرة في الحياة مركِّزاً على ما يسودها من ظاهرة التقابل أو التناقض والتباين، وقد وفق توفيقاً بعيداً في اقتناص تلك الثنائيات المتناقضة هادفاً إلى تقديم طروحات فكرية ونفسية واجتماعية مستقرة في أعماق نفسه، وقد عاشها بكل أحاسيسه ومشاعره ووجداناته، ورغب أن يشاركه الآخرون فيها ويعيشوها على نحو ما عاشها هو، ويحسّوا فيها ما أحسّه هو؛ فيفيدوا منها ما أمكنهم ذلك!
          وكانت أولى تلك الثنائيات؛ تلك التي تجسِّد الطبقية البغيضة حتى على مستوى القرية البسيطة المحدودة من خلال قصة "عش العصافير" التي تتناول فكرة التكافؤ في الزواج بين طبقات المجتمع القروي المحدود وما يعمِّقها من فوارق أظهرها الانتماء العائلي والفقر والغنى.. فقد رفضت عائلة "الرشيدي" ذات المكانة الاجتماعية المتميزة في القرية مشروع زواج أحد أفرادها من فتاة فقيرة تنتمي إلى طبقة متواضعة يعمل أبوها "محولجي" ولا ينتمي إلى عائلة ذات مستوى اجتماعي مناسب يمكن أن تتشرَّف به عائلة الرشيدي تلك.. ويجاهد الشاب ويقاوم تيَّار الطبقية الذي تمارسه عائلته بكل عنف في محاولة جريئة ويائسة لحماية حبه.. وينجح في المقاومة ويتمم الزواج مضحياً بالأمن والاستقرار والثراء في حمى العائلة الكريمة.. ويتلاحم الزوجان المقهوران عبر مشوار طويل ومحفوف بالمشاق، وينجحان في بناء عش هادئ يغمره الحب والحنان والسعادة.. ويضاعف ذلك عصفوران جميلان كانا ثمرة هذا الزوج هما "هاني" و"أماني".
          ويواصل الشاب مشوار الجهاد من أجل الوطن والدفاع عنه، ويصاب بشلل كامل، وتمضي الزوجة المحبة المخلصة كاشفة عن أصالة عجيبة في رعاية زوجها المقعد وتربية ولديهما إلى أن يحققا تفوقاً ظاهراً ونجاحاً باهراً.. ويقضي الزوج نحبه غبّ "رحلة أيوبية الصبر" كما يقول القاص، وتبادر الزوجة بمشاركة ولديها بنقل جثمانه إلى القرية ليوارى في ترابها الطاهر قريباً من عائلته.. ويتم اللقاء والتعارف بين الأسرة وابني فقيدها في مشهد عاطفي مثير.. حتى إذا انتهت مراسيم الدفن عادت الأم برفقة ولديها ليواصلوا مسيرة حياتهم في عشهم الهادئ الحزين.. ويتجسَّد العطاء النبيل الذي غرسته الأم الصابرة المكافحة في نفوس ولديها البارين عندما أعلنا تكريمها بمنحها "الدكتوراه الفخرية للأم المثالية"!
          وهكذا استطاعت هذه المرأة التي لم تتقبلها عائلة الرشيدي بما أوتيت من صبر وإخلاص ووفاء، أن تحطم أسطورة الطبقية البغيضة التي تكرِّس الفوارق بين الناس وتقطع الروابط والوشائج التي تقربهم، مرسخة مفاهيم جديدة تقوم على الأصالة والشرف والإخلاص والوفاء والحب!
          ثم كانت الثنائية الثانية بعنوان "الفيومي والرومي" التي التقطها من عالم الطيور الداجنة، ماضياً في تكريس فكرة الطبقية البغيضة بكل فوارقها وملابساتها، هادفاً إلى تقديم الوحدة كمطلب يحقق شخصية الأمة وكيانها، وقد رصد القاص ذينك الديكين "الفيومي والرومي" منذ لحظة لقائهما في الأقفاص قبل بزوغ الشمس على طول الطريق إلى السوق ليعرضا مع سائر الطيور والفراخ للبيع، بمناسبة الاحتفال بنهاية العام التي ترتبط أساساً بالديك الرومي، ممَّا أثار حفيظته على قرينه "الفيومي" ليخوضا معركة ضارية شهدت وحدة الفراخ البلدية بقيادة "الفيومي" في مجابهة "الرومي" الغريب الذي خابت مساعيه وخسر المعركة، ولكنه لم ينكص عن التأهب لمعركة أخرى تعيد له هيبته الضائعة!
          وتوشك السوق أن تلفظ أنفاسها الأخيرة مع شمس الظهيرة المحرقة دون أن ينجح البائع في الخلاص من "الرومي" لإصاباته البالغة.. ووجدها فرصة طيبة ليحقق لأسرته وليمة فاخرة بهذه المناسبة التقليدية! وهنا يتزامن فرح الأسرة وفرح الديك البلدي الذي أخذ يصيح في غير موعد الفجر وقد أحاطت به أوانس الدجاج البلدية من كل لون مشكِّلة وحدة جماهيرية ظاهرة!
          ومن عالم الدجاج أيضاً يلتقط ثنائية أخرى تمثِّل نوعي الدجاج "البلدي" و"المهجَّن" أو "المعملي"، أو كما يقول "بنت مزارع"! وربما كان القاص يهدف من وراء هذه المناظرة تكريس فكرة الانتماء الوطني إزاء تفشي ما يعرف بعقدة "الأجنبي" أو "الخواجة" التي سادت الحياة الاجتماعية في هذه المرحلة.
          ويدع القاص الدجاج إلى الحمام ليعالج قضية التزاوج بين حمام أمريكي وافد من الغرب وحمام بلدي ينتمي إلى الشرق؛ بغية تحسين النسل أو تطوير السلالة أو التكاثر على الأقل.. بيد أنَّ هذه المحاولات التي بذلها محمد الشرقاوي في طول البلاد وعرضها لم تنجح.. حتى إذا أعيته الحيلة وجد الحل في مقولة زوجته التي تدور حول "اختلاف الدم وعدم القبول".
          كذلك تمثل قصة "البقرة الحرون" في صراعها الأهوج وعدوانها الهجمي على الجمل رافداً جديداً لفكرة الثنائية أو التقابلية يسعى من خلاله إلى تصوير هذه الطائفة أو النوعية من الناس الذين ينتشرون في المجتمع، ويصبون أذاهم على غيرهم.. ولكنه لا يغفل عن المصير السّيء الذي ينتظرهم والذي يشبه المصير الذي آلت إليه البقرة الحرون تحت أظلاف الخراف التي اجتاحت المكان فغدت جيفة تنهشها أسراب الغربان!
          أمَّا المحور الثاني من محاور المجموعة فهو محور القرية وحديثها وهمومها التي جسَّدها من خلال أحاسيسه الخاصة، وقد تناول هذا المحور في عدد من أقاصيصه منها "عش العصافير" و"عفاريت سراي الباشا" و"بوح الأشجار المعمرة" و"أول قطفة" و"أحزمة وأقنعة" و"أوجاع".. وقد وقفنا آنفاً عند "عش العصافير" كمثل لتكريس الفوارق الطبقية في المجتمع، أو مجتمع القرية، فلا نعيده ولكن نشير إلى صلته الحميمة بالقرية بطبيعة الحال.
          ثم كانت "عفاريت سراي الباشا" والتي تجسِّد من طرف ثنائية العفاريت القديمة والحديثة، أو الجنية والأنسية.. كما أنها تكرس فكرة الخوف أو "الفوبيا" المستقرة في نفوس الأطفال من لدن عهد الطفولة المبكرة عبر حكايات الأجداد والجدات المعروفة والتقليدية، ودور الظلام في تضخيم الأوهام وتصوري الخيالات واختراع الحكايات المرعبة (ص19)، كما تكشف عن دور فصل الشتاء ومظاهره الخاصة في تنمية تلك الخيالات والأوهام، وكذلك فصل الصيف بلياليه المقمرة الصافية حيث يحلو السمر، وتغدو كلها مواسم للحكايا الشعبية، ثم تتحوَّل الحكايات الخرافية عن أمنا الغول والعفاريت والبغال الأسطورية وغيرها مصادر متنوعة للفوبيا وما ينجم عنها من سلوكيات متباينة، وإن أفادت القاص الفاضل فوائد جليلة لا يني يشيد بها وأبرزها خوفه من الاغتسال في الترعة وما وفرت له من سلامة الإصابة بالبلهارسيا، ويبيِّن لنا القاص أنَّه افتقد هذا المخزون من حكايا جدته في عصر البث التلفزيوني حيث أخذت تختفي مع الأمهات والأجيال الجديدة، ولكنه وجد رافداً مهماً من روافد حكايات الجنّ والعفاريت، أو حكايا الظلام بعد غروب شمس جدته القديمة عبر شيخ عجوز ألف الجلوس خلف بيتهم، والذي أكد له قلة العفاريت واختفاءها من فضاء القرية بسبب النور الذي غمر كل مكان فيها، ولم يترك لها سوى الخرائب والأماكن المهجورة والمقابر.. "فالنور عدوّ العفاريت الأوَّل"!!
          على أنَّ عفاريت جدة القاص لم تستطع ـ إذا استطاعت ـ تجنيبه الاغتسال في الترعة ليسلم من البلهارسيا، أن تزرع في نفسه الخوف من الأماكن المغلقة والتعرض لعفاريتها، ممَّا جعله يفكِّر في ممارسة المخاطرة لمجابهة العفاريت المزعومة بحثاً عن مصادر جديدة للرعب على اختلاف الزمان والمكان؛ لتحديد الفوارق بين الحقيقة والوهم انطلاقاً من سراي الباشا المهجورة بصفتها الموطن المناسب للعفاريت!!
          وهكذا استطاعت سراي الباشا أن تشكل محكَّاً للتحدي لدى القاص لتحديد العلاقة بين العفاريت القديمة والحديثة.. وقبل التحدي غير عابئ بالشائعات التي تؤكد سكنى السراي بالعفاريت برغم سماعه بعض الأصوات الغريبة تصعد منها "مثل الأنين.. صفير ريح.. خبط.. تأوهات.. أنفاس غير مفهومة.." وتمكن من الدخول إلى السراي وتعرف على ما بداخلها من أثاث.. حتى تكشَّفت له الحقيقة المذهلة، ولم يقو على مقاومتها، فانطلق يعدو إلى الخارج وهو يتساءل عن هوية هؤلاء العفاريت الجدد الذين استوطنوا هذه السراي بعد رحيل أسلافهم من العفاريت القديمة!!
          وهكذا تولَّدت عفاريت سراي الباشا من عفاريت حكايا الجدة القديمة التي استكنت في نفوس الأطفال عبر محاولة للتحدي في زمن النور والبث التلفزيوني الذي لاحق العفاريت القديمة وطردها حتى من الأماكن المهجورة والخرائب والمقابر!!
          ثم كانت أقصوصة "أحزمة وأقنعة" التي حملت طرفاً مهماً من حياة القرية وما يسودها من جوع وفقر وبؤس عبر نموذج من بيوتاتها.. وفي غمرة المعاناة والمقارنة مع جياع الأمة العربية والإسلامية ودعوة الأب العاجز عن توفير أبسط مقومات الحياة لربط الأحزمة على البطون الخاوية، تأييداً لأصحاب هذه الدعوة وغيرها من مصطلحات حادثة كالعولمة والخصخصة والهيمنة والجدولة، وغيرها ممَّا يردده سادات المجتمع الجديد.. تنجد بنت الجيران الأسرة الجائعة بصينية بطاطس بالفرن، وفي سرعة البرق كانت الأيدي ممتدة والأسنان تمضغ والمياه تروي والجـــوع يخــف سعاره والشفاه تتمتم بالشكر، ولسان حالهم يقول: "نار فرن الخبيز ولا نار الهيمـنة.. ليت أمثالنا يدركون"97.
          وواضح أنَّ القاص يهدف من وراء هذه القصة إلى التخفف من لغة المثالية والشعارات الزائفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وأن يعي السادة أنَّ الجائع لا يسمع إلا من خلال معدته!
          ونصل إلى خاتمة حكايات القرية التي تسجل طرفاً من مشكلاتها وهمومها، وهي قصة "أوجاع" التي عالج فيها مشكلة المهن المنقرضة في القرية بسبب الغزو الحضاري الذي اجتاحها مثل "طلاء الأوعية النحاسية.. وصناعة الطرابيش.. وعمل الحواة.. وغير ذلك، وهي تسجل أطرافاً من هموم أصحاب هذه المهن وما غرقوا فيه من بطالة قاتلة دفعتهم إلى التفكير في الاغتراب بحثاً عن عمل يوفر لهم ما يستعينون به على حياتهم.. ولكنهم يفاجؤون بالرفض والمنع من السفر؛ لتجاوزهم سن العمل المطلوب، ولأنَّ مهنهم لم تعد صالحة لهذا الزمن!
          أمَّا المحور الثالث والأخير من محاور المجموعة فهو محور الوطن، وإن لم يظهر هذا المحور إلا من خلال قصة "الطريق إلى القنطرة"، وكنا نتمنى على القاص أن يعضدها بأقاصيص أخرى تكرِّس أبعاد هذا المحور وتبرز ملامحه.. على أية حال فهذه القصة ـ كما ألمحنا ـ تجسِّد مشاركة القاص في أحداث معركة "العبور" في محاولة جادة لرد الاعتبار وحماية الكرامة المهدورة في "نكبة حزيران" الفاجعة!
          وتكمن أهمية هذه القصة فيما تمثله للقاص من منعطف نفسي بالغ دفعه إلى إعلان رغبته وعدم تحرجه من نشرها في أية مجموعة قصصية تصدر له؛ لواقعيتها وتمثيلها للحقيقة الكاملة التي عاشها بكل ذرة من كيانه.. وقد نشرها للمرة الأولى في مجموعة "المستحيل" التي عرضنا لها في دراسة سابقة.
          على أننا كنا نتمنى على القاص أن يشفع هذه القصة بقصة أو قصص أخرى تكرِّس هذا المحور الوطني وتبرزه، وتشارك في قضاياه ومشكلاته التي لا تنتهي؛ لتتساوى على الأقل مع محور القرية التي تجذَّرت في أعماق نفسه كل ذلك التجذر المذهل الفريد.
          كل قصة، بل كل مجموعة قصصية يطالعنا بها القاص المبدع "د.زلط" تكرِّس إبداعه المتميز وموهبته الفذة واقتداره العجيب على توظيف الفن القصصي للتعبير عن أفكاره وآرائه وطروحاته المتنوعة التي تلحُّ عليه إلحاحاً لا يملك منه فكاكاً أو خلاصاً، وإذا كنا رأينا مبلغ اقتداره على نشر آرائه وطروحاته التي شغلته في مختلف أقاصيص المجموعة، سواء منها ما تعلق بالقرية وبالوطن وبالثنائيات التقابلية المتنوعة، فإنَّ الجانب الفني التشكيلي فيها قد تجاوز كل توقع ولا غرو؛ فنحن أمام قاص مبدع ملك ناصية الفن وسيطر على أدواته، وتغلغل نسيج نفسيته، وطاع له عصيّه، وأسلس له قياده، حتى إنَّك لتحس أنَّه لا يجد أدنى مشقة أو معاناة في سرده وحواره وتطوير أحداثه ورسم ملامح شخوصه التي يحسن التقاطها وانتقاءها، إضافة إلى ما تجده فيها من تلقائية باهرة، وعفوية بالغة!
          وقد يكون من الصعوبة البالغة الإحاطة بكل مظاهر التشكيل الفني في هذه المجموعة، مما يجعلنا نقبل ـ كارهين ـ الوقوف عند أطراف متناثرة منها، على ما يشوبها من فوضى التنسيق وعشوائية التداعي!
          بيد أن أول ما يلفت النظر في تقنيات القصة القصيرة في هذه المجموعة خاصة: ظاهرة الإحساس الهائل بعامل الطفولة، أو روح الطفولة المتغلغل أو المتجذر في وجدان القاص، والذي انعكس من وجه على إبداعه الفني والعلمي من خلال المؤلفات الأكاديمية التي وضعها في هذا المجال الصعب، والذي سجلته قائمة مؤلفاته ودراساته الملحقة بالمجموعة (126ـ129)، ويحس قارئ المجموعة بأنَّ قوة سحرية عميقة تدفعه إلى عالم الطفولة، حيث يجد ذلك في حكايا جدته عن أمنا الغولة والأشباح والعفاريت، وما تولده في نفوس الأطفال من مشاعر الخوف والرعب، كما يجد ذلك في خياله الخصب وقدرته الفائقة على ابتكار الثنائيات الفكرية واختراع الحوادث الخاصة بها، وإقامة الحوار الطريف بين عناصرها أو شخوصها.. بل إنَّه يلمس قدرته البالغة على استغلال كل ما يقع تحت بصره وبصيرته من حيوان وطير وشجر وجماد، في محاولة جادة وناجحة للترميز عمَّا يجول في عقله من أفكار وقيم وطروحات؛ وكل هذا يتجلى بوضوح وعمق في كافة ثنائياته في المجموعة..
          كذلك سادت أقاصيصه تقاليد الحكي الشعبي التي تلقانا في أقاصيص "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" وحكايات الحيوان والطير، كما تمثل ذلك بدقة "عفاريت سراي الباشا" التي افتتحها بإحدى حكايات جديته مستخدماً العبارة التقليدية التي ارتبطت بالحكي الشعبي"كان يا ما كان، لا يحلو الكلام إلا بالصلاة على النبي العدنان" (ص18)!
          كذلك استخدم الترميز في جوانب من أقاصيصه كما في "الفيومي والرومي" التي تكرس فكرة القومية أو الوطنية والأجنبية، أو ما عرف بعقدة "الخواجة" في المجتمع المصري خاصة والعربي عامة كأثر للاستعمال الغربي للأقطار العربية، كما تكرس القصة قضية الوحدة وتبرزها كمطلب جماهيري للأمة كلها!
          كذلك يبرز البعد الرمزي في قصة "البقرة الحرون" التي ربما اتخذها القاص رمزاً واعياً حصيفاً لاسرائيل، كما اتخذ "الجمل" الذي اشتهر بصبره واحتماله رمزاً للعرب الذين لا يكفون عن الصبر على عدوان اسرائيل الذي لا ينقطع، ومن هنا يؤكد القاص إنَّ ذلك إلى حين، وعليها إلا تنخدع أو تغترَّ بما تجد من صبر العرب واحتمالهم حماقاتها، وتغاضيهم عن عدوانها السافر!!
          ومن الملاحظات التي تلقانا في المجموعة تناثر بعض الآثار الدينية المحدودة جداً في جوانب من أقاصيصه كما في ختام أولى أقاصيصها "عش العصافير" المتمثل في صوت الكروان في وقت السحر يهتف في جوف السكون بعبارة "الملك لك"، وقد يكون هذا التوظيف لصوت الكروان أفاد القاص من رائعة الدكتور طه حسين "دعاء الكروان" على سبيل التناص!
          وقد كنا نتوقع من القاص توسيع هذه الدائرة الفكرية والفنية لما شهر عنه من عناية بالجانب الخلقي التهذيبي في إبداعه، وحرصه على تكريس القيم والفضيلة ومحاربة الرذيلة، كما تجلى ذلك في مجموعة "المستحيل".
          ومن مظاهر التناص الأخرى في المجموعة: الإفادة من المأثور الشعبي، حيث أخذ المقولة المشهورة: "في طالع الأنثى الرزق والبركة" (ص69)، كما نستطيع أن نلمح في قصة "البقرة الحرون" وما حشد فيها من ضروب الحيوان والطير صورة مصغرة جداً لرسالة "الصاهل والشاحج" لأبي العلاء المعري، على ما بينهما من فروق هائلة بطبيعة الحال في الطرائق والأساليب والمناهج والغايات.. وإن كان يمكنه أن يطورها لتقترب من رسالة المعري لو شاء!
          كذلك يحاول القاص بين حين وآخر الإشارة إلى تزامن بعض أحداث أقاصيصه مع أحداث الأمة الكبرى، كما في "عش العصافير" حيث ربط بين طرد عائلة الرشيدي لابنها الذي تمرَّد على تقاليدها وتزوَّج من فتاة فقيرة لا تتكافأ مع عائلته، وبين طرد الخبراء الروس من مصر (ص8)، كما ربط بين نكبة حزيران التي مزَّقت أوصال الأمة العربية كافة، وأصَّلت الوجود الإسرائيلي في المنطقة، وبين تمزّق أوصال فريقه الكروي الذي كان يرأسه (ص29).
          وعلى هذه الشاكلة تبيَّنت لنا ملامح الرؤى الفكرية، كما تجسَّدت أطراف من أبعاد التشكيل الفني في مجموعة "عفاريت سراي الباشا" التي أبدعتها عبقرية الأديب الكبير الدكتور أحمد زلط، وإذا كان لهذه المجموعة من مزية أخرى فإنَّها خطوة جادة على طريق الإبداع في مجال القصة القصيرة، تؤكد رسوخ قدمه في تربة هذا الفن الرائع الماتع، وتؤكد نضجه على مستوى التشكيل والرؤية، وتبشِّر بمجموعات أخرى آتية على طريق الإبداع والفن.
          ............................................
          *عن موقع: لها أون لاين ـ في 21/5/2002م.

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            عضو أساسي
            • 14-10-2007
            • 867

            #6
            "أصابع متوحشة " للدكتور أحمد زلط

            رؤية نقدية بقلم : مجدي محمود جعفر
            ..................................

            الأصابع هي أداة الفعل ، وعندما يكون الفعل وحشياً تكون الأصابع وحشية ، وبالتأكيد ما فعله الفاتح الشراري – مع نجلاء النجلاوي – فعلاً مزرياً، فلم يقف د. أحمد زلط عند حدود امتهان جسد العروس الجميلة القوية فى ليلة العُرس ، بل تجاوز الامتهان الجسدي إلي الامتهان المعنوي .
            ود.زلط يذكر حوادث واقعية ، حدثت في زمن مضي، وقد تحدث فى الزمن الآتي ، ولكنه لا يقصد الحادثة لذاتها .بل يذهب إلي حادثة أعم وأشمل ، فنجلاء النجلاوي – أجمل صبايا القرية – التي تتزوج مرغمة بفاتح الشراري ، الضعيف والمريض ، تاركة الأصحاء وذوي الحسب والنسب - هي المعادل الموضوعي لبلاد يغتصب حكمها المرضي وذوي العاهات ، مما يجعل مصير هذه البلاد علي أيدي هؤلاء الحكام المرضي والحمقى ، مثل مصير نجلاء النجلاوي .ومن ثّم نجد أن( أصابع متوحشة ) " التي تحمل المجموعة اسمها – لا تقتصر على أصابع فاتح الشراري ، ولكننا نجد هذه الأصابع موجودة فى معظم قصص المجموعة – بطريقة أو بأخرى وبنسب مختلفة 0
            فزوَّار الفجر الذين يخطفون الشيخ الجليل والشاعر الجميل سالم الزهراني من حضن زوجته وأولاده ويقتادونه إلي السجن ويسومونه سوء العذاب – كما فى قصة " من أوراق أبي سالم الزهراني " – أصابع متوحشة !! والأصابع التي تغتال براءة الأطفال فى فلسطين ، وتجرف البيوت وتحرق الزروع ، وتهدم المساجد ، كما فى قصتي ( مشاهد من غابة النار) ( عدسات لاهية ) أصابع متوحشة !
            والأصابع التي تبيع القطاع العام باسم الخصخصة ، والعولمة ، والجات كما في قصة ( مائدة لكائنات البر ) أصابع متوحشة !!
            والأصابع التي تقدم من بضاعتهم القدم والخصر والحنجرة على من بضاعتهم العلم والفكر والأدب كما في قصة ( نوافذ من أمن سدود من خوف ) أصابع متوحشة !!
            وهذه الأصابع المتوحشة تتمدد فى صفحات المجموعة ، وتتوغل فى حياتنا لتغتال كل شئ جميل فى الإنسان ، وفي الكون ، ومن هنا – يظهر د. أحمد زلط – الفنان – الذي يري ما لا يراه الآخرون ، ويكشف بمهارة وذكاء عن هذه الأصابع . وهو لا يكشف عن الأصابع المتوحشة فى الداخل – التي نجدها فى العسس والبصاصين ورجالات الحكم المحلي والطبقة الطفيلية الجديدة ، ونواب الشعب الجُدد ..الخ ، ولكنه يكشف أيضاً عن الأصابع الأكثر وحشية – خارج حدود الوطن ، والتي تحاصره بدءاً من أصابع الصهيونية وانتهاء بأصابع القطب الواحد الذي يحكم العالم الآن .
            ... القصص فى عمومها لها أبعاد سياسية ، وتنطلق من رؤى فكرية جادة وعميقة ، والكاتب قريباً من المفكر وقريباً من السياسي ، وكان موفقاً في اختيار شخصية الصحفي بطلاً لأكثر من قصة – لقُرب الصحفي من بؤرة الأحداث – كما كان موفقاً في اختيار أسماء شخوصه ، فلكل من اسمه نصيب فى شخصيته .
            المجموعة تتجاوز فى مجموع قصصها ..حدود الذات ، وتعانق هموم الأمة ومشاكلها ، والقصص فى معظمها تنتمي إلي المدرسة الواقعية .
            - ليست الواقعية التي تعني بالرصد ، وتقنع بظواهر الأشياء ، ولكنها الواقعية التي توغل في العمق ، وتستقرئ باطن الأشياء ، واستخدم الرمز فى بعض قصصه – والرمز قد يكون فى جانب من جوانب القصة مثل " شهيق وزفير " أو ينتظم القصة كلها مثل قصة ( سؤال إلي فضاء المسألة ) .. فمثلاً طيور الغرب الجوارح التي تحط على أشجار الشرق هي محاولة ترميزية للغرب بصفة عامة – الطامع فى احتلال الشرق ، والرمز الدال – بصفة الخصوص ..لشتات اليهود – الذين جاءوا بحثاً عن وطن لهم مزعوم فى فلسطين ، أما قصة " شهيق وزفير ) التي يتوحد فيها الراوي مع المصعد ، فالمصعد وسيلة والإنسان فى رحلته للحياة لابد له أن يمتطي وسيلة ، وعليه أن يتخير الوسيلة الجيدة والمريحة ..ويري د.زلط – أن كل الوسائل من الممكن أن تؤدي الغرض وتصل بالمرء إلي الهدف ، إذا أحسنا استخدامها ولم ندنسها بأفعالنا المشينة فتعيق حركة السير وتأتي قصة " مقاس شاذ" وهي من القصص الرمزية العبثية والتي تدين بخبث فعل السلطة ممثلة فى جهاز الشرطة – الذي ينشغل كبيرهم فى تجنيد الجهاز بأكمله ويستعين بقوات الجيش أيضاً – للبحث عن مقاسات الأحذية الشاذة – التي تبدأ من مقــاس (50 ) وهي نسبة واحد فى المليون فى حين يترك آلاف البلاغات من المواطنين عن جرائم القتل والسرقة والمخدرات ومن المفارقات الطريفة – أنه بعد البحث والتحري –براً وبحراً وجواً ، ووضع الخطط ، لم يعثروا – إلا علي مقاس واحد شاذ – كان فى قدم أحد الركاب الذين يركبون البحر ، أما المقاس الشاذ الآخر – فكان فى قدم كبير الشرطة ! والدلالة لا تخفي على القارئ الحصيف .
            ** ولأن الواقع مرير – يحاول د.زلط أن يخفف من مرارته بشيء من السخرية ، ولكنها سرعان ما تتبدد أمام جهامة الواقع وقسوته ووحشيته ، حتى في قصة ( أحزان ضاحكة ) – لاحظ ثنائية الاسم ، ودلالته– نجد في النهاية من يغتال ضحكة الحسيني وهدان فى المطار ، بفقد جواز سفره ، مما يعني فقد شخصيته – ولاحظ الارتباط الشرطي الغريب – الذي أقامه د.زلط بين ثلة المصريين العائدين من الخارج وهم فى فرح ومرح – واغتيال هذا الفرح فى المطار ، وكأن بي أقرأ على لافتة بالمطار مرحي بالجهامة وأهلاً بالعبوس أو كأنهم قد أمموا الضحك في المطار ، والسارد يستكثر على الحسيني وهدان وزملائه الضحك بقوله بين الحين والآخر عند كل ضحكة أو نكتة– اللهم اجعله خيراً – وتتحقق نبوءة السارد التراثية والموروثة عند المصرين عند وصولهم إلي المطار!
            وثمة اغتيال آخر – نلمح وراءه أيضاً – أصابع متوحشة خفية ممثلة فى الدش والستالايت والقنوات المفتوحة التي أفسدت عقول الأولاد ، وجعلت الصبي يدس لأبيه حبوب الأقراص المنومة فى الشاي- ليحرمه من ممارسة الحب المشروع مع أمه فى الليل فى قصة " الليل الكذوب "
            والتفاوت الطبقي الواضح في قصة " ولد بنت ...بنت ولد" والخلل الاجتماعي فى المقابلة الجميلة بين الحياة فى الريف والحياة فى المدينة ، بين الحياة في الزمن الماضي، والحياة المعاصرة – التي لا تنتج غير أطفال مبتسرين ، يموتون ، رغم الرفاهية والترف ، ورغم مستشفيات التوليد المرصع على واجهاتها النجوم السبعة فى حين أن السيدات الفلاحات كن يضعن وهن يعلمن في الحقول ويلدن وهن يمارسن أعمال الفلاحة الشاقة ، وموضوعات القصص هي التي فرضت الشكل الفني على الأديب ، فلم يتخير الشكل مُسبقاً ، ثم يصوغ أفكاره ، ولكنه ترك أفكاره لتحدد الشكل ، فالشكل الفني لقصة " مشاهد من غابة النار" اختلف عن الشكل الفني لقصة " أصابع متوحشة " واختلف عن قصة " مقاس شاذ"..والقراءة المتأنية قد تحتاج إلي صفحات ، ونرجو أن نعود إليها في وقت لاحق ، ونشكر د.أحمد زلط – الذي أتاح لنا – متعة قراءة هذه المجموعة الجميلة 0

            مجدى محمود جعفر
            ................................
            *عن: منتدى القصة العربية ـ في 27/4/2006م.

            تعليق

            • د. حسين علي محمد
              عضو أساسي
              • 14-10-2007
              • 867

              #7
              مع كتاب «الطفل مبدعاً»
              قراءة نقدية في إبداع الطفل الأدبي
              للدكتور أحمد زلط

              عرض: أ. د. حسين علي محمد
              ...............................

              منذ أواسط الثمانينيات الميلادية اهتم الدكتور أحمد زلط بأدب الطفولة، منذ سجّل رسالته للدكتوراه (1986م) حتى ناقشها (1990م)، ثم أصدر بعد ذلك نحو عشرة كتب في أدب الطفولة، منها: "أدب الطفولة: أصوله ومفاهيمه"، و"رواد أدب الطفل العربي"، و"أدب الطفولة بين كامل الكيلاني ومحمد الهراوي"، و"الخطاب الأدبي للطفولة"، و"أدب الطفل العربي" … وغيرها.
              وفي كتابه الأخير "الطفل مبدعاً: قراءة نقدية قي إبداع الطفل العربي"(1) يتناول ظاهرة الإبداع الأدبي عند الطفل العربي، بهدف لفت انتباه نقاد الأدب (وخصوصاً المهتمين بأدب الطفولة) إلى هذه الناحية من الإبداع، التي لم يلتفت إليها النقاد بعد، ويرى أن كتابه هذا قد يكون باكورة "تمهِّد بمعطياتها لمزيد من التواصل بين الباحثين والمبدعين، والأهم والأولى هنا هو دور الأسرة والمدرسة ومراكز الموهوبين في العناية بأطفالنا أصحاب المواهب" (المقدمة، ص8).
              ويقع هذا الكتاب في تمهيد وخمسة فصول، وقد عرَّفَنا الكاتب في التمهيد أن الدارسين لأدب الطفولة قد أهملوا ما يكتبه الأطفال الأدباء من أدب، فأدب الأطفال ليس هو الأدب الذي يكتبه الكبار للصغار فحسب، «وإنما بوسعنا أن نُضيف إليه إبداع الأدباء الصغار أنفسهم ـ أو إنتاج النخبة الموهوبة منهم ـ فلا يجب علينا أن نهمل تلك المحاولات الإبداعية الأولية لكتابة الأدب بكل البراءة والعفوية» (ص13، بتصرف).
              وبقول المؤلف إن ما دفعه إلى تأليف كتابه هذا هو النقص الواضح في إيجاد التوازن بين الأدب الذي ينتجه الكبار للأطفال، وما ينتجه الأطفال أنفسهم من أدب، وما وجده «من تزييف لما يتقدّم به الأطفال من كتابات في المسابقات الأدبية ـ في المدارس والهيئات الثقافية المعنية ـ إذ تخضع كتابات الأطفال إلى تدخل الكبار بالحذف والإضافة والتعديل» (ص17).
              وإذا كان الإبداع عند الكبار تعبيراً فنيا محسوساً عن أحاسيس داخلية وانعكاسات خارجية، يقدمه فرد موهوب بالكلمة والصورة، ويمكن قياسه وتقنينه وسبر عمليّاته، فإن الإبداع عند الصغار يُمكن أن يُلاحظ عند البعض منذ مرحلة ما قبل المدرسة، والبعض منهم يملك قدرة الإبداع الأدبي أو الفني ـ كما حاول الكتاب أن يُثبت من خلال النماذج والنصوص المُختارة للأطفال المُبدعين في الشعر والقصة والخاطرة ـ ويجب على الآباء والتربويين الحفز المستمر، والرعاية المقننة والمُتكاملة.
              ويبدأ الأسلوب العلمي الذي يجب أن ننهجه «لمعرفة الطفل المبدع بالمُلاحظة، وتبدأ من المُحيطين به: الأسرة، ثم المدرسة، ثمّ المراكز الثقافية، والملاحظة تكشف عن ميول الطفل المبدع من نشأته المبكرة، وتعكس ميوله، والميل عند الطفل هو الخطوة الأولى التي يجب علينا أن نُلاحظها، لتقدير اتجاهه، وتعزيزه» (ص62، 63 بتصرف).
              وبعد ملاحظة ميول الأطفال الإبداعية، يجب علينا العناية بهم، وتشجيعهم، وتنمية مواهبهم وصقلها، وإتاحة الفرصة لقراءة ما يُبدعون، وتوجيههم في رفق، لأنه قد يدفعهم خجلهم، وخوفهم من النقد والسخرية، إلى عدم الاستمرار في طريق الإبداع الأدبي والفني.
              وقد اختار المؤلف خمسة وعشرين نصا من إبداع الصغار، منها سبعة نصوص مترجمة لأطفال من مناطق مختلفة من العالم، والنصوص الأخرى لأطفال مصريين، نشرها بخطوط كاتبيها.
              ويتّضح من هذه النصوص رحابة العالم الإنساني الذي يُعايشه طفل اليوم، تنطلق من دائرة ما يراه في عالمه الصغير الذي يُحيط به إلى رحابة العالم الإنساني الكبير.
              تقول جين روتلاند (9 سنوات) في إحدى النصوص المترجمة:
              سيدتي عجوز طيبة
              شعرها فضي اللون
              وجهها مليء بالتجاعيد
              كان أملس ذات يوم
              تنام في السرير
              ضعيفة جدا
              مازلتُ أحبها
              وآمل يوماً أن تحبني (ص166)
              فهذه السطور تكشف عن رحابة العالم الإنساني الذي تعيشه هذه الطفلة، وعمق نظرتها إلى التغييرات التي يُحدثها فينا الزمن، كما يمكن أن يُشير النص إلى تواصل الأجيال؛ فهذه شاعرة من جيل الأحفاد تتواصل إنسانيا مع عجوز من جيل الجدات، وتتعاطف معها ومع إنسانيتها، وتحلم بأن تحبها العجوزُ ذات يوم!!
              إن أهمية هذا الكتاب أنه يلفت الانتباه إلى ما يكتبه الأطفال من فنون الأدب المختلفة شعراً ونثراً، بعد ما كان يُواجهه هذا الأدب من صنوف الإهمال والازدراء، أو الحكم على ما ينتجونه بمعايير الحكم على أدب الكبار. وإن رعاية الموهوبين الصغار كما يطرحها هذا الكتاب مطلب ضروري لتنمية ميولهم الأدبية، وتشجيعهم على الكتابة، والكشف عن عوالمهم الداخلية والاستفادة من تصوراتهم ورؤاهم في التربية والتعليم.
              وتحية للدكتور أحمد زلط على ما يقدمه لمكتبة الدراسات الأدبية في اللغة العربية عن أدب الطفولة، فقد أمتعنا بهذا الكتاب.
              ..............................
              (1) أعاد الدكتور أحمد زلط نشره بعنوان «الطفولة والإبداع الأدبي: قراءة في إبداع الطفل المصري»، هبة النيل العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 2003م.

              تعليق

              • د. حسين علي محمد
                عضو أساسي
                • 14-10-2007
                • 867

                #8
                قراءة في مجموعة «عفاريت سراي الباشا» لأحمد زلط (1)


                بقلم: أ. د. حسين علي محمد


                يهتم الدكتور أحمد زلط في مجموعته الثالثة(2)"عفاريت سراي الباشا" (2000م) بقضايا مجتمعه، فيتناول التغييرات الاجتماعية والحراك الطبقي، مستفيداً من ذكريات ماضيه، وقراءاته، وحياته المتصلة بقريته "شنبارة الميمونة" من أعمال محافظة الشرقية.
                ونرى التغير الاجتماعي في قصصه: «عش العصافير»، و«عنقودان» و«الفيومي والرومي»، و«أول قطفة»، و«أوجاع».
                ونرى أثر الزمن واضحاً في شخصيات قصصه، وفي الحوار الذي يُساق على ألسنتها.
                في قصة «أوجاع» نرى أوجاع انتهاء عصر، يقول عباس الحداد: «لا فائدة .. طال انتظاري .. المهنة تنقرض، سبع سنوات بدون عمل .. كانت مهنتي المفضلة .. عشقي وناري .. عمرها من عمر أول فأس وأول منجل .. العيال كبرت، والآلات غطّت عليَّ .. ليتني احترقت في أتون ناري بديلاً عن البطالة»(3).
                إن العالم القديم ـ عالم الحداد، وطلاّء النحاس، والحاوي، وصانع الطرابيش ـ ينتهي، و«المهن التي يُجيدونها غير مطلوبة الآن، أو في المستقبل» ، ومن ثمّ نرى أصحابها مأزومين وقد «ارتعشت بين أيديهم الأوراق والدموع والأحلام»(4).
                ويمتزج رصده للتغير الاجتماعي بالنقد لبعض مشاهد الواقع كما في قصة «حيتان وجرذان»، التي يرصد فيها بواقعية صارخة ومحذرة انحرافات البنوك، حيث نرى الترحاب من المدير والموظفين "بسيد الحوت" (وللاسم دلالته) في مقابل الزجر الذي يُقابَل به النائب الفقير!
                «صرخ المدير:
                قلت خذوه .. نائب؟ .. نائب؟ هذا نائب من إياهم، موظف تطوعي .. لا حول له ولا حصانة»(5).
                إلا أن الشيء اللافت للنظر في هذه المجموعة هو بروز دور المكان؛ فللمكان (وبخاصة قرية «شنبارة الميمونة»، قرية المؤلف) أثرها في الرؤية المتسامحة التي نطرحها القصص، والأحداث، والشخصيات، وبناء القصة.
                يقول في مقدمة قصة «بوح الأشجار المعمرة»: «للمكان سحره، ولموقع الأرض تأثيره. الأرض دورة الحياة والموت. فوقها وحواليها تدب الحياة في الكائنات. إذا أردت أن تتمثّل المعدن الصميم، فلتنقب عنه ـ كرجل الآثار ـ في البيوت الطينية، في القرى القديمة التي صنعت حياة ريف الدلتا، أو ريف الجنوب، تلقاه في اكتناه رائحة الطين الذي يشكل عمارة البيوت والمقابر، والأزقة، ومقامات شيوخ المتصوفة، ومضايف المناسبات …»(6).
                في قصة «عفاريت سراي الباشا» التي تحمل المجموعة عنوانها نرى أثر التغير الذي أصاب المكان، فقد حكت له جدته عن الجن الذين يسكنون الترع، ولكن رجلاً كهلاً يسرُّ له:
                «العفاريت يا ولدي قليلة .. بدأت تختفي وتهرب إلى بعيد .. تلقاها في ساقية مهجورة .. في المقابر .. في بيت غير مسكون من البيوت القديمة .. النور يا ولدي عدو العفاريت الأول»(7).
                ويبحث القاص في مجموعته عن المكان الذي شهد طفولته وصباه ـ قبل أن ينتقل للمدينة ـ فيجد أن كل شيء قد تغير.
                «قال لي أخي الأكبر: بلدنا شبه مدينة .. الناس الآن غير ناس زمان .. بعض أهل البلد لا يعرفون بعضهم .. أجيال راحت وأجيال جاءت ..»(8).
                ومن ثم تستدعي ذاكرة القاص القرية القديمة المتحابة منذ أربعة عقود فحسب، لترصد أحد الأحداث المحفورة في ذاكرة القرية:
                «حصدت القرية من بين مجموع محاصيلها الصيفية أهم محصول كانت تنتظره … أول قطفة من ثمار الخريجين في الكليات ومعاهد التعليم»(9).
                كما ترصد التغيرات التي شهدتها القرية من خلال الشخصيات الرئيسة والفرعية، يقول في مطلع قصته «أوجاع»:
                «قال نافخ الكير المشهور في قريتي (عباس الحداد) لجاره طلاّء النحاس: طال انتظاري، المهنة تنقرض، سبع سنوات بلا عمل …»(10).
                إن نافخ الكير وطلاء النحاس موجودان في كل قرية مصرية، لكن تحديد القاص «في قريتي» يعبر عن رغبة نفسية ـ بقدر ما هي فنية ـ في إسباغ الصدق على ما يحكي، بقدر ما يستحضر ـ في غربته في المدينة ـ مشهداً مؤنساً من «مشاهد قريته»، وهنا تتماس القصة القصيرة مع السيرة الذاتية.

                (2)

                يعتمد أحمد زلط ـ في هذه المجموعة ـ على الوصف طريقة أثيرة في بناء قصصه، فيقوم الوصف بدوره في تقديم الحدث، وتطويره، والصعود به إلى لحظة الذروة ـ إن وُجدت ـ ثم يتجه بنا ناحية الحل.
                ويميل إلى السرد الواقعي، الذي يُعنى بالتفصيلات الصغيرة، مستفيداً في لغته من المأثور الأدبي والشفاهي، ولا يلجأ إلى الحوار إلا قليلاً، وهو يحمل سمات السرد، وإن كانت تختلط به بعض كلمات عامية قليلة.

                ***

                ورغم أن قصصه واقعية، فقد ضمت المجموعة بعض القصص الرمزية، وهي: «هيمنة» و«سمكتان» و«الفيومي والرومي» و«البقرة الحرون».
                ويستفيد القاص ـ في هذه المجموعة ـ من القص الشفاهي الشعبي، فتقترب لغته من اللغة المحكية الشعبية، موظفاً السجع ليُحدث أثراً موسيقيا في نصِّه. يقول على لسان الجدة في قصة «عفاريت سراي الباشا»:
                «كان ياما كان، ولا يحلو الكلام إلا بالصلاة على النبي العدنان .. في ترعة بلدنا الواسعة العميقة، تظهر عفريتة وتختفي بكل طريقة، لها عيون من نار، ومخالب وأظفار، وشعر مدبب، وظهر محدودب، وفم واسع كفتحة الفرن، وأنياب وقواطع سريعة الفتك والطحن، في الليالي المظلمة أو وقت الزوال، تظهر لكل الأطفال، الذين يذهبون للاستحمام أو الاغتسال، فتأكل أكبادهم في الحال»(11).
                وقد يوظف «الواقعية السحرية» ممتزجة بالخيال الشعبي كما في قوله في قصة «عفاريت سراي الباشا»:
                «فصل الشتاء القارس يجمعنا حول الموقد وأحاديث جدتي تتناوب كل ليلة، وهي تسرد أقاصيصها … حول أمنا الغولة، ثم تتبعها بالعفاريت الطائرة، أو الأرانب الوحشية التي لها سيقان الجمال، ورفسة البغال. كانت تضحك وهي تحكي عن العفاريت الإنسية والجنية والحيوانية التي تظهر وتختفي في أكثر من مكان، وتأتي بالغرائب والعجائب، وتأخذ الفتيان والفتيات إلى عالم مجهول. تحت الأرض وفي عمق الماء» (12).
                كما يفيد من سيرته الذاتية، فتتسلل جوانب منها في المجموعة، ومنها قوله عن القرية في قصة «بوح الأشجار المعمرة»، على لسان السارد:
                «مع قيام ثورة 1952م كانت قريتي «شنبارة الميمونة» ترقد في زمام من الطين مساحته ثلاثة آلاف فدان، هو مجموع أراضيها وكتلتها السكنية المأهولة. وكان يدب فوقها زهاء عشرة آلاف من البشر، ثلثهم من الأطفال. كنت من بينهم …»(13).
                ومنها قوله في القصة نفسها:
                «ربع قرن في المدينة، والقرية في أعماقي رغم عدم مبيتي بها ليلة واحدة بعد أن غادرتها … طمست البيوت الخرسانية معالم قريتي القديمة، يدب فوق قريتي المكتظة الآن ما يقرب من ستين ألفاً … أغلبهم أسرى الجهل والفقر والإدمان والبطالة»(14).

                (3)

                ينتمي أحمد زلط إلى جيل السبعينيات في القصة القصيرة، جيل محمد المخزنجي، ونبيه الصعيدي، ومحمد عبد الله الهادي، وأحمد والي، ويوسف أبو رية، وسمير الفيل، وقد شغلته دراساته الأدبية والأكاديمية عن فنه الأثير لديه وهو القصة القصيرة، وقد قدم فيها إضافات ملموسة؛ فهو في مجال الرؤية يقدم قصصاً «مصرية» تُعالج هموم الوطن وقضاياه من رؤية واقعية أثيرة لديه، تنتصر للحق والخير والجمال. وقد قدّم ثلاث مجموعات قصصية، هي: «وجوه وأحلام» (1983م)، و«المستحيل» (1997م)، وهذه المجموعة التي نرجو أن تتلوها مجموعات أخرى.
                لكننا لا يمكن أن نُنهي هذا العرض دون أن نشير إلى أن الكاتب أعاد نشر قصة «الطريق إلى القنطرة» ـ مع بعض التغييرات ـ وكان قد نشرها من قبل في مجموعة «المستحيل»(15).
                ونحن في انتظار إسهاماته الجديدة في فن القصة القصيرة.
                .....................
                الهوامش:
                (1) نشر ـ في كتاب «أصوات مصرية في الشعر والقصة القصيرة»، سلسلة «أصوات مُعاصرة»، دار الإسلام للطباعة، المنصورة 2002م.
                (2) أصدر قبل هذه المجموعة «وجوه وأحلام» (1982م)، و«المستحيل» (1996م)، وأصدر بعدها مجموعة رابعة بعنوان «أصابع متوحشة» (2001م).
                (3) د. أحمد زلط: عفاريت سراي الباشا، ط1، دار هبة النيل للنشر والتوزيع، القاهرة 2000م، ص99.
                (4) السابق، ص105.
                (5) السابق، ص105 ، 106.
                (6) السابق، ص73 ، 74.
                (7) السابق، ص20.
                (8) السابق، ص82، 83.
                (9) السابق، ص87، 88.
                (10) السابق، ص99.
                (11) د. أحمد زلط: عفاريت سراي الباشا، ص18.
                (12) السابق، ص19.
                (13) السابق، ص74.
                (14) السابق، ص81 ، 82.
                (15) القصة في «عفاريت سراي الباشا» ص ص107-122. وفي «المستحيل»، ط1، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة 1997م، ص ص63-74، تحت عنوان «اتجاه الريح».
                التعديل الأخير تم بواسطة د. حسين علي محمد; الساعة 05-04-2010, 15:00.

                تعليق

                يعمل...
                X