الدكتور: بديع حقي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    عضو أساسي
    • 14-10-2007
    • 867

    الدكتور: بديع حقي

    د.بديع حقي (1922-2000)


    ولد في دمشق عام 1922.
    إجازة الحقوق.
    دكتوراه في الحقوق الدولية- باريس 1950.
    دبلوم في الحقوق الجزائية- باريس 1949.
    نشر قصصه وترجماته في المجالات والصحف السورية واللبنانية.
    عمل في السلك الدبلوماسي السوري من عام 1945 وحتى عام 1986 وتجول في عدة بلدان عربية وعالمية.
    عضو جمعية القصة والرواية.

    مؤلفاته:
    1-سحر- شعر- بيروت 1954.
    2-التراب الحزين- قصص- دمشق 1960.
    3-جفون تسحق الصور- رواية- بيروت 1968.
    4-أحلام الرصيف المجروح- رواية- بيروت 1973.
    5-قمم في الأدب العالمي- دراسة- دمشق 1973.
    6-حين تتمزق الظلال- قصص- دمشق 1980.
    7-الشجرة التي غرستها أمي- دمشق 1986.
    8-همسات العكازة المسكينة- رواية- بيروت 1987.
    9-لاتزال الشمس تشرق- آرنست همنغواي- ترجمة.
    10-المعطف- غوغول- ترجمة.
    11-اللوحة- غوغول- ترجمة.
    12-البستاني- رابندرانات طاغور- ترجمة.
    13-جني الثمار- رابندرانات طاغور- ترجمة.
    14-شتيرا- رابندرانات طاغور- ترجمة.
    15-دورة الربيع- رابندرانات طاغور- ترجمة.
    16-قصائد مناضلة- أحمد سيكوتوري- ترجمة.
    17-حين يورق الحجر- مقالات- اتحاد الكتاب العر- دمشق 1990.
    18-قوس قزح فوق بيت ساحور (قصص)- دار كنعان- دمشق 1993.
    19-فلسطينيات بديع حقي- دمشق 1995.
    توفي سنة 2000.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــ
    عن موقع: اتحاد الكتاب العرب، دمشق.
    الرابط: [url]http://www.awu-dam.org/dalil/05haa/dlil046.htm[/url]
  • د. حسين علي محمد
    عضو أساسي
    • 14-10-2007
    • 867

    #2
    الزمن وآليته في قصتين قصيرتين عند مراد السباعي، ود.بديع حقي

    بقلم: أحمد المعلم
    ..............

    الغاية من العمل هي تلمّس وحدة البناء وطريقة التعبير وهي تقدّم اللوحة القصصية. والتلخيص أم التقدير من جانبنا أمر لا بد منه، كي يتم التواصل الأجدى، ولا بد من الاعتراف بأن الشواغل الفنية تضيع في التلخيص:
    القصة الأولى: ساعة مخول1: بقرة مرعي رعت سكبة خضار لمخول. فضربها مخول بضراوة، مما أثار حفيظة مرعي وغضبه.. وتشاجر الاثنان، وفي الليل لم يتمكن مرعي من النوم، فقد أحبّ أن ينتقم من مخول، على الرغم من الصداقة التي كانت بينهما، حيث أشارت إلى ذلك زوجته.. واتته فرصة النوم على كتف الساقية، وفي الصباح، راجع نفسه، وندم على ما كان ينوي فعله ليلاً.. وإذ يرى مخول قادماً، فإنه يتشاغل عنه.
    مخول يقدّم ساعة يد هدية لمرعي، ليذكره بها دائماً. يُسرّ مرعي من الهدية. فقد صار يعرف متى سينهض إلى العمل، ومتى يتناول الغداء، ومتى يعود إلى البيت.
    حين شعر مرعي بضعف عاد إلى بيته، وانتظر زوجته، وشرع يحسب الوقت بالثواني ثم بالدقائق فالساعة. تبدّت له الحياة مملة من حساب الزمن بالثواني والدقائق والساعات. فحطم الساعة بغضب، ولم يندم، حيث أراد أن يعرف الزمن من العمل.
    القصة الثانية: الساعة2: لقية إسماعيل كانت ساعة جيب، يعلوها بعض الصدأ، يفرح بها كثيراً. وقد كان بإمكانه شراء مثل هذه الساعة لولا معاينة الطبيب والدواء.
    الساعة هذه تشبه ساعة شيخ الجامع.. يستعرض إسماعيل كل الناس في القرية فلم يجد أحداً فقد ساعته. وعلى الرغم من ذلك فقد ظلّ يخفيها عن الأنظار.
    يبدو أن الحمّى قد ألهبت جسمه ليلاً، فخاف من الأرقام الفوسفورية، وظن عقارب الساعة عقرباً يطوّق عنقه.
    بينما كان إسماعيل ونفر من أهل القرية في جلسة عادية، أذّن المؤذن، فأخرج شيخ ساعته، ونظر إليها، ثم أسرع إلى الصلاة، أما إسماعيل فلم يتمكن من رؤية ساعته خوفاً من الآخرين. غير أنه يمضي إلى الصلاة حيث يموت.
    تلك هي مفاصل القصتين باختصار. فكيف تأسس البناء والتعبير؟
    1-محتوى القصتين واحد وهو موقف الإنسان من الزمن.
    2-تمقت "ساعة مخول" الزمن محسوباً بالدقائق: (كم تبدو الحياة طويلة حين يعيشها الإنسان دقائق) ص 15.. وتستسلم "الساعة" للساعة. وهي تحسب الأنفاس، وهي وسيلة الزمن المسيطر: (ومضت هنيهة، أحصت فيها أنفاساً معدودة، ثم لاذت بالصمت من جديد) ص 76.
    3-الحوار في: "ساعة مخول" ثانوي، يتوجه إلى تعزيز موقع الصداقة: (مريم- أنا لا أستطيع أن أحقد على أحد بلا سبب، فالرجل جارنا.. وهو صديقك من أيام الطفولة، ألا يمكن أن نتسامح معه ولو مرة واحدة) ص 11. أما حوار: "الساعة" فإنه يدعم الملكية، ويشير إلى نفحة الاعتزاز: (وأحصى إسماعيل في ذهنه عشرة من أبناء قريته، ممن يحملون ساعة جيب، وأما الباقون فيستغنون مثله عن الساعة بتنقل فيء الشجر، في استجلاء الوقت.
    وصافح سمعه أذان المؤذن، يتعالى من جامع القرية، وقال شيخ الضيعة:
    -حانت صلاة الظهر.
    ومدّ يده إلى جيب سرواله، وسحب ساعته بفتور، ونظر إليها بعينيه السقيمتين الضيّقتين نظرة مستطلعة بليدة، ولاحقتها وهي تنسكب على الساعة نظرة قلقة خاطفة، انسابت من جفني إسماعيل) ص 81.
    4-وهذا الحوار مؤسّس على الرفض والانتقام في: "ساعة مخول" (مرعي- ملعونة أنت أيضاً.. نامي وغداً تسمعين أخباره) ص 11. أما حوار: "الساعة" فإنه مؤسس على المخاتلة: (وغمغم في ذات نفسه: هذه الساعة ليست لك، ولهذا تخفيها، أنت لص سارق، لِمَ لا تقول أنك عثرت على ساعة؟) ص 82.
    5-البطل في: "الساعة" يلهب ظهره وفكره الخوف من الآخرين: (ترى لمن تكون الساعة؟ وقد أضناه هذا السؤال سحابة نهاره، وبدا له أن يكون في وسعه أن يفضي إلى أحد بسرّ ساعته، وأن يبرزها أمامه، فقد يدّعيها أي شخص، ويستخلصها منه، بعد أن أضحت ملكاً له) ص 79. أما بطل: "ساعة مخول" فإنه قوي شجاع، يستطيع أن يعيش مع الآخرين: (ماذا فعل مخول؟ لقد شتمه، ولعن أباه، وضرب بقرته.. ولكنه هو أيضاً شتم مخول، وهمّ بأن يضربه لولا تدخل بعض الجيران) ص 12.
    6-مادة العمل القصصي في: "ساعة مخول" هدية تعزّز موقع الصداقة: (انظري ما تفعل الصداقة؟ لقد أهداني مخول ساعة يد) ص 14. أما مادة عمل: "الساعة" فهي لقية، كأنها كانت منتظرة من البطل: (إنها ساعة ضائعة، انزلقت، بلا ريب، من جيب صاحبها، دون أن يشعر، وانتظرت هنا، على هذه الدرب، يداً مسعفة تنجيها، وتنحو بها إلى جيب شخص آخر، تستقرّ فيه، لتستأنف بها حياتها) ص 76.
    7-الساعة في: "الساعة" رمز الزمن، ووحيدة مع البطل، متفردة به، وقد تصبح أنيساً له: (وبدا له، إلى ذلك، أن هذه الساعة، بلغوها الرتيب سوف تؤنس عزلته التي ألفها واستطابها، بعد أن أمضى عمره عزباً) ص 78. بينما نرى الساعة رمز الزمن في: "ساعة مخول" وسيلة لتوطيد العلاقة مع الآخرين، والانطلاق إلى العمل: (لقد أهداني مخول ساعة يد:
    صاحت مريم بسرور:
    -ألم أقل لك إن مخول إنسان طيب.
    -اعتذر مني، وأسمعني كلمات جميلة، يا للرجل المهذّب، دعينا، الساعة الآن التاسعة صباحاً، وعلي أن أتناول طعامي، وأسرع إلى عملي) ص 14.
    8-كلا البطلين يعمل في الحقل، إلا أن بطل: "الساعة" يعيش وحيداً، ومريضاً:
    (أمضى عمره عزباً، دون زوجة ترعاه أو تسهر على صحته المتداعية، وكان يشكو من وهن في قلبه) ص 78. وأما بطل: "ساعة مخول" فإنه يعيش وسط الآخرين: (لم يستطع مرعي أن يبعد مخول عن ذاكرته... لقد فكّر في أشياء كثيرة جميلة... ذكر حبه الأول والثاني والثالث، واستعرض كل النساء اللواتي كانت لهن صلة بحياته، ولكن صورة مخول كانت تبرز) ص 11.
    9-المواجهة فاعلة في: "ساعة مخول"، لا يلبث التعقل أن يحكمها: هو أيضاً شتم مخول وهمّ بأن يضربه لولا تدخل بعض الجيران... كم كان غبياً في الليلة الماضية عندما حرم نفسه النوم من أجل أمر تافه كهذا.. ألم يكن من السهل عليه تناسي ما حدث؟ (نعم) ص 12. بينما الاعتزال والضعف يسيطران في: "الساعة": (ولما امتدّت أصابعه الخشنة إلى بلّور الساعة الأملس، وداعبت سلسلتها المتدلية، نسي سؤاله المضني، وتراخى شعوره القلق إلى خدر لذيذ قريب من الغبطة، فقد ساق القدر إليه هذا الحيواني المعدني الصغير، لا ليجلو له الوقت فحسب، بل ليتجاذب تنفّسه الرتيب، المنتظم أطراف الحديث مع قلبه الضعيف) ص 79.
    (يتبع)

    تعليق

    • د. حسين علي محمد
      عضو أساسي
      • 14-10-2007
      • 867

      #3

      10-الغاية من "ساعة مخول" هي التوجه إلى الحياة بالعمل: (زال الزمن الصغير البطيء، وحلّ محله الزمن الكبير السريع، الزمن الذي يعمل فيه الإنسان بلا حساب) ص 15. بينما الغاية في "الساعة" تركن إلى هيمنة الزمن: (وشعر وهو بسبيل السجود أن رجليه تتقصفان، وأن ضربات قلبه تخفق في عالم غريب قصي، وأحس بوخزة مفاجئة: لقد مدّت هذه الحشرة المعدنية ذراعيها الدقيقتين المترادفتين، وجعلتا تصهران قلبه، وتشدان عليه، رويداً رويداً، رويداً) ص 83.
      11-التنويع على الحدث المركزي في: "ساعة مخول" قدّم بياناً، يُوجب التعقّل: (نعم من الممكن ذلك فيما لو عقل، ولكنه في الحقيقة لم يملك أعصابه) ص 12. وقدّم تمتيناً لأواصر الصداقة: (-انظري ما تفعل الصداقة، لقد أهداني مخول ساعة يد) ص 14. بينما قدّم هذا التنويع في: "الساعة" العزلة والخوف من الآخرين، وأغرق الشخصية في بحران الذاتية والانغلاق: (لا، لا، لا أحد يسير في هذا الوقت المبكر، ولكنه لمح هراً أبيض، مرّ أمامه بسرعة خاطفة، وتوقف ونظر إليه بعينين فوسفوريتين فزعتين، ثم لاذ بمنعطف قريب، واختفى طرف منه، وبقي ذيله ظاهراً، يتلوى في نزق، وينوس يمنة ويسرة كرقاص ساعة كبيرة، ثم يسوط ظله الذي كان يقلد حركته على الأرض) ص 77.
      12-الزمن يأتي بطل "الساعة" وهو مستسلم: (يريد أن يخلد إلى إغفاءة، ولكن النوم لم يسلس له، فهناك إلى جانبه لا يألو يتردد لغز هذا الصرصار المعدني هازجاً: تك، تك، تك.
      وتقلب في فراشه، يستدني إغفاءة ممتنعة، ثم فتح جفنيه، وأجال نظره في العتمة إنه يرى شيئاً غريباً: كانت تحدجه من زاوية في غرفته عين مدورة، سقط هدبها، لم تكن تغتمض أو ترف...) ص 79. وبطل "ساعة مخول" يتمرد على الزمن، (وقعت عيناه على حجر كان بالقرب منه، أمسك به، ورفع يده إلى أعلى، وبحركة سريعة أصبحت الساعة قطعاً صغيرة تتناثر على الأرض.
      جميل هذا ومريح، لقد اختفت الثواني والدقائق والساعات، زال الزمن الصغير البطيء، وحلّ محله الزمن الكبير السريع، الزمن الذي يعمل فيه الإنسان بلا حساب) ص 15.
      14-في: "ساعة مخول" يتعزز دور الشجاعة بمؤشرها الإيجابي: (مخول- الحقيقة أنني لم أكن مهذباً معك.. ولكن! كان لا بد أن أغضب، نحن لا نستطيع السيطرة على أنفسنا، تصور أن مسكبة كاملة من الذرة الصفراء قد تهشمت، ماذا يعني هذا؟ يعني أني خسرت مئات الليرات.. وهذا لا يهم إذا ما فكّر الإنسان بعقله..) ص 13. وفي "الساعة" يتعزز دور الوحدة بمؤشرها السلبي الواهن: (ولما وقف إسماعيل إلى جانب المصلين، يتلو الفاتحة، وقد وضع راحتيه فوق ساعته الخبيئة تحت نطاقه، خيل إليه أن راحتيه تضمان عصفوراً صغيراً، يخفق قلبه وجلاً، مندغماً بدقات قلبه المريض، ليمتزجا) ص 83.
      15-كلتا القصتين اعتمد تشكيلاً ثنائياً: (ساعة مخول = صدفة + زمن) و: (الساعة = خوف من الآخرين + استسلام للزمن).
      16-الاسترسال متراخٍ في "الساعة" دائماً هناك مسافة بين الصورة والأخرى، تحتاج إلى وسيط تعارف. أما الاسترسال في: "ساعة مخول" فهو صلب مترابط الأجزاء بقوة. ولا ننسى أن نشير إلى تلك الصلة الضعيفة بين تعزيز مفهوم الصداقة وتعزيز قيمة العمل، أي أن هذه الصلة متراخية هنا أبعد من مسافات: "الساعة".
      17-سلطة الزمن قوية فاعلة في "الساعة": (وأن الساعة الجاثمة في جيبه تتململ، كأنما تود أن تخرج من محبسها) ص 82. بينما نجد سلطة الزمن مزعجة في "ساعة مخول": (مضى من الوقت خمس دقائق ولم تحضر زوجته، مضت ربع ساعة، نصف ساعة، ساعة، وكان يشعر أن كل دقيقة تعادل في طولها يوماً كاملاً.
      وهمس ضجراً) ص 15.
      18- الفعل الذي أتى عليه بطل: "ساعة مخول": تحطيم الساعة، غير مقبول، حيث إنه يحطم رمز الصداقة المتجددة، ويبدو أن هذا الفعل قد جاء من الكاتب، أو من خارج السياق القصصي. وكان الأجدى للبطل أن يحتفظ بالساعة رمز الصداقة، وأن يهتم بالوقت نفسه بالعمل. وأما الفعل في "الساعة" فإنه جاء منسجماً، قد تغلغل في عمق البناء، وشكّل محوراً يعود إلى البداية، هو عودة الزمن إلى لقاء إنسان آخر: (وتعثرت نظرته بالساعة الجاثمة على الأرض، فالتقطها وقلّبها في راحته مستغرباً)، وهزّها هزة رفيقة، فترجّحت سلسلتها، وناست كذيل هر نزق مغضب) ص 84. وللتدليل على أهمية هذا التوجه ننقل: (وهو يقفل عائداً إلى بيته، كان الهر الأبيض ينظر إليه من المنعطف) ص 78.
      19-البنية الإيقاعية حركية ناشطة في: "ساعة مخول"، تتدفق حيوية: (ونظر إلى الشمس، فأدرك أنه ما زال هنالك متسع من الوقت للعمل، فحمل مجرفته، وانطلق باتجاه الساقية، يخامره شعور مَنْ يسترد حريته بعد سجن طويل) ص 15. أما النبرة الإيقاعية في: "الساعة" فإنها واهنة بطيئة، متراخية، ربما بتوافق مع قلب البطل الواهن الضعيف: (وكان يشكو من وهن في قلبه، وقد كان في ميسوره أن يشتري ساعة جديدة، حين سنحت له الفرصة، ومضى إلى دمشق منذ أكثر من خمس سنوات، ليراجع طبيباً مختصاً بأمراض القلب. ولكن أجرة الطبيب وثمن الأدوية ونفقات السفر، التهمت جلّ المبلغ المدّخر الذي قدم به إلى دمشق، وانتسخت أمنيته الحلوة، منذ ذلك الوقت، وأنه ليذكر نظرته الحسيرة، حين وقف أمام واجهة دكان ساعات، في ساحة المرجة) ص 78.
      20-حسّ الاتجاه كان عنيفاً في توجهه إلى الحياة في: "ساعة مخول" حيث إنه ظل مثابراً على الحيوية حتى النهاية: (ومرت بضعة أيام لم يكن فيها مرعي مرتاحاً لساعة مخول كما كان في اليوم الأول.
      كان الوقت قبل وجود الساعة في يده يمر بسرعة.. وكانت الوحدة الزمنية تبدأ مع شروق الشمس، وتنتهي بغيابها، أما الآن فقد اختلف الأمر، فالزمن أصبح بطيئاً وبطيئاً جداً) ص 14. أما حس الاتجاه نحو الحياة في: "الساعة" فإنه جاء متخاذلاً: (-تبدو اليوم مصفر الوجه شاحباً، أكثر من أي يوم مضى يا إسماعيل، إنك تشكو من قلبك، فلماذا لا تذهب إلى المدينة، لتراجع الطبيب مرة أخرى.
      وأجابه إسماعيل كمألوف عادته، إذ يتلقى هذه النصيحة:
      -الشافي هو الله) ص 83. وهذا الاتجاه يخدم غاية القص وبناءه.
      21-وتلاؤماً مع حسّ الاتجاه فإن سيرورة الحياة في قصة: "ساعة مخول" تؤول إلى العمل والحركة، بينما هي في: "الساعة" تؤول إلى اللامبالاة والسكون، أي الموت. نتذكر موقف إسماعيل من التداوي.
      22-الروح التي بنت "ساعة مخول" متوثبة خلاقة، يقابلها في "الساعة" الروح الهادئة المتدبرة.
      ساعة مخول: توجه إلى الحياة بتحطيم الزمن والسير إلى العمل.
      الساعة: توجه إلى السكون بسيطرة الزمن والانكفاء عن المواجهة.
      وماذا بعد؟..
      لقد حرص الراوي في: "الساعة" على تجسيد مشاهد عديدة، من شأنها أن تقدم عناصر مساعدة، تفسح المجال لاستنباط الخوف المركب في شخصية إسماعيل: اللقية والخوف من الآخرين، الهر ومحاولته بث الخوف في البطل، ثم جاءت سيطرة الزمان وإجهازها على هذه الشخصية محصلة ضرورية لمجمل الأفعال. فنحن نتخيل مع الراوي كل المشاهد المعروضة بتصويرها الدقيق، ونحن نعرف طريقنا إلى هذه الصور من التراكيب اللغوية الخافتة في بنائها، والموعزة بحال ساكنة، ستنتهي إليها مجمل الأحوال، وبالتالي، فإن الخاتمة أو لحظة التنوير كما يسميها د.رشاد رشدي3 جاءت من ضمن الفعل القصصي، ومنسجمة معه بتماسك متميز، هو تماسك الأسلوب وطراوته وإغراؤه في عملية استرسال القصة من جهة، وفي شد المتلقي وتشويقه إلى المتابعة من جهة أخرى. حقيقة لم نكن نتوقع أن تصبح الساعة اللقية رمزاً لاختراق الحياة والإجهاز عليها. ولكن مَنْ منا لا يُسرّ لهذا الاستنباط؟..
      ومَن منا يستطيع أن ينسى هذه المشاهد المعروضة، بغية تجسيد الخوف من جهة، ولإمكان انحدارها إلى النهاية من جهة ثانية، ولبثّ وإشاعة السكون من جهة ثالثة؟.. ومن ينكر رهبة الساعة في انبساط دلالتها الموحية إلى الزمن، وقوة فعلها المؤثر في هذه الشخصية النموذجية، والتي قدمت أفعالاً وأحوالاً نراها يومياً؟.. إن إطباق الراوي على الشخصية في اللحظة الحاسمة يحقق شرطاً رائعاً وخاماً لبناء قصة قصيرة فاعلة.
      وكما حرص كاتب: "الساعة" على تجسيد قوة الزمن، فإن كاتب: "ساعة مخول" حرص على تقديم حب العمل. حتى تصبح الحياة هي العمل. وهذا الحب للعمل قد ينسينا فعل البطل مرعي، حين أقدم على تحطيم الساعة رمز الصداقة. فقد أصبحت هذه الساعة تذكار لمفهوم الصداقة والحرص عليه. وكان يمكن للكاتب أن يجهز على الزمن بغير هذه الوسيلة وغير هذا الفعل. لقد نسي الكاتب بطل القصة، واندفع هو للتواصل مع المتلقي مباشرة، فلم يحتفل كثيراً باللحظة الحاسمة في تكوين القصة.
      إن الإجهاز على وسيلة الزمن في: "ساعة مخول" كان درامياً مؤثراً، لكنه لاقى كثيراً من الإرباك للبطل. وعلى الرغم من إيقاعية: "ساعة مخول" الحركة الفاعلة النشيطة، ومن ضمور الحركة الإيقاعية أو تراخيها في "الساعة" أكثر مما ينجذب إلى "ساعة مخول".
      لقد كان كاتب "ساعة مخول" ناشطاً لبلوغ الغاية، واعترضته في مسار البناء نتوءات متشظية، غافلة الذاكرة فحضرت، ولم يترك للفعل أن ينمو بطريقة سليمة، كما فعل في تعزيز مفهوم الصداقة. بينما كان الفعل في "الساعة" رتيباً في بروزه، وئيداً في تصوراته، فكانت النهاية مطابقة لواقع الحال.
      ..............................
      1 مجموعة: أسئلة تطرح وأصداء تجيب- مراد السباعي.
      2 مجموعة: حين تتمزّق الظلال- بديع حقي.
      3 فن القصة القصيرة- د.رشاد رشدي.
      .................................................. ......
      *المصدر: مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 303 تموز 1996م.

      تعليق

      • د. حسين علي محمد
        عضو أساسي
        • 14-10-2007
        • 867

        #4
        اللص والعكازة

        قصة: د.بديع حقي
        .........................

        قال السجين حرشو1 يخاطب زميله السجين حمود:
        -اسمع يا حمود، تعرف طبعاً الجامع الأموي.. هناك إلى جانب الجامع ساحة صغيرة تدعى ساحة النوفرة، تفضي إليها بدرجات منحدرة، يقع في طرف منها مقهى صغير. كراسيه المصفوفة في خارجه أكثر من الكراسي القابعة في داخله، وكنت أستطيب فيه تدخين النارجيلة.
        وخطفت في ذهن حمود صورة نارجيلة، وتخيل رأسها المضرم وذيلها الملتف وماءها الموار، وخامره شعور بأنه يسمع قرقرتها تواكب حواره الذي يلهج به في ذات نفسه، فكأنها كانت هي أيضاً تلغو، محدِّثة نفسها حواراً داخلياً يمتزج، كحواره الداخلي بكلمات حرشو وهو يستفيض في حديثه الشائق.
        -اتخذت مجلسي على كرسي خارج المقهى، وجعلت أراقب بعض الزائرين الهابطين، لعلي اصطاد من بينهم غريباً ساذجاً، فأنت تعلم أنني لم أعد أقوى بعد أن كسرت رجلي وقطعت في آخر حادث سطو قمت به، إثر قفزة متهورة من سطح مرتفع- لم أعد أقوى على تسلق الجدران، وانحرفت صنعتي من السطو إلى الاختلاس، وكل الدروب تؤدي كما يقال- إلى الطاحون واقتنصت نظراتي المنقبة الجوالة، رجلاً قصيراً هزيلاً يضع على رأسه طربوشاً، وكان يسرِّح طرفه في جدار الجامع، متأملاً متعجباً، كأنما يراه لأول مرة، قلت في نفسي: هذا صيد ثمين ساقه الحظ إليك يا حرشو. وهبط الرجل من الدرج، ويداه معقودتان إلى خلف، هادئاً، راضياً، متئد الخطوة، فلم يكد يغادر الدرجة الأخيرة، ويضحي قريباً مني، حتى نهضت طبعاً برجل واحدة، فالأخرى مقطوعة متكئاً بيدي على الطاولة، وهتفت مرحباً، ماداً راحتي للمصافحة:
        -أهلاً، أهلاً، أحمد أفندي، يا مائة ألف مرحباً بأحمد أفندي.
        ورشقني الرجل بنظرة متعجبة، مستنكراً تحيتي، وقال: لست أحمد أفندي يا أخي، أنت مخطئ.
        قلت: مستحيل يا أخي، ألست أحمد أفندي الأسطه الذي اجتمعت معه في مكة المكرمة وحججت معه منذ سبع سنوات؟؟
        فقال: -أنت مخطئ يا أخي، لقد حججت أنا في العام الماضي، ولكنني لست أحمد أفندي، فلعله يشبهني...
        قلت: -تفضل، تفضل يا أخي، سبحان الله، إنه يخلق من الأشباه أربعين، كأنك أحمد أفندي بلحمه ودمه، الله الله يا أحمد أفندي وأطلقت زفرة متصلة- أين أنت الآن، سقى الله اليوم الذي زرنا فيه معاً قبر رسول الله في المدينة المنورة.
        وتردد الرجل في الجلوس فقلت: -تفضل يا أخي، دعني أتأملك قليلاً، لأتذكر رفيق الحج أحمد أفندي فمنذ سبع سنوات لم أره، بعد أن عاد إلى بلده حلب- استبنت من لهجة الرجل أنه حلبي-.
        -وجلس على الكرسي، كأنما يتحفز للنهوض بعد لحظة، ورأيت أن أشده إلى جلسة مطمئنة، بقدح من الشاي أطلبه، فهممت أن أنادي نادل المقهى، بيد أنه اعتذر، فيما كان ينظر في ساعة مذهبة أخرجها من نطاقه، وسددت إلى الساعة نظرة الباشق إلى عصفور شهي، كانت مذهبة، فيما أظن، وأجاب:
        -شكراً بعد ربع ساعة تقريباً ستقام صلاة الجمعة.
        قلت: -وأنا أيضاً انتظر موعد الصلاة، الصلاة عماد الدين، وقد توضأت وكنت موشكاً على النهوض حين لمحتك، فخفق قلبي وقلت في ذات نفسي: تراه أحمد أفندي الأسطه، صديق الحج، لكم أعانني هناك، في مكة والمدينة، فأنا كما ترى مقطوع الساق. أوه وتنهدت- لقد أصابتها رصاصة في الثورة السورية، لم يكن بد من قطعها، هذا نصيبي من الجهاد يا أخي، أراك تبتسم يا حمود، يا خبيث. واستبنت في عين الرجل ألقة تشف عن الطمأنينة والإعجاب، هذه دلالة حسنة، سمكتي لا تنفر من طعم الصنارة. أنا في نظره إذن، حاج ومجاهد. وأردفت حلت علينا البركات يا أخي بقدومك، هل أعجبتك دمشق؟
        فأجاب: -إنها تعجبني دوماً، أنا أحب دمشق، وأقدم إليها بين الحين والحين.
        وسألته سؤالاً، بريئاً في الظاهر: -حلت علينا البركات، أهي زيارة أم تجارة؟
        وحرن الجواب في فمه هنيهة، كان قلبي خلالها يخفق، قلقاً، وقلت في ذات نفسي: ذهبت يا حرشو بعيداً في السؤال، لعل الرجل قد ارتاب بك، وكان في وسعك أن تستنتج بأنه تاجر من بزته، ووقع في وهمي أن السمكة أحست بأن الطعم المقدم إليها يخفي خطراً ما، لا، يا سيدي.
        كانت السمكة مغفلة، اقتربت هي نفسها من الطعم حين أجاب: قدمت يا أخي للتجارة والزيارة، جئت أعقد صفقة صغيرة مع تاجر صديق في سوق الحرير، ثم....
        وبترت ابتسامة واسعة، مرتبكة، خجلى، جملته كان قلبي، يتدحرج، خلفها، لاهثاً، نافد الصبر وتوقف عن الكلام، فقلت مستحثاً جوابه- ثم ماذا، ثم ماذا؟
        وغض الرجل طرفه، -قد والله بدا لي أنه أشبه بفتاة خفرة خجول- وتابع: -ثم أخطب ابنته، وأكمل نصف ديني وأتزوجها، هكذا تجدانني جئت للتجارة والزيارة معاً.
        وقلت له: -مبروك، إن شاء الله يا أخي، هل رأيتها وأعجبتك؟
        قال: -لا، ولكن علمت أن له ابنة، حسنة الخلق، هذا هو المطلوب المبتغى في الزواج، ولكن..
        وتعثرت جملته، كما لو كانت تهم أن تقع وتنكسر، هيء، هيء، هيء، ولحقت جملته قبل أن تنقطع، أقلتها من عثارها، فقلت: -ولكن ماذا؟
        فأجاب: -ولكن.. أخشى ألا تعجبني، كأن تكون دميمة، مثلاً..
        وأشرقت في ذهني فكرة جريئة، ينبغي لي أن أجذب الخيط في اللحظة المناسبة. السمكة قريبة من الطعم. قلت الحق معك يا أخي. لدي فكرة، ليس في ميسوري الآن أن أجلوها لك، فقد اقترب موعد الصلاة، فاعذرني، ولكن أستطيع أن أبسطها لك، إن شئت بعد انتهاء الصلاة.
        ورمقني بنظرة رأفة، فيما كنت أنهض متوكئاً على عكازتي، مردداً: يا رب يا معين.
        وسألني عن اسمي، فقلت: عبد الرحمن، وأنت؟. فأجاب: سليمان.
        ومشى إلى جانبي، وصعدت عكازتي في الدرج، متباطئة- لا كمألوف عادتها، فهي، في الواقع، أخف من القرد في صعود الدرج والهبوط منها- ولما أفضينا إلى الجامع، حرصت على أن اتخذ مجلسي إلى جانبه، ووضعت عكازتي بحذائي، وصليت ركعتين، وأنا قاعد، فما أستطيع أن أقف للصلاة، بسبب محنة ساقي، وأطلت في السجود والابتهال، وعيناي لا تفارقانه وأصغيت إلى خطبة الجمعة، أو بدا علي أنني أصغي إليها، فقد كان رأسي مشغولاً بحوك خطة محكمة، احتال بها على الرجل فأسلبه ما لديه، فمنذ زمن بعيد لم يفتح الله علي، بقرش وهذا رجل، كما يبدو لي تاجر وافر الرزق، على أن خاطري الساهم الشارد في أفق الثروة المقبلة لم يكن يمنع فمي من ترديد استحسان لمقطع مؤثر من الخطبة فكان رأسي يتمايل ويتطوح ويهتز. لا تنس أن عينيَّ مثل عيني الصقر- كانتا معلقتين بجاري. كنت أسارقه النظر، لأستوثق من أن السمكة الغافلة ما تزال قريبة من الصنارة. وانتهت الصلاة لا أدري كيف- واصطنعت العجز عن الوقوف، فمد أخونا سليمان يده إلى إبطي، وساعدني على الوقوف وقلت له: -الله يجزيك الخير يا أخي، كان أحمد أفندي مثلك في النجدة واللهفة، حين حججنا معاً وزرنا قبر رسول الله، أين أنت يا أحمد أفندي، الله يحسن إليك ويمدك بالعافية، حيثما كنت. ولعله اشتهى أن يتعرف على أحمد أفندي- المقيم، في الواقع، في مخيلتي فسألني عنه، فيما كنا نسعى في فناء الجامع، فقلت: -إنه في حلب، أحسب أنه موظف بالبلدية، إنه يشبهك يا أخي شبهاً عجيباً.
        وجلسنا في المقهى وتحاشيت أن أخوض في حديث الزواج لئلا يذهب به الظن مذاهب في التأويل، وصفقت أنادي نادل المقهى، وتطلَّقت أسارير وجهه وسألني بصوت خفيض: ذكرت لي قبل الصلاة، أن لديك فكرة تريد أن تبسطها لي، إثر انتهاء الصلاة فما هي؟
        اقتربت السمكة من الصنارة. أليس كذلك يا حمود؟ قلت اسمع يا أخي، أعرف قريبة لي، هي فتاة يتيمة، في حيناً، تسكن عند خالتها، إنها ست بيت، فلفلة، ماهرة بالطبخ والخياطة- تعلمت الخياطة من أمها رحمها الله- وهي قسيمة وسيمة، مكتملة الخلق معتدلة القامة، أميل إلى الامتلاء. عمرها تسع عشرة سنة، لا، استغفر الله العظيم، عشرون سنة. ولكنها أقول الحق- لا تحمل سوى الشهادة الابتدائية السرتفيكا- فبعد أن مات والدها، لم تستطع إكمال تحصيلها، فسكنت لدى خالتها. إنها مقطوعة كما ترى.
        ولمحت عينيه تنضحان وميضاً غريباً متطلعاً وسأل: أهي جميلة حقاً؟
        فقلت: -بيضاء، ملتفة، وجهها مدور، تقول للقمر، ألا تغيب لأقعد بدلاً منك مقعد القاضي والمفتي والنقيب.
        واستضحك صاحبنا سليمان لتعليقي، كما تستضحك أنت يا عفريت، وفرك كفيه في جذل ظاهر وسألني:
        (يتبع)

        </i>

        تعليق

        • د. حسين علي محمد
          عضو أساسي
          • 14-10-2007
          • 867

          #5
          -أيتاح لي أن أراها، إذا أعجبتني خطبتها وتزوجتها بفضلك يا أخي.
          قلت: -طبعاً، ولكن أنصحك بأن ترى ابنة صديقك التاجر أولاً، ثم ترى هذه الفتاة اسمها جميلة، اسم على مسمى، -وتنتخب من تروق لك منهما.
          فقال:-إذا أعجبتني قريبتك فلا ضرورة لرؤية ابنة صديقي التاجر، لئلا يستاء مني إن عدلت عنها ولم تعجبني.
          قلت، وأنا أضرب على الوتر الحساس، وأتوقع الجواب: -كما تشاء، ولكن جميلة، لا تحمل سوى سرتفيكا.
          فأجاب: -يا أخي، لا أريد فتاة متعلمة أكثر مني، لئلا تتفلسف علي. هل أستطيع أن أراها اليوم؟
          قلت: -غداً إن شاء الله، فأنا مدعو، الليلة، إلى حفلة مولد.
          وآثرت أن أقول غداً، لئلاً يحسب أنني أتقد شوقاً إلى تزويج قريبتي، وأتعجل الخلاص منها.
          وقال: -أين يمكن أن أراك غداً؟ فقلت: أتعرف جامع الشيخ محي الدين؟
          قال: -أعرفه جيداً، صليت فيه مراراً. قلت: عجباً كيف لم ألمحك من قبل، في هذا الجامع، وأنا لا أكاد أفارقه، على أي حال في ميسوري أن أراك غداً، في جامع الشيخ محي الدين بن العربي قدس الله سره- ومسحت وجهي بباطن راحتي- بعد صلاة العشاء، ثم نتخذ أدراجنا إلى البيت، لترى جميلة، فإذا أعجبتك، قرأنا الفاتحة، لتكون جميلة زوجة وخادمة بالمطبخ.
          قال: -توكلنا على الله، السلام عليكم.
          وودعني ومضى، وبدا لي حين غاب عن ناظري، أن السمكة أحست بالخطر الكامن في الطعم المشتهى، فلاذت بالهرب، لا يا سيدي، كانت السمكة مغفلة مسكينة، ولعلك حزرت بأنني لم أذق طعم الرقاد، ليلتي تلك، وظللت ساهراً، مديراً في ذهني تفاصيل خطة محبوكة. وألهمتني ليلتي بخطة بارعة ستعرفها من سياق حديثي- وحرصت على المجيء مبكراً إلى الموعد المرتقب، بعد أن وضعت في جيبي سكيناً وحبلاً وصرة ملبس- شريتها بعد الظهر، وستعرف لماذا أحضرتها، فيما بعد. جئت مبكراً، ليراني وأنا أسجد مصلياً، خاشعاً، وكادت خطتي تفسد حين لمحني صديق من حارتي، فتقدم مني، وأنا أغمغم بالصلاة وأسجد وأنحني، ليتأكد من ملامحي، كأن اللعين لم يصدق بأنني أنا حرشو الحرامي يمكن أن أتوجه إلى الله مصلياً، تائباً، وهتف: -الله أكبر، أهذا أنت؟ حرشو؟ تصلي؟ تراك غسلت ذنوبك وتبت؟
          فلم أرد عليه، ونظرت إليه شزراً، واشتهيت أن أمسك عكازتي وأضربه على أم رأسه وأطرده قبل أن يأتي صاحبنا سليمان ويسمعه معلقاً على صلاتي، مستهزئاً بي، مستغرباً، ويكتشف من ثم، بأنني لص، ومرت فترة والملعون يدور حولي كالثعلب يدور حول دجاجة مكسورة الرجل- مبتسماً، ساخراً، مستظرفاً صلاتي وسجودي، وأنا مطرق، أصطنع الصلاة، وشفتاي تختلجان بتلاوة صامتة، وقلبي يقرع صدري، متوجساً، قلقاً، حتى رأيته، يقف غير بعيد، ليصلي، فتنفست الصعداء، وأقسم لك أن صلاته كانت فاسدة، فقد لمحت، وهو يتمتم صلاته، ابتسامة عريضة تزحم شفتيه، وتكاد تنقلب إلى ضحكة. لعل الابتسام قد غلبه فلم يصدق أن في وسع حرشو أن يتجه، ذات يوم إلى القبلة ليصلي. بلى رأيت ابتسامة تشبه ابتسامتك يا حمود يا خبيث، ولمحت صاحبنا الحلبي يقترب مني، ولم يشأ أن يلقي علي بتحيته، فقد رآني أنحني، ساجداً مشغولاً بالصلاة، وآثر أن يصلي قريباً مني، وكاد قلبي أن يثب من صدري فرحاً، ويخب، متدحرجاً على سجادة الجامع ليلثم وجه صاحبنا سليمان المنحني للسجود. لا تنس أن ثمة خطراً مهدداًَ كان يتوعدني، في تلك الابتسامة الماثلة، القريبة، الابتسامة الماكرة التي استنكرت توبتي ووقوفي للصلاة، ورأيت من الأنسب أن أعجل بالخروج من الجامع مع صاحبنا سليمان قبل أن يفرغ الآخر من صلاته فأنا أخشى أن يعود إلى تعليقه ومهزأته ويحسر عن وضعي- كلص متقاعد مبتور الساق ومحتال من الطراز الأول- أنت تبتسم وتهز رأسك، لا بأس. وسلَّم عليَّ سليمان وكان قد انتهى من صلاته- في بشاشة وقال له:
          -كيف كانت حفلة المولد، أمس، يا سيد عبد الرحمن؟
          وأقول لك الحق أنني نسيت اسمي المنتحل عبد الرحمن، فانتبهت له وابتسمت ابتسامة خاطفة متآمرة مع ذات نفسي، ولكني لم أنس ما زعمت له بأنني مدعو إلى حفلة مولد، فقد اشتريت بعد ظهر ذلك اليوم سكاكر من الملبس- من أشهى أنواع الملبس المحشو باللوز- ووضعتها ضمن صرة ورقية ملونة مما هو مألوف تقديمه في الموالد، فلما سمعته يسألني عن حفلة المولد، مددت يدي إلى جيبي، كمن تذكر شيئاً، وسحبت صرة الملبس وقلت له:
          -حرصت يا أخي على أن تشاركني في بركة المولد، فسمحت لنفسي بأن أستأذن صاحب الحفلة بأخذ حصة صديق عزيز من بركة المولد، فأعطاني هذه الصرة فهي لك، أرجو من الله أن نأكل مثلها في فرحة عرسك.
          وشاعت الغبطة في وجه صاحبنا وتناولها شاكراً ودسَّها في جيبه، وسألني:
          -أيكون البيت بعيداً؟
          قلت: بعض الشيء، بيد أن الطقس جميل، والسير يحلو معك، على رغم محنتي برجلي.
          وأقسم لك، أنني كدت أعدل، فيما نحن نسير، عن خطتي، فلم أر، عمري كله، رجلاً في مثل سذاجته وطيبته، وخامرني إحساس عنيف بالرأفة، وكدت ألوي عكازتي هذه، وانكفئ وأختلق عذراً ما، وأترك الرجل وشأنه، ولكن عكازتي اللعينة لم تشأ أن تنحرف. الذنب عليها، كانت قد جنحت لسبب لا أدريه، إلى الدرب المرسوم المختار في خطتي والمؤدي إلى المقبرة بلى في مثل هذا الوقت لا ترى أثراً للسابلة في المقابر، فما يحب الناس أن يمروا في العشيات بين القبور، واستشعر الرجل، حين أفضينا إلى المقبرة بعض الوحشة، ولعله الخوف، فسألني مرة أخرى بصوت تسري فيه الرعشة: ترى أيكون البيت بعيداً، لماذا نمر بين القبور يا أخي؟
          قلت: لا، البيت أضحى قريباً، وقد آثرت أن نمر من هنا، لنقرأ الفاتحة على قبري والدي جميلة، ليغمراها بالرضا والبركة قبل زواجها.
          فقال: هاه، حسن.
          وبدا أنه استراح، بعض الشيء إلى هذا التعليل, ولكن مشيته، وهو يسعى أمامي، كانت متزايلة مترددة. ووقفت، كانت الأنفاس تتلاحق في صدري وقلت له: هذا قبر أبي جميلة وهذا قبر أمها.
          وبدا لي أن الوقت المناسب قد أزف لأشد قصبة الصيد، وأجذب الصنارة، فقد اقتربت السمكة من الطعم ودغدغته بخطمها. وكان الرجل واقفاً على قيد خطوتين، حائراً يتوضح مكاني في العتمة، ويتلَّفت يمنة ويسرة، فلم يكد يبسط كفيه ليقرأ الفاتحة، حتى مددت، في خفة، عكازتي عصا الصنارة- إلى قدميه وجذبتها جذبة يسيرة، فانبطح الرجل وصرخ: ما هذا أعوذ بالله.
          قلت: لا تخف، هذا أنا.
          وانقضضت عليه ووضعت يدي على فمه لئلا يصرخ ويستغيث وسحبت السكين من جيبي وقلت له:
          -إن صرخت صرخة واحدة، ذبحتك، شف هذه السكين الماضية في يدي.
          واستسلم المسكين، مشدوهاً جزعاً، وأنا أوثق يديه إلى خلف، وأربط رجليه بحبل جلبته معي، وأحمد الله أن الظلمة سترت عني عينيه الذاهلتين المعاتبتين، لعلي كنت أفرج عنه وتأخذني الشفقة عليه لو أنني رأيتهما. واكتفى بأن يردد، بنبرة باكية، ملوعة، هاجت الدمع في عيني: أهكذا يا أخي عبد الرحمن، أهكذا؟
          وتذكرت اسمي المنتحل: عبد الرحمن، وضحكت، وجرفت ضحكتي إحساسي بالرأفة، ومددت يدي إلى جيوبه أبحث عن محفظته، وتذكرت الساعة المذهبة، فامتدت أناملي تتقرَّاها في نطاقه وتحسست، ثمة، شيئاً يشبه أن يكون صرة صغيرة، فسللتها، متلهفاً، وحللت عقدتها، فوسوست النقود وسوسة أشبه بنجوى العشاق، وتعرفت أطراف أناملي النقود. وجدتها ثقيلة، هذه ليست بفرنكات بل ليرات ذهبية، عرفتها من ثقلها وملمسها فقد نشلت وسرقت، ليرات كثيرة، من قبل، حتى ألفتها أناملي. وعاد أخونا إلى جملته التي تفتت الأكباد: -أهكذا يا أخي عبد الرحمن، أهكذا؟
          وطغت فرحتي بالليرات الذهبية، فمحت شعوري المرهف بالرأفة، وأذهلتني حتى عن الساعة الذهبية المنشودة وكنت عليها حريصاً، فلعلها من بركة الحج، وقلت له: -هس، اسكت، وإلا ذبحتك.
          وخشيت أن يصرخ بعد أن أتركه، وهاجمتني فكرة قتله والخلاص منه، ولكن جملته الحزينة المؤسية، ترددت بصوت خفيض معاتب: أهكذا يا أخي عبد الرحمن، أهكذا؟
          وبرق في ذهني خاطر، فأخرجت منديلاً واسعاً من جيبي، لأكمم به فمه، وتذكرت شيئاً لا تضحك- تذكرت صرة الملبس ومددت يدي إلى جيبه فأخرجتها وقلت: أعطيك صرة ملبس وتعطيني صرة الليرات، واحدة، بواحدة.
          وتناولت ملبسة ووضعتها في فمي. هم، ما أطيبها!، ثم تناولت ملبسة أخرى وقلت بلهجة آمرة: افتح فمك.
          وامتثل ففتح فمه، بحيث يسع لقمة كبيرة فيما أحسب- فقد تلمَّست يدي في العتمة، موضعه من وجهه ودسست فيه ملبسة، ثم كممته وأعدت صرة الملبس إلى جيبه وقلت له: سأتركها لك حتى تتذكرني بحلاوتها فهي من بركة المولد.
          وبينما كنت أكمم فمه ألفيت رأسه عارياً، لعل طربوشه هوى على الأرض في سقطته تلك، وبحثت عنه فوجدته قابعاً، مختبئاً بين قبرين، وتناولته ومسحت ما علق به من تراب بكمي ثم ركزته على رأس أخينا، خفت عليه من البرد والرشح، فلربما قضى ليلته تلك في المقبرة، وبرد الليل كما تعلم- مؤذ، ألا ترى يا حمود أنني طيب القلب ابن حلال؟
          فأجاب حمود: أي نعم. الله لا يعطيك عافية.
          وعدت مسرعاً، وكدت أقع وأتعثر فقد تصدى قبر لعكازتي وأزلقها فترنحت ولكنني تماسكت وهرولت، في خفة الغزال، والعكازة تتراقص في العتمة: طراك، طراك، ومضيت إلى بيتي وهو قريب من المقبرة، وشعرت، فيما كنت أدير المفتاح في القفل بأن لساني يدير اللوزة المتبقية من الملبسة الذائبة في فمي. كانت أشهى لوزة ذقتها، عمري كله، وعلى ضوء قنديل شحيح النور عددت الليرات فإذا هي خمس وعشرون ليرة ذهبية رشادية وإحدى وعشرون ليرة إنكليزية أم حصان، وجعلت ألمسها، أداعبها، ألثمها، فلما أويت إلى الفراش، وضعت الصرة تحت وسادتي واستسلمت إلى نوم عميق، لا أدري كيف، وأقسم لك أن تلك الجملة الحزينة اللعينة تبعتني إلى النوم، فقد رأيت في حلمي أخانا سليمان ينظر إليَّ معاتباً ويغمغم جملته: أهكذا يا أخي عبد الرحمن، أهكذا؟ وبكيت في الحلم، أي والله، ونثرت الليرات أمامي وجعلت ألهو بها كطفل، فحذفت وسوستها بقايا رغبة عارمة في البكاء، وكذلك تنتهي قصتي، وبقيتها معروفة فقد عثر على الرجل موثقاً مكمماً، وهو يئن، فجلا لرجال الشرطة أوصافي. بحث عني في كل مكان. سجلي حافل، ولا فخر، فليس هناك من يقوم بمثل هذه السرقة سوى حرشو مبتور الساق عاثر الحظ. اختبأت ثلاثة أيام لدى صديق ثم فضحتني هذه اللعينة- وهز عكازته- أوسعوني ضرباً حتى أقررت وأعيدت الليرات إلى صاحبها، هكذا جئت إلى هنا، آه لو لم تكن ساقي مقطوعة لما كان في ميسور أحد أن يقبض علي ولكن هذه العكازة بنت الكلب وشت بي، تعالي معي يا عكازتي اللعينة، تفوه عليك، انتهت فرصة التنفس يا رب يا معين، طراك، طراك، طراك.
          1كانت نقابة المحامين بدمشق، قد أوكلت إلي، في بدء عهدي بالمحاماة، منذ ربع قرن، الدفاع عن حرشو هذا فقصته التي يرويها لزميله السجين حقيقية لم أضف إليها سوى ما يقتضيه الفن القصصي من وشي وتزويق. "ب. ح."
          ......................
          *المصدر: مجلة "الموقف الأدبي" (دمشق) - العدد 7 تشرين الثاني "أكتوبر" 1971م.

          تعليق

          • د. حسين علي محمد
            عضو أساسي
            • 14-10-2007
            • 867

            #6
            في حوار مع الروائي والأديب الراحل الدكتور بديع حقي:
            أغمس ريشتي بحنايا القلب مستجلياً الواقع بكل ألوانه

            حوار: طلعت سقيرق
            ..................

            رحل الروائي والمبدع العربي الكبير الدكتور بديع حقي يوم الأحد 23 كانون الثاني العام 2000 في مشفى دار الشفاء بدمشق بعد معاناة مع المرض دامت سنوات... وكان بديع حقي من هؤلاء الأدباء المسكونين بالعطاء والجمال والإبداع، يكتبون فلا يعرفون إلا الاستمرار الذي لا يسمح بالتراخي، فالكتابة عندهم رسالة وفعل حياة... ومن يقرأ أعمال بديع حقي في الرواية والقصة والدراسة والترجمة، يعرف إلى أي مدى كان هذا الإنسان مسكوناً بالإبداع... وربما من حسن حظي أن كنت قريباً كل القرب من هذا الإنسان المسكون بالحب والدفء والجمال.. كنت قريباً إلى الحد الذي جعلني أعرف الكثير عنه وعن حياته وأسلوبه في الكتابة.. وفي هذا الحوار، لن أدعي أنه الحوار الأخير، لأنني لا أعرف إن كان الأخير أو لم يكن، لكنني أستطيع القول إنه يُنشر للمرة الأولى، وأنه كما قال لي الدكتور بديع حقي حوى الكثير من الأشياء التي لم يقلها من قبل في حوار..
            * دكتور بديع لنبدأ من نقطة أولى تتحدث عن الميلاد.. ثم العوامل أو الدوافع التي جعلتك تسير في طريق الإبداع؟؟
            ** ولدت في دمشق في 26 حزيران 1920. كما جاء في دفتر سجّل فيه والدي تاريخ ميلادي. وإن يكن آثر ـ رحمه الله ـ أن يسجلني بدائرة الأحوال المدنية بحمورية، على أنني ولدت عام 1922 ـ ليتاح لي ـ فيما أحسب ـ أن أخدم كموظف سنتين زيادة حين أبلغ الستين. وهذا ما تم فعلاً..
            ليس من ميسوري تحديد العوامل التي حملتني على السير في طريق الإبداع. لقد بدأت هذه العوامل أمنية صغيرة، صغيرة. فيما كنت أطالع في ريق صباي بعض روائع الإبداع في الأدب "عربياً كان أم أجنبياً" كنت أتساءل: أيكون في مقدوري أن أنظم في المستقبل مثل هذه القصيدة أو أؤلف مثل هذه القصة أو الرواية. هذا التساؤل هو البذرة الصغيرة التي نثرتها خلال قراءاتي الجمة. النهمة. على أرض نفسي لتنجم نبتة متواضعة ـ أمنية صغيرة، ثم ربت ونمت وترعرعت حتى غدت طموحاً.
            * ينقلني هذا مباشرة للتساؤل عن بديع حقي والحالة الإبداعية.. عن توهج الذات الإبداعية وارتباط ذلك بالزمن؟؟
            ** لا أستطيع أن أحدد الزمان الذي تتوهج فيه ذاتي وتتهيأ للإبداع. ويتفق لي أحياناً أن أسمع لحناً عابراً أو أغنية حلوة، لتثير حوافز الإبداع لديَّ ـ كما اتفق لي ذات مرة حين سمعت ـ قبل أكثر من اثنين وخمسين عاماً لحن البوليرو لرافيل. في دار الصديق صميم الشريف, وشعرت بهذا الوهج الذي يسبق العمل الإبداعي أو يواكبه. وفي ركن منزوٍ من غرفة صديقي صميم نظمت قصيدة "لحن البوليرو" التي أعدها من أجمل قصائدي ويترفق مطلعها على هذا النحو:
            يا نديمي هلك اللحن وماتت كل آهْ
            هاتِ من روحك ما يبث في الناي الحياهْ
            من نداء الغاب مرَّ النسم فيه ثم تاهْ
            من حنين الدوح هلَّتْ في أعاليه صلاهْ
            وكما اتفق لي أيضاً ـ على نحو ما جلوت في كتابي: "جمرة الحرف وخمرة النغم" تحت عنوان "على جناح نغم عابر" ص205 بعد أن صافح سمعي في خريف عام 1946 بغابة بولونيا، بباريس، لحن: "إلى اليز" الذي وضعه عملاق الموسيقا: بيتهوفن. فشعرت والنشوة تملأ عطفي، بوهج الإبداع، يملي عليَّ قصيدة "خريف غابة بولونيا" التي ضمها ديواني "سِحرْ". وتعد هذه القصيدة من بواكير الشعر الحر وإرهاصاته ـ كما نوهت بذلك الشاعرة العربية نازك الملائكة. بكتابها: "قضايا الشعر المعاصر".
            ويترفق مطلعها على النحو التالي:
            أي نسمهْ
            حلوة الخفق، عليلهْ
            تمسح الأوراق في لين ورحمهْ
            تهرق الرعشة في طيات نغمهْ
            وأنا في الغاب أبكي
            أملاً ضاع وحلماً ومواعيد ظليلهْ
            وقد ضمها أيضاً كتابي: "جمرة الحرف وخمرة النغم" تحت العنوان المنوه عنه. ولا ينفسح لي، على الجملة، وقت محدد، تتوامض فيه جمرة الإبداع ووهجه. غير أنني أوثر في العادة أن أخلو إلى نفسي، بعد شرب القهوة. عند منبلج الفجر.
            أما حين يهاجمني شيطان الإبداع ليلاً. فإن ليلتي تغدو بيضاء، لأسوِّد صفحاتٍ شتى. أوردها كما واتتني. لأنكفئ إليها فيما بعد وأصقلها مشذباً محككاً، مستبدلاً بلفظ، لفظاً أحلى وأوفى دلالة. وتنساق جملها، في قالب الأسلوب الذي ارتضيته وعرفت.
            ويتفق لي أحياناً، أن أسمع جملة، أو كلمة مؤثرة. تنساق إلى شغاف قلبي وتنفض كوامن شجنه وأساه. مستعيراً هذه الكلمة المؤثرة الموحية. لأنوطها ببوح بكل قصتي أو روايتي لاهجاً بها، مردداً إياها.
            أذكر هنا على سبيل المثال: أنني سمعت ابني الصغير عماد، يقول لي فيما كنت أودعه في المطار لأستقل الطائرة المسافرة إلى الجزائر، ملتحقاً بعملي: "بخاطرك يا بابا، يا حبيبي يا بابا" فقد انثالت كلمته العذبة "عفواً" إلى سمعي. وهاجت الدمع في عيني. وحملتني على أن أستعير كلمته النديّة، لأوشي بها كلمة "زينب" ابنة بطل روايتي "جفون تسحق الصور" فيما كانت تودع أباها المريض، لتتردد، مهيمنة، في رأسه، مانحة الرواية، بعداً مشحوناً بالأسى واللوعة. ومترقرقاً في نغمةٍ أسيانةٍ شجية، كما لو أنها جملة موسيقية. تترفق في ثنايا سوناتا أو سمفونية، مما يتفق مع منهجي الذي فزعت إليه، بمحاولتي موسقة الرواية.
            * تعرف أن الأديب يقف من عمله المنجز موقفاً قد يكون غريباً.. ماذا عنك بعد أن تضع النقطة الأخيرة في عمل ما؟؟
            ** أشعر بغبطة عارمةٍ تملأ نفسي حتى لأحسب أنني ملكت الدنيا بأسرها. ثم يبدأ القلق يتسلل إليها، حين اكتشف خللاً يسيراً. هنا أو هناك، في سياق القصة أو الرواية، وأحاول بهذا القلق المبدع، المتصل الذي يحكُّ في صدري أن أصلح ما يتراءى لي ناقصاً، غير مكتملٍ. وأكتب القصة أو الرواية من جديد. مثنى وثلاث حتى أضيق أخيراً بما أنجزت. ليكون طبع الكتاب خاتمة لمحاولاتي الدائبة المتكررة ومع هذا فكثيراً ما أردد في حسرة صادقة، ليتني كتبت هذا المشهد من القصة أو الرواية ـ بعد طبعها ـ على نسق أحسن وأوفى وأكمل، فكأنني أردد ما أورده "العماد الأصفهاني" في هذا الصدد بقوله:
            "إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده، لو غيَّر هذا لكان أحسن ولو زيد كذا، لكان يستحسن. ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل. وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر".
            وقد أشرت في مقدمة روايتي "همسات العكازة المسكينة". "إلى أنني أعدت كتابتها ثلاث مرات. وكنت في كل مرةٍ أنتهي منها أجدني غير راض عنها، وهو قلق يجاذبني في أكثر ما كتبت ونشرت. وقد دفعت بها إلى الطبع وفي نفسي شيء يغريني بالتمهل، لأضيف إليها أو أحذف منها أو أبدل فيها. ولكني خشيت أن يتراخى هذا القلق إلى اليأس. ولم يبق من العمر سوى الربع الأخير. فأسلمتها إلى القارئ وفي القلب إليها نزوع وتطلع وحسرة".
            * يتحدثون كثيراً عن المكان وأثره على الكتابة.. قد يختار كل كاتب مكاناً معيناً يكتب فيه.. هل لك موقف أو شيء خاص بالنسبة للمكان؟؟
            ** كتبت معظم أعمالي الإبداعية في بلودان حيث أتخذ مجلسي في شرفة مطلة على سهل الزبداني تاركاً نظراتي تنسرح إلى المدى البعيد. البعيد. ومع هذا فقد نظمت بعض قصائدي وكتبت بعض قصصي في أوربا وغينيا "برن وباريس، وكوناكري بخاصة" وأشرت إلى ذلك في كتابي "جمرة الحرف وخمرة النغم". تحت عنوان: الغول البيضاء ص"147". بشكل مفصل حول الزمان والمكان اللذين أوثر أن أمارس فيهما عملي الإبداعي.
            * رغم أن الجواب ناقص إلى حد ما، لكن دعنا ننتقل إلى العمل الأثير لديك وأنت صاحب المؤلفات الكثيرة المتعددة في أي عمل تجد شيئاً من صورتك؟؟
            ** أرى صورتي في كتابي "الشجرة التي غرستها أمي" على حقيقتها من دون أي تزيُّد أو تشويه أو تزويق. وأعد هذا الكتاب المجلى الواضح لشخصيتي منذ بدء نموها ونضجها حتى استمسكت على النحو الذي عرفت به الآن.
            ويعود الفضل في ذلك كله إلى أمي رحمها الله، فقد كانت تربيتها لي مزيجاًَ من القسوة والعطف والحنان.
            وعلى الرغم من أنها كانت أمية، إلا أنها كانت تدرك بفطرتها السليمة واستقامتها، ما يحسن أن أقوم به أو أتجنبه من الأعمال المناسبة أو المنافية، وقد سُقت في هذا الكتاب أمثلة ذات دلالة.
            وظلت أمي النبع الثرَّ الذي أمدني بأعمق المشاعر التي سقت طرفاً منها وجلوتها في جلّ قصصي ورواياتي.
            وفي مقال غمز أوتار قلبي كتبه صديق العمر عبد السلام العجيلي يقول فيه: "لقد غرست أم بديع شجرتين، شجرة نارنج عرفتها في الأيام الفائتة وتفيأت ظلّها ومتعتُ نظري بخضرة أوراقها. والشجرة الثانية هي بديع نفسه الذي غرسته أمه في أرض الوطن، في حديقة الأدب وروضة الفن من هذا الوطن".
            (يتبع)

            تعليق

            • د. حسين علي محمد
              عضو أساسي
              • 14-10-2007
              • 867

              #7
              * هذا الكتاب ترى فيه صورتك.. فما هو الكتاب الذي تعتبره ذروة أعمالك.. هل تجد كتاباً واحداً يمكن أن يعطيك هذا الشعور؟؟
              ** أجل أعتبر رواية "همسات العكازة المسكينة" ذروة أعمالي الأدبية. إذ تأتلف فيها، على نحو ظاهر واضح همسات العكازة ونجواها مع خلجات قلبي ودقاته، انسياقاً مع منهجي الذي طمحت إليه في موسقة الرواية. لتبدو، كما لو أنها سمفونية رحبة، تهيم في ثناياها همسات العكازة الخفيضة كأنها جملة موسيقية، منسربة تغيب ثم تؤوب/ مترددة، مترفقة، مستأنية، لتنفض بحركتها المتواترة وهمساتها، خفايا الأعماق، متممة بنقلاتها الشعرية وصورها، بعض ما يغمغم به اللاشعور. كما أفضت في الحديث عنه بمقدمة الرواية. وقد جعلت هذه العكازة تبوح بنجواها وحديثها الخفي. آخذاً بمبدأ التشخيص وأنسنة الأشياء الجامدة، لتنوب عن بطل الرواية، حين يعجز هو عن الإفصاح عما يدور في أعماقه من مشاعر وأحاسيس. فكأنها ظله أو صداه.
              كل هذا مع التزامي بتصوير الواقع المرير، من دون أن أعتمد على عدسة تنقله. فوتوغرافياً، أمام بصر القارئ، بل على ريشةٍ "معربدةٍ" أغمسها في حنايا القلب، مستجلياً الواقع ملوناً بخفقات هذا القلب.
              أما في القصة فإن قصة "حين تتمزق الظلال" هي برأيي أجمل قصة وأدناها من الكمال الذي أنشد. ولا أخفي أنني نسجت خيوطها من الواقع، بعد أن روت لي فلك ابنة أخي رفقي، وشقيقة ابن أخي نهاد قلعي ـ رحمهم الله ـ قصة الزبال الذي حسب أنها ابنتها الصغيرة، هي خادمة فجعل يزلق كل يوم صورة فوتوغرافية له، تحت الباب لعلها أن تحبوه بنظرة عطف، وترق له، فلما مزقت صورته الأخيرة، ورمت بها إلى القمامة ولمح جذاذاتها المتناثرة شعر بأن شيئاً ما يتمزق في حنايا قلبه.
              وقد أضفت إلى ما روته لي ابنة أخي قصة عثور هذا الزبال على سوار ذهبي أعاده في فرحة تياهة ساذجة.
              إن الزبالة هي أحقر ما نستغني عنه ونرمي به، في القمامة، ولكننا قد نعثر مصادفة على شيء ثمين، يتلامح ويتألق ضمنها ـ كسوار أو خاتم ـ كما نعثر في الوقت نفسه على كنز عاطفي في صدر الإنسان. هو هذا القلب المتوهج بالحب. ههنا يجاذب الرمز الواقع ويعانقه ويلامحه.
              واذكر أن رائد القصة العربية الأستاذ محمود تيمور كتب إليَّ مهنئاً إثر قراءته القصة منشورة في مجلة "العربي" الكويتية ـ وكان بيننا مراسلات ـ علماً بأن هذه القصة قد نقلت إلى الإيطالية، بقلم مستشرقة إيطالية، بطلب عن طريق الصديق الدكتور عبد الرحمن منيف.
              * طبعاً جزء كبير من هذا الحب ينسحب على أعمالك الأخرى؟؟
              ** أحب كلّ ما كتبت حتى ولو ألفيت مع تقدم العمر والنضج أن فيه شيئاً يحسن أن تعاد كتابته. فإن كل آثاري الشعرية والقصصية والروائية والنقدية هي فلذات منتزعة من روحي، هي بنات فكري وقلبي. وهي إلى ذلك، منوطة بفترات ومناسبات من حياتي. أستعيدها، إما طاب لي أن أقرأها من جديد.
              * قد يبدو السؤال في غير محله، لكن لنقل عن مدى تأثرك بكتابات الآخرين؟؟
              ** تأثر شعري بجل الشعراء الرمزيين الفرنسيين العظام "بودلير ـ رامبو ـ مالارميه ـ فاليري". وأحب من بين الشعراء العرب القدامى: ابن الرومي والبحتري وأبو تمام، ومن بين الشعراء المعاصرين: عمر أبو ريشة، والأخطل الصغير، وأمين نخلة، وبعض قصائد بدر شاكر السياب، ونزار قباني وسعيد عقل.
              أما في القصة والرواية، فيتوزع تأثري بين دستويفسكي وتشيخوف وفوكنر وبروست وجويس "لاسيما في الحوار الداخلي بروايته أوليس".
              كما تأثرت إلى حد ما، ببعض أقطاب الرواية الجديدة "روب غريية وكلودسيمون" في حرصهم على إيراد التفاصيل الدقيقة للأشياء وإن كنت أنأى عنهم بمحاولتي إيراد هذه التفاصيل ممزوجاً بدفء الأعماق.
              * النقد عند عدد كبير من المبدعين غير موجود في هذا الزمن.. طبعاً هذه مبالغات غير صحيحة.. ما موقفك أنت من النقد، وكيف تعامل مع أدبك؟؟
              ** يخيل إلي أن قلة من النقاد ـ أذكر منهم الدكتور إبراهيم الكيلاني والدكتور حسام الخطيب والدكتور سمر روحي الفيصل ـ استطاعت أن تنفذ إلى أدبي وأن تحلله وتقومه على أفضل وجه.
              وأسجل هنا، ما كان أورده النقاد الدكتور سمر روحي الفيصل، في العدد الخاص بأدبي في الأسبوع الأدبي. العدد 313 في 21/5/1992. بقوله "لابد من الاعتراف بتقصير الباحثين والنقاد في تسليط الضوء على إسهامات هذا الرائد "يعني بديع حقي" في الأدب العربي الحديث.
              وقد أشرت في الحفل الذي أقيم تكريماً لأدبي في مكتبة الأسد: إلى "أنني أشعر أحياناً بالقنوط والإحباط، ويمثل في وهمي أن كل ما ألفت لم يكن إلا عبثاً وسراباً ويجاذبني آنئذ ما كان جاذب أبا حيان التوحيدي من خيبة ومرارة. حين دفع كل ما تبقى لديه من مؤلفات إلى النار. ضناً بها على من لا يعرف قدرها وقيمتها في زمانه".
              * هل استفدت في إغناء إبداعك مما كتب من النقد عن أعمالك؟؟
              ** أفدت الشيء الكثير مما نشره الدكتور حسام الخطيب، لاسيما دراسته الشائقة الممتازة عن روايتي "همسات العكازة المسكينة" حين طلب إلي في العدد نفسه الذي نشر فيه دراسته من "الموقف الأدبي". أن أورد رأيي وملاحظاتي عليها، لنتفرد معاً، في سياق تعاون المبدع والناقد في تقويم أثر أدبي ما.
              وقد أفدت من دراسته أنها تناولت جانباً خفياً من إبداعي "لعلي نفضته على نحو لا شعوري" فدلني بحسه السليم الناقد، المتذوق، عليه.
              كما أن دراسة الدكتور إبراهيم الكيلاني لسيرتي الذاتية بكتابي "الشجرة التي غرستها أمي" قد هدتني إلى تحليل دقيق لشخصيتي الإنسانية. فإن بعض عيوبي وسجاياي تطل خفية متوارية، مجهولة مني أخذاً بالمقولة المعروفة "شدة القرب حجاب" علماً بأن بعض الزملاء من الكتاب المبدعين، ممن لم يمارسوا النقد الأدبي، إلا عرضاً، كتبوا عن أدبي بكثير من المودة والإعجاب والمحبة أذكر منهم الدكتور عبد السلام العجيلي والدكتور محمود موعد، والأستاذ فاضل السباعي.
              * أريد أن أبقى في حيز النقد، برأيك إلى أين وصل النقد العربي في الوقت الراهن؟؟
              ** لابد لي أن أجلو هنا إعجابي وتقديري، بحركة النقد في العصر الحديث منوهاً بمؤلفات الدكتور حسام الخطيب والدكتور نعيم اليافي. والدكتور سمر روحي الفيصل. والدكتورة يمنى العيد، وغيرهم، ومع ذلك تظل إسهامات بعض الكتاب النقاد قاصرة عن الإحاطة الوافية بكل ما ينشره المبدعون في الوطن العربي.
              وقد أفصح لي ذات مرة الصديق د. نعيم اليافي عن إعجابه بأدبي، ومع ذلك فلم يتسق له أن يكتب كلمة واحدة ـ ولو أتت مختصرة ـ عن أدبي على الرغم من تطلعي إلى معرفة تقويمه العميق له "من دون أن ألح عليه، في إبداء رأيه بهذا الأثر الأدبي أو ذاك من آثاري الأدبية".
              * سكنك الإبداع من قصة ورواية.. هل هناك ميل إلى كتابات أخرى؟؟
              ** أميل إلى الدراسات الأدبية، وأكتب في هذا المجال، تلبية لطلب صديق أديب، كما فعلت في الدراسات الأدبية التي نشرتها في مجلة "العربي" بالكويت، بناء على طلب رئيس تحريرها الدكتور أحمد زكي رحمه الله. وقد ضمن بعضها: كتابي "قمم في الأدب العالمي" أو تلبية لطلب مؤسسة علمية أو أدبية "كالموسوعة العربية". وقد ضم بعضها كتابي "مذاهب وأعلام في الأدب العالمي" وشجعني على طبعها ونشرها الصديق الدكتور عبد النبي اصطيف لما حوت من معلومات تفيد أساتذة الجامعة وطلبتها، بيد أنني أعترف أنني لا أملك منهجاً محدداً في النقد، من بين المناهج الذائعة المعروفة "كاللسانيات" وأعتمد على ذائقتي الأدبية في تقويم الإنتاج الأدبي لأي مبدع.. ثمة مجال، أدبي أحببته كثيراً، هو مجال الترجمة.
              فقد قمت بنقل روائع طاغور في الشعر والمسرح إلى العربية. ولعل اعتزازي بما نقلت يعدل اعتزازي بما ألفت وأبدعت في مجال القصة والرواية والدراسة، كما نقلت روايتين عن الروسية، لغوغول، ونقلت رواية "ولا تزال الشمس تشرق" لهمنغواي، وديوان "قصائد مناضلة" لأحمد سيكوتوري.
              * ما هي الخطط المستقبلية إبداعياً؟
              ** تجاذب نفسي، خطط شتى لكتابة قصص أو روايات، تختمر موضوعاتها في ذهني مغرية، متلامحة، وأنتظر الشرارة الأولى لأشرع بكتابتها. ويثنيني المرض "في قلبي، وقرحة معدتي" في أغلب الأحيان عن بذل الجهد اللازم لأعكف على الكتابة. ثم أنني استشرفت الثمانين، ولم أعد أتمتع بحميا الشباب واندفاعه. ولم يبق لي سوى الثمن الأخير من العمر، ومع هذا كله، أظل أتمنى ما تمناه "اندرو موروا" ـ كما ذكرت ذات مرة ـ أن يفاجئني الموت بين نقطة وفاصلة من جملة أكتبها في رواية أو قصة أو دارسة.
              * هل حققت طموحك؟ جزءاً منه، أم أن هناك الكثير تأمل في تحقيقه؟
              ** لا، لم يصل إبداعي إلى الناس، بل إلى النخبة منهم، ممن يتذوقون سحر الكلمة وجمالها وموسيقاها، على النحو الذي أفضت في الحديث عنه، بكتابي "جمرة الحرف وخمرة النغم" ومع ذلك أشعر أن دائرة متذوقي أدبي بدأت تتسع. يوماً بعد يوم. كما تشي بذلك مبيعات مؤلفاتي في المكتبات وإقبال الجمهور على حضور محاضراتي ـ على قلتها ـ معترفاً إلى هذا بغلبة الحزن الدفين على جل ما أكتب، حتى ليظن الكثيرون بأنني متشائم بالفطرة. فإن الجمهور نزَّاع بطبعه إلى المؤلفات التي تسليه وتهب له الابتسام والضحك، فهو ينأى إلى حد ما، عن كل الموضوعات التي تهصر قلبه وتسربله بالحزن والكآبة.
              أضف إلى ذلك أن أدبي يجانف تصوير الشبق والغلمة ـ ولعل تربية أمي الصارمة هي التي نأت بقلمي عن الأدب الذي يدغدغ الشهوة ويثيرها. وديواني "سحر" مترع بالصور الجمالية فحسب، ولن يجد القارئ فيه وصفاً للشهوة المغتلمة. الجامة. الهلوك، وموضوعات قصصي ورواياتي تنأى بقلمي أن يتطامن إلى درك الدنس والأهواء الجامحة التي تجتذب على الجملة بعض المراهقين المولعين بهذا اللون المغري المثير من الأدب.
              * كأنك أجبت عن سؤالي.. لكن أحب أن أقول بصورة أخرى كيف تنظر إلى أدبك بعد كل هذه السنوات من العطاء الرائع الجميل؟؟
              ** أقف معترفاً بعجزي عن بلوغ ما كنت أتمناه وأهفو إليه، فقد ذهب بي طموح شبابي، كما ذكرت في حفل تكريمي إلى التمني بأن أضحى أنا النحلة الصغيرة المشغوفة برحيق الزهر. أن أضحى ملكة من ملكات النحل المرموقة، وأن أحتل من خليتها الأدبية ما احتله عمالقة الأدب من مكان سام رفيع، ولكن هيهات، هيهات، لقد انتسخت كل الأماني وتلاشت ولم تستطع هذه النحلة الصغيرة: بديع حقي، أن تمنح سوى اليسير من الشهد.
              لا، لم أستطع ـ وا أسفاه ـ أن أكتشف في رحلتي الروائية، سوى جزر تافهةٍ، تائهةٍ، في الخضم الرحب من الإبداع الحقيقي الجدير بالخلود.
              لم يتسنَّ لي أن أكتشف قارة، مثلما دستويفسكي، في أوقيانوس النفس الإنسانية، قارةً بل قارات. وأقنع مع هذا بأن أردد، ما كان أفضى به إليَّ، ذات مرة، صديقي فؤاد الشائب رحمه الله: لسنا يا بديع سوى جسورٍ مفضيةٍ إلى الأدب الخالد.
              فلأقنع نفسي إذن بأنني جسر صغير، صغير من هذه الجسور.
              * هل تنظر إلى بديع حقي المبدع بعين الرضا بعد كل ما أعطى.. ليتنا نبتعد قليلاً عن شحنة الألم التي ملأت إجابتك السابقة؟؟
              ** بلى، انظر إلى ذاتي بكثير من الرضا والتفاؤل ـ على الرغم من المواجع التي كانت تواجهني ـ وما تزال. وعلى الرغم من التمزق الذي أراه وألمسه في مجتمعنا العربي، وتفككه، وانحسار مثله العليا، وغلبة الأثرة والطمع والخيانة وطلب المال.
              حسبي من كل هذا، وعلى الرغم من كل هذا، أنني قلت كلماتي، المعذبة، اللاهفة وعبرت عما يعتلج في القلب. ببراءة تماثل براءة الأطفال. حسبي أنني وضعت اصبعي على الجرح وحركته. آملاً بالتغيير المرتجى ككاتب ملتزم بقضية فلسطين التي نذرت لها قلمي. ورويتها بدموعي. ومع ذلك فإن نفحة من الحزن لا تني تناسم قلبي، لأن دموعي لم تفتأ بعد رغبتي العارمة في المزيد من التفجع والبكاء.
              * هل تضع خارطة لعملك الإبداعي، قبل أن تبدأ، أم ماذا؟
              ** أضع في العادة، خارطة لعملي الإبداعي، لاسيما في مجال الرواية. وكثيراً ما تكون نهاية الرواية، ماثلة في خاطري، حتى قبل أن أشرع بكتابتها.
              وأشعر، حين أمضي بكتابتي، بأن نغمة، مثيرة شائقة، تجدد كلماتي وتسوقها. لتصبَّ في منحدرها المنتظر، مثلما تلتئم الجداول، وتنتظم نهراً لجياً، يفضي إلى البحر. لعل هذا يفسر، على نحو ما، منهجي في موسقة الرواية. حين تهيم نغمة من هنا، ونغمة من ههنا، ونغمة من هناك لتتساوق كلها معاً، مؤتفلة، متناغمة، متجاذبة.
              وكما ذكرت آنفاً، فإنني أعمد بعد هذا، إلى الصقل والتشذيب والتحكيك، لأحذف كلّ الشوائب التي يمكن أن تلحق بعملي الإبداعي، في مسيرته الدائبة، المتصلة.
              وقد يتفق لي أن أصادف في رحلتي الإبداعية. نهاية جديدة، غير متوقعة أوثرها على النهاية المرتقبة التي كنت رسمتها من قبل.
              كل هذا موكول بالإلهام الذي قد يفسح لي فجأة أفقاً جديداً، مغرياً، أفزع إليه.
              * ليتك تقدم صورتك واضحة عن حالتك أثناء عملية الإبداع، إضافة إلى الحالة النفسية، المواد المستعملة، وسوى ذلك؟
              ** حين أفزع إلى الكتابة، ألفي نفسي مستغرقاً في عملي الإبداعي، على نحو لا أرى فيه سوى الأسطر التي تمتلئ بالسواد. والبياض. بياض الورق الذي يلتهمه قلمي شيئاً، فشيئاً، ولا أسمع سوى الهمس الداخلي الذي يملي علي كلماتي. وقد يتفق أن يتردد صوت ما ـ رنين الهاتف مثلاً ـ فلا اسمعه البتة. وكثيراً ما تناديني زوجتي، لأمر مستعجل، طارئ، فلا أسمع صوتها. وإن تكن تهيئ لي، في العادة، الجو الهادئ المناسب، حين تراني مستغرقاً بالكتابة.
              وأشعر أحياناً بأن العرق ينضح من وجهي، إما استغرقت بعملي كما لو أن الحمى قد استبدت بأوصالي.
              أدوات الكتابة التي أوثرها هي قلم الرصاص والورق الأبيض المليس "يرجى الرجوع إلى مقالي" الغول البيضاء.. من كتابي: جمرة الحرف وخمرة النغم".
              أوثر قلم الرصاص في الكتابة، لأنه يتيح لي أن أحكك وأمحو بعض الكلمات التي لم ترض عنها أذناي، وأستبدل بها كلماتٍ أجمل وأوفى دلالة.
              ........................
              جريدة الاسبوع الادبي العدد 886 تاريخ 13/12/2003م



              </I>

              تعليق

              • د. حسين علي محمد
                عضو أساسي
                • 14-10-2007
                • 867

                #8
                بُول فاليري والشعر الصافي

                بقلم: د. بديع حقي
                ................

                كنت أتمنى حين مضيت إلى باريس في ربيع عام 1946، ملتحقاً بعملي ومتابعاً دراستي لو أن الشاعر الفرنسي العظيم (بول فاليري) كان حياً، فلعلي أن أحظى أنا الذي فتنت بقصائده الرمزية وتأثرت به في بداية عهدي بالشعر- بلقاء أسعد فيه بسماع صوته، وأدخل خاشعاً، متبتلاً هيكل إلهامه، ولكن فاليري كان قد توفي منذ أكثر من تسعة أشهر، وجعلت، آنذاك، أحفظ كل يوم، أبياتاً من قصائد ديوانه (فتون) وأتنفس ألهث، أعيش، موسيقا كلماتها السحرية الندية.
                وكنت أعلم أنه قد سجي جثمانه، في قصر (شايو)، ليشيع منه باحتفال رسمي، كأحد عظماء فرنسا، ثم يدفن في المقبرة البحرية، في مدينة (سيت) التي ولد فيها.
                فلما زرت هذا القصر، صافحت نظراتي، كلمات لفاليري منقوشة، على طنف داخل القصر ما تزال حروفها، تهينم، حتى الآن، في ذاكرتي:
                (كل إنسان يبدع، كما يتنفس دون أن يدري أنه يبدع، ولكن الفنان يشعر، وحده، بإبداعه، لأن أثره الفني الذي خلقه، يستبد بكيانه كله، وضناه الحبيب يمده بالقوة).
                وجاذبتني حسرة إن لم أكن بين تلاميذه، الذين سهروا، في قصر (شايو) حول تابوته، حتى الصباح، أحمل مشعلاً صغيراً، يغيب بين مشاعلهم المضيئة، فلما عدت إلى وطني، وأصدرت ديواني (سحر) الذي نشرته مجلة الأديب اللبنانية عام 1953، لم أجد أحلى من عنوان (سحر) يتوج ديواني، ليتناغم معناه مع معنى ديوان فاليري: (فتون)، بعد أن ظل قلبي منوطاً بنبضات قلبه وكلماته، وأهدابي معلقة بظلال شعره وتهاويله. وما تزال قصائده تناسم ذاكرتي، حتى الآن، أفيء إليها، وأترنم بها، بين الحين والحين، وأتمثل فاليري، كما لو أنه حي، تهزج كلماته الطلية الشجية في مسمعي.
                ***
                أرأيت إليه، يستيقظ، عند منبلج الفجر، وأفراد أسرته ما يزالون مستغرقين في النوم، وصبغة الليل ما تزال متشبثة بلونها الغميس بالصمت الأسود، فيعمد إلى قهوته، يعدها بنفسه، ثم ينحو إلى مكتبه، فيرشفها متمهلاً، فيما هو يحدق إلى الصفحة الناصعة البياض، المنفسحة أمام عينيه الحالمتين اللتين، متحتاً من السماء زرقتها الصافية، النقية، ماثلة له، مترائية كأنها غول بيضاء تتوعده وتتحداه.
                ها هي ذي نظراته تنحدر، فوق الصفحة المنبسطة أمامه، وتحنو على خطى قلمه القلق المتململ بين أنامله، يملأ بياضها بجذى أفكاره المنثالة من ينبوع عقله المفكر، لترفد السيل الآتيَّ المتدفق من خواطره، يمتلئ ويفيض يوماً بعد يوم، ويشارف مائتين وسبعة وخمسين دفتراً، سوف تمد الأدب الفرنسي الحديث، حين يتاح لها أن تنشر، بغذاء فكري وأدبي، يمكن أن يوضع في قرن واحد مع أشهى عطاء جادت به قريحة إنسانية.
                إنه الشاعر الفرنسي (بول فاليري) الذي هجر، ذات يوم، الشعر، يائساً، وفزع إلى عزلته، عازفاً عن جلبة المجد الأدبي العقيم، مؤثراً دفاتره بوساوس فكره وهمسات قلبه، يسجلها ويشفعها، أحياناً برسوم من ريشته العابثة البارعة. ترى أي حافز أغرى الشاعر الشاب بعزلته هذه الخصبة؟ أي يأس عتي حمله، وهو في ريعان صباه، على الصمت المتصل ليجفو الشعر، بعد أن كانت بداياته مبشرة بمولد شاعر كبير، ثم تسوق له المصادفة مناسبة عارضة، ليعود إلى الشعر، وهو كهل دون سعي منه أو رغبة فيه، ليجد اسمه، في بهرة الشهرة، متلألئاً، كأعظم شاعر فرنسي في القرن العشرين.
                لا بد لي إذن من أن أنكفئ، لأجلو سيرته منذ إطلالته الأولى على الحياة، لعلها أن تريق فوقها النور، وتفسر بعض الجوانب الخفية من أدبه الفذ، وتجلو بعض ما استغلق على الفهم من شعره الرمزي المبهم.
                ألف النقاد، أما تصدوا لدراسة شاعر ما، أن ينفضوا سيرته كلها، منذ ولاته حتى وفاته شرحاً وتحليلاً، ليربطوا بين حوادث حياته والآثار الأدبية التي ساوقتها، أو كانت نتيجة لها، ولعل سيرة بول فاليري المترائية للناقد الطلعة، مطمئنة رتيبة، تأبى، في الظاهر، أن ترتبط بآثاره الفكرية والشعرية وأن تعد بتفسير مناسب لها.
                كان فاليري نفسه يشك في جدوى سيرة الشاعر أو الكاتب، لاستجلاء آثاره الأدبية وشرحها، كان يرى أن سيرة الإنسان تتسق على النحو التالي: اسم، حاجات، نزوات، سخافات، غياب، إنه شخص يتمخط، يسعل، يأكل، ينام، يشخر، إنه دمية نساء، ضحية حر أو برد، هدف لبغض وسخيمة وهزء.
                فما فائدة كل هذا، في ربطه بأثر فني أو أدبي يبدعه هذا الإنسان؟
                غير أنني أرى أن حياة المبدع في الأدب والفن، لا يمكن أن تنفصم عن إنتاجه الأدبي أو الفني، ولا يسوغ أن نستثني حياة فاليري من التأثير في أدبه، مهما تكن حياته رتيبة، بعيدة عن التعقيد، وقد كانت حياة فاليري، فيما يبدو، تترقرق، هادئة، دون أن يعرف الكثيرون أن ثمة تياراً خفياً، كان ينسرب في أعماق حياته ويسم أدبه بشياته المتميزة.
                ولد فاليري في مدينة (سيت) في عام 1871 من أب فرنسي، يتحدر من أصل كورسيكي، وأم إيطالية، (كان والدها قنصلاً لإيطاليا في سيت). ها هو ذا تأتلف في دمه حرارة الدمين: الفرنسي والإيطالي ويتساوق مزاجهما متناغماً، في إيثار النغم الحلو المبتكر في الموسيقا والألفاظ المرنانة الصافية في اللغة، والصور الشفافة المعبرة في التصوير. وكانت أمه تؤثر أن تتحدث إليه بلغتها الإيطالية، وكذلك تأتى له أن يرتضخ هذه اللغة، بسهولة، وأن يتقن من ثم، اللاتينية وينقل، فيما بعد، بعض آثار فرجيل إلى اللغة الفرنسية. وليس من ريب، أن نشأته في الميناء البحري: سيت، قد تركت في خياله أثراً بالغاً، يقول فاليري:
                (لقد ولدت في مكان من تلك الأمكنة التي أحب أن أولد فيها)، وفي الحق أن هذه المدينة القائمة على سيف البحر الأبيض المتوسط، قد فسحت أمام عينيه أفقاً وسيعاً، يلعب فيه النور الوضيء، لينساق هذا النور، فيما بعد، من عينيه الزرقاوين، اللتين تمتزج فيهما زرقة البحر بزرقة السماء، إلى كل حرف يسطره، شعراً كان أم نثراً، وإلى كل لمسة من ريشته اللبقة الصناع، حين يعمد، في ساعات فراغه، إلى الرسم، ليخلف ذلك كله، أثراً واشيا ببريقه وألقه. لا، لم ينس فاليري مدينته الصغيرة التي رعت طفولته الهنيئة، يقول:
                (إنني مدين للمرفأ الذي ولدت فيه بنبضات فكري الأولى، بحبي للبحر وللحضارات الرائعة التي قامت على شواطئه، ويخيل إلي، أن إنتاجي الأدبي كله يشي بمصدره الأساسي، إنني أتهم نفسي بأنني جننت جنوناً حقيقياً بالنور مجبولاً بجنون وكلف بالماء).
                "ها هو ذا، يعترف بأن لمدينته التي ولد فيها فضلاً كبيراً على أدبه، فقد انحفر منظر المقبرة البحرية في سيت، في ذاكرته، على نحو حمله، فيما بعد، على نظم قصيدة (المقبرة البحرية) التي تعد قمة باذخة في الشعر الفرنسي المعاصر".
                (كنت طفلاً صغيراً، أتزايل في مشيتي، وكانت الخادم تسعى بي، إلى حديقة عامة، تتوسطها بركة تسبح فيها بجعات، وقد تركتني الخادم، ذات يوم، على الأرض، قريباً من حافة البركة، فأنشأت أتسلى بإلقاء الحصى، في الماء القاتم، فيما كانت الخادم متوارية، خلف وشيع من الشجر، حيث كان ينتظرها ضابط مدله بحبها، وكان الطفل ذا هامة ضخمة وأطراف دقيقة، فكيف لا يقع في الماء؟ ها هو ذا، يطوف على سطح الماء بثيابه المنشاة، وكانت الخادم والضابط المختفيان، يجهلان الخطر الكبير المحدق بمصيري الصغير، وقد عجبت البجعات، بلا ريب، أنها تشبهها ببياضها غير أنها كانت بجعة دخيلة، جعلت تغوص في الماء. ها هو ذا الطفل يفقد وعيه. ترى علام رآه أحدهم؟
                هكذا تدخل القدر، فقد خوض ذلك الرجل فجأة، في الماء، وفرق البجعات وأفزعها وأعاد إلي الحياة إلى هذه (الأنا)، أنا الشاحب المغمى عليه، وعاد بي إلى بيته، وسقاني جرعة من شراب الروم، أما جدي فقد أراد أن يقتل الخادم، في ذلك اليوم).
                ولم تكن مدينة سيت قد رفدت، وحدها ذهن الطفل، بذكرياتها المغزولة بالنور وزرقة البحر، فإن (جنوه) المدينة الإيطالية، حيث كان يمضي عطلته الصيفية لدى أسرة جده لأمه، قد أرضت عشق عينيه للنور والبحر.
                ها هو ذا البحر ينفسح أمامه، ويعطو موجاته، متعالية متطامنة، معانقة المدينة الساحرة، ترتفع مبانيها الأثرية، ومقبرتها التاريخية المشهورة، وتفضي إلى خيال الشاعر الشاب، ذي النظرة الصافية الزرقاء بسر الهندسة الرفيعة التي عرفت بها هذه المدينة البحرية، لتتسلل صورها الزاهية وخطوطها المتناسقة، إلى حنايا ذاكرته، يريقها، ذات يوم في حوار فكري فني في (أوبالينوس) وقصيدته (سميراميس).
                (لقد وعي في جنوه، تناسق الجسم الإنساني، فحفلت آثاره الأدبية كلها بصور جمالية فاتنة، كما أن إتقانه للغة الإيطالية، أتاح له أن يتأثر شعره ونثره بموسيقاها اللفظية الآسرة وأن تكون ثقافته اللاتينية متميزة عن ثقافة معاصريه من الأدباء الذين غلبت على ثقافتهم الأجنبية، الثقافتان الألمانية والإنكليزية.
                وفي عام (1884) انتقل بول فاليري مع أسرته، إلى مونبلييه. بسبب انتشار الكوليرا في سيت ولم ينس قط مدينته الحبيبة التي كان يحن إليها حنيناً متقداً، فلما عاد إليها، في ذروة مجده الأدبي، ليشهد حفلة توزيع الجوائز في المعهد الذي كان يدرس فيه، قال أمام الطلبة:
                -(لئن صعدت من حادث إلى حادث: ومن فكرة إلى فكرة، وتتبعت سلسلة حياتي، لوجدت الحلقة الأولى منها منوطة بتلك الحلقات الحديدية الموصولة بصخرات مينائنا، أما الحلقة الأخيرة من السلسلة فهي منوطة بقلبي).
                وفي مونبلييه التحق فاليري بمعهدها، لكنه لم يجد في دراسته، ثمة، ما ينقع ظمأه إلى المعرفة فقد كان معلموه يسودون بالطغيان والتسلط، وكانت مناهجهم قاسية صارمة، يقول عنها فاليري (كانت البلاهة وتبلد الشعور يبدوان مقررين ضمن برنامج الدراسة ومناهجها).
                كان فاليري تلميذاً عادياً، رديئاً، في نظر معلميه، ولكن الفتى المخفق في دراسته كان يملأ عزلته بقراءة آثار أدبية محرمة على الطلبة، وقد عوقب من أجل هذه القراءة الممنوعة، أكثر من مرة، عقاباً، وجد فيه منفسحاً للتأمل، فقد كان عليه أن يقف، فترة طويلة، في ركن من الغرفة ووجهه إلى الجدار، ولكنه وجد متعة للتأمل لا تنضب، وهو يحدق إلى الجدار، متتبعاً، بنظره، خطوطه وشقوقه المتعرجة الصغيرة، فاحصاً، مدققاً. وقد انصرف في هذه الفترة من عمره إلى الرسم، فبرع في الرسم المائي براعة ملحوظة، وكان حذقه في مؤالفة الألوان يتجاوب مع إحساسه المرهف بالجمال، وأعانته موهبته بالرسم على أن يكتب، فيما بعد دراسات عن ليونارد دو فنشي، وديغا، تعد في رأي نقاد الفن، من أعمق ما كتب في النقد الفني في هذا العصر.
                (يتبع)

                تعليق

                • د. حسين علي محمد
                  عضو أساسي
                  • 14-10-2007
                  • 867

                  #9
                  على أن ولع فاليري بالشعر، غلب على أي ميل آخر، وقد قرزمه، في سن مبكرة، وتأثر، في البدء، بالمدرسة البرناسية، ثم عدل عنها واستأثرت الرمزية بإعجابه فقرأ بودلير وفيرلين ومالا رميه.‏
                  ونال فاليري الشهادة الثانوية، وكان عليه أن يختار مهنة له، فأمل أن يلتحق بالمدرسة البحرية، ولعل شغف فاليري بالبحر هو الذي كان يغريه ويجذبه إليه، ولكن أباه حال دون تحقيق هذه الأمنية، التي انتسخت، ولكنها ظلت مهوى فؤاده عمره كله، فلم يكن معدى له من أن يلتحق بمعهد الحقوق، أخذا بمدرجة أخيه الأكبر جول- الذي أضحى، فيما بعد، عميداً لمعهد الحقوق بمونبلييه.‏
                  وفي عام 1889 ألزم بأن يؤدي الخدمة العسكرية –ولم يجد عزاء له في تزجية فراغه سوى قرض الشعر، كتب إلى صديق له (أننا نساق للتمرينات بقسوة، كل يوم، أما في يوم الأحد، فأنقذ روحي بنظم الشعر).‏
                  وفي أيار من عام 1890، أقيم احتفال كبير، بمناسبة مرور ستة قرون على إنشاء جامعة مونبلييه، ويشاء القدر أن يلتقي فاليري بين الجموع المحتشدة بشاب، قادم من باريس هو الشاعر بيير لويس، وأن تتوطد بين الشاعرين صداقة حميمة، وطأت له التعرف، فيما بعد إلى كاتب رأ‏شاب عبقري هو أندره جيد.‏
                  من هؤلاء الأدباء الثلاثة: بول فاليري وأندره جيد وبيير لويس، ترعرعت صداقة نادرة المثال، في وشائجها وأثرها في أدب كل منهم، وأن يكن لكل واحد منهم، تجربته الشخصية في الحياة، وأسلوبه الخاص به في الأدب، وكلهم، تركوا دوياً في عصر يمكن أن يعد العصر الذهبي للأدب الفرنسي الحديث، وكلهم، كلهم، تأثروا بشاعر الرمزية الكبير:‏
                  مالارميه، ذلك الصائغ المتيم بالحرف، ليترسموا خطاه، في دروبه المحفوفة بالسحر والعطر والشعر.‏
                  وقد حرص بيير لويس على أن يتعرف صديقه بول فاليري، إلى استيفان مالارميه، حين يقدم إلى باريس، وكان فاليري قد بعث إليه، قبل أن يلتقي به، برسالة شفعها بإحدى قصائده، وقد أجاب مالارميه عنها برسالة يثني عليه ويقول له فيها: (احرص على هذا النغم النادر في شعرك).‏
                  كان بيت مالارميه الصغير المتواضع، في شارع روما، بباريس، ملتقى أصحاب الأقلام الغضة المتشوفة إلى التجديد، ومنبع الرمزية في الشعر، يقدمون إليه في يوم الثلاثاء من كل أسبوع، وانضاف إليهم، ذات يوم شاب قصير القامة، هضيم الوجه، عذب الصوت، تسكن في عينيه زرقة البحر، هو بول فاليري، وعرف مالارميه أن هذا الشاعر الوديع الخجول، الذي يعرف كيف يحسر عن أسرار النغم وكيف يستل اللفظة الموحية، ليجعلها تعيش في القصيد، هو التلميذ الذي سيقدر له أن يتمم رسالته الشعرية.‏
                  وكانت آراؤهما في صياغة القصيدة متماثلة كان كلاهما يريد منها أن تكون تلخيصاً واستصفاء لما يمور في النفس، وأن على الشاعر، إمَّا غاص في الأعماق، أن يجتزئ بلآلئ صغيرة تلخص أمواج النفس كلها، ليقود هذا التلخيص والاستصفاء، إلى ما يسمى بالشعر الصافي، وكان مالارميه يرى أن الحقيقة تكمن في حياة الإنسان الداخلية، وأن مهمة الشاعر هي أن يتسمتها من الأعماق، إن صور الأشياء تترادف أمام منسرح نظره، مختلفة انطباعها عنه، كالنسيم يمر فوق صقال الماء، مخلفاً انطباعه ينداح دوائر، تغيب وتذوي ويأكل بعضها بعضاً إن وظيفة اللفظ هي مطاوعة هذه الصور في حركتها حتى تنفسح للشاعر آفاق الحلم الرحيبة.‏
                  كان مالارميه يتصور القصيدة كالسيجارة يتلوى دخانها، حلقة، حلقة، ويتهاوى رمادها بعد أن يحظى بقبلة النار النقية. إن الرماد هنا، يمثل الشيء المادي الذي تتسامى منه فكرة الشاعر، كما تتسامى حلقة الدخان، وما دام هذا الشيء المادي –هذا الرماد- زائلاً، فعليه أن يختفي في الأثر الفني، ويبقى رمزه، يبقى هذا الدخان المتلألئ الصاعد.‏
                  وكان فاليري يرى في تشبيه معبر آخر، أن المعنى الذي يتسق في اللفظ، كالعطر الذي يكمن في البرعم، قد يكون الشوق إليه، قبل أن ينور البرعم، في قرن واحد من النشوة مع طيب شميمه، وأن على المعنى أن يختفي في القصيدة، كما يختفي قوام الغذاء في الفاكهة، فالفاكهة وهي غذاء، لا تتراءى لنا سوى متعة، ولا نستجلي منها سوى لذة، غير أننا نتلقى منها في الواقع، مادة مغذية، فيواري التشهي والاستطابة ذلك الغذاء الخفي الذي تقصد إليه الفاكهة.‏
                  بيد أن القلق المبدع الذي كان يحمل فاليري على أن يكون مجلياً بارعاً في صياغة القصيدة وتحكيكها وبمعنى آخر، ليكون من عبيد الشعر الذين يحدوهم حرص دائب على صقل القصيدة لينفوا منها كل ما يعكرها من شوائب النثر، تراخى به إلى اليأس من الشعر، ذات ليلة مؤرقة في 5 تشرين الأول من عام 1892 في جنوه- وكان قد مضى إليها في زيارة لأسرة أمه –كانت ليلة عاصفة، تهزَّم فيها الرعد، وانشب البرق مخالبه في إهاب السماء، ممزقاً غيومها، ولعل ألق البرق الخاطف جلا له، إشراقة ملهمة، إن طريق الكمال التي يضرب فيها سوف تتراخى إلى عبث لا جدوى منه. كانت ليلة رهيبة مذهلة، أوشك فيها أن يجن –كما ذكر في أحد دفاتره- فلما طلع الفجر، كان قد اعتزم أمراً، لا معدى له من الالتزام به، هو أن يعزف عن نظم الشعر وأني ئد ولعه بالأدب. وبدا له أن الشعر كله، هو عبث وسراب وقبض الريح، فعلام المضي في هذه السبيل التي تفضي إلى الخيبة المريرة، وخيل إليه، أن العلوم والرياضيات هي و حدها، قادرة على أن تحسر له عن الحقيقة، فلا أمام لديه –كما يقول شاعرنا المعري- سوى العقل، يفزع إليه بأسئلته المضنية، ليجد الجواب المرضي المقنع لديه.‏
                  وقد سألته السيدة إيميلي نوله، ذات مرة،: لماذا ترك نظم الشعر؟ فأجابها: تركت الشعر، لأنني استنفدت مفرداتي الشعرية جميعها، وكان ينبغي لي، منذئذ، أن أسعى لخلق مفردات جديدة.‏
                  واستأجر فاليري غرفة ضيقة في شارع (غي لوساك) لم تكن تضم سوى طاولة وكرسي ولوح، تمرح فوقه معادلاته الرياضية ووساوسه العلمية، وعلق على جدار فيها، صورة هيكل عظمي إنساني للرسام (ليجييه ريشييه)، كان يتبدى له صورة مجردة مؤسية لمصير الإنسان.‏
                  وألف فاليري منذئذ، أن يستيقظ، عند منبلج الفجر، فيعد قهوته بنفسه، ويبسط أمامه دفتراً أبيض، لعله أن يجد في منفسحه، ما يرضي أسئلة فكره القلق الحائر المتطلع. يقول فاليري: (إن اللحظة الأولى من الصباح، تؤثر في أعصابي وتستبد بها على نحو فريد: في هذه اللحظة يأتلف شيء من الحزن والنشوة والعاطفة المستوفزة، وشيء من الصفاء المضني المؤلم).‏
                  وجعل يسجل في دفاتره، يوماً بعد يوم، آراءه وهواجسه وسوانح أفكاره، كأنه راهب متبتل يتلو في محراب العقل سبحاته الفكرية التي جلاها بقوله: (إنها ألوف القضايا التي تمر في قوقعة العقل، إنها بذور السأم، بعوض الخيال، ذرات الإرادة، الوانية والشك والوسواس التي تعذب كل دقيقة من اليوم).‏
                  وانتظمت هذه الدفاتر، في مائتين وسبعة وخمسين دفتراً، ثم نشرها كلها، بعد وفاته، في تسعة وعشرين مجلداً، يقول عنها أندره جيد الذي اطلع على بعض منها: لا يسعني إلا أن أتصور أنها أهم أثر فكري في عصرنا هذا.‏
                  وكانت تتخلل عزلته الفكرية التي قسرها على نفسه إطلالات ضئيلة على الأدب، ساقته إليها المناسبة، فقد طلبت إليه مديرة المجلة الجديدة عام 1894، أن يكتب لها دراسة عن المصور الإيطالي ليوناردو فنشي بعد أن سمعته يتحدث عنه حديث الخبير العارف، فكتب دراسته (مدخل إلى منهج ليوناردو فنشي) حلل فيها عبقرية الفنان الإيطالي تحليلاً دقيقاً، رائعاً وفي الواقع أن ثمة مشابه تجمع ما بينهما، فقد كان دوفنشي شاعراً ومخترعاً وعالماً ومهندساً ومصوراً عبقرياً، فلعل تعدد جوانب نبوغه هي التي اجتذبت فاليري للكتابة عنه فإن إبداع فاليري لم يكن مقصوراً على الشعر وحده، بل كان يضرب في جل العلوم والفنون والآداب على عرق.‏
                  وكتب فاليري، (أمسية مع السيد تيست) فجلا في هذا الكتيب، شخصية غريبة الأطوار، في تزمته وعزوفه عن مباهج الحياة، والعكوف على التأمل والتفكير والرجوع إلى العقل. إنه الإنسان المجرد من الأهواء والنزوات والبدوات، الذي يفزع إلى قمة الفكر الباردة، مسترفداً منها سلوكه في الحياة. وقد بدت شخصية تيست في هذا المؤلف كما لو أنها تحمل قسمات فاليري وملامحه، فكأنه المثل الأعلى الذي كان يتشوف إلى تقليده والوصول إليه.‏
                  وانكفأ فاليري بعد هذا الكتاب، إلى صمته المتصل، قرابة عشرين عاماً، لم ينشر خلالها أي شيء، بيد أنه ظل وفياً لدفتره، حين يسفر الفجر، ناثراً فوق صفحاته، بذور سأمه وهواجس فكره وغبار وساوسه. غير أن صلاته بمالارميه لم تنقطع، وقد يسرت له صداقته بالكاتب هويسمان، أن يلتحق موظفاً بسيطاً في ديوان وزارة الحربية، ثم استقال منها بعد أن ضاق بالعمل الرتيب فيها، ليعمل سكرتيراً خاصاً للسيد إدوار لوبي مدير شركة هافاس الإخبارية، وفي عام 1898 غال الموت مالارميه وهو في أوج عطائه، فحزن عليه فاليري حزناً عميقاً، وقد أفضى فاليري لصديقه تيوديه ذات مرة: (لقد عرفت مالارميه، بعد أن تأثرت به تأثراً بالغاً، في الوقت الذي قضيت فيه على الأدب، بمقصلة، في أعماقي).‏
                  وفي عام 1900 تزوج فاليري (جاني جيوبارد) وكان قد التقى بها في بيت مالارميه، ورزق منها بثلاثة أولاد، وأتاحت له الحياة الزوجية المستقرة، أن يسيغ عزلته الفكرية، بعيداً عن نور الشهرة، غير أن قصائده الرقيقة التي نشرها في بعض المجلات الأدبية، ثم أسلمها إلى النسيان، ظلت –كما يقول صديقه لاربو- مشغلة للكثيرين من المعجبين، في أنحاء مختلفة من فرنسا، كانوا يستنسخونها حريصين عليها كجواهر ما تزال تحتفظ بمائها ورونقها، وفي عام 1912 رجا أندره جيد صديقه فاليري، بعد أن لملم له قصائده المتفرقة المنشورة، قديماً، بأن تنشر مجموعة في ديوان لدى دار غاليمار، وعاد فاليري، على مضض إلى قصائده، إلى أشباحه –كما يقول عنها- وبدا له بعد أن غير فيها تغييراً يسيراً، أن يتوجها بقصيدة صغيرة جديدة لا تتجاوز أربعين بيتاً، يودع بها الشعر، ولكن شيطان الشعر جذبه، لحسن حظ الأدب، وأغراه بالترسل، والضرب في آفاق جديدة، لم يطمح بصره إليها من قبل، فانبجست، قصيدته كينبوع تفجر، في البدء جدولاً صغيراً لم يلبث أن تسلسل فياضاً زاخراً، كالنهر اللجي، وإذا بالقصيدة ترحب، ترحب، خلال أربع سنوات من النظم، حتى شارفت أربعمائة بيت. وتترقرق القصيدة، على طولها، كسمفونية حزينة، شجية النغم، تتأبى معانيها على الفهم، ولكن ألفاظها المنتقاة، تتسرب إلى الأذن، في رقة وليان، مسربلة بالصور الأخاذة الغائمة.‏
                  كانت هذه القصيدة ملاذاً لفاليري من الواقع المؤلم القاسي الذي كان يعيش فيه، فقد كان ينظم قصيدته، فيما كان العالم يضطرم في أتون الحرب العالمية الأولى، كتب فاليري في عام 1915 في أحد دفاتره: (إنه ليشق علي، أن أنظم أبياتاً رديئة، في هذا الوقت، بدلاً من صنع القنابل أو قذفها).‏
                  ولما انتهت القصيدة، سماها: الحورية الفتية La Jume Pargue وأهداها إلى أندره جيد، ونشرت القصيدة، مستهلة عهداً مجيداً في حياة الشاعر الأدبية، واستقبلت الأوساط الأدبية القصيدة بحماسة لم تظفر بها أي قصيدة لشاعر من قبل، وأضحى فاليري غداة نشرها، شاعر فرنسا الأول، حتى قال عنها:‏
                  لقد وضعني غموض هذه القصيدة في نور الشهرة.‏
                  تستهل القصيدة بمطلع يكاد يذوب رقة وطلاوة:‏
                  من هي التي تبكي، إن لم تكن الريح الرهوة في هذه الساعة المنفردة، مع الجواهر القصية، ولكن ترى من تبكي؟‏
                  قريباً من ذاتي، حين يأزف وقت البكاء.‏
                  ولعله من العبث أن نشرح هذه القصيدة التي تعتمد، في الأساس، على مؤالفة الكلمات وتناغم الحروف، وترادف الألفاظ، يعانق بعضها بعضاً، في جرس ناعم عذب. ففي مثل هذا الشرح، نفقد العنصر الأساسي فيها، نفقد قوامها الموسيقي الذي هو سر سحرها. على أنه في ميسورنا أن نسوق شرحاً قد يعين، على بعض ما عناه الشاعر، أو بعض ما فهمته، ومن يدري فقد يكون ما أراده الشاعر، مخالفاً للتفسير الذي خلصت إليه، للتفسير الموقت الذي لا يني يجذبني إلى القصيدة لأقراها، مرة بعد مرة، وتظل قراءتي المتصلة لها مجلبة لتطلع مستمر ومطلاً لنشوة لا تنتهي.‏
                  ها هي ذي الحورية الفتية، تستيقظ، في حلك الليل، لترنو إلى البحر المنفسح أمام بصرها وترامق السماء، تزدحم في مضطربها النجوم المتلامحة كاللآلئ البعيدة، وتمتد يدها تتقرى ملامح وجه، متطلعة إلى ملامسته، منتظرة دمعة منهملة، ثم تنكفئ، إلى أغوار نفسها، إلى غاباتها المتواشجة، فإذا هي تلمح ثعباناً ساعياً متلوياً، -لعل فاليري عنى به الشهوة الهلوك- مقبلاً إليها، ليلدغها، وتشعر أن كيانها كله قد تغير، أنها تتوقع شيئاً، إنها تنتظر:‏
                  كل شيء يمكن أن يلد، هنا من الانتظار اللا نهائي.‏
                  بيد أنها تطرد الثعبان:‏
                  أمض لست بحاجة، بعد الآن، إلى نجارك الساذج، امض وابحث عن عيون مغتمضه من أجل رقصاتك المتصلة،‏
                  وجرر، نحو سرر أخرى أذيال ثيابك المتتابعة.‏
                  بيد أن الحورية العذراء لم تلبث بعد أن نجت من لدغة الثعبان، إن ارتعشت لفقدانه:‏
                  إنني أرتجف، خشية أن أضيع الألم الآلهي‏
                  كنت ألثم في ساعدي اللدغة الموجعة الدقيقة‏
                  وتترفق القصيدة، لتجلو مأساة الجسد المغتلم الشبق، ويستدر الدمع من مآقيها متناغماً مع النحيب، الذي كان يتردد في مستهل القصيدة، ها هي ذي تخاطب دموعها المنهمرة:‏
                  لن أطلب إلا أنوارك الوانية،‏
                  المترقرقة، أمداً طويلاً، على وجنتي المتشوفة،‏
                  إلى دمعة منهمرة، من كهف الخوف المحفور في أعماقي،‏
                  والملح الغامض ينتضح الماء الصامت.‏
                  من أين ولدت؟ أي جهد حزين متجدد دوماً،‏
                  يشدك، أيتها الدمعة، المنساحة، من الظل المرير.‏
                  وتنساب القصيدة، صوراً متلاحقة، بعضها يلد من بعض، سمفونية رحبة شجية، نهراً ملتوياً، متكسر الموج، تحبو فوق صقاله إيماءات ظليلة وشيات متداخلة ورموز متعانقة، في كلمات عذبة موسيقية.‏
                  وقد لمح فاليري إلى بعض مرامي هذه القصيدة الغامضة فذكر أنها تجلو الإنسان الذي يتجاذبه العقل والجسد، وقد حشد فيها طيوف الحور والملائكة والثعابين، تكتسي كلها رموزاً غائمة، وتخلص منها همسات ناعمة حتى ليخيل إلى قارئها أنه يضرب في غابة غامضة، لا لتستمتع بها حواسه، بل لتثير فكره وتحمله على غوارب اللفظة الموحية، إلى آفاق لا محدودة من التساؤل والتطلع والتفسير.‏
                  وقد تصدى لشرح هذه القصيدة كثير من النقاد والمفكرين، لعل أعظمهم الفيلسوف (آلان) فكتب عنها دراسة مطولة، ضمها كتاب مستقل، وكتب عنها (أميل نوده) محللاً ملتمساً فيها تفسيراً مقنعاً، مرضياً، فقال: (إن شعر هذه القصيدة هو من الجمال، بحيث يبدو من الجحود، أن نشرح معناه، شعر هو من الغنى بالمعاني، بحيث يبدو من الكفر، أن نجتزئ، بجماله، شعر هو من الصعوبة، بحيث يبدو من الجرأة، أن نزعم فهمه).‏
                  لقد هجر الشاعر الصامت محرابه ونضا عنه مسوح الراهب الفكري الذي انتبذ ركناً منه، زاهداً، معتزلاً، وحرم الأدب، عطاءه الشعري السخي، أمداً طويلاً ليهب له، فيما بعد، عطاءاً جديداً لا أحلى ولا أشهى، عطاءً أشبه، في مذاقه بالخمر المعتقة النائمة في دنها عشرين عاماً، أو تزيد، ليشعشع سلسالها في الكأس المترعة، شهياً طيباً، وينفض لشاربها أحلاماً وسمادير، لا تنفد ولا تنقضي.‏
                  لئن عد فاليري شاعراً مجدداً بث في أعطاف الشعر الفرنسي الحديث رعشة جديدة، -لعلها مهدت الطريق، فيما بعد إلى السريالية كما يؤكد أندره بروتون نفسه- فإنه يظل شاعراً كلاسيكياً، فيما يتعلق ببناء القصيدة وصياغتها غير أنه يكمن خلف الشاعر ناقد أشبه بتوءم له خفي، يخلص له النصح، في انتقاء اللفظة المناسبة التي يحسن أن تسربل شتى المعاني حين تتحلقه وتغازله وتومئ إليه. بيد أن الناقد الذي يجثم في ظل فاليري، هو ناقد قلق عسير، متسدد، ومن هنا يمكن أن نفسر كثرة مسودات أي قصيدة نظمها فاليري، -وتتجاوز أحياناً المائة- وكان من الممكن أن يستمرئ التمهل، محككاً، باحثاً، عن صيغة أكمل وأجمل وأوفى، لتتجاوز سوى النشر الذي لولاه لاستمر الناقد القلق المطل عليه، في إرشاده ونصحه، ليستبدل بلفظ ما، لفظاً أكثر إيحاء، وأحلى جرساً، وأوسع أفقاً. وألصق بالمعاني التي يفرشها أمام الخيال، والتي يختار منها القارئ أو السامع، التفسير الذي يرتضيه ويحلو له.‏
                  هذا هو إذن الجهد المضني المبدع الذي يبذله الشاعر، ليصل إلى ما سبق أن أشرنا إليه، ليصل إلى الشعر النقي الصافي.‏
                  وكذلك بدأت قصائد فاليري، منذ أن عاد إلى فردوسه الشعري، تترادف، لينتشي بها الناس ويختصموا في شرحها وتحليلها، وفاليري ينام ملء جفونه عن شواردها كشاعرنا المتنبي حين قال:‏
                  أنام ملء جفوني عن شواردها * * * * * ويسهر الخلق جراها ويختصم‏
                  ولعل أروع قصيدة نظمها فاليري بعد (الحورية الفتية) هي قصيدة (المقبرة البحرية) التي استوحاها من المقبرة البحرية في (سيت) وكان أجمل تفسير لها تفسير قام به أستاذ في السوربون، بمحاضرة مستفيضة، ألقاها أمام طلابه، وجلس بينهم فاليري مصغياً، متأملاً، كتلميذ يتلقى درساً من أستاذ، معترفاً بأنه كان لا يجد في شعوره كتلميذ، التقدير الذي يستأهله ذلك الشاعر القابع في مقعده، ولما سئل عن رأيه في شرح القصيدة، أجاب: إنه جيد بالنسبة لشارحه فحسب، وقد يكون هذا الشرح أجمل مما قصد إليه هو نفسه.‏
                  ومن المفارقات اللطيفة، أن عقيداً في الجيش الفرنسي نظم القصيدة، بشعر واضح، كما تسنى له أن يفهمها، وبعث إليه فاليري برسالة مستظرفاً محاولته الطريفة.‏
                  وقد كتب طه حسين عن هذه القصيدة فقال:‏
                  (لعلك تسألني، أن أترجم لك القصيدة كلها أو بعضها، ولكني معتذر من ذلك لأمرين، أولهما أنني أجد في قراءة القصيدة لذة راقية قوية حقاً، ولكني لا أستطيع أن أقول إنني أفهمها على وجهها، وليس علي، من ذلك بأس، ما دام النقاد والأدباء الفرنسيون –وهم أعلم مني طبعاً بلغتهم وأدبهم- يختلفون في فهمها، إلى هذا الحد، وثانيهما أن بول فاليري نفسه يرى أن ترجمة الشعر إلى النثر، قتلٌ لهذا الشعر وتمثيل به ومحو لآيات الجمال فيه، وأعوذ بالله أن أقترف هذه الجناية أو أتورط في هذا الإثم).‏
                  (يتبع)

                  تعليق

                  • د. حسين علي محمد
                    عضو أساسي
                    • 14-10-2007
                    • 867

                    #10
                    وإذا كان عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين رحمه الله، المعروف بإطلاعه المستفيض وفهمه الحاذق وتمكنه العميق من اللغتين العربية والفرنسية قد أحجم عن تقحم غمرات بحر فاليري، وأبى عاجزاً عن نقل بعض كنوزه، فإنني معذور إن صدرت عن نبع هذه القصيدة عاجزاً عن نقل قطرات منه. كان فاليري يرى على النحو الذي جلاه أديبنا العظيم طه حسين، إنه من العبث أن ننقل قصيدة شعرية إلى لغة أخرى، لأنك في هذا النقل تتحيف من قوام القصيدة الذي تعيش فيه، كما أنك تعطيها بالترجمة، معنى واحداً محدداً في حين أن القصيدة، لدى فاليري هي منفسح لا نهاية له لشتى التفسيرات التي تعيش بها، ففي الترجمة ينطفئ الوزن وتنتسخ القوافي وتبقى الصورة الشعرية، منفردة عارية من كسائها اللفظي الذي كانت تتلفع به وكان يمنحها أفقاً وسيعاً رحباً مترامي الجنبات. لهذا كله تهيبت أن أنقل أي قصيدة لفاليري إلى اللغة العربية، ولم ألف مثل هذا التهيب حين نقلت معظم مؤلفات الشاعر الهندي رابندرانات طاغور إلى اللغة العربية لأن طاغور نفسه نقلها من البنغالية إلى اللغة الإنكليزية، نثراً، واجتزأت في ترجمتي، على النحو الذي قام به أندره جيد نفسه حين نقل ديوان جينتجالي لطاغور من الإنكليزية إلى الفرنسية، اجتزأت بصوره الشعرية منتقياً أقرب الألفاظ إلى المعاني التي جلاها، مع حرصي على أن تكون ألفاظاً مماثلة لألفاظه الحلوة الناعمة.‏
                    أجل لقد وقفت أمام قصائد فاليري- ومن قبل أمام قصائد مالارميه، موقف العاجز عن نقلها إلى اللغة العربية، لأنني أظلمها وأنال من كيانها وقوامها، في هذا النقل. بيد أنني عمدت مؤخراً، إلى محاولة –شجعني على القيام بها أن الشاعر الإنكليزي إيليوت، والشاعر النمسوي ريلكه، نقل كلاهما إلى لغته، شعراً، بعض قصائد فاليري، فنقلت قصيدة (الخطا) لفاليري شعراً، لئلا أتجنى على الوزن والقافية، في هذه القصيدة الرائعة، معترفاً، إلى هذا كله بأنني عجزت عن ترجمة بيت واحد من الرباعية الأخيرة في هذه القصيدة، فنقلته على نحو مقارب للمعنى الذي بدا لي، لا لأن اللغة العربية عاجزة عن أداء هذا المعنى، بل لأنني أنا العاجز عن الأداء.‏
                    وإنه ليطيب لي أن أورد هذه القصيدة، منوهاً بأنني عمدت، عن قصد إلى جعل كل شطر من الرباعيات الأربع في القصيدة مؤلفاً من خمس تفعيلات، بدلاً من أربع تفعيلات، غير ناس، إلى هذا، أن القدم تنتظم في خمس أصابع حين تمتد بخطوتها، رجاة أن تكون هذه الترجمة الشعرية وفية، بمعانيها وألفاظها وصورها وجرسها ووزنها وإيقاعها وعدد رباعياتها وحتى عدد تفعيلاتها، للأصل الفرنسي.‏
                    خُطاك، وليدة صمتي، تجيء وتغدو‏
                    رويداً، رويداً، مقدسةً، حالمهْ‏
                    وتهفو إلى مهد يقظتي الناعمهْ‏
                    وتنساق خرساءَ، باردةً، ساهمه‏
                    خيال نقي، سني، وطيف آلهي‏
                    فبالعذوبة خطوتك السمحة الساعيه‏
                    ويا رب، كل العطايا، التي رمتها‏
                    تعود إليَّ، بأقدامها العاريه‏
                    وإن شئتِ، أن تهبي لشفاهك شيا‏
                    ليرضى المقيم بفكري، دوماً فهيا‏
                    تعالي وأزجي إليه، غذاءً شهياً‏
                    يذوب بقبلة ثغرً، سخياً طليا‏
                    فمهلاً، ولا تعجلي الخطو، ينساب رهواً‏
                    يؤوبُ، يطيب، يغيب، رقيقاً، صداكِ‏
                    فما عشتُ، إلا انتظاراً لطيفك، أنتِ‏
                    ولم يك قلبي، مدى العمر، إلا خطاك‏
                    ومن النقاد من يرى، أنه عنى بقصيدة (الخطى) خطى الإلهام والوحي الشعري اللذين يسبقان القصيدة، وإن يكن فاليري لا يحب تعبير الإلهام، لأن الشعر الحقيقي، بنظيره، هو، قبل كل شيء، صناعة وبحث دائب، متصل عن الأجمل والأكمل والأدق من الألفاظ التي تكسو المعاني الخبيئة المتوازية.‏
                    كل هذا يقودنا أيضاً، إلى التساؤل عن صناعة الشعر لدى فاليري، الذي يؤثر، كما قدمنا تعبير الشعر الصافي، أي الشعر المحنك المنتخل المصفى، البعيد عن النثر، الشعر الذي يمكن أن يكون لغة خاصة في اللغة نفسها، وقد جلا فاليري جهده المبذول، في صياغة كلمة واحدة من أي قصيدة ينظمها هو بقوله:‏
                    إنني أبحث عن كلمة، ينبغي أن تكون كلمة مؤنثة، مؤلفة من مقطعين، يتضمنان حرفي الباء والفاء، ومنتهية بحرف ساكت.‏
                    ومرادفة لمعنى الكسر والتفتت،‏
                    كلمة غير علمية ولا نادرة.‏
                    هكذا تجتمع ستة شروط، على أقل تقدير لتلد كلمة واحدة في قصيدة ما، فلا ينبغي للشاعر إذن أن يعتمد على الإلهام، بل على الصناعة اللفظية، فالشاعر، في رأيه، كيميائي لفظي، يأخذ حرفاً من هنا، يستنشيه، يتذوقه يسمعه، يناغيه، يغازله، حتى إذا رضي عنه، أذاب فيه حرفاً مناسباً آخر، ومن هذا المزيج المصفق المنتخل، المصفى. في راووق حواسه وعقله وقلبه، يجد الشاعر اللفظة المناسبة لتنساق إلى لفظة سبقتها، وتلد لفظة تليها، وتترقرق القصيدة المنشودة، من ثم، يزجيها الشاعر لنا شراباً معتقاً صافياً، لا أشهى ولا أحلى.‏
                    إن الشهرة التي وضعت فاليري في النور، جعلته هدفاً لأصحاب المجلات والأندية الأدبية، تتخطف قصائده ومقالاته ومحاضراته، وسطع اسم فاليري لا كشاعر فحسب، بل كمفكر وكاتب يملك أسلوباً مستحصداً، هو في القمة بين أساليب كبار الكتاب في فرنسا. ولما مات السيد لوبي مدير شركة هافاس- وكان فاليري سكرتيره الخاص- انقطع فاليري إلى التكسب من قلمه، وانساق إليه المجد الأدبي، فقد انتخب عام 1926 عضواً في الأكاديمية الفرنسية خلفاً لأناتول فرانس، وعين أستاذاً لفن الشعر في الكوليج دو فرانس، وانثالت عليه الألقاب الفخرية من أكبر جامعات أوربا، وأضحى اسمه أشرق اسم في الأدب الفرنسي المعاصر، وكانت جائزة نوبل لعام 1945 تنتظره ليشرفها هو، بعد أن اختارته لجنتها مرشحاً للفوز بها في نهاية ذلك العام، لولا أن الموت استأثر ببول فاليري في ذروة مجده في صباح 20 تموز 1945 وأمر الجنرال دوغول، رئيس الحكومة، أن يتم تشييع جنازته باحتفال رسمي، كأحد عظماء فرنسا، ونقل جثمانه إلى قصر شايو ليودعه الشعب الفرنسي، وأصدقاؤه- وكان من بينهم أندره جيد- وسهر تلاميذه على تابوته إلى الصباح يحملون مشاعلهم المضيئة، وفي 27 تموز نقل جثمانه، بناء على وصيته إلى مدينة سيت، ليدفن في مقبرتها البحرية، هذه المقبرة التي ألهمته أحلى وأعمق قصيدة عرفها الشعر الفرنسي المعاصر.‏
                    بيد أن الحديث عن شعر فاليري وأدبه لم ينطو، بعد أن انطوت صفحة حياته، وعرف عالم الأدب، مؤخراً، أن حياة فاليري لم تكن بسيطة، مطمئنة هادئة، بين مكتبه وبيته، وأن ثمة حباً عميقاً جارفاً كان قد عصف بحياة الشاعر، حين تعلق قلبه، بعد أن تجاوز الخمسين من عمره، بحبيبة ملهمة هي (جان فوالييه) عام 1937، واستمر هذا الحب، حتى وفاته، وأن هذه الحبيبة قد تسنى لها خلال ثمانية أعوام أن تلهمه مائة وثلاثاً وعشرين قصيدة، وتتلقى منه ألفاً ومائة رسالة، ظلت كلها سراً خبيئاً مطوياً أمداً طويلاً، بعد وفاته. وعرف الناس، بعد ذلك، أن قلب الشاعر الكهل، كان قلباً فتياً، نابضاً بالحب، مماثلاً لقلب شاب في سحرة العمر، وأنه ترك لحبيبته كنزاً أدبياً، لا يقدر بثمن، يتسق في قصائد هي من أرق ما نظمه الشاعر، عمره كله، كما ترك لها ذكريات رفافة تفيء إليها، كلما عاودها الحنين إليه، لتفزع إلى سفط الجواهر الشعرية الخبيئة والرسائل الرقيقة المضمونة لديها، لتتملاها وتنعم بها وتبكي حبيبها الشاعر العظيم الراحل ثم تجد بعد وفاته، بأمد طويل طويل، إنه ليس من حقها أن تستأثر وحدها بهذا الكنز الثمين، وإن من حق الأدب، أن تنشر هذه القصائد والرسائل، وتبذل للناس كافة، لتستمتع بها العقول والعيون والأذواق جميعاً، وهكذا وضعت في المزاد العلني في 2 تشرين الأول من عام 1982 في مدينة مونت كارلو.‏
                    وقد اطلعت على بعض هذه القصائد منشورة في بعض الصحف الأدبية الفرنسية، كلما اطلعت على بعض الرسائل الرقيقة التي بعث بها إلى حبيبته الملهمة.‏
                    كتب إليها في إحدى قصائده: لا يهمني أن تبقى هذه القصائد لنا وحدنا، ما يهمني هو أنت وأنا، نحن كل شيء، وما تبقى ليس سوى خطأ.‏
                    وبعث إليها بقصيدة يقول فيها:‏
                    حين أضعت نهاري من دونك، أنت، مفكراً فيك، تقبلين، في الليل، ناجية من ذاتك.‏
                    هاربة إلى كياني، أنت يا روح الحب العزيزة، أيها الطيف الوفي للحلم الذي أعشق،‏
                    إيه ارغبي يا جمالي، ارغبي في الشيء الذي أتوق إليه ارغبي في ما أردده وأنا أطري غدائرك،‏
                    بمداعبة تنساق عائدة إليها‏
                    ليس هناك صوت يتسنى له أن يسمعك، على نحو أفضل.‏
                    خفايا حناني كله ومعناه،‏
                    مؤتلفاً في تبادل متصل لا نهائي، ما بين أرواح عيوننا، وكذلك يشاء القدر أن يبلو فاليري لواعج الحب، وشمس حياته تجنح إلى الأفول (كان الحب يقرضه- كما يقول في إحدى رسائله إليها: كما تقرض الدودة لباب الثمرة، ليعيش هو من هذه الدودة)، وأراها أنا، أشبه بدودة القز تغزل، حول فيلجتها خيوطها الحريرية المليسة الرائعة،‏
                    وكتب الشاعر لملهمته، حين شعر أن الموت دان قريب:‏
                    أجل إننا نعلم أنك كنت أنت ما بيني وبين الموت، ولكن يبدو، وا أسفاه، أنني كنت أنا بين الحياة وبينك.‏
                    ولا ندري، على أي حال، إن كانت زوجة فاليري قد علمت بأن لزوجها حبيبة خصها من دونها بأحلى قصائد الغزل، ومع ذلك فإننا نغفر لهذه الحبيبة إساءتها للزوجة الطيبة الوفية، بل قد نجد من يهنئها إعجاباً وإكباراً، لأنها استطاعت أن تلهم هذا الشاعر العبقري.‏
                    إنها ضريبة الأدب، يبذلها الأديب العبقري من حنايا قلبه، فيشقى هو ويسعد ويشكو ويتألم لنطرب، نحن القراء المعجبين، بنبضات قلبه المعنى وغنائه ونجواه.‏
                    كتب فاليري، في مذكراته، حين بلغ السابعة عشرة من عمره:‏
                    -(الشمس تشرق، الزمن ينفسح، سلسلة من الحوادث تترادف. الساعة العاشرة، في هذه الساعة، استوفيت السابعة عشرة من عمري، في ناحية من الأرض، تسعى وتكبر، تلك التي ستصبح زوجة لي. هناك، في مكان آخر، تمرع الشجرة التي ستصبح تابوتي، وفي منطقة غامضة من رأسي، تتجمع أفكاري المقبلة).‏
                    حين كتب فاليري هذه الكلمات، لم يكن يعرف أن أفكاره سوف تتجمع وتؤتي أكلها، وتعطي أطيب عطاء وأشهاه. لم يكن يتوقع أنه سوف يضحي أكبر شاعر فرنسي في هذا القرن.‏
                    أما حبيبته (جان فوالييه) التي ألهمته، في مغرب شمس حياته، أرق الشعر وأحلاه، فلم تكن، على الأرجح، حين كتب هذه الكلمات قد ولدت بعد.‏
                    ........................
                    *المصدر: مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 264 نيسان 1993م.

                    تعليق

                    • د. حسين علي محمد
                      عضو أساسي
                      • 14-10-2007
                      • 867

                      #11
                      قصيدتان حين أموت

                      شعر: د. بديع حقي
                      .................

                      من وحي الشاعر فيرهان‏

                      1-شعاع
                      وحين يرفرف حول فراش احتضاري جناحُ المنيَّة‏
                      لتقطفَ من ثغرك السَّمح، بسمةْ‏
                      تعالي فمدِّي أناملك الرخصةَ الحالمة‏
                      لتغزلَ من هدبك العذب، نسمةْ‏
                      تَطامنُ، سرباً من الطيرة رهواً، يرفُّ على ساقيهْ‏
                      وتمنحَ وجهي الحزينَ بشاشةْ‏
                      لتسعى، لتنساب فوق جبيني، حنوناً، سخيَّةْ‏
                      وتنساقَ، في دمعةٍ ساجمةْ‏
                      وتعبث، عفواً، بخُصلة شعرٍ نديَّهْ‏
                      يذوب بمرآتها الصافيةْ‏
                      وخلِّي لهاثك، ينحو وينسم، حلواً، على وجنتي‏
                      شعاعُ حياتي النحيلُ الضئيل،‏
                      لعلي، على دفئه الناعم الطيِّب الفاحم،‏
                      فهلاَّ مددتِ يداً حانيةْ‏
                      أزيح الرطوبَة عن قبري الباردِ المظلمِ‏
                      إلى جبهتي الرطبة، الغافيةْ‏
                      وجفناي يغتمضان، يضيقان، شيئاً فشيئاً.‏
                      لعلِّي أبعث حيَّاً على اللمسة الشافيةْ‏
                      يضمَّان، إمَّا رحلتُ، خيالاَ نحيلاً، وفيئاً.‏
                      لعلِّي أنهض، أحيا،‏
                      ولكن، تهينهم شجواً، على خفق جفني، فراشةْ‏
                      على خلجة الراحة الآتيةْ‏
                      تَململُ، في نظرةٍ ساهمةْـ‏
                      على رعشة الراحة الغاديةْ‏
                      ***
                      2-ضحكتها‏

                      وانزلقت، من ثغرها ضحكةٌ‏
                      ناعمةٌ، حالمةٌ، ساهيةْ‏
                      كأنها في كرمةٍ، غلغلتْ‏
                      واقتطفت عنقودَها، لاهيةْ‏
                      فانفرطت حبَّاتُه، رطبةً‏
                      في فمها، وانعصرت راضيةْ‏
                      تذوب في رضابها، لحظةٌ‏
                      تغيب في لهاتها، ثانيةْ‏
                      أجدولٌ ينساب، في خلجةٍ‏
                      مناغياً، منادياً ساقيةْ‏
                      أم نحلةْ طيِّبةُ المجتنى‏
                      من زهرةٍ لزهرةٍ، ساعيةْ‏
                      قد مزجت في برعمٍ شهدَها‏
                      بضحكةٍ معسولةٍ، شافيةْ‏
                      أجرحُ نورٍ راعفٍ، نازفٍ‏
                      ينشقُّ عن رمانةٍ قانيةْ‏
                      أم سُبحةٌ سخيةُ، ثرّةٌ‏
                      تهمس في وسوسةٍ شاكيةْ‏
                      حباتها تمرُّ، في سمطها‏
                      كطفلةٍ ثرثارةٍ، لاغيةْ‏
                      ولملمتْ حَنجرةٌ سمحةٌ‏
                      حروفها الطليَّة الصافيةْ‏
                      وانهرقتْ في ضحكةٍ حلوةٍ‏
                      ولسلسلت أحلامَها الغاليهْ‏
                      عن ياسمينٍ حسرت وردَها‏
                      وانسربت، عاريةً، كاسيةْ‏
                      هديلُ ورقاءَ تبثُّ الهوى‏
                      أم ضحكةٌ عابرةٌ، ساهيةْ‏
                      دمشق في 4 / 2 / 1945‏
                      (1) هاتان القصيدتان، أضعتهما ونسيتهما، في جملة قصائدَ بحثتُ عنهما عبثاً، لأضمهما إلى ديواني (سِحر) الذي نشرته مجلة (الأديب) اللبنانية، عام 1953، ثم عثرت عليهما، مصادفةٌ، منذ أمد قريب. ضمن طيات كتاب وبدا لي حين قرأت (ضحكتها) بعد أكثر من 40 عاماً من نظمها، أن صدى الضحكة الحلوة ما يزال يترجَّع في سمعي ناعماً طلياً كما كنت أسمعه قديماً، أمّا قصيدة (حين أموت) التي نحوت فيها منحى الشعر الحر فهي إحدى بدايات هذا اللون من الشعر في الأربعينات وكان ديواني سحر، قد ضمّ بعضاً منها.‏
                      ...................
                      مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 186 تشرين الأول 1986

                      تعليق

                      • د. حسين علي محمد
                        عضو أساسي
                        • 14-10-2007
                        • 867

                        #12
                        الطهر

                        شعر: د. بديع حقي
                        .................


                        أحبُّكِ في مَيْسة الزنبقِ
                        وفي غفوة الياسمين النَّقي
                        تلوحين لوناً رغيداً سعيداً
                        فأُغمضُ جفني على شَيّقِ
                        وأفرق إن بحتُ عفواً بحبّي
                        فأجرحُ طهرَ غرامٍ تَقي
                        ويبسمُ ثغرُكِ إمّا قصصتُ
                        عليكِ أحاديثَ حبّي الشقي
                        يداعبني منكِ خبثٌ بريءٌ
                        فأهتفُ: ويحي! متى نلتقي؟
                        متى ارتعش الحبُّ في خافقي
                        تقولين، لا بُدَّ؛ لا تُشفقي
                        وأنتِ خيالٌ غنوجٌ سرى
                        على مربع الوهم لم يتَّق
                        وفرعُكِ ليلٌ يغيم سواداً
                        ويسفحُ فجرَ جبينٍ نقي
                        وجفنُكِ جنحُ حَمامٍ يرفُّ
                        ويهفو إلى مأمل مُشرق
                        يسامر في الحُلم سربَ طيورٍ
                        ويغنجُ ملءَ غدٍ مُورق
                        بلى! أنتِ طرفةُ حلمي الشهيِّ
                        تلوب على أُفق أزرق
                        فَتَنْهَدُّ دونكِ قبلةُ ثغرٍ
                        ذبيحٍ وتحُبو على المفرق
                        أحبّكِ في غفوة الياسمينِ
                        وفي ميسة الفُلِّ والزنبق!

                        تعليق

                        • د. حسين علي محمد
                          عضو أساسي
                          • 14-10-2007
                          • 867

                          #13
                          بودلير وأزهار الشر

                          بقلم: د. بديع حقي
                          ................

                          إنه يشرئب قمة شامخة، باذخة، بين قمم الشعر الفرنسي، ويمتد تأثيره إلى الشعر العالمي برمته، وتنساق صورة الشعرية، الأخاذة، الموحية، إلى مختلف المدارس الشعرية المستحدثة، من رمزية وسريالية ودادائية وغيرها، لتتأثر به وتمتح من ينبوعه الثر، حتى "فيكتور هوغو" نفسه مبتدع الرومانسية رائدها الأكبر، اعترف بأن بودلير أحدث في الشعر الفرنسي رعشة جديدة، واعتبره الشاعر الفرنسي "بول فاليري" سيداً من أسياد الكلمة التي تمتلك سيرورتها وتضمن بقاءها الدائم الخالد.‏
                          وعلى الرغم من أن له ديواناً واحداً، فريداً، هو "أزهار الشر" فقد تأتي له بالعطر الساطع المكثف، المترقرق في أفواف أزاهيره الاسيانة أن يضمخ عصراً بأسره.‏
                          وقد أصدر بودلير هذا الديوان عام 1857، والرومانسية "الإبداعية" في أوج عزها وازدهارها، في كل أنماط التعبير من شعر ومسرح ورواية، وكان على هذا النهج الرومانسي أن يتقهقر، وأن تتضاءل سيطرته وهيمنته، بعد أن استشرف حد الكمال والنضج، كما القمر الذي يتضاءل ويتناقص شيئاً، فشيئاً، أما اكتمل بدراً. وتجلت ردة الفعل المباشرة في نهج "البرناسية" التي اتخذت من مبدأ "الفن من أجل الفن" شعاراً لها، ضد الأسلوب العفوي، المهلهل "الغالب على أدب الرومانسيين" داعية إلى التخلي عن العاطفة الجياشة والأنات الشجية، التي هيمنت في جل الآثار الرومانسية، ولئن ظهر هذا الديوان، مترجحاً، على هامش التيارين الرومانسي والبرناسي، فبدا رومانسياً في الاستسلام للأسى الملوع، الغلاب، وبرناسياً في أسلوبه المستحصد وكلفه بانتقاء الكلمات والحروف وصقلها، إلا أنه جاء بنكهته الشائقة، الغربية وصوره الجارحة اللماحة، متجاوزاً كلا التيارين المتناجزين، ليضحي بودلير، بحق، أبا الشعر الحديث، ورائده الملهم في العالم كله.‏
                          ولقد كان لسيرة حياته المضطربة، الملعونة- كما كان يؤثر أن يصفها- أثر كبير في شعره، كما كان اطلاعه على أدب "إدغار ألان بو" الشاعر الأميركي، ونقله بعض آثاره- لا سيما قصصه الخارقة- إلى اللغة الفرنسية، متيحاً لقلمه الرهيف، بأن يهفو إلى آفاق جديدة من التعبير "على النحو الذي جلته دراسة وافية لبول فاليري" ولهذا كله، فإنه يحسن أن نسوق، سيرة حياته، بإيجاز، وأن نستجلي معجزة شعره، بعد أن وصفه الشاعر العبقري "رامبو" بحق، إنه الشاعر الأعظم والمتنبي الملهم.‏
                          سيرة حياته المضطربة:‏
                          ولد شارل بودلير في باريس عام 1821، وكان يبلغ السادسة من العمر حين توفي والده جوزيف فرانسوا، وتزوجت أمه كارولين، العقيد "جاك أوبيك"- الذي أضحى، فيما بعد لواء في الجيش ثم سفيراً، وقد خلف هذا الزواج في نفس الطفل المتعلق بأمه الحنون، شرخاً عميقاً لم يبرأ منه قط، وظل يعتبر أوبيك دخيلاً، حرمه حنان أمه وكدر صفو حياته كلها، ولعل الطفل المرهف الحساسية، قد استعاض من حدب أمه، بعد أن وضع في مدرسة داخلية، تمرداً وعناداً طبعاً عصياً، وانصرافاً إلى المطالعة، فلما أضحى شاباً، مال إلى الشعر فقرزمه، وبرز فيه بين أقرانه، غير أنه كان متلافاً، مسرفاً في عبثه وتبذيره، وحاولت أسرته أن تثنيه عن مغريات باريس، فحملته على الرحيل، من دون رغبة منه، في باخرة أبحرت به إلى جزيرة "موريس" فجزيرة "بوربون" فالهند، وادخرت ذاكرته الرهيفة من هذه الرحلة الطويلة، الشائقة صوراً رفافة عن مفاتن المرأة السمراء وعطرها وسحرها ورياها، معطرة بأفاويه الشرق وتوابله الشهية، ولكن الحنين لج بالشاعر إلى باريس، فآب إليها ليستأنف مجونه ولهوه، مما حمل أسرته، بتوجيه من زوج أمه، على أن تحد من استهتاره، وتجعل أمر الإنفاق عليه من ثروة أبيه الطائلة التي آلت إليه، بعد وفاة أبيه، منوطاً بموافقة وصي شرعي- وكان هذا كزاً بخيلاً- حرص على التضييق عليه، من دون أن يولي أي اهتمام، الشاب المولع بالأناقة، المتوفز المشاعر، المتفتح للحياة، مما دفع الشاعر على التمادي في غواياته، سادراً بين الخمرة والحشيش معلق القلب بغانية لعوب تدعى "جان دوفان"، خلبت لبه وأرهقته بنزواتها ومزاجها الطرف المتقلب، الملول، وقد سام الشاعر، إلى جانبها حياة مترعة بالأسى واللوعة، وابتلى بمرض (الزهري) فلم يبرأ منه، عمره كله.‏
                          من هذه الحياة المضطربة بين الحب المشبوب، الخائب، والمرض العتي، وسمادير الحشيش، ونشوة الكأس الروية، استوحى بودلير قصائده كلها، تنتظم في ديوان وحيد، سماه "أزهار الشر" لم يلبث أن أحدث، عند نشره، جدلاً عنيفاً، لدى بعض أوساط المجتمع الفرنسي المحافظة، المتزمتة، فأقيمت على الشاعر وناشره دعوى، بحجة أن بعض قصائد الديوان تنافي الخلق القويم وتصدمه، بما تضمنت من جرأة فاضحة، وفي وصف الشهوة والغلمة، ومفاتن الجسد، وحكمت على الشاعر بدفع ثلاثمائة فرنك ودانت ست قصائد من الديوان، محرمة نشرها في الطبعات المقبلة، ولئن خلف هذا الحكم في نفس الشاعر خيبة ومرارة من نحو، لقد عمل، من نحو آخر، على أن يرفد الديوان بشهرة لم يظفر بها أي ديوان شعري، في فرنسا، وظل بودلير يتابع نشاطه الأدبي، فنشر مؤلفات في النقد الفني لفتت الأنظار إليه كناقد من طراز رفيع، متميز، وفاجأه مرض الفالج وهو بعد كهل، لم يكمل العقد الرابع من عمره، في بروكسل، ومنها نقل إلى باريس، عاجزاً عن الحركة والكلام، حتى قضى نحبه في 31 آب، عام 1867.‏
                          صراعه بين الخير والشر:‏
                          إن أبرز ما كان يبلوه بودلير، في أدبه وحياته معاً، هو ذلك الصراع المحتدم بين الخير والشر، اللذين كانا يتجاذبانه دوماً، وقد عبر هو نفسه عن طبيعة هذا الصراع بقوله: "إنني أشعر مذ كنت طفلاً، بأن هناك نزعتين تستبدان بنفسي، لأترجح حائراً، ما بين كراهية الحياة، وبين الشغف بها إلى حد الوجد والنشوة، وحين كانت كراهية الحياة تطغى على وجدها، فقد كان يشعر أنه فريسة السأم المقيت الذي وصفه "جان بول سارتر"- في دراسته المستفيضة عن بودلير- بأنه لم يكن سأماً فكرياً، بل سأماً حسياً، عصبياً، وكان بودلير يدعو هذا السأم spleen ويعني به السويداء الكئيبة، القاتمة. وكان يفزع، أما رغب في الانعتاق منها إلى محاولات شتى- لمح إليها في بعض ما كتب أو نظم- وكان الحشيش الذي استطابه والخمرة التي كان مولعاً باحتسائها أيسر هذه المحاولات. وقد عبر عن قلقه المترجح ما بين الخير والشر، بصيغة أخرى، في قوله: "إن في قلب الإنسان، نزعتين متضادتين، تنحو به أولاهما إلى الله، وتهوي به ثانيتهما إلى الشيطان، فالتوجه إلى الله هو الرغبة في السمو درجة نحو المراقي الإنسانية-، أما الهبوط إلى الشيطان، فهو الانحدار درجة، نحو قاع الحيوانية."‏
                          ولعل بودلير، بنفسيته المترددة، الجامحة، كان يجنح إلى الشيطان أكثر مما كان يهفو إلى الله، يقول: "إن خطايانا المترددة، الجامحة كثيرة فكيف تبنى لنا أن تتحرر منها، حين تسوقنا قوى جارفة تكتسحنا ولا قبل لنا بمقاومتها، إن الشيطان هو الذي يمسك بالخيوط التي توجهنا وتحركنا، أنى مضينا".‏
                          هكذا يتضح لنا تشاؤم بودلير، ملفعاً بالسويداء المضنية التي سربلت حياته وشعره معاً.‏
                          رأيه في الصراع بين النور والظلام:‏
                          إن هذه الثنائية المتجلية بوضوح، في نفسية بودلير القلقة، الحائرة ما بين الخير والشر، تجد لها صدى وتجاوباً في العقيدة المتكئة على مذهب "ماني الفارسي" فالمانوية تفترض قيام قطبين متناقضين، أولهما الخير ويمثله النور، وثانيهما الشر ويمثله الظلام "الرديف للمادة برأي هذا المذهب" وسيظل هذا الصراع بين الخير والشر، بينا لنور والظلام، متصلاً، محتدماً في قلب الإنسان، لا يتاح له أن يتحرر منه، إلا بالعلم المتكئ على فكرة الفداء الذي جلاه "كما يرى بودلير" المسيح فوق صليبه، ولعل بودلير إذ يستجلي الخير والشر، الكامنين في أعماق ذاته هو- كما يقول "سارتر"- يماثل "نارسيس" في الأسطورة اليونانية، الذي كان يرامق محياه، منعكساً فوق صقال سطح النهر، وهو بقسمات محياه معجب، مفتون، بيد أن بودلير كان يرغب، فيما هو يتكئ إلى جوانية نفسه، في العثور على المثالب، أكثر مما يرغب في استجلاء المزايا كان يحاول أن يكون جلاداً لنفسه، مولعاً بتعذيبها ففي هذا التعذيب تتضح شخصيتان مندمجتان معاً، يندغم فيهما الجلاد والضحية في آن.‏
                          لقد شاء بودلير أن يرامق دخيلة نفسه، كما لو أنها منفصلة عنه، وكانت حياته كلها سلسلة من الإخفاق المستمر، في أن يبصر ذاته على حقيقتها، وكان يكتفي، فيما كان يتأمل فيها، بأن يسبر بمبضعه الخفي، الحاد، مواضع الجراح التي لأمت على تغل، ليفتحها ويحركها وينفضها، بشعره ونثره كما ولا أروع.‏
                          اتجاهه السياسي والاجتماعي:‏
                          لقد تأتّى لأحداث عام 1848 التي ألهبت نار الثورة في أوربا كلها بعامة وفرنسا بخاصة، أن تهب لبودلير الفرصة السانحة ليطلق نفسه المكظومة من عقالها، ويفصح عن حماستها لمظاهر التمرد الشعبي الصارم ضد الهيمنة والحواجز الاجتماعية المصطنعة التي كان يكرهها. هكذا مضى ليشارك المتمردين في انتفاضتهم المفاجئة، مكتسباً بندقيته، خلف المتاريس المقامة، ولقد فكر فيما كان ينساق في لجج الثورة أن يمضي إلى أوبيك، زوج أمه القاسي، البغيض، ليغتاله ويتخلص منه- كما اعترف بذلك فيما بعد- بيد أن مشاعره المتجاوبة مع أوار الثورة لم تلبث أن خمدت مع انطفاء شرارة تلك الانتفاضة.‏
                          إن هذا الموقف السياسي الذي جنح إليه بودلير في تلك الفترة العصيبة، يفسر طرفاً من النقمة التي كانت تمور في عطفيه ضد مجتمعه بعد أن حرمه هذا المجتمع ما كان يتوق إليه ويتمناه: الثروة والمجد والحب والوفاء، والحنان الصادق، غير أنه لم يعرف عن بودلير أي نشاط سياسي أو أي عمل اجتماعي ظاهر، فقد كان يعتقد مخلصاً، أن العمل السياسي والعمل الاجتماعي ينطويان على النفاق والكذب والوهم، أما الدين فلا يتأتى له أن يزجي الحل المرجو لأن الله- برأيه وعلى الرغم من إيمانه- لا يقدم للخاطئ التوبة المجدية، بل يضيف إلى عذابه توقاً إلى الطهر هو أشبه بالممرات.‏
                          بودلير والنقد الفني:‏
                          كانت الخيبة، إذن، تنتظر بودلير، فيما هو يراعي مجتمعه الجائر يسود فيه النفاق والمداهنة، ولقد وجد في التأنق المسرف مفزعاً يفترق به عن الآخرين، ليشعرهم بتفرده وسمو شخصه، كما ألفى فيما هو يكشف عن خبيئة نفسه ويصمها بكل غميزة ونقيصة تنالان من خلقه، ما يرضي نزعة التمرد والتحدي، ضد مواضعات مجتمعه الظالم.‏
                          كان الفن، وحده، يتجلى ويترفق من قلمه- شعراً كان أم نثراً- المجلى الوحيد الذي يفثأ فيه سورة غضبه ونقمته، كما يتألق فيه ويسمو على الآخرين، وقد أعانه الجو البوهيمي الذي كان يستعذبه على أن تتسق لديه رؤية خاصة للإنسانية كلها، فكان يطيب له أن يصف المنحرفين والمسحوقين والشاذين والشحاذين والبغايا، مؤكداً أن مصور الحياة الحقيقي هو الذي يستطيع أن ينتزع من الواقع جانبه الملحمي والأسطوري، وكانت الحياة الباريسية خصبة، متنوعة، بكل ما تحفل به من مشاهد، فاستوحى منها وسبر خفاياها وجلا بهرجها المزوق، ونفض ذلك كله في مختلف آثاره النقدية عن الفن: "الصالونات" و"الفراديس المصطنعة" و"طرائف جمالية" وغيرها، وقد برز فيها بودلير ناقداً فنياً تشكيلياً، ذا نظرة واعية، تعرف كيف تتذوق وتقوم وتجلو مكامن الجمال الحقيقي في الفن، وقد عرف عنه أنه كان يحب أن يختلف إلى مراسم الفنانين، ليتحدث إليهم ويواسيهم ويصغي إلى شكاتهم وكان قلمه يعرف كيف يحسر في نقده عن جمالية اللوحة وأسرار ألوانها وموسيقا أصباغها "كما كان يحلو له بهذا التعبير أن يضفي الموسيقا على اللون".‏
                          هكذا تيسر له أن يقوم آثار "أنغر" و"كورو" و"دولاكروا" الذي كان يصفه بأنه أسمى قمة بين قمم التصوير في جميع العصور، مستشفاً في لوحات هؤلاء الفنانين نواحي متميزة لم يقدر لأي ناقد أن يستجليها مثله، ولم يقتصر نقده على الفنانين المصورين فحسب بل تجاوزه إلى عمالقة النغم، فكتب عن "تانهاوزر" ومؤلفها الموسيقي الألماني العظيم "فاغنر" فكان أول من نبه إلى عبقريته الموسيقية.‏
                          ديوان أزهار الشر:‏
                          أفضى ديوان أزهار الشر، وما أثار من ضجة وصدى، أثر الدعوى التي أقيمت على بودلير وناشره إلى جدل وتطلع وإعجاب، ظل يتسع، يوماً بعد يوم، حتى عصرنا الحاضر.‏
                          وينتظم معظم قصائد الديوان عنوان عام هو "سويداء ومثل أعلى" ويعني به سأم الشاعر وسويداءه، من نحو، وظفره بمتع الحياة ولذاتها التي تأتى له أن يتذوقها، من نحو آخر، فهناك أشياء شتى، في ميسورها أن تخلق لدينا فكرة المثل الأعلى المنشود، على تناقض قيمات هذا المثل، كالدين والخطيئة والرذيلة وسراب الفراديس المصطنعة، إنها الأزهار المنثورة، المنهمرة في بيداء الحياة، تلك هي أزهار المثل الأعلى التي هي في الوقت نفسه أزهار الشر، كما يقول الناقد "غي ميشو"، ويستطيع العطر الساطع، الفاغم منها أن ينسخ تلك السويداء وأن يبددها. وقد جاء كتابه "قصائد من نثر" كما لو أنه تتمة لديوان أزهار الشر، متناغماً معه في النسق نفسه الذي أملته روح بودلير القلقة، المعذبة، ضمن رؤية مستجدة، تهمس فيها الأصوات وتتكلم الألوان وتتحدث الروائح، لتخلق الرعشة العجيبة الحلوة، فاسحة آفاقاً رحيبة من الأفكار والخواطر الشفافة، على نحو تلمح فيه وتوحي أكثر مما توضح وتفسير، إنها تلك الرعشة التي عناها "هوغو" في كلمته المشهورة عن الديوان، وقد عرف بودلير جيداً كيف يريقها في شرايين كلماته.‏
                          وقد تأثر بودلير، إلى حد كبير، بالشاعر الأميركي "إدغار ألان بو"- كما قدمنا- وكان من أوائل الشعراء الذين عرفوا أن العالم الذي ينفسح أمام أبصارنا هو غامض، مبهم، وأن مهمة الشاعر الرئيسة هي أن يستل من جميع المشاهد التي تصافح بصره، على ما في بعضها من قبح، كل الشبهات والألوان الكامنة، المستسرة فيها.‏
                          وكان موقف بودلير من الرومانسية السائدة في عصره يماثل موقف رائد "البرناسية": "تيوفيل غوتيبه"، حتى لقد أهدى إليه ديوانه، معتبراً إياه معلمه الأول، وذلك برفضه العاطفة النواحة، المتدفقة في الرومانسية، وقد مال بودلير، في البدء، إلى شعار "الفن من أجل الفن" الذي رفعه البرناسيون لأنه كان يؤثر الأسلوب الناصح، المستحصد المصفى، مؤمناً بأن الشعر الحقيقي يتجلى بصياغته وموسيقاه اللفظية، وأن الجملة الشعرية تستطيع أن تنفض الإحساس بالرأفة أو المرارة أو الرهبة، وغيرها بإيرادها الألفاظ والمترادفات والحروف الملائمة، في النسق المناسب، مما يخلق جو الإيحاء المبتغى المطلوب، وعلى نحو قد يتجاوز في دلالته، المعاني التي تتضمنها الألفاظ وتحتويها، بيد أن بودلير ألفى، فيما بعد، أن شعار "الفن من أجل الفن" عقيم، جاف، خال من الحياة، لأن شعره نفسه يشي، في الواقع، بنبض الحياة وما تزخر به من بدوات ونزوات، وكان يشعر بأن فنه ينبغي أن يتسم بإثارة شيطانية، يقول في صفحة من مذكراته: "إن أكمل نموذج للجمال الفحل هو إبليس".‏
                          نظرية التطابق وتراسل الحواس، في شعره:‏
                          كان بودلير يرى أن على الشاعر، فيما هو يريق صوره الشعرية، مضفياً عليها جمالها الساحر الآسر، أن ينفذ إلى جميع العلاقات القائمة ما بين الإنسان والطبيعة، وأن عليه أن يضرب في غابات من الرموز الطيعة، المنسجمة، التي تفسح له آفاقاً من المعرفة لأسرار الكون، حيث يضحي شعره المماثل للموسيقا الهامسة، قادراً على الإيحاء والإيماء، كما يتاح له أن يستجلي كل ما يتسق بين حواسه من تطابق وتراسل، فيما هو يرى إلى الألوان والأنغام والعطور تترقرق، متناغمة متجاوبة، متآلفة، وقد لخص هذه النظرية في قصيدته الرائعة "العلاقات"، نذكر فيما يلي بعض أبياتها:‏
                          الطبيعة معبد، تنبعث فيه أعمدة حية‏
                          تتناهى منها، أحياناً همسات مبهمة،‏
                          ويجوزها الإنسان، عبر غابات من الرموز‏
                          التي تلامحه، بنظراتها الحادية،‏
                          وكالأصداء الطويلة، الممتزجة، المتلائمة، بعيداً‏
                          في وحدة غائمة، عميقة،‏
                          فسيحة، كالليل، كالنور،‏
                          فإن العطور والألوان والأصوات تتجاوب.‏
                          وقد عد كثير من النقاد هذه القصيدة مدخلاً إلى فهم شعر بودلير وتذوق جماله الآسر، هذا الجمال المتجلي في إرضاء حواس الشاعر وتراسلها وإفضاء بعضها إلى بعض، بما فيها حاسة الشم المرهقة، المتوفزة لدى بودلير أكثر من حواسه الأخرى، على نحو حمله على القول: "إن روحي ترفرف فوق العطور مثلما ترفرف روح الآخرين على جناح النغم". وقد أكد بودلير نظرية التطابق بين الحواس، فيما هو يجلو مشاعر مدخن الحشيش- الذي جربه الشاعر- فقال: "إن الأشياء الخارجية تتجلى في نظر المدخن ملفعة بسماتها الخاصة، فالأصوات ترتدي ألواناً، والألوان تتضمن أنغاماً، وتتواصل هذه العلاقات موقرة الذهن بطبيعتها المتسلطة، المهيمنة."‏
                          مكانة بودلير في الشعر والنقد الفني:‏
                          كان ديوان "أزهار الشر" مجلى لأهم ثورة في الشعر الفرنسي، بله الشعر الأوربي كله، بعد أن ترجم إلى معظم اللغات، وقد أضحى عام 1857 الذي نشر فيه الديوان استهلالاً لعصر في الشعر جديد، ينسحب إلى عصرنا هذا، فقد تآثر به معلم الرمزية "مالارميه" في قصائده الأولى، كما تآثر به "رامبو"، وذكر "مورياس" في بيانه المشهور عن الرمزية، أنه الرائد الأول للرمزية، وأشار "فيرلين" إلى بودلير، فذكر أنه أول من استنزل لعنة الشعر، وبلا حلوه ومره معاً واعترف "بروتون" بأن السريالية إنما تمتح من منهله الثر السخي. هكذا تسنى لديوان أزهار الشر أن يفرع الحدود ويتأثر بصوره الرائعة الشائقة، جميع الشعراء الذين لمسوا ما فيه من جدة وماء وطلاوة وسحر، ولا تزال الدراسات النقدية تترادف حتى الآن، حاسرة عما في شعر بودلير من رونق وابتكار وأسر، ولا تزال آثاره في النقد الفني، منفسحاً لكثير من الآراء والخواطر التي تفصح عن ذائقته الفنية الناضجة الواعية، في استجلاء روائع اللوحات وأطايب اللحن والنغم.‏
                          ...................
                          *المصدر: مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 279 تموز 1994

                          تعليق

                          يعمل...
                          X