موسم الآخرين
برد قاس يقتات على العظام و المفاصل. ريح مُحمّلة بحصى كحبّ الخراطيش تلفح بعنف كلّ ما يعترض طريقها. مغتاظة، بألف ذراع عند نهاية كلّ ذراع ألف مشرط. ريح تعثر على كلّ شيء مهما تعنّت في الاختباء. حرّة أكثر ممّا ينبغي. باستطاعتها أن تدخل و تخرج إلى حيث تشاء،من حيث تشاء. المدينة بأسرها تئنّ تحت صقيع الموجة المُتجمّدة. عواؤها فيه إلحاح غريب. غيّر وجهت. كما لو أنّها تدعوه لتعقّبها. الحانات مكتظّة. محلاّت الأكلات السّاخنة ملآنة. الإعلانات الإشهاريّة تتناوب الظّهور على اللّوحات العملاقة، آخذة بعين الاعتبار ،كدأبها، أن تقع عليها عيون ثملة فتزداد نشوةُ أصحابها عذوبة. الأفكار ملقاة على قارعة الطّريق، الأجسام كذلك. لا أحد يلتقطها، و العبارات لا تستحيل لها طيّعة إلاّ إذا أحكمت الظّاهرة سيطرتها على الرّقاب بقبضة من فولاذ؛ ذاك ما لاح لخاطره و هو يجوب أنهج المدينة.
من شرفة بيته راح ناظم يراقب الشّارع المُقفر. ثمّة ما يسترعي الانتباه، رغم العتمة التي تشبه إغماضة العينين. إلاّ أنّه أحسّ بالدّم يغادر أصابع قدميه فآثر الدّخول.." أن تدخل! كيف لم يخطر لي أمر مماثل من قبل؟ السّجناء هم الذين يُمنعون من الخروج و لا إلى أيّ مكان. فماذا نُسمى الذين يُمنعون من الدّخول و لا إلى أيّ مكان؟".
قبل أن يخلد إلى النّوم، دخل غرفة الأولاد. سوّى أغطيتهم بعناية. عرّج ليلقي عليها نظرة أخيرة، جاس ببصره في أرجاء المكان. قبل قليل سمع ابنه الصّغير يقول لأمّه: هنيئا لها لأنّها لا تستيقظ للمدرسة مثلنا.
كانت قد نامت. لا تُكلّم أحدا.. ضحك بسخرية مغمورة بوخزات حزينة لمّا ارتفع إلى ذهنه أنّها اختزلت بسخاء بيته و شارعه و متاعبه و غيبه و ماضيه في خلاصة صغيرة: " كلّ شيء عدا الصّمت بثّ مُسجّل."
***
حدّق ناظم مليّا في ساعة معصمه. انتبه بعد برهة إلى أنّ شيئا لم ينطبع في مُخيّلته من رسم العقارب. توقّف بشكل مفاجىء. كاد يتجاوز دار المسنّين. كان شاردا يرتّب أفكاره و يستعرض للمرّة الأخيرة الأجوبة التي رسا عليها حتّى ساعة متأخّرة من ليلة البارحة. استدرك في سرّه: ماذا لو بالغ مدير الدّار في الخوض في التّفاصيل. سيبدأ بالاسم طبعا. جوهر الحكاية مبنيّ برمّته على إخفاء الجانب الأكثر إثارة للأسئلة. مُعادلة صعبة. وجد نفسه إزاءها مُطوّقا بالأضداد. بدا له أنّه أشبه برجل مشدود بحبال يُقرّ بضرورتها من جهة، لكنّه يرى انفلاته من عقالها ضروريّا أيضا. سيكون عليه إقناع المدير بالموافقة دون أن يروي له شيئا. امرأة متقدّمة في العمر فقدت مداركها العقليّة. ماذا يريد أكثر؟ ثمّ طمأن نفسه بأنّ المدير يتعامل في الغالب مع أمثاله. بدت له دار المسنّين كئيبة عجوزا رغم طلائها الأبيض المتوهّج و شجيرات اللّيمون المُثمرة المُطلّة على السّور. أحسّ برجفة تسري في أوصاله.يدري أنّه لو استسلم لمحاورة نفسه لتخاذل عن تنفيذ ما عزم عليه. لم يعد هناك مجال للتّأجيل. حثّ خطاه نحو الدّار. خلافا لما اعتقد لم يركّز المدير كثيرا حول الدّوافع و الجزئيّات. بل بدا له كباعة الخمر بطبيعتهم التي لا تعظ، و لا تؤنّب. راق له ذلك. أخبره فقط بأنّه يأسف لعدم قبولها إذ ليس بإمكانه إيواء مجنونة بين عقلاء. ماذا لو قتلت أحدهم؟ أردف بنبرة جادّة جعلت ناظم يتلقّاها كتوبيخ.
كان في كلّ مرّة يُرفض فيها طلبه يتفاقم شعوره بالمرارة و تزدحم في صدره آلاف الأحاسيس المتناقضة. لن يُعير اهتماما لكلام النّاس. لن يترك الفرصة لأبنائه و زوجته سوى بالاستمتاع بالنّتيجة بعد أن يكون قد محا كلّ أثر خلفها. بداوته التي لم يتخلّص منها تثير اشمئزازهم مُخلّفة لديهم مسحة من العار. ابن الرّيف الذي استولى على وظيفة سامية و انتزع من المدينة زوجة و أولادا كما تغلغل بداخله عبر السّنين، عليه - فيما ترسّب فوقه من علامات و تجارب- إلى جانب رعاية نزواتهم، أن يبقي على قدميه داخل الحذاء، كي لا يرحل حافيا إذا عنّ لهم يوما أن يطردوه. يعي ذلك جيّدا. يعي أيضا أنّهم لو علموا بما ينوي القيام به بشأنها لقصموا ظهره بالطّلبات الثّقيلة، فقط ليلقّنوه بأنّ ما يقوم به لا منّة فيه و أنّه لا يمنع بشكل كونه خادمهم الخصوصيّ. " كي ترفع بعضا من أدرانك بحرّيّة، عليك قبلا أن تدفع الكثير بالإكراه..كم هي عديدة أوجه البغي."؛ حاصر أفكاره أخيرا.
لصالح من منهما يفعل ما يفعل؟ هبّ السّؤال مباغتا ممزّقا سيل الرّضا الذي بالكاد وصل إليه. كان دائما يكرّر على مسامع أصدقائه: يقطفون ثّمرك بشراهة حتّى إذا فرغوا رجموك عقابا لك على غراستها وسط الطّريق العامّ.
بدأ من حيث قدّر أن يبدأ. اتّصل بمستشفى الأمراض العقليّة.
- ألو مرحبا..من فضلك أريد قسم القبول.
- ألو مرحبا..من فضلك سيّدتي أريد الاستفسار حول قبول المرضى..ثمّة امرأة فاقدة لمداركها من جهتي و أريد...
قاطعته بمهنيّة جافّة:
- سيّدي أوّلا نحن نعالج مرضى يُرجى شفاؤهم كما تدلّ على ذلك عبارة مستشفى..ثمّ إنّ أسرّة العالم لن تكفينا لو فتحنا المجال لقبول المجانين يمنة و يسرة...
أقفل الخطّ و قد دبّ فيه توتّر عارم. لا بأس. على الأرض ما يكفي من اللاّمبالاة ليتفرّغ أحدهم لمحاربة الشّقاء و لو من فتحة ضئيلة. لذا عدّها إخفاقة يجدر طيّها أيضا. من أجل ذلك كان لابدّ أن يفرغ من جميع مشاغله الأخرى كي يتسنّى له الانشغال بشلاّل الفراغ المُفزع الذي ينزّ من الآخرين.
لم تكفّ يوما عن أن تكون حاضرة بقوّة في حياته. يذكر المشهد جيّدا، أكثر من مجرّد استحضار مُترف، يشعر بأنّ الّلقطة تشاركه حياته، أو كأحد أطرافه ما تنفكّ ترافقه أينما ذهب؛
كان هو و أمّه يومها عائدين إلى البلدة بعد يومين أمضياهما في بيت جدّه. حافلة قديمة واحدة موكل لها جميع الرّحلات. برز "لمين" كما من تحت الأرض. ببنيته القويّة و قسماته المليحة الصّارمة المُنهكة و شعره الطّويل. سكّير منحرف شهم. ظلّ ناظم أسبوعا بعدها يحاول تقليد طريقة "لمين" في الالتفات بحدّة كعصفور. حمل "لمين" الحقائب. حفظها في صندوق الحافلة. صعد معهما . تخيّر لهما الكرسيّ الأفضل. ثمّ انهمك في إغلاق النّافذة. يذكر أنّها كانت مستعصية. قال كي لا يتسرّب لناظم الهواء البارد إذا تحرّكت الحافلة. ثمّ قرصه على خدّه برفق و نزل. لا يدري منذ متى تحديدا صار "لمين" يبيت في العراء تحت سور سوق القرية فاقدا للوعي تحت تأثير الكحول. كم تمنّى لو كان باستطاعته أن يقيه الهواء البارد و لو من منفذ ضئيل لا يتعدّى فتحة نافذة الحافلة.
هي كلّ ذلك دون أن تدري و دون أن يدري.
تابع محاولاته. استقبله رئيس البلديّة في مكتبه. لم يشأ الدّخول عبر بوّابة الصّداقة. اختار بالأحرى الحصول على إذن مُسبق.
حرص بنيّة مضمرة على أن يذوّب موضوعه في الكثير من كلام المجاملة:
- في مُحيطي امرأة مُسنّة فاقدة لمداركها ، لجأت إليك، ربّما ساعدتني على إيوائها أو ...
- أو ماذا سيّد ناظم..؟ زيارتك عزيزة لكنّي حقيقة لا أفهم قصدك بالضّبط... ربّما مع قليل من الاجتهاد و كي أرفع عنك الحرج، أخبرتك أنّ البلديّة - أكرمك الله و أكرم أهلك - بإمكانها فقط أن تدفن، و كما تعلم ليس بوسعنا أن ندفن حيّا..
الأحياء لا يُدفنون. كم تمنّى لو أنّ لديه القدرة على الكتابة لاستعارها من الدّنيا فصاغ منها جملا بينها علاقة.
و كمرحلة ليس بعدها سوى أن يقتلها، ترك ناظم مجال التّأويل مفتوحا وهو يحدّث صديقا قديما برتبة قاض، بعد أن ضرب معه موعدا.
أصغى وكيل النيابة إلى ناظم باهتمام بالغ و قد كسا ملامحه تعبير استغراب صارخ قبل أن يجيب:
- ككلّ القطاعات الأخرى، نحن نسير وفق ضوابط إداريّة ينظّمها القانون..الأبرياء لا يدخلون السّجن سيّد ناظم. كيف تطلب منّي أن أزجّ ببريء في زنزانة..لسنا الحياة. نحن مجرّّد شرطة لديها. ثمّ أفلتت منه ضحكة، اهتزّ لها بطنه كما ليعبّر بأنّه كعادته يغفر للدّنيا غفلتها الحمقاء عن عدم تدوين كلامه بماء الذّهب.
قبيل الفجر انسلّ ناظم من فراشه بحذر. كان قد أعدّ ما يلزم. تقدّم نحوها بخطوات متلاصقة خشية أن يوقظها. لم تصدر عنها أيّة حركة. وضع بجانبها معطفا و غطاء صوفيّا خشنا ثمّ انصرف مُسرعا.
لم يبق بعدها للمرأة التي تبيت في العراء على الرّصيف قبالة بيته، إلاّ أن تُعجّل بموتها... كي تدخل.
****
محمد فطومي
تعليق