الحب الخالد
أطرقت رأسها أرضاً وجلس هو قبالتها ينظر إلى عينيها في حزن وقد تعلقت نظراته بدمعة ساخنة زحفت على وجنتها في بطء قبل أن تنساب في نعومة وتسقط أرضاً … راقب اختلاطها بالرمال القليلة المتناثرة على سطح منزله … كان النهار قد انتصف لكنه لم يكن يبالي بالشمس التي كانت تلفحهما بحرارتها…
رفعت رأسها إليه وأمسكت بيديه وقالت في ضراعة:
- هل أزعجتك في شيء ؟..
- أبداً .. كنت كالنسمة دوماً.
قالها وعيناه تحملان حزن الدنيا كلها … فأشرق وجهها هنيهة .. ثم قالت:
- إذن لم تريد أن تتركني.؟..
صمت لحظات وهو يستميت ليمنع دمعاته من الانهمار … فعاد الحزن يكسو ملامحها وهي تقول:
- لم يعد يعجبك شكلي … أعترف أنني لست جميلة..
تطلع إلى عينيها الواسعتين كبئر عميق … وإلى خصلة سمراء من شعرها تسللت خارج المنديل وإلى شفتيها الممتلئتين … تأمل كل هذا فاعتصر الحزن قلبه وهو يقول:
- أنت فاتنة … حلوة الملامح … رقيقة مكتملة الأنوثة … والأهم من هذا كله ملتزمة بدينك وتعرفين الله جيداً…
ثم اقترب من وجهها وقال:
- ألا زلت تصلين؟.
قالت بعصبية:
- نعم … وأنت تعرف هذا … إذن لماذا تريد أن تفسخ خطبتنا … لماذا وقد كنا نتغنى بالحب الذي جمعنا منذ عرفنا بعضنا … ليس من حقي أن أمنعك … لكن من حقي أن أعرف السبب.
دوي صوت انفجار قوي جفلت له في قوة..
غير انه ما اهتز إنما نظر لأعلى وقال:
- لا تخافي … إنها طائرة اخترقت جدار الصوت ، لا تنسي أنه مر يوم كامل دون أن يغتالوا أحداً … اليوم يواصلون ألعابهم معنا …
حانت منه التفاتة إلى الأطلال المتناثرة في كل مكان والبيوت المهدمة التي كانت يوماً مخيماً ما في مدينة ما … كان الصبية يعبثون بقطع من الأثاث الذي انهارت فوقه أسوار المنزل وحجارته … فاختلط الأثاث بالكتب المحترقة بدماء من كانوا يومها ينامون معاً ويلعبون معاً ويأكلون معاً قبل أن تهوي القذائف فوق رؤوسهم فتدفنهم أيضاً … معاً …
وأخيراً قال:
- أعترف أنني عشت معك أجمل أيام حياتي … أياماً كانت كلها فرحة وبهجة وأمل بالمستقبل … كنت أنت ملهمتي … وما كان يسعدني في الدنيا شيء قدر سعادتك..
قالت في لهفة:
- وإذن
أدار رأسه في ألم…
فقالت:
- ما الذي تغير …؟ هل وصلك عني كلام يسئ لي …؟ هل رأيت مني ما أزعجك…؟
هز رأسه نافياً…
فاتسعت عيناها كأنما أدركت فجأة سر تغيره … وقالت في لوعة :
- إذن هناك أخري …
- ………………
- لم أنت صامت هكذا ؟؟؟
- أجبني … هل هناك أخرى؟
لم يجب لكن صمته كان أبلغ من أي جواب …
فقالت بأسى:
- من هي؟ هل هي أجمل مني …؟ لا .. لا يهمني ذلك … فقط اخبرني متى أحببتها …؟ وكيف وقد كنت بجواري دوماً …؟ لم تكن تتركني إلا للجامعة أو المسجد…
قال:
- كنت أحبها دوماً … بل أستطيع القول إنني أحببتها قبل أن أعرفك … وإلى اليوم لازلت أحبها…
اعتدلت غاضبة … وقالت له وهي تهتز من الانفعال:
- كنت تخدعني إذن …
وهل ستخدع المسكينة مثلي … هل ستتركها حين تمل منها…
قال ودموعه تترقرق في عينيه:
- وكيف أتركها وزفافنا بعد أيام قلائل …
هزها قوله حتى الأعماق … فانتفضت في ألم قبل أن تدور على عقبيها … وهي تنصرف تاركة إياه وحده …
وعندما دخلت غرفتها أغلقت الباب المتهالك والتقطت رسائله من صوان ملابسها … وارتجفت يداها وهي تشعل النار فيها … راقبت الدخان المتصاعد وهو يرتفع في سماء الغرفة … وانهمرت دموعها مدراراً وهي تقول في أسى:
- لماذا يا حبيبي … لماذا؟
ومن بين دموعها أقسمت لنفسها أن تحضر زفافه بنفسها حتى ترى بعينيها من تركها لأجلها…
بقي على زفافه عشرة أيام ولم تكن هي تعلم ذلك …
بقي أسبوع ودموعها تنهمر خلسة في ساعات الليل…
بقى يومان … اختفى هو من المدينة كلها ولم تعد تسمع أخباره … لكنها لم تكن تبالي … ولم تعد تهتم…
يوم واحد … هذا هو الفستان الأسود الذي سأحضر فيه زفافه…
واليوم كانت تحتضن صورته وتقبلها في شوق وتهتف:
واحبيبي .. كم أحبك…
كان ذلك حين علمت نبأ استشهاده.
********************************
مارس2003
أطرقت رأسها أرضاً وجلس هو قبالتها ينظر إلى عينيها في حزن وقد تعلقت نظراته بدمعة ساخنة زحفت على وجنتها في بطء قبل أن تنساب في نعومة وتسقط أرضاً … راقب اختلاطها بالرمال القليلة المتناثرة على سطح منزله … كان النهار قد انتصف لكنه لم يكن يبالي بالشمس التي كانت تلفحهما بحرارتها…
رفعت رأسها إليه وأمسكت بيديه وقالت في ضراعة:
- هل أزعجتك في شيء ؟..
- أبداً .. كنت كالنسمة دوماً.
قالها وعيناه تحملان حزن الدنيا كلها … فأشرق وجهها هنيهة .. ثم قالت:
- إذن لم تريد أن تتركني.؟..
صمت لحظات وهو يستميت ليمنع دمعاته من الانهمار … فعاد الحزن يكسو ملامحها وهي تقول:
- لم يعد يعجبك شكلي … أعترف أنني لست جميلة..
تطلع إلى عينيها الواسعتين كبئر عميق … وإلى خصلة سمراء من شعرها تسللت خارج المنديل وإلى شفتيها الممتلئتين … تأمل كل هذا فاعتصر الحزن قلبه وهو يقول:
- أنت فاتنة … حلوة الملامح … رقيقة مكتملة الأنوثة … والأهم من هذا كله ملتزمة بدينك وتعرفين الله جيداً…
ثم اقترب من وجهها وقال:
- ألا زلت تصلين؟.
قالت بعصبية:
- نعم … وأنت تعرف هذا … إذن لماذا تريد أن تفسخ خطبتنا … لماذا وقد كنا نتغنى بالحب الذي جمعنا منذ عرفنا بعضنا … ليس من حقي أن أمنعك … لكن من حقي أن أعرف السبب.
دوي صوت انفجار قوي جفلت له في قوة..
غير انه ما اهتز إنما نظر لأعلى وقال:
- لا تخافي … إنها طائرة اخترقت جدار الصوت ، لا تنسي أنه مر يوم كامل دون أن يغتالوا أحداً … اليوم يواصلون ألعابهم معنا …
حانت منه التفاتة إلى الأطلال المتناثرة في كل مكان والبيوت المهدمة التي كانت يوماً مخيماً ما في مدينة ما … كان الصبية يعبثون بقطع من الأثاث الذي انهارت فوقه أسوار المنزل وحجارته … فاختلط الأثاث بالكتب المحترقة بدماء من كانوا يومها ينامون معاً ويلعبون معاً ويأكلون معاً قبل أن تهوي القذائف فوق رؤوسهم فتدفنهم أيضاً … معاً …
وأخيراً قال:
- أعترف أنني عشت معك أجمل أيام حياتي … أياماً كانت كلها فرحة وبهجة وأمل بالمستقبل … كنت أنت ملهمتي … وما كان يسعدني في الدنيا شيء قدر سعادتك..
قالت في لهفة:
- وإذن
أدار رأسه في ألم…
فقالت:
- ما الذي تغير …؟ هل وصلك عني كلام يسئ لي …؟ هل رأيت مني ما أزعجك…؟
هز رأسه نافياً…
فاتسعت عيناها كأنما أدركت فجأة سر تغيره … وقالت في لوعة :
- إذن هناك أخري …
- ………………
- لم أنت صامت هكذا ؟؟؟
- أجبني … هل هناك أخرى؟
لم يجب لكن صمته كان أبلغ من أي جواب …
فقالت بأسى:
- من هي؟ هل هي أجمل مني …؟ لا .. لا يهمني ذلك … فقط اخبرني متى أحببتها …؟ وكيف وقد كنت بجواري دوماً …؟ لم تكن تتركني إلا للجامعة أو المسجد…
قال:
- كنت أحبها دوماً … بل أستطيع القول إنني أحببتها قبل أن أعرفك … وإلى اليوم لازلت أحبها…
اعتدلت غاضبة … وقالت له وهي تهتز من الانفعال:
- كنت تخدعني إذن …
وهل ستخدع المسكينة مثلي … هل ستتركها حين تمل منها…
قال ودموعه تترقرق في عينيه:
- وكيف أتركها وزفافنا بعد أيام قلائل …
هزها قوله حتى الأعماق … فانتفضت في ألم قبل أن تدور على عقبيها … وهي تنصرف تاركة إياه وحده …
وعندما دخلت غرفتها أغلقت الباب المتهالك والتقطت رسائله من صوان ملابسها … وارتجفت يداها وهي تشعل النار فيها … راقبت الدخان المتصاعد وهو يرتفع في سماء الغرفة … وانهمرت دموعها مدراراً وهي تقول في أسى:
- لماذا يا حبيبي … لماذا؟
ومن بين دموعها أقسمت لنفسها أن تحضر زفافه بنفسها حتى ترى بعينيها من تركها لأجلها…
بقي على زفافه عشرة أيام ولم تكن هي تعلم ذلك …
بقي أسبوع ودموعها تنهمر خلسة في ساعات الليل…
بقى يومان … اختفى هو من المدينة كلها ولم تعد تسمع أخباره … لكنها لم تكن تبالي … ولم تعد تهتم…
يوم واحد … هذا هو الفستان الأسود الذي سأحضر فيه زفافه…
واليوم كانت تحتضن صورته وتقبلها في شوق وتهتف:
واحبيبي .. كم أحبك…
كان ذلك حين علمت نبأ استشهاده.
********************************
مارس2003
تعليق