هندسة
بقلم : سمير الفيل
بقلم : سمير الفيل
جاءت أوراق الأسئلة ، وتم توزيعها على الطلاب والطالبات. مر الملاحظون على الممتحنين في مقاعدهم ، فيما كان الملاحظ (س) يتأمل الغيطان الفسيحة بلونها الأخضر الزاهي من خلف شباك بلا ألواح زجاجية .
جاء عصفور صغير من فصيلة السنونو ، وقف على عصا بارزة أعلى البناية المواجهة للجنة الامتحانات. راح يشقشق بصوت واهن ثم حط على سلك كهرباء . ظل يتأرجح فوقه بثبات . مع خروج (س) من مكانه واقترابه من السور طار العصفور بعيدا حتى بدا مثل نقطة ذابت في الفضاء.
امرأة بنقاب ظهرت في الطرقة ، وبيدها ورقة الغياب . التفتت حولها قبل أن تدخل اللجنة الثانية وتمد يدها بورقة فيها حل السؤال الأول لمادة الهندسة.
انسحبت قبل أن يصعد رئيس اللجنة بكرشه المتهدل وسيجارته المشتعلة . في الأسفل لافتة تحرم التدخين في دور العلم . مشى في الطرقة خارقا القوانين واللوائح ونهر ملاحظا وجده ممسكا بكوب شاي : " ماذا يا أستاذ ؟ أهي فوضى؟!"
انسل المدرس وقذف بالكوب بما تبقى فيه عبر النافذة وكانت قطة تتمطى فوق سقف حجرة " مناهل المعرفة " المغلقة بالترباس ، فذعرت حين خبطها الكوب بشايه الساخن . انطلقت تعدو كالمجنونة . أوشكت سيارة المدير العام أن تدهسها ، ولكن السائق الماهر تفاداها مستخدما الفرامل ، وتوقف في اللحظة المناسبة.
يتقدم المدير العام مرافقان يمسحان له الجوخ ويتباسطان معه بحساب : " من هنا سيادتك". وقع في دفتر الأمن وهو يشيح بيده : " أطرد الذباب يا بني " . فرك الموظف عينيه وهو يلمح التوقيع بالساعة والدقيقة : 9,45 دقيقة " . سطر في خانة الملاحظات تشريف المدير العام مع مرافقيه .
القطة عادت لمكانها ، وتمددت في شمس مايو الكسولة. غراب وقف في هدوء على طرف الطبق الفضائي الكبير ، ونعق كأنه يؤدي واجبا ثقيلا. نعيق بلا حماس . خرج المراقب الأول ورماه بطوبة وجدها في الطرقة . في تلك اللحظة بالضبط رفع رأسه فوجد نفسه وجها لوجه أمام المدير العام . تنحنح ، وأسعفته الحيلة بجملة نطقها كي يخلص نفسه من سؤال لم يطرحه المدير : " الغربان يأتون بالشؤم . سيادتك من واجبنا توفير مناخ صحي كي يجيب خلاله أبناؤنا الطلاب " . حرك المدير رأسه ولمح خيط دخان في آخر الطرقة . حرك بقدمه عقب السيجارة ، وسأل بصوت مختنق بالغضب : " من المغفل الذي كان يدخن؟ "
استقبل المغفل ورتبته رئيس اللجنة اللطمة على وجهه بصدر رحب ، وقال بأريحية متجاهلا شتيمته : " شرفت اللجنة يا أفندم .. نور على نور" .
الملاحظ (ص) كان جالسا آخر اللجنة يتصفح جريدة " المصري اليوم " ولم يسعفه الوقت كي يخفي الجريدة في درج المقعد الذي أمامه . أمسك بها المدير العام ، وهو يزوم . طواها وسلمها لواحد من مرافقيه . هو الطويل الأحول الذي لا يضع علي عينيه نظارة. طلب من مرافقه الثاني القصير المربع كتابة اسم الملاحظ (ص) في دفتر الملاحظات. لم يكن مع المرافق الثاني قلما . بدون إحم ولا دستور نزع قلما من يد طالب تبدو عليه سمات التفوق ، ودوّن المطلوب . نسى أن القلم للطالب فوضعه في جيب سترته ومضى خلف المدير للجنة المجاورة . طلب الطالب من الملاحظ الذي ضُـبط يقرأ الجريدة قلمه فاختنق الملاحظ من شدة الغضب ، وقال له : " أسكت يا ابن الكلب" .
بلع الطالب عبراته وجلس شاردا يفكر في رد الشتيمة . لاحظ ( س) أن العصفور قد عاد للعصا . إنه غير متأكد من كونه نفس العصفور أو أنه عصفور آخر . فمن الصعب فعلا التفرقة بين العصافير وكلها متشابهة. قفز إلى ذهنه خاطر إنها طريقة تؤدي إلى الخلط والفوضى الجنسية في عالم يفترض فيه الطهارة حيث تحلق الطيور في سموات صافية.
خرج المدير العام من اللجنة الثانية وعدل ياقة قميصه . تقدمه رئيس اللجنة ، وبيده مسطرة أخذها بدون استئذان من الطالب الذي يجلس في أول صف يسار . لم يلتفت لنظرية إقليدس التي كتبت على ظهر المسطرة بخط دقيق وصغير جدا لا يكاد يرى . ابتسم المدير العام وهو يدخل اللجنة الثالثة المخصصة للطالبات . قال وهو يصطنع ابتسامة واسعة : " من غشنا فليس منا " . همهمت بنات : " منا " ، وجلست الطالبة " ع " على "برشامة " تتضمن نظرية فيثاغورث بنتائجها الكاملة فيما تململت الطالبة ( ظ) في مقعدها لأنها طلبت النزول لدورة المياه ولم يسمح لها . قالت بصوت متحشرج : " أريد أن أعمل مثل الناس " . طلب المدير العام من الملاحظ سحب ورقتي الأسئلة والإجابة والسماح لها بالهبوط للدور الأرضي حيث دورة المياه . فيما هو يقوم بعملية السحب وقعت ورقة بحجم الكف فيها نظريات هندسية على بلاط الحجرة فداس عليها بقدمه ولم يتحرك إلا بعد خروج المدير العام وخلفه المرافقان.
سأل رئيس اللجنة عن موعد استلام العلاوة الدورية ليصنع جسرا من الحميمية مع السيد المدير الذي قال على الفور : " بعد أن تنتهي زيارة الرئيس أوباما " . وأضاف حزينا : " ظهرت أول حالة انفلونزا خنازير في مصر لطفلة قادمة من الولايات المتحدة الأمريكية" . قال المرافق الأحول وهو يدعك عينه اليمنى : " جائحة عمت العالم " . أضاف المرافق الثاني القصير المربع بصلعته البهية التي تعكس الشمس : " ذكرنا الوباء بمرضي الكوليرا والطاعون " .
مرت بهم المرأة المنقبة وبيدها ورقة الغياب ، وما لبثت أن تأخرت خطوتين. قالت في نفسها : "من أعمالهم سلط عليهم ".تمتمت وهي تسعل سعالا جافا : " ربنا يمسحهم مسحا" . ظل المفعول المطلق معلقا في فضاء اللجنة دون أن يحدد أين موقع " هم " بالضبط .
كانت الزائرة الصحية بملاحتها الريفية قد أتت متأخرة . علمت بسقوط طالبة مغشيا عليها فصعدت ومعها البرشام وحقنة المسكن . صحبت البنت إلى حجرتها ذات الستائر البيضاء المدلاة ، وسقتها ماء طهورا فأفاقت . عضدت الزائرة موقفها بحل المسألة رقم 2 ، والمسألة رقم 3 فصعدت وصحتها حديد وإن كان شحوب وجهها ما زال ملحوظا.
حين هبط المدير العام سلالم المدرسة وجد نفسه مقابل لجنة رقم 4 . كانت في غاية الانضباط ، لا همسة ولا لمسة . مال بجسده البدين وسأل البنت عن اسمها فنطقت على الفور " عفاف " قلب ورقة الإجابة فوجد عليها اسم " محاسن " . قال في نفسه : " إن هي إلا أسماء سميتموها " ، وتقدم خطوة للطالبة الجالسة خلفها . نزع ورقتها وقرأ اسم " عفاف " ففهم " الملعوب " ، ربت على كتفها " شاطرة يا محاسن " . فيما حدج الملاحظين بنظرة غاضبة يشوبها عتاب صامت . لم ينبس بكلمة فقد احترم الصمت الذي كان يغشى اللجنة . نهر الملاحظ الذي كان يمضغ اللبان وأبان له خطأ أن يفعل ذلك في لجنة محترمة تابعة لوزارة ترفع شعار التربية قبل التعليم. وأمن المرافق القصير المربع ذي الصلعة على كلامه قائلا إن اللبان مضر للفم والأسنان . أما المرافق الطويل فقد نظر في الناحية البعيدة وقال موجها حديثه للحائط : " لا لبان في اللجان " .
سمع رئيس اللجنة طرفا من الحوار فتدخل وقال أنه نقص في التربية فلا يصح تناول أية أطعمة أثناء سير اللجنة ، وأن من يفعل ذلك سوف يعرض نفسه للمساءلة القانونية.
فور أن هبط المدير العام السلالم متجها لحجرة رئيس اللجنة أخرج الملاحظ ( ن) سندويش الفول والتهمه بعد أن عزم على زميله عزومة مراكبية ، وما لبث أن التهم السندويتش الثاني وكان مشحونا بأقراص الطعمية . تحركت المنقبة ومدت يدها بأوراق صغيرة للطالبات ، وفيما هي تخرج ورقة أخرى من بين طيات ثيابها السوداء وجدت ورقة بعشر جنيهات فتذكرت أن تشتري في العودة باذنجان وأرغفة بلدية لزوم طعام الغذاء لها ولأولادها ، ولزوجها المتعطل الذي يعاني مرض السل .
لم تتمكن القطة من العودة للاسترخاء فتخلصت من كسلها ، وقفزت قفزتين حتى صارت في الدور الثالث ، فوق السقف المتعرج . وجدت مبتغاها حيث تتمدد براحتها غير أن قطا خسيسا كان يتلصص عليها حاول أن يمارس معها فعلا قبيحا فعضته في رقبته ، واندفعت تعدو في اتجاه مضاد.
كان المراقب ( ط) يشهد عبورها كطلقة خرجت من فوهة بندقية فخمن أنها قطة ملموسة وقد ركبها الجن غير أن تتبع القط الذكر لها جعله يستبعد هذا الخاطر. اقترب برأسه من اللجنة الأولى وقال بصوت يحمل جدية العالم : " باقي من الزمن نصف ساعة " .
وضع يده أسفل ذقنه ولم يجد غرابة في أن يشاهد حدأة تحط على عامود التليفون في البناية المواجهة التي كانت مبنية بالطوب الأحمر. ظن أن الحدأة ترمقه بفضول غريب . تلفت حوله فوجد كل شيء في محله . الهدوء يحيط جو اللجنة وخارجها حتى أن سيارة المدير العام كانت تمضي في طريقها للجنة أخرى كأنها تسير على بساط من سندس أخضر . سمع صوت رئيس اللجنة يقول لموظف الأمن : " الباشا المدير العام مبسوط من اللجنة . ويكاد يطير من الفرح لانضباطها " .
طارت الحدأة مبتعدة ، مرق سرب عصافير ، وتهادت سحب رمادية خفيفة في السماء . مضى الطلاب يجيبون على الأسئلة كل حسب اجتهاده وقدراته . كانت المرأة المنقبة قد انتهت تماما من مهمتها فجلست تحت شجرة جازورينا ضخمة تقرأ ما تيسر من سورة الفتح.
سميرالفيل
3/6/2009
تعليق