أيهما أكثر جناية على الفكر الإسلامي , تلك الجناية التي عاقت تطوره وازدهاره , الإمام الغزالي أم ابن رشد ؟ . أعتقد أن هذا التساؤل يمثل معضلة هامة من معضلات فكرنا الإسلامي , معضلة ممتدة منذ القرن الرابع الهجري إلى اليوم , وهي معضلة تعارض النقل مع العقل , والصراع بين ثلاثة مناهج للوصول للحقيقة ؛ المنهج النقلي والمنهج العقلي والمنهج الذوقي الصوفي .
وبداية تجدر الإشارة , إلى أن الغزالي وابن رشد كلاهما مؤمن باحث عن الحقيقة , والفارق بينهما هو فارق في المنهج الذي تبناه كل منهم للوصول للحقيقة ؛ فأختار الغزالي طريق الكشف والحدس الصوفي , للوصل إلي معرفة تركيبية , وشمولية , ومباشرة , ومتماسكة . وهي بالطبع ” رؤيا ” صوفية قلبية خالصة لا دور للعقل فيها .
أما ابن رشد فقد تبني منهج البرهان العقلي للوصول للحقيقة . وقد كان فيلسوف قرطبة وقاضيها , علي قناعة كاملة بأن الدين والفلسفة كلاهما حق , والحق لا يضاد الحق . ومن ثم حاول التوفيق بين دينه وبين قناعاته الفلسفية , فجاء إيمانه بعقائده الدينية إيماناً صادقاً , لا يقوم علي التقليد بل علي الاقتناع العقلي .
وكلاهما إذا نظرنا إليه من منظور فكري خالص , قد ارتكب جناية فادحة عندما مارس سياسة الإقصاء والاستبعاد في مقابل أصحاب الاتجاه الأخر وما يمثله من قناعات ؛ فهاجم الإمام الغزالي (في القرن الرابع الهجري) العلوم العقلية , وكفر فلاسفة اليونان وأتباعهم من فلاسفة الإسلام في كتابة ” تهافت الفلاسفة ” . وبعده بقرنين من الزمان كتب ابن رشد كتابه ” تهافت التهافت ” ليناقش ويبطل أراء الغزالي , ويعيب عليه أنه ألف هذا الكتاب من أجل الجدل , لا من أجل الوصول للحقيقة . ودافع ابن رشد في كتابه عن العقل وعن الفلسفة كأداة صالحة للوصول للحقيقة .
إلا أن بارقة أبن رشد تلك لم تفلح في عودة الحياة إلي العلوم العقلية , ومن ثم بعث الحضارة الإسلامية من جديد . لأن السياسة بمثالبها قد تدخلت في هذا الخلاف الفكري وتبنت معظم السلطات السياسية في العالم الإسلامي مذهب الإمام الغزالي وناصرته علي بقية المذاهب واضطهدت أصحابها . وهذا بالطبع ليس حباً واقتناعاً به , بل لأنها وجدت أنه يحقق أهدافها , ويحفظ لها استقرارها .
وهنا ظهرت محنة ابن رشد وتم اضطهاده وحرق كتبه . ولم يكن هذا مصير ابن رشد فقط ؛ فقد كان جميع فلاسفة الأندلس في عصره عرضة للاضطهاد مثله؛ لأن أصحاب دولة الموحدين صدروا عن مذهب الغزالي مباشرة , وكان مؤسس دولتهم بأفريقيا تلميذ للإمام الغزالي , ولم يكن هذا الوضع المأساوي للفلاسفة يختلف عن هذا كثيراً في بلاد المشرق العربي .
وهنا يحق لنا التساؤل : ماذا لو لم تتدخل السياسة بمثالبها المعهودة في هذا الصراع الفكري لتناصر طرفاً على طرف آخر؟.
أعتقد أنه لو ظل الأمر مجرد خلافاً فكرياً لكان من الممكن أن يتطور الاتجاهان معاً الفلسفة والتصوف , ليعترف كل منهم بالآخر . ويبدعا معاً منهجاًً جديداً للوصول للحقيقة يقوم علي الحدس والكشف الصوفي وعلي البرهان العقلي أيضاً .ولتطور الفكر الإسلامي بالشكل الذي يساعد علي بعث الحضارة الإسلامية من جديد , وهي تحمل للإنسانية نمطاً ومنهجاً فكرياً جديد , يمثل أعظم أنجاز يمكن أن يقدمه الفكر الإسلامي للفكر الإنساني .
ولعل ما أشير إليه هنا يؤكده ويزيد ه وضوحاً الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل (1872-1970 م) في كتابه ” التصوف والمنطق ” , حيث يشير إلي أن ” وحدة المتصوف مع رجل العلم تشكل أعلي مكانة مرموقة , يمكن إنجازها في عالم الفكر . فهذا الانفعال ( التصوف ) هو الملهم لما هو أفضل ما في الإنسان “.
وبناء على ذلك يمكن القول أن الجناية على الفكر الإسلامي تقع على عاتق كل من :
- الإمام الغزالي : للجوئه لتكفير الفلاسفة , واستبعاده لأي دوراً للعقل والنظر العقلي في الأمور الإيمانية .
- ابن رشد : لإعجابه إلي درجة الغلو بأرسطو وبالفلسفة اليونانية , مما أوقعه علي نحو شبه كامل في قبضة الفلسفة اليونانية باستدلالاتها وميتافيزيقها الخانقة .
- السلطات السياسية : التي تبنت – وحتى اليوم – مذهب الإمام الغزالي وناصرته علي بقية المذاهب واضطهدت أصحابها , ؛ وذلك لأنها وجدت أن مذهب الغزالي يحقق أهدافها , ويحفظ لها استقرارها .
وفي النهاية فأن النصيب الأكبر من الخطأ الذي أدي إلي عدم تطور الفكر الإسلامي , يقع علي عاتق تلك الأجيال الممتدة من زمن الإمام الغزالي إلي اليوم من المشتغلين بالعلوم الدينية والفلسفية ؛ فهم جميعاً أكانوا سلفيون أم عقليون أم صوفيون , كثيراً ما رأينهم يستعيدون الصراع الفكري الذي كان في الماضي , ولا يكتفون بصراعات الماضي , بل يبحثون عن خصوم لهم في الحاضر من أصحاب الاتجاهات الأخرى , ليدخلوا معهم في معارك لا فأئده منها تستهلك الجهد والوقت . وكان الأجدى لهم البحث عن مواطن الالتقاء والتكامل بينهم , ومحاولة الوصول إلي صيغ فكرية جديدة تساعد علي تطور الفكر الإسلامي وبعث الحضارة الإسلامية من جديد .
واعتقد أن هذا هو الدرس الأهم الذي يجب أن نستوعبه نحن دارسي العلوم الدينية والإنسانية الشبان الذين نتمنى ونسعى إلي أن يكون لنا دور في صياغة مستقبل بلادنا , وأن نكمل المسيرة التي بدأها أساتذتنا , عن طريق الفهم الواعي لتراثنا والرؤية الواضحة لواقعنا , وبالقناعة الكاملة بأنه لا مكان في مجال الفكر لأي استبعاد أو إقصاء أو تكفير , وبأن العقل يجب ألا يعادي الإيمان , والإيمان الحقيقي يجب ألا يعادى العقل ولا الفلسفة بمنهجها القائم علي التحليل والنفاذ إلي ما وراء الأشياء والظواهر الخادعة
.فالعقل والإيمان ليسا منهجين مختلفين للوصول للحقيق , ولا يوجد أي فاصل بينهما , فكلاهما يكمل الأخر . فالعقل يستضيء بنور الإيمان , والإيمان يضبط ويستقيم بحدود العقل . وهما معاً يمثلان حجر الزاوية في معركتنا لتحرير الإنسان المعاصر , وتخليصه من كل القوى التي تحاول تشيئته و استلابه روحاً وعقلاً وجسداً .
وبداية تجدر الإشارة , إلى أن الغزالي وابن رشد كلاهما مؤمن باحث عن الحقيقة , والفارق بينهما هو فارق في المنهج الذي تبناه كل منهم للوصول للحقيقة ؛ فأختار الغزالي طريق الكشف والحدس الصوفي , للوصل إلي معرفة تركيبية , وشمولية , ومباشرة , ومتماسكة . وهي بالطبع ” رؤيا ” صوفية قلبية خالصة لا دور للعقل فيها .
أما ابن رشد فقد تبني منهج البرهان العقلي للوصول للحقيقة . وقد كان فيلسوف قرطبة وقاضيها , علي قناعة كاملة بأن الدين والفلسفة كلاهما حق , والحق لا يضاد الحق . ومن ثم حاول التوفيق بين دينه وبين قناعاته الفلسفية , فجاء إيمانه بعقائده الدينية إيماناً صادقاً , لا يقوم علي التقليد بل علي الاقتناع العقلي .
وكلاهما إذا نظرنا إليه من منظور فكري خالص , قد ارتكب جناية فادحة عندما مارس سياسة الإقصاء والاستبعاد في مقابل أصحاب الاتجاه الأخر وما يمثله من قناعات ؛ فهاجم الإمام الغزالي (في القرن الرابع الهجري) العلوم العقلية , وكفر فلاسفة اليونان وأتباعهم من فلاسفة الإسلام في كتابة ” تهافت الفلاسفة ” . وبعده بقرنين من الزمان كتب ابن رشد كتابه ” تهافت التهافت ” ليناقش ويبطل أراء الغزالي , ويعيب عليه أنه ألف هذا الكتاب من أجل الجدل , لا من أجل الوصول للحقيقة . ودافع ابن رشد في كتابه عن العقل وعن الفلسفة كأداة صالحة للوصول للحقيقة .
إلا أن بارقة أبن رشد تلك لم تفلح في عودة الحياة إلي العلوم العقلية , ومن ثم بعث الحضارة الإسلامية من جديد . لأن السياسة بمثالبها قد تدخلت في هذا الخلاف الفكري وتبنت معظم السلطات السياسية في العالم الإسلامي مذهب الإمام الغزالي وناصرته علي بقية المذاهب واضطهدت أصحابها . وهذا بالطبع ليس حباً واقتناعاً به , بل لأنها وجدت أنه يحقق أهدافها , ويحفظ لها استقرارها .
وهنا ظهرت محنة ابن رشد وتم اضطهاده وحرق كتبه . ولم يكن هذا مصير ابن رشد فقط ؛ فقد كان جميع فلاسفة الأندلس في عصره عرضة للاضطهاد مثله؛ لأن أصحاب دولة الموحدين صدروا عن مذهب الغزالي مباشرة , وكان مؤسس دولتهم بأفريقيا تلميذ للإمام الغزالي , ولم يكن هذا الوضع المأساوي للفلاسفة يختلف عن هذا كثيراً في بلاد المشرق العربي .
وهنا يحق لنا التساؤل : ماذا لو لم تتدخل السياسة بمثالبها المعهودة في هذا الصراع الفكري لتناصر طرفاً على طرف آخر؟.
أعتقد أنه لو ظل الأمر مجرد خلافاً فكرياً لكان من الممكن أن يتطور الاتجاهان معاً الفلسفة والتصوف , ليعترف كل منهم بالآخر . ويبدعا معاً منهجاًً جديداً للوصول للحقيقة يقوم علي الحدس والكشف الصوفي وعلي البرهان العقلي أيضاً .ولتطور الفكر الإسلامي بالشكل الذي يساعد علي بعث الحضارة الإسلامية من جديد , وهي تحمل للإنسانية نمطاً ومنهجاً فكرياً جديد , يمثل أعظم أنجاز يمكن أن يقدمه الفكر الإسلامي للفكر الإنساني .
ولعل ما أشير إليه هنا يؤكده ويزيد ه وضوحاً الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل (1872-1970 م) في كتابه ” التصوف والمنطق ” , حيث يشير إلي أن ” وحدة المتصوف مع رجل العلم تشكل أعلي مكانة مرموقة , يمكن إنجازها في عالم الفكر . فهذا الانفعال ( التصوف ) هو الملهم لما هو أفضل ما في الإنسان “.
وبناء على ذلك يمكن القول أن الجناية على الفكر الإسلامي تقع على عاتق كل من :
- الإمام الغزالي : للجوئه لتكفير الفلاسفة , واستبعاده لأي دوراً للعقل والنظر العقلي في الأمور الإيمانية .
- ابن رشد : لإعجابه إلي درجة الغلو بأرسطو وبالفلسفة اليونانية , مما أوقعه علي نحو شبه كامل في قبضة الفلسفة اليونانية باستدلالاتها وميتافيزيقها الخانقة .
- السلطات السياسية : التي تبنت – وحتى اليوم – مذهب الإمام الغزالي وناصرته علي بقية المذاهب واضطهدت أصحابها , ؛ وذلك لأنها وجدت أن مذهب الغزالي يحقق أهدافها , ويحفظ لها استقرارها .
وفي النهاية فأن النصيب الأكبر من الخطأ الذي أدي إلي عدم تطور الفكر الإسلامي , يقع علي عاتق تلك الأجيال الممتدة من زمن الإمام الغزالي إلي اليوم من المشتغلين بالعلوم الدينية والفلسفية ؛ فهم جميعاً أكانوا سلفيون أم عقليون أم صوفيون , كثيراً ما رأينهم يستعيدون الصراع الفكري الذي كان في الماضي , ولا يكتفون بصراعات الماضي , بل يبحثون عن خصوم لهم في الحاضر من أصحاب الاتجاهات الأخرى , ليدخلوا معهم في معارك لا فأئده منها تستهلك الجهد والوقت . وكان الأجدى لهم البحث عن مواطن الالتقاء والتكامل بينهم , ومحاولة الوصول إلي صيغ فكرية جديدة تساعد علي تطور الفكر الإسلامي وبعث الحضارة الإسلامية من جديد .
واعتقد أن هذا هو الدرس الأهم الذي يجب أن نستوعبه نحن دارسي العلوم الدينية والإنسانية الشبان الذين نتمنى ونسعى إلي أن يكون لنا دور في صياغة مستقبل بلادنا , وأن نكمل المسيرة التي بدأها أساتذتنا , عن طريق الفهم الواعي لتراثنا والرؤية الواضحة لواقعنا , وبالقناعة الكاملة بأنه لا مكان في مجال الفكر لأي استبعاد أو إقصاء أو تكفير , وبأن العقل يجب ألا يعادي الإيمان , والإيمان الحقيقي يجب ألا يعادى العقل ولا الفلسفة بمنهجها القائم علي التحليل والنفاذ إلي ما وراء الأشياء والظواهر الخادعة
.فالعقل والإيمان ليسا منهجين مختلفين للوصول للحقيق , ولا يوجد أي فاصل بينهما , فكلاهما يكمل الأخر . فالعقل يستضيء بنور الإيمان , والإيمان يضبط ويستقيم بحدود العقل . وهما معاً يمثلان حجر الزاوية في معركتنا لتحرير الإنسان المعاصر , وتخليصه من كل القوى التي تحاول تشيئته و استلابه روحاً وعقلاً وجسداً .
تعليق