[align=center][table1="width:95%;"][cell="filter:;"][align=right]
[/align][/cell][/table1][/align]
-----------------------
سنين الصمرقندي"1"
أرافق جدّي في مجالسه أينما ذهب ، ملتصقا بحكاياه . أذكر يوما و قد أكثر مع جلسائه من ذكر "سنين الصمرقندي " ، فسألته عنها في طريقنا للبيت ، و كانت شتاء و الفانوس بيده تؤرجحه الريح فيؤرجح بنا الطريق ، و أنا ملتصق بعباءته أرتجف بردا. فأجابني: أتسأل الآن و نحن في هذه الورطة؟؟
لا أخفي عليكم أنّني كنتُ مدلّلا ، فقلت : نعم الآن.
بدأ جدي الحكاية : بينما كنّا في "ديوان البلد" بعد صلاة العشاء ، طرق غريب الباب فرحّبنا به . بعد أن هوّلََنا بالصّعاب التي لاقاها و هو يجوب بلاد الله بحثا عن العلم ، عرفنا أنّه قادم من "صمرقند" ، ذاهب لأهلة في قرية بعيدة عنّا.
بينما نحن هكذا ، مدّ يده لحقيبة معه ، فسأله أحد الحضور : ماذا تفعل ؟ أجاب : أخرج صرّة طعامي . فتزلزل المكان ، كيف تفعلها في مضاربنا ؟! الضيافة حقٌ في أعناقنا ، أترضى لنا العار و الدّمار؟! بين هذا وذاك ، أخرج الغريب صرّة طعامه و انكبّ يفكّها ، ما إن فعل حتى وجم الجميع لما رأت أعينهم ، منديلا يا بني ... منديلٌ كأنّه من صنع الجان... ماذا أقول ؟ أخّاذ يابني أخّاذ... يتوقف جدّي ، يتنهد كما الجمل ينوء تحت عبء ثقيل ، أو كما يزفر مختنقا جارنا المُصاب بالسّل.
صفعتنا الريح بأكفّ حبات المطر . دفنت وجهي في عباءته بينما ظلّ يتابع : لسوء الحظ ، سمعت النساء ضجيجنا ، فهرعت للدّيوان تستطلع الأمر . توقف ، هزّ رأسه بقوة ، كمن أتاه العطس لكنّه ارتد ، فظلّ هكذا برهة يتمتم : آه لو لم يسترقن النّظر...
قبل تمكّنه من المتابعة عاجلته : أندم لأنّهن استرقن النّظر ؟ شدّني ناحيته و رفع الفانوس أمام وجهي يبحلق بي . شعرت بالخوف ، لا أدري حتى اليوم عن ماذا كان يبحث ؟!! أجابني : لا... و نعم ... فشددت عباءته مرات متتالية كما يفعل قارع الجرس . سلوك يفهمه ، أي فسّر.
فقال : أمّا لا... لأنّها كانت ليلة من ليالي ألف ليلة و ليلة ، ونعم... لأنها بداية القحط و الآلام . قلت : إذن لماذا تركتموهنّ يسترقن النّظر ؟؟ ردّ حزينا: منذ آلاف السّنين نحاول منعهن و لا نستطيع . فقلت : آلاف السنين ؟! هل تتذكر الديناصورات يا جدّي ؟؟ ضحكت متابعا ، رقّص شاربيك و سيخفن . فقال بجديّة ومرارة ما زالت تحفر أذني: سلاح غير فعّال ، مُحصّنات يا بني.. لو فعلت ، ستنكفئ على وجهك مسحورا بالعشق ، لا تصحو إلا بعد فوات الأوان. و الله لم أفهم شيئا ..!! شدّ كتفي محذرا : لا تسألني ، دعني أنهي قصتي أوّلا . لسوء الحظ استرقن النّظر ورأين منديل الغريب...لكزني بظهري مازحا ، عشق الرجال منديله فما بالك بالنساء ؟
سمعته يستغفر و يوشوش نفسه: ناقصات العقول...
لمع البرق فأضاء حولنا ، رأيت حبات المطر كيف تصفعنا كضفائر من ضوء ، ملابسنا مبلّلة ، أقدامنا مُلطّخة بالوحل ، لكنّ جدّي ظلّ يروي : أرسلت كل امرأة في طلب زوجها ، كلّ الرّجال خرجوا من المجلس واحدا تلو الآخر و عادوا يحـ ..... ثمّ ضاع صوته في ضجيج الرّعد.
يحاول ضحكة واهنة شاردة مكلّما نفسه : نعم .. أيامها كانت "غير" . وثبت عليه بالسّؤال : كيف يعني يا جدي "غير" ؟ أسرع بالقول : يعني كانت جدّتك صبيّة . لم أهتم لما قال و تهيّأت لسؤال جديد ، فإذا بزخة مطر عنيفة تسقط فوقنا ، ضمّني بقوّة نحوه ، إلاّ أنّني بقيت متشبّثا بالسّؤال ، أخرجته قبل أن يختنق تحت كفه وذراعه الضّخمة التي طوّقتني ، كصرخة عالية : ماذا كانت تريد النساء ؟ أجاب كأن شيئا لم يحدث: كلّ واحدة تريد الحصول على المنديل .
تحلّقنا حول الغريب نستفسر ، فيُفسّر: هذا منديل طرزته يداي. نردّ جوقة واحدة : أنت ؟؟ فيرتدّ علينا: نعم أنا . انظروا هذه الوردة المنقوشة هنا ، تعلّمت نقشها في الصين ، هذه في بلاد الهندوس ، الغصن الأخضر في السند ، أما حبّات الكرز من بلاد الروس ، هذه من بلاد المجوس ، ما تبقى اخترعته أنا. نكرّر كجوقة الحمير ، أنت ؟ فيكرّ علينا : نعم أنا . سأل أحدهم : كيف تصنع هذا ؟ فأجاب: عندي ما يساعدني على صنعه . قاطعه آخر : غير الخيط الملوّن و الإبرة؟ فقال : لا .. نفس الخيط و الإبرة ، لكن إبرة خاصة من ابتكاري ، أمّا الخيط أضفت عليه بعض الأشياء . نقاطعه كجوقة الحمير ثانية :أنت ؟ يؤكد لنا: نعم أنا.
أخيرا أقنعنا بأنه يصنع عشرين منديلا في اليوم ! جدّتك و معها بناتها و بنات الجيران ، يصنعن ثلاثة أو أربعة مناديل في السنة ، نبيعها بعشرة دنانير ، نعتاش الشتاء كلّه منها ، فما بالك بعشرين منديل في اليوم ، كل منديل أجمل من منديل جدّتك بعشرين ألف مرّة؟
قلنا له مستسلمين : نريد شراء مناديلك . ابتسم و قال: ليس عندي غير هذا ، لكن أعلّمكم التطريز على طريقتي . هلّلنا و كبرنا ثمّ سألنا : كيف ؟ أجاب واثقا: معي إبر وخيطان كثيرة و كلّ ما يلزم من أوراق عليها رسومات من صنع يدي . فسأل أحدنا : معك ما يكفي النّاس جميعا ؟ كل له زوجة و كل زوجة تريد أدواتها. فأجاب واثقا: نعم ..نعم
اشترينا الإبر و الخيطان و الورق و جاء و قت الحساب ، فطلب الرّجل خمس مائة دينار. مبلغ كبير ، لو عصرت القرية كلها ببشرها و بهائمها ، أرضها وبيوتها ، لن تخرج بمائة واحدة فما بالك بخمس؟! تذمّرنا : من أين نأتي بالمال؟ أصرّ على طلبه ، فتدخّلت النساء ثانية ، هذه المرة لتحلّ المشكلة ، فهنّ يصنعن العقدة و يأتين بالحلّ . شعرت به يتوقف عن الحديث فعاجلته : كيف .. كيف؟؟ فأجاب : تنازلن عن ذهبهنّ و حليهن . جمعناها و أخذها الغريب و مضى . فسارعت بالسؤال قبل أن يتابع: كيف هكذا ، هن بداية المشكلة وهنّ نهايتها؟ وأنتم؟ فأجاب: نحن نعدو بين العقدة و حلّها ، البداية العقدة ، حلمهنّ ، والنهاية الحلّ ، عقدة ثانية. فقلت : و أنت تعدو كالآخرين بينهما يا جدّي؟ فقال سريعا: أنا ؟ لا... لا.. هم ، هم الرجال الآخرون يفعلون أيها القزم الشرير. ضحكت رغم البرد الذي يتغلغل فيّ حتى العظم : يعجبني الإسم لكن ربّما أطول ذات يوم ، أكمل يا جدي أكمل .
حمل الرجال إلإبر و الخيطان و الورق ، و طاروا بها لزوجاتهم ، كأنّهم يحملون الدنيا و ما فيها .
أنت يا جدي ماذا فعلت ؟ نظر إلي و بلع ريقه و انخفض صوته : فعلت كباقي الرجال؟؟ فعاجلته كمن ضبط شخصا بالجرم : كيف ؟ أنت لا تفعل مثلهم ، تركض بين العقدة و الحل أو.. ماذا؟ فسهّل علي: بين العقدة و العقدة ، ثمّ تابع : قلت لك يابني كانت صبيّة ليس مثل اليوم .
كيف يعني يا جدي ؟؟
أنت ولد مُدلل سأقول لأبيك أن يكف عن تدليلك.
بخبرتي أعرف حين يقول هذا ، يعني أنه شغوف بمتابعة حكاياه . تركته برهة و أنا أعلم ماذا سيحدث ، سيتنحنح ثمّ يحشرج فيقول : حقا تريد أن تعرف ؟ فأجيب لا... لا ، فيلفني بذراعه قائلا : لا "تزعل" سأقول سأقول و يقول: دخلت عليها و قلت لها أحمل لك الدنيا و ما فيها ...اقتربي ... اقتربي اشتقت كثيرا ، فاقتربت .. يضع يده على شاربيه بحركة عفوية ، أفاجئه : أبرمت لها شاربيك ؟ تختنق الكلمات في حنجرته ، يهز رأسه . فأعاجله: ألا تخف جدّتي منهما مثلي؟ فسارع :لا... لا...
هَرَبَتْ؟ فيردّد : لا .... لا ... على العكس ، ارتمت في حضني .
تبكي ياجدّي؟ فقد صبره : أغبيّ أنت !؟ سأسحب اللّقب منك ، لن تكون "حكيم" بعد اليوم . أعرف نبرته ، علي التّوقف.
لم يطق الصمت فقال: عندما تكبر ستفهم . كيف يا بني ستبكي و قد أحسستها شهرزاد و انا "أتمختر" كشهريار. أتعرف، بقينا حتى الصباح . أتعرف يا ولد .. يا حكيم (و مدّ يده نحو ذقني يرقصها بين إبهامه و سبّابته) حتى الصباح ، لم ننم . فقلت : فرحا بالمناديل؟ فقال : لا . فطاردته : تحسبون كم من الأموال ستربحون؟؟ فقال يائسا : لا.. لا . تابعت : تروي لك قصص السحرة كما تروي لي ؟ احتدّ صوته : لا... لا . فانقضضت عليه صارخا : عرفت ، لم تنم من شخيرها ؟؟ فتوقف فجأة و هزّني و سلّط عليّ نبرة حادّة : لا ... ثمّ تركني و بحلق إلى الأعلى كمن ينظر للسماء ، حبات المطر تسقط مباشرة فوق وجهه ، بعضها يعلق بشاربيه ، كأنّهما شجرة صبّار ابتلّت بالنّدى ، بعضها تُغرق وجهه و تجري في كل إتجاه ، كنهر فلت من مساره ، كان كمن يبكي و هو يتمتم : كانت صبية ، و الله كانت صبيّة ، لماذا لا تفهم أن عجوزا مثلها لها تاريخ من الصبابة و الصبى... لماذا؟؟ انتظرت صامتا لينتهي المشهد ، لم أكن أفهم ربما لأني كنت فعلا صبيّا ، و لم يدركني بعضٌ من فهم ما يختزن جدّي إلا بعد أن اقتربت من عمره حينها ، و تقوست قامتي و فرّت كلّ الطيور من قسمات وجهي ، مخلفة جحورها الفارغة ، و أصبح الأبيض هو الأغلب في مفرقي. أواه يا جدّي...أواه .. أعرف الآن كم كنت حزينا تحت حبات المطر..
تفاجأت حين أصبحنا قرب باب البيت ، وفاجأني جدي بوقوفه يكمل قصّته تحت المطر : تلك الليلة حملت كل نساء القرية ، جدتك حملت بأبيك . ما أن أدركنا النّهار ، حتى أدركنا أن إبر و خيطان و أوراق الغريب لا قيمة لها ، لا تعمل أكثر من إبرة جدتك .
صرخت منفعلا: كيف؟ فقال : كانت خديعة ، و ما الصمرقندي إلا نصّابا مُحتالا . ما زلت أذكر الوجوم الذي غزاني ، أتذوق طعم الأسف ، ربما لأنّني كنت ابن إبن تلك الليلة! لم أفق إلاّ وصوت الباب يُفتح وتظهر أمي و جدتي ، تصرخ جدّتي بوجهه : ماذا تفعل بالولد في المطر و البرد ؟! سوف يمرض ، إنّك خرف لا تدري ما تفعل . لم يُقل جدي كلمة واحدة و لا أمي التي بدت قلقة منفعلة. دخلنا وانضممنا لباقي الأسرة المتحلّقة حول النّار. حاولت أمي سحبي لتغيير ملابسي المبتلة . فسارع جدي كمن وجد ضالته : و أنا كذلك ، تعال يا بني تعال : سحبني من ذراعي نحوه و مضينا بعيدا عنهم و هو ينظر للوراء آمرا: إجلبوا لنا الملابس الجافة.
فرحتُ لأن جدي له من الفطنة ما ندر ، ليس أجمل من أن يكمل قصته . ما أن أصبحنا وحدنا ، حتى اقترب منّي يهمس في أذني : أتعرف ماذا فعلت هذه النسوة ؟؟ بكين طيلة الوقت ، يلمننا ليل نهار ، يقلن أننا لسنا رجالا ، لا نعرف كيف ندافع عن نسائنا !! كيف يسرق غريب محتال منّا الذهب و الحلي؟؟ بالله قل يا حكيم ، أليس هذا جبروتا و ظلما ؟؟ لم تكن الحكاية هكذا ، هنّ صنعن العقدة و هن أتين بالحل و نحن نلهث بين هذا وذاك ...
قلت له هامسا معاتبا : يا جدي من سيدافع عنهن غيركم ؟
إحتد على غير المتوقع و قال بغضب و قد أطبق أسنانه بعضها فوق بعض مُجبرا الكلمات على الخروج من فتحات حفرها الزّمن بينها: الصبية أمثالك أيها الخبل؟
استطرد دون توقف ، كأنّه قرر أن لا يخشى أحدا : أنت لا تعلم ما حصل ؟ لقد دفعتنا تلك النسوة نبحث عن الغريب و جواهرهنّ سنين طويلة ، بدّدنا العمر في الوديان و الجبال.
قلت محاولا القفز على غضبه : كيف انتهت هذه المشكلة ؟ فرماني بنظرة حادة مازلت أخجل منها حتى الآن . لكنّه أيضا أجاب بهدوء و حزن عميقين : خمس عشرة سنة لم تعرف هذه القرية الأولاد ، كنّا نتناقص بالموت حتى أوشكنا على الانقراض . لم تنجب النّساء بعد تلك الليلة خمس عشرة سنة ، زفر ثانية كجمل تجثو فوقه كلّ رمال الكون ، لم يعد يشبه اختناق جارنا المسلول : تبدّلت الفصول ... هنّ في الربيع ، و نحن في الشتاء منبوذون. جُبنا البلاد حتى دميت أقدامنا بحثا عن جواهرهن ، تساقطت عنّا الزهور و الأوراق و صرنا كالأشجار في نهاية الخريف ، عيدان شاخصة للسماء ، لا حياة فيها و لا دم في عروقها، و هن يورقن و يزهرن ، ثم يورقن و يزهرن ، وحيدات.... مرّت السنون تتكوّم فوق أكتافنا، ما أن أتى النسيان ، حتى كان الصبا قد ولى عنّا و عنهن .
حاولت أن أفهم فسألت : يورقن و يزهرن فكيف أتاهن الشتاء ؟؟
ابتسم و ازداد شرودا ، كلماته صارت بنكهة التّراتيل الحزينة ، لها نّغمة موّال ، مازال يعشعش في أذني حتى الآن : ما فائدة كل زهور العالم و لا أنف يستنشقها أو نحلة تأخذ من رحيقها أو عين تهتف لجمالها و أنامل تهدهد بتلاتها. ستذوي يا بني ، ستذوي ...
أحسست أنّني سأنفجر باكيا لشدّة ما أثرت بي نبرته الحزينة المملّحة بتجاعيدٍ تحرث وجهه ،لأول مرّة ألاحظها ، فتحشرجتُ بآخر سؤال لم يكتمل: أين النحلات يا ج.... و لم أقو على الكلام أكثر ، فقال بهدوء و سلام : يلفها صقيع الشتاء تبحث عن بريق جواهر ضاعت ، لم تجدها فسقطت في صقيع العمر..
لم تنزل دموعي رغم شعوري بحاجتها الملحّة حينها ، لكنّها الآن تفعل يا جدي ... تفعل .... و لا أدري كيف أقاومها..
لا أخفي عليكم أنّني كنتُ مدلّلا ، فقلت : نعم الآن.
بدأ جدي الحكاية : بينما كنّا في "ديوان البلد" بعد صلاة العشاء ، طرق غريب الباب فرحّبنا به . بعد أن هوّلََنا بالصّعاب التي لاقاها و هو يجوب بلاد الله بحثا عن العلم ، عرفنا أنّه قادم من "صمرقند" ، ذاهب لأهلة في قرية بعيدة عنّا.
بينما نحن هكذا ، مدّ يده لحقيبة معه ، فسأله أحد الحضور : ماذا تفعل ؟ أجاب : أخرج صرّة طعامي . فتزلزل المكان ، كيف تفعلها في مضاربنا ؟! الضيافة حقٌ في أعناقنا ، أترضى لنا العار و الدّمار؟! بين هذا وذاك ، أخرج الغريب صرّة طعامه و انكبّ يفكّها ، ما إن فعل حتى وجم الجميع لما رأت أعينهم ، منديلا يا بني ... منديلٌ كأنّه من صنع الجان... ماذا أقول ؟ أخّاذ يابني أخّاذ... يتوقف جدّي ، يتنهد كما الجمل ينوء تحت عبء ثقيل ، أو كما يزفر مختنقا جارنا المُصاب بالسّل.
صفعتنا الريح بأكفّ حبات المطر . دفنت وجهي في عباءته بينما ظلّ يتابع : لسوء الحظ ، سمعت النساء ضجيجنا ، فهرعت للدّيوان تستطلع الأمر . توقف ، هزّ رأسه بقوة ، كمن أتاه العطس لكنّه ارتد ، فظلّ هكذا برهة يتمتم : آه لو لم يسترقن النّظر...
قبل تمكّنه من المتابعة عاجلته : أندم لأنّهن استرقن النّظر ؟ شدّني ناحيته و رفع الفانوس أمام وجهي يبحلق بي . شعرت بالخوف ، لا أدري حتى اليوم عن ماذا كان يبحث ؟!! أجابني : لا... و نعم ... فشددت عباءته مرات متتالية كما يفعل قارع الجرس . سلوك يفهمه ، أي فسّر.
فقال : أمّا لا... لأنّها كانت ليلة من ليالي ألف ليلة و ليلة ، ونعم... لأنها بداية القحط و الآلام . قلت : إذن لماذا تركتموهنّ يسترقن النّظر ؟؟ ردّ حزينا: منذ آلاف السّنين نحاول منعهن و لا نستطيع . فقلت : آلاف السنين ؟! هل تتذكر الديناصورات يا جدّي ؟؟ ضحكت متابعا ، رقّص شاربيك و سيخفن . فقال بجديّة ومرارة ما زالت تحفر أذني: سلاح غير فعّال ، مُحصّنات يا بني.. لو فعلت ، ستنكفئ على وجهك مسحورا بالعشق ، لا تصحو إلا بعد فوات الأوان. و الله لم أفهم شيئا ..!! شدّ كتفي محذرا : لا تسألني ، دعني أنهي قصتي أوّلا . لسوء الحظ استرقن النّظر ورأين منديل الغريب...لكزني بظهري مازحا ، عشق الرجال منديله فما بالك بالنساء ؟
سمعته يستغفر و يوشوش نفسه: ناقصات العقول...
لمع البرق فأضاء حولنا ، رأيت حبات المطر كيف تصفعنا كضفائر من ضوء ، ملابسنا مبلّلة ، أقدامنا مُلطّخة بالوحل ، لكنّ جدّي ظلّ يروي : أرسلت كل امرأة في طلب زوجها ، كلّ الرّجال خرجوا من المجلس واحدا تلو الآخر و عادوا يحـ ..... ثمّ ضاع صوته في ضجيج الرّعد.
يحاول ضحكة واهنة شاردة مكلّما نفسه : نعم .. أيامها كانت "غير" . وثبت عليه بالسّؤال : كيف يعني يا جدي "غير" ؟ أسرع بالقول : يعني كانت جدّتك صبيّة . لم أهتم لما قال و تهيّأت لسؤال جديد ، فإذا بزخة مطر عنيفة تسقط فوقنا ، ضمّني بقوّة نحوه ، إلاّ أنّني بقيت متشبّثا بالسّؤال ، أخرجته قبل أن يختنق تحت كفه وذراعه الضّخمة التي طوّقتني ، كصرخة عالية : ماذا كانت تريد النساء ؟ أجاب كأن شيئا لم يحدث: كلّ واحدة تريد الحصول على المنديل .
تحلّقنا حول الغريب نستفسر ، فيُفسّر: هذا منديل طرزته يداي. نردّ جوقة واحدة : أنت ؟؟ فيرتدّ علينا: نعم أنا . انظروا هذه الوردة المنقوشة هنا ، تعلّمت نقشها في الصين ، هذه في بلاد الهندوس ، الغصن الأخضر في السند ، أما حبّات الكرز من بلاد الروس ، هذه من بلاد المجوس ، ما تبقى اخترعته أنا. نكرّر كجوقة الحمير ، أنت ؟ فيكرّ علينا : نعم أنا . سأل أحدهم : كيف تصنع هذا ؟ فأجاب: عندي ما يساعدني على صنعه . قاطعه آخر : غير الخيط الملوّن و الإبرة؟ فقال : لا .. نفس الخيط و الإبرة ، لكن إبرة خاصة من ابتكاري ، أمّا الخيط أضفت عليه بعض الأشياء . نقاطعه كجوقة الحمير ثانية :أنت ؟ يؤكد لنا: نعم أنا.
أخيرا أقنعنا بأنه يصنع عشرين منديلا في اليوم ! جدّتك و معها بناتها و بنات الجيران ، يصنعن ثلاثة أو أربعة مناديل في السنة ، نبيعها بعشرة دنانير ، نعتاش الشتاء كلّه منها ، فما بالك بعشرين منديل في اليوم ، كل منديل أجمل من منديل جدّتك بعشرين ألف مرّة؟
قلنا له مستسلمين : نريد شراء مناديلك . ابتسم و قال: ليس عندي غير هذا ، لكن أعلّمكم التطريز على طريقتي . هلّلنا و كبرنا ثمّ سألنا : كيف ؟ أجاب واثقا: معي إبر وخيطان كثيرة و كلّ ما يلزم من أوراق عليها رسومات من صنع يدي . فسأل أحدنا : معك ما يكفي النّاس جميعا ؟ كل له زوجة و كل زوجة تريد أدواتها. فأجاب واثقا: نعم ..نعم
اشترينا الإبر و الخيطان و الورق و جاء و قت الحساب ، فطلب الرّجل خمس مائة دينار. مبلغ كبير ، لو عصرت القرية كلها ببشرها و بهائمها ، أرضها وبيوتها ، لن تخرج بمائة واحدة فما بالك بخمس؟! تذمّرنا : من أين نأتي بالمال؟ أصرّ على طلبه ، فتدخّلت النساء ثانية ، هذه المرة لتحلّ المشكلة ، فهنّ يصنعن العقدة و يأتين بالحلّ . شعرت به يتوقف عن الحديث فعاجلته : كيف .. كيف؟؟ فأجاب : تنازلن عن ذهبهنّ و حليهن . جمعناها و أخذها الغريب و مضى . فسارعت بالسؤال قبل أن يتابع: كيف هكذا ، هن بداية المشكلة وهنّ نهايتها؟ وأنتم؟ فأجاب: نحن نعدو بين العقدة و حلّها ، البداية العقدة ، حلمهنّ ، والنهاية الحلّ ، عقدة ثانية. فقلت : و أنت تعدو كالآخرين بينهما يا جدّي؟ فقال سريعا: أنا ؟ لا... لا.. هم ، هم الرجال الآخرون يفعلون أيها القزم الشرير. ضحكت رغم البرد الذي يتغلغل فيّ حتى العظم : يعجبني الإسم لكن ربّما أطول ذات يوم ، أكمل يا جدي أكمل .
حمل الرجال إلإبر و الخيطان و الورق ، و طاروا بها لزوجاتهم ، كأنّهم يحملون الدنيا و ما فيها .
أنت يا جدي ماذا فعلت ؟ نظر إلي و بلع ريقه و انخفض صوته : فعلت كباقي الرجال؟؟ فعاجلته كمن ضبط شخصا بالجرم : كيف ؟ أنت لا تفعل مثلهم ، تركض بين العقدة و الحل أو.. ماذا؟ فسهّل علي: بين العقدة و العقدة ، ثمّ تابع : قلت لك يابني كانت صبيّة ليس مثل اليوم .
كيف يعني يا جدي ؟؟
أنت ولد مُدلل سأقول لأبيك أن يكف عن تدليلك.
بخبرتي أعرف حين يقول هذا ، يعني أنه شغوف بمتابعة حكاياه . تركته برهة و أنا أعلم ماذا سيحدث ، سيتنحنح ثمّ يحشرج فيقول : حقا تريد أن تعرف ؟ فأجيب لا... لا ، فيلفني بذراعه قائلا : لا "تزعل" سأقول سأقول و يقول: دخلت عليها و قلت لها أحمل لك الدنيا و ما فيها ...اقتربي ... اقتربي اشتقت كثيرا ، فاقتربت .. يضع يده على شاربيه بحركة عفوية ، أفاجئه : أبرمت لها شاربيك ؟ تختنق الكلمات في حنجرته ، يهز رأسه . فأعاجله: ألا تخف جدّتي منهما مثلي؟ فسارع :لا... لا...
هَرَبَتْ؟ فيردّد : لا .... لا ... على العكس ، ارتمت في حضني .
تبكي ياجدّي؟ فقد صبره : أغبيّ أنت !؟ سأسحب اللّقب منك ، لن تكون "حكيم" بعد اليوم . أعرف نبرته ، علي التّوقف.
لم يطق الصمت فقال: عندما تكبر ستفهم . كيف يا بني ستبكي و قد أحسستها شهرزاد و انا "أتمختر" كشهريار. أتعرف، بقينا حتى الصباح . أتعرف يا ولد .. يا حكيم (و مدّ يده نحو ذقني يرقصها بين إبهامه و سبّابته) حتى الصباح ، لم ننم . فقلت : فرحا بالمناديل؟ فقال : لا . فطاردته : تحسبون كم من الأموال ستربحون؟؟ فقال يائسا : لا.. لا . تابعت : تروي لك قصص السحرة كما تروي لي ؟ احتدّ صوته : لا... لا . فانقضضت عليه صارخا : عرفت ، لم تنم من شخيرها ؟؟ فتوقف فجأة و هزّني و سلّط عليّ نبرة حادّة : لا ... ثمّ تركني و بحلق إلى الأعلى كمن ينظر للسماء ، حبات المطر تسقط مباشرة فوق وجهه ، بعضها يعلق بشاربيه ، كأنّهما شجرة صبّار ابتلّت بالنّدى ، بعضها تُغرق وجهه و تجري في كل إتجاه ، كنهر فلت من مساره ، كان كمن يبكي و هو يتمتم : كانت صبية ، و الله كانت صبيّة ، لماذا لا تفهم أن عجوزا مثلها لها تاريخ من الصبابة و الصبى... لماذا؟؟ انتظرت صامتا لينتهي المشهد ، لم أكن أفهم ربما لأني كنت فعلا صبيّا ، و لم يدركني بعضٌ من فهم ما يختزن جدّي إلا بعد أن اقتربت من عمره حينها ، و تقوست قامتي و فرّت كلّ الطيور من قسمات وجهي ، مخلفة جحورها الفارغة ، و أصبح الأبيض هو الأغلب في مفرقي. أواه يا جدّي...أواه .. أعرف الآن كم كنت حزينا تحت حبات المطر..
تفاجأت حين أصبحنا قرب باب البيت ، وفاجأني جدي بوقوفه يكمل قصّته تحت المطر : تلك الليلة حملت كل نساء القرية ، جدتك حملت بأبيك . ما أن أدركنا النّهار ، حتى أدركنا أن إبر و خيطان و أوراق الغريب لا قيمة لها ، لا تعمل أكثر من إبرة جدتك .
صرخت منفعلا: كيف؟ فقال : كانت خديعة ، و ما الصمرقندي إلا نصّابا مُحتالا . ما زلت أذكر الوجوم الذي غزاني ، أتذوق طعم الأسف ، ربما لأنّني كنت ابن إبن تلك الليلة! لم أفق إلاّ وصوت الباب يُفتح وتظهر أمي و جدتي ، تصرخ جدّتي بوجهه : ماذا تفعل بالولد في المطر و البرد ؟! سوف يمرض ، إنّك خرف لا تدري ما تفعل . لم يُقل جدي كلمة واحدة و لا أمي التي بدت قلقة منفعلة. دخلنا وانضممنا لباقي الأسرة المتحلّقة حول النّار. حاولت أمي سحبي لتغيير ملابسي المبتلة . فسارع جدي كمن وجد ضالته : و أنا كذلك ، تعال يا بني تعال : سحبني من ذراعي نحوه و مضينا بعيدا عنهم و هو ينظر للوراء آمرا: إجلبوا لنا الملابس الجافة.
فرحتُ لأن جدي له من الفطنة ما ندر ، ليس أجمل من أن يكمل قصته . ما أن أصبحنا وحدنا ، حتى اقترب منّي يهمس في أذني : أتعرف ماذا فعلت هذه النسوة ؟؟ بكين طيلة الوقت ، يلمننا ليل نهار ، يقلن أننا لسنا رجالا ، لا نعرف كيف ندافع عن نسائنا !! كيف يسرق غريب محتال منّا الذهب و الحلي؟؟ بالله قل يا حكيم ، أليس هذا جبروتا و ظلما ؟؟ لم تكن الحكاية هكذا ، هنّ صنعن العقدة و هن أتين بالحل و نحن نلهث بين هذا وذاك ...
قلت له هامسا معاتبا : يا جدي من سيدافع عنهن غيركم ؟
إحتد على غير المتوقع و قال بغضب و قد أطبق أسنانه بعضها فوق بعض مُجبرا الكلمات على الخروج من فتحات حفرها الزّمن بينها: الصبية أمثالك أيها الخبل؟
استطرد دون توقف ، كأنّه قرر أن لا يخشى أحدا : أنت لا تعلم ما حصل ؟ لقد دفعتنا تلك النسوة نبحث عن الغريب و جواهرهنّ سنين طويلة ، بدّدنا العمر في الوديان و الجبال.
قلت محاولا القفز على غضبه : كيف انتهت هذه المشكلة ؟ فرماني بنظرة حادة مازلت أخجل منها حتى الآن . لكنّه أيضا أجاب بهدوء و حزن عميقين : خمس عشرة سنة لم تعرف هذه القرية الأولاد ، كنّا نتناقص بالموت حتى أوشكنا على الانقراض . لم تنجب النّساء بعد تلك الليلة خمس عشرة سنة ، زفر ثانية كجمل تجثو فوقه كلّ رمال الكون ، لم يعد يشبه اختناق جارنا المسلول : تبدّلت الفصول ... هنّ في الربيع ، و نحن في الشتاء منبوذون. جُبنا البلاد حتى دميت أقدامنا بحثا عن جواهرهن ، تساقطت عنّا الزهور و الأوراق و صرنا كالأشجار في نهاية الخريف ، عيدان شاخصة للسماء ، لا حياة فيها و لا دم في عروقها، و هن يورقن و يزهرن ، ثم يورقن و يزهرن ، وحيدات.... مرّت السنون تتكوّم فوق أكتافنا، ما أن أتى النسيان ، حتى كان الصبا قد ولى عنّا و عنهن .
حاولت أن أفهم فسألت : يورقن و يزهرن فكيف أتاهن الشتاء ؟؟
ابتسم و ازداد شرودا ، كلماته صارت بنكهة التّراتيل الحزينة ، لها نّغمة موّال ، مازال يعشعش في أذني حتى الآن : ما فائدة كل زهور العالم و لا أنف يستنشقها أو نحلة تأخذ من رحيقها أو عين تهتف لجمالها و أنامل تهدهد بتلاتها. ستذوي يا بني ، ستذوي ...
أحسست أنّني سأنفجر باكيا لشدّة ما أثرت بي نبرته الحزينة المملّحة بتجاعيدٍ تحرث وجهه ،لأول مرّة ألاحظها ، فتحشرجتُ بآخر سؤال لم يكتمل: أين النحلات يا ج.... و لم أقو على الكلام أكثر ، فقال بهدوء و سلام : يلفها صقيع الشتاء تبحث عن بريق جواهر ضاعت ، لم تجدها فسقطت في صقيع العمر..
لم تنزل دموعي رغم شعوري بحاجتها الملحّة حينها ، لكنّها الآن تفعل يا جدي ... تفعل .... و لا أدري كيف أقاومها..
[/align][/cell][/table1][/align]
-----------------------
"1" هذه ليست "سمرقند" المدينة الجميلة التاريخيّة المعروفة .. بل "صمرقند" لا تشبه تلك...
تعليق