و أنت تحدق في المرآة , تكتشف للمرة الأولى , أنك أصبحت طاعنا في السن .. لقد بلغت سن النبوّة , دون أي إنجاز أو شعور بالرضا ,سوى الإحساس المزمن ب"الإصطكاك".. ولهذا السبب بالذات أنت رجل كئيب , وما يزيد إحساسك العميق بالكآبة هم الآخرون , خاصة عندما يحاولون تفسير الماء بالماء ! لظنهم أنك لا تفهم أن الماء إنما هو الماء الغني عن التعريف ذاته !.. لكن ماذا تعني ب"الإصطكاك" .. قطعا أنك لا تعني إحتكاك الركبتين إحداهما في الأخرى ,من شدة البرد ,دون أن يكون هناك ما يدفيء, ليجنبك هذا الإحساس المقيت ب"الإصطكاك"! وربما أنك تعني معنى أكثر عمقا من معنى هذه الكلمة في الإنجليزية,و التي تكتب كما تقرأ ,إذن أنت تبحث عن معنى ,يتخطى حدود ما تعنيه كلمة "ستوك"من إلتصاق ,إلى الإنحشار في مأزق لا تألو جهدا في الإفلات منه ,فلا تعود من الغنيمة سوى بالإياب!.. وأيا يكن معنى "الإصطكاك" بالنسبة لك ,فأنت في الواقع لا تعدو أن تكون سوى رجلا "مصطكا",ومع ذلك اسمح لي أن أشرح لك شيئا بديهيا حول الإصطكاك أؤكد به ظني فيك, بأنك : لا تفهم ما أعنيه ..فأرجو ألا تنزعج من هذا الظن !الذي يحيق بك كرجل "مصطك"!.. إذن سأمارس هواية الآخرين في الإسهاب في الشرح.. أعني تخيل نفسك الفتى "فلورنتينو آزورو" عاشق العذراء الجميلة " فرمينا" في :( الحب في زمن الكوليرا).. تخيل أن فرمينا , في لحظة تجلي نادرة وخارقة وسريعة كالبرهة الخاطفة ,رفضت علاقتك بها ,لإكتشافها في اللحظة البرقية هذه أنك مجرد طيف أو وهم ,أي أنك مجرد "معنى" رومانسي حالم ,غير متجسد "ماديا" !.. ثم تخيل أنك إبتداء من لحظة رفضها لك , ستنفق أكثر من نصف قرن من عمرك منتظرا رحيل زوجها إلى العالم الآخر,حتى تتمكن من إقناعها بالزواج منك,أي أنك ك"معنى" تنطوي على تجسيد "مادي" ,بربك أليس هذا هو "الإصطكاك" بشحمه ولحمه !!.. أو تخيل انك ذلك الرجل البائس في قصة ديسوفيسكي "حلم رجل مضحك" ,والذي يستمد قدرته في ممارسة البؤس من حياة ديستوفيسكي البائسة نفسها , هذا الرجل المضحك يشتد به الحزن ,لإدراكه الحقيقة – كما يظن – التي يجهلها كل الناس !,وفي الوقت نفسه لا يدركون أنه يعرفها! .. حقيقة أصل الخطايا "الكذب",منذ غشت الحيّة حواء ,حتى آخر دم سفكته قوى الطبيعة وعناصر الكون المدمرة ,أو إصطكاكات البشر في الاحلام الإمبراطورية المروعة عبر التاريخ!!..هذه الحقيقة التي يدركها رجل ديستوفيسكي المضحك ,فيما يشبه الإسراء والمعراج ,أورحلة أبي العلاء "رسالة الغفران",أو حتى جحيم دانتي وكوميديته الإلهية ,هذا المزيج في إسراء الرجل المضحك ,بما ينطوي عليه من تداخل السحر والخرافات ,في النزعة التقدمية – بمعنى أن تمد رأسك لقدام - المزعومة هذه الإصطكاكة سمحت له بالتعرف على شكل من أشكال التفكير المنظم ,وما يتيحه من فلسفة وعلوم مضحكة ,خلص عبر تأملها إلى الحاجة للعلم كمصدر للحكمة التي تفضي للحقيقة ,وهي الخلاصة ذاتها التي توصل إليها دانتي وديستوفيسكي وفيكتور هوجو وغيرهم ,من أنبياء معلنين رسميا أو لم يتبناهم أحد..فما هي المحصلة النهائية لهذا التقنين الصوفي ل : العلم فالحكمة فالشعور بالرضا الذي هو نقيض الإحساس بالإصطكاك ..المحصلة النهائية يا صديقي, أن كل ذلك يؤكد على شيء واحد : أننا مصطكون في كون مصطك , وليس ثمة مخرج لنا من هذا الإصطكاك الكوني !..ولذلك لن يصدق أحد "حلم رجل مضحك"بل سيتطوع الجميع ليشرحوا له كم هو مضحك , تماما كاجتهادي الآن في محاولة شرحي لك : كم انت مصطك ,بين هؤلاء الناس المصطكين في حكاياتهم المحشوة بالأكاذيب وأمجادهم الزائفة !.. ولتدرك مدى فداحة هذا الإحساس المزمن بالإصطكاك تخيل أنك أنا .. وأنك أي "أنا" كثير الشكوى , نتذمر دائما ,لا شيء يرضيك ,وتشك في كل الكلام الذي يدور حولك, فأنت لاتصدق الناس ,بل أن رأيك فيهم سيء للغاية ,للدرجة التي تتصور أن الكون سيكون أفضل دونهم ,بما فيهم أنت طبعا!!-لاتقل لي تعميم وأستروتايب وكذا, فهذا كلام يستهلكه المثقون والميديا في محاولة السيطرة علي وعليك وتوجيه أفكارنا,وتصميم إحتياجاتنا ورغباتنا- وإلا ستنسف فرضية الإصطكاك من أساسها الأمر الذي سيعيدنا إلى نقطة البداية لنشرح من أول وجديد .. إذن تخيل أنك أنا ,صحوت للتو من نوم متقطع كالعادة لا يخلو من الكوابيس والأوهام , وها انت – انا .تصنع كوبا ضخما من القهوة الأمريكية ,كل الدور الذي تؤديه بالنسبة لك, هو أنها تهيج طعم البن الحبشي فيطفو على سطح ذاكرتك, مبددا نوستالجيا القهوة ..و هب يا أنا أنك أسترخيت مع قهوتك , إلى أن إنتبهت أن الساعة الآن الثانية عشرة ظهرا ,فخرجت لتتفقد البريد ,ثم خطر على بالك ,أن تتصل على رئيسك الفيتنامي الضئيل في العمل, وتعتذر عن قدومك اليوم لأنك مريض - وفي الحقيقة انت غير راغب في العمل من اساسه وتعتقد أنه إختراع كريه - بالطبع الفيتنامي الضئيل لم يرد عليك ,وأنت الآن تتخيل وجهه يحمر ويصفر ,عندما يجد الرسالة الصوتية التي تركتها له ,فهو لا يريد لأي من موظفيه أن يتغيب, خاصة في ظروف الطواريء الحالية, بسبب العواصف الثلجية التي روعت الساحل الشرقي ,وهمت بأن تعيده إلى عصر الجليد.. وهب أنك كالمعتاد جلست إلى الكومبيوتر ,إطلعت على الأخبار في سرعة مريعة ,ثم فتحت الإيميل ,حاولت أن ترد على بعض الرسائل -على الأقل- فلم تستطع كالعادة, إذ بمجرد أن تصل إلى هذه المرحلة تشعر بفقدان القدرة على الإستمرار ,فتنهض لتقعي في الصالة.. نعم تقعي ,ماذا في ذلك.. إنها مفردة تعبر بدقة عن حالتك, فانت محتار ولطالما تخيلت الإقعاء مرادفا للإحتيار, وليس الذل وعلى كل حال : كل شيء في هذا العالم يحاول إزلال كل شيء , وإياك أن تقول أن هذه نزعة سايكوباتية !!.. لنقل أنك فتحت وأغلقت التلفزيون مرارا وتكرارا ,إلى أن إستقر مزاجك على الإقعاء لمشاهدة فيلم سيمون او "سيموليشن ون" الذي يلعب فيه آل بتشينو دور مخرج سينمائي (فيكتور تارانسكي),الذي هو في الحقيقة مخرج فاشل, يحاول إنقاذ مهنته ,فيهديه أحد المبرمجين برنامج رقمي ,لفتاة جميلة وجذابة قادرة على تمثيل كل الأدوار, والتأثير في مشاهديها ,هذه السوبر ستار المذهلة تمكنت من فتح ممرات النفس البشرية, ليتدفق كل المخزون الأزلي للتراجيديا الرومانسية, والبؤس الإجتماعي في نفوس مشاهدين يتآكلهم ترف الحلم الأمريكي,انتزعت إعجاب هؤلاء الذين تعبر حياتهم اليومية في الواقع ,عن الفشل الإنساني الكبير ,فيمثل لهم الإصطكاك في الإعجاب بسيمون تعويضا عن حياتهم الفعلية الكئيبة! .. كل أنواع الميديا تريد إجراء حوار مع السوبر ستار سيمون ,بل نسجو حول علاقتها بالمخرج تارانسكي من الحكايات ما يكفي لإشعال نيران الغيرة في القارات السبعة , لا في زوجته فقط !..وهكذا أصبح تارانسكي المغمور حديث العالم ,وهنا يكتشف تارانسكي حقيقة وضعه الوجودي كشخصية مصطكة, باكتشافه أن سيمون صنعته وليس العكس , فيحاول إسترداد ذاته بإتلاف برنامج سيمون الرقمي.لكن الذين أدمنوا مشاهدة أفلامها يشكوّن في إختفائها الغامض, وهكذا توجه له رسميا تهمة قتل سيمون , ولا يخرج من السجن إلا بعد ان تنجح إبنته في إستعادة البرنامج "سيموليشن ون" من براثن التلف ,صحيح أن بعث الحياة في سيمون من جديد, انقذ تارانسكي من السجن الرسمي لكن لم ينقذه من إصطكاكته الرهيبة ,هذا السجن غير المرئي ,فلا أحد مستعد أن يتقبل فكرة أن سيمون محض برنامج رقمي ,وهي لا تختلف كثيرا عن فرمينا كما أن معضلة فيكتور تارانسكي أسوأ من إصطكاكة فلورنتينو آزورو ..الناس ينزعجون من معرفة الحقيقة ,ولذلك يتوارون خلف الأكاذيب ..وهذا هو جوهر الإصطكاك.. أنت مثلا علاقتك بمسئولك الفيتنامي الضئيل معقدة ,إذ ليس مقبولا أن يتلقى شخص طويل عريض مرتفع إلخ.. الأوامر من شخص ضئيل .. رجاء لاحظ مفرداتي قلت :"ليس مقبولا".. تماما كتلك المفردة الفقهية "جائزا" ..المهم , أنك لم تصرح له بحقيقة شعورك تجاهه ,لكنك كنت تدرك أنه يدرك ذلك , وإمعانا في تغذيته لهذا الشعور داخلك ,يحكي لك حكايات غريبة, عن كيف هزم شعبه الأمريكان في فيتنام ,بل ويزعم أنه شخصيا شارك في تلك الحرب الرهيبة , وأنه كأمريكي صالح ,راض عن نفسه تماما,فأبناءه تخرجوا جميعهم من هارفارد,ويعملون في وظائف رفيعة , حتى ان أحدهم قنصل بسفارة أميركا في فيتنام ,وانه وانه .. انت بالطبع لا يعنيك أي شيء من هذا الهراء الكثيف ,ولذلك بعد مرور تسعة أشهر من الإصغاء اليومي للحكايات الفيتنامية الضئيلة و المروعة ,قررت الخروج عن صمتك وانفجرت ..تركت العنان لغضبك فقلت كل ما لست معتادا على قوله ,من شتائم وبذاءات بأكثر من لغة – بالطبع أنت لا تعرف الفيتنامية-ورميت بكل هذه البذاءات في وجه الفيتنامي الضئيل ..بماذا شعرت لحظتها وانت ترى زملاؤك الامريكان, ينحسرون داخل ذواتهم ,والفيتنامي المروع يحدق فيك ببلاهة غير مصدق!!..تناولت زجاجة مياه باردة وجلست على أقرب كرسي و"خلفت" رجلك ..ثم لم يسألك أحد .. كنت بإنتظار أن "يرفدونك" ..لكن لم يرفدك أحد ,ولم يسألك أحد ولم تسأل أحد!!الجميع في الواقع إصطك أمام هذه المشكلة العابرة!.. لم تكن هذه الثورة المباغتة في الواقع ضد الفيتنامي ,كانت ثورة ضد نفسك ,لأسباب تبدو لك غامضة فما خلفته هذه الثورة المباغتة,كان مزيجا غريبا من الشعور المنحسر بقوة داخلية ,لكن ليس بأي حال من الاحوال ما يسمى بالإرتياح ,ما يؤكد أن المعارك ..أي معارك هي نفسها شكل بدائي جدا, من اشكال الإصطكاك العنيف ..تماما كعالم الأقوياء في العالم أو حتى الضعفاء : هم مصطكون في حروباتهم الخاسرة ومغامراتهم الفاشلة ,التي هي الوجه الآخر لكوارث وأوبئة العالم ..والأسوأ من كل ذلك الأحلام الإمبراطورية الكونية ,التي عبر التاريخ تتحطم إزاء حجم الإنفاق الخارجي على الجيوش,التي تحرس هذه المستعمرات, مقابل حجم الموارد الوطنية الفعلية ,وهي موارد لا يمكن أن تكون كنتاكي أو مكدونالدز او بيتزا هت أو حقول نفط تكساس و ألسكا ,وتجارة المعلومات معادلا يسد فجوتها,..إكتشفت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ذلك ,فأنسحبت وتسحبت إلى حدودها الوطنية, وحجمها الفعلي كجزيرة معزولة في المحيط المجنون ,الذي مثلما اشعل أحلام الرحالة والمكتشفين على ساحليه ,أشعل أحلام الأباطرة والأنبياء ,فيما يشبه الإصطكاك الكوني ,الذي حملته الخرافات والأحاجي والأساطير والسحر, فالديانات والفلسفة فالعلم ,هذا الإصطكاك في حلم وحيد يعذب العالم ,إكتشف الأسكندر لا جدواه بعد فوات الآوان ,مثلما أكتشف قيصر ذلك في الرمق الآخير:"حتى انت يا بروتس!"هو الحلم نفسه يعاد إنتاجه فيتكون إتحاد السوفيات ,ليتجلى الحلم في الكاوبوي الأمريكي,ويتنامى ملقيا بظلاله على أحلام متنامية في أجزاء أخرى من هذا الكون الحزين, كالحلم الصيني .. هذه الأحلام جميعها عبر التاريخ هي أوجه لإصطكاك الإنسان في الكون ,لذلك إنعتاقه منها دائما ما يكون مدويا, لكن بقاياها سرعان ما تتلاقى, ليتشكل الحلم من الشظايا التي خلفها الإنعتاق المدوي- هذه الشظايا هي الحقيقة المتناثرة- لتبدأ حلقة جديدة في مسيرة الإصطكاك الذي يبدو بالضبط كحلقة جهنمية لا تنتهي .. في ظني أن هذا الإسهاب في الشرح – أنا غير مهتم البتة إن كان قد أزعجك أو لا – ربما جعلك تقترب من معنى الإصطكاك ,وماذا أعني بأنني مصطك في عالم إصطكاكي ..وعليه أتصور أنك بدات تدرك لماذا ظللت كل حياتي منزعجا, من ثرثرات الآخرين وحكاياتهم المملة وإدمانهم شرح البديهيات ,أو تبنيهم وجهات نظر " يظنون انها الحقيقة التي لا ريب فيها وليست مجرد وجهات نظر قابلة للفحص والتلف ,مثل هؤلاء يعمقون داخلك الإحساس بالإصطكاك ,.ستقول لي لماذا لا ترد عليهم .وسأرد عليك .لأنني أعرف ماذا سيكون ردهم على ردي , وفي الحقيقة ربما لا أعرف وفي الحالتين أنهم كطواغيت صغار, يضيقون بأن يناقش مصطك مثلي آرائهم ,ولذلك يسهبون في الشرح ,الأمر الذي يزعجني كثيرا ..
برينسس آن – ميريلاند 02-18-2010
برينسس آن – ميريلاند 02-18-2010
تعليق