[align=justify]قراءة فى ترجمة سورة "مريم" إلى الفرنسية
للدكتور سامى أبو ساحلية
بقلم د. إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
الدكتور سامي عوض الذيب أبو ساحليّة هو، كما جاء فى التعريف به فى أحد التعليقات فى منتدى "الترجمة الدينية" بموقع "واتا" (الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب)، مسيحيّ علماني سويسري من أصل فلسطينيّ يحمل درجة الدكتوراه في القانون، وله عدة كتب أبرزها: "ختان الذكور والإناث" صدرت عن دار الريس عام 2000م، وترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة الفرنسيّة قيد الإصدار، وبحوث ومقالات متعددة منها بحث بالعربية عنوانه: "من نظام الذمة إلى نظام المساواة والدولة الواحدة"، وآخر باللغة الإنجليزيّة هو: "Muslims in the West, case of Switzerland". ومنذ فترة وجيزة أعلن الدكتور أبو ساحلية فى موقع "واتا" المذكور آنفا عن قرب صدور ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم، وتفضل مشكورا، بناء على طلب بعض المعلقين وأنا منهم أن ينشر لنا عيّنة من ترجمته، فصوّر ترجمة سورتى "آل عمران" و"مريم"، على أساس أن يكون نشر هذين النصين مجالا لإبداء الرأى فى عمله ذاك الذى أثار على صفحات الموقع المشار إليه ضجة عنيفة وأخْذًا ورَدًّا بينه وبين عدد من الكتاب المشاركين فى منتدياته.
وهأنذا أشترك بكتابة ملاحظاتى التى عَنَّتْ لى اليوم أثناء قراءتى لترجمة السورة الكريمة راجيا أن تكون أخطائى فيها قليلة، مع مراعاة انشغالى الشديد فى غمرة بعض الأعمال الملحة التى تحايلتُ عليها واقتطفتُ من وقتها نهار اليوم وليله وخصصتهما للنظر فى ترجمة الدكتور، وكذلك قِصَر الفترة التى أنفقتها فى ذلك، وصعوبة الرَّقْم بالنسبة لى على الكاتوب الحِجْرِىّ الذى ألجأنى إليه عطلٌ أصاب كاتوبى العادىّ الذى ألفتُه وألفنى ولم تعد أصابعى تتشنج على أصابعه وأنا أكتب عليه ولا تخطئ يدى الحرف الذى أريد ضربه إلا فى حدود المعقول. وسوف أبدأ أولا بملاحظاتى على الترجمة ذاتها: لقد ترجم الدكتور الذيب مثلا كلمة "الموالى" إلى "alliés" بمعنى "الحلفاء/ الأصهار" مبتعدا عن المعنى الصحيح للكلمة، فيما ترجمها غيره، حسب كلامه، بما يعنى "الوَرَثة/ الأقارب": "les héritiers, les proches". أما جروسجان فقد ترجمها إلى "ceux qui me succéderont à ma mort: الذين يخلفوننى بعد موتى"، على حين أداها التونسى صلاح الدين كشريد هكذا: "les gens de ma famille après moi: أقاربى من بعدى".
ويزداد الأمر سوءا حين ترجم "وَلِيًّا" فى قوله سبحانه على لسان زكريا: "فهَبْ لى من لدنك وليا يرثنى ويرث من آل يعقوب…" بــ"un allié" أيضا، وهو ما يعنى أن ذلك النبى الكريم كان يدعو الله أن يقيّض له حليفا أو صهرا، على حين أن المقصود هو أن يرزقه ولدا، وإن كان قد استغرب البشرى التى أرسلها الله له بذلك، على عادة كثير من البشر فى مثل تلك الحالة، وكأنهم يستكثرون على أنفسهم تحقق أمانيهم بتلك السهولة بعدما كانت تبدو لهم صعبة، إن لم تكن مستحيلة. والدليل على صحة ما نقول ما جاء فى سورة "آل عمران" من قوله تعالى عن زكريا حين كان يدخل على مريم المحراب فيجد فى كل مرة عندها رزقا، فإذا سألها من أين لها هذا كان جوابها أنه من عند الله. فهنالك ابتهل عليه السلام لربه أن يهبه ذرية طيبة: "كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)". ثم إن الدكتور سامى ذاته قدقال ذلك فى ترجمته لتلك الآية من سورة "آل عمران"، فما المشكلة إذن؟ إن أقل ما يمكن قوله هنا هو أن عمله يفتقر أحيانا إلى التناسق، فهو يقول شيئا فى موضع، ويقول ما يتعارض معه فى موضع غيره. وهذا نص ما قال: "C'est là que Zacharie appela son Seigneur et dit: "Mon Seigneur! Donne-moi de ta part une bonne descendance". إذن فالدعاء إلى الله كان من أجل الولد لا من أجل الحليف أو الصهر. وحتى لو حصرنا انفسنا فى سورة"مريم" فإن قوله تعالى لزكريا ردا على ابتهاله: "يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا" معناه أن زكريا كان يريد ولدا لا حليفا أو صهرا، وإلا لقال له سبحانه إنه يبشره بحليفٍ أو صهرٍ اسمه كذا. ثم هل الحصول على حليف أمر من الصعوبة إلى هذا الحد حتى يسبب له كل ذلك القلق؟ أما الصهر فليس له فى حالتنا هنا محل من الإعراب، فزكريا لم يكن فى سن تسمح له بالزواج والمصاهرة، كما لم يكن عنده ابن أو بنت يمكن أن يصاهره الآخرون بسببه أو بسببها.
ومن ثم فإن ترجمة كازيميرسكى وحميد الله وشوراكى وميشون ومجمّع الملك فهد بالمدينة المنورة مثلا لها بــ"un descendant" هى ترجمة صحيحة، ومثلها ترجمة د. صلاح الدين كشريد ود. زينب عبد العزيز: ":un successeur خليفة". وفى الترجمة السعودية نقرأ فى الهامش ما يلى: " Un descendant: qui hérite du savoir et de la sagesse des prophètes ". أى أن زكريا عليه السلام دعا ربه أن يهبه ولدًا يأخذ عنه ميراث النبوة من علم وحكمة. أما جروسجان فقد تصرف فيها وترجمها بمعناها المباشر، وهو "un fils: ابن"، وهى ترجمة صحيحة على طريقتها.
وفى ترجمة الدكتور لقوله عز شأنه مخاطبا مريم عليها السلام: "وهُزِّى إليك بجذع النخلة تُسَاقِطْ عليكِ رُطَبًا جَنِيًّا" نراه يؤديها بما يعنى أن الله هو الذى يُسْقِط عليها ذلك الرُّطَب، مع أن الآية المثبتة فى المصحف الذى بين يدى د. الذيب تقول إن النخلة هى التى كانت تساقطه عليها ذلك. لقد برر الدكتور فعلته بأنه اتبع القراءة التى تقول: "يُسْقِط عليك رطبا جنيا"، لكنه تبرير غير مقبول ولا مفهوم، إذ هو يترجم النص الموجود أمامه، فكان حقا عليه الالتزام بما فى النص، وأمامه مندوحة فى الهامش يقول فيها ما يشاء. وأخشى أن يكون فى هذا الذى صنع ما يستوجب وصفه، على سبيل الحقيقة لا على سبيل المجاز، بالعبارة المشهورة التى تقول: "المترجم خائن"! قد يقال إن الأمر أبسط من ذلك، بيد أننى أرى فيه نزولا من المترجم على حكم نزوته، وهو ما ينبغى أن يحاربه فى نفسه بكل قواه، لأنه محكوم فى عمله بقواعد علمية وأخلاقية لا ينبغى له أن يتجاوزها ويسير على هواه، وإلا اضطربت الأمور وتشابكت الخيوط وجرؤ المترجمون مع الأيام على ما هو أكبر من ذلك دون أن يطرف لهم جفن أو تعتريهم خالجة من ندم. وبالمناسبة فقد صنع ميشون من قبله الشىء ذاته، إذ جاءت ترجمته هكذا: "il fera tomber sur toi des dattes fraîches et mûres".
كذلك نراه ينقل قول الحق سبحانه، على لسان قوم مريم لها حين رَأَوْها تحمل طفلا رضيعا دون أن يسبق لها زواج: "لقد جئتِ شيئا فَرِيًّا"، على النحو التالى: "Tu as commis une chose fabuleuse"، مستخدما كلمة "fabuleuse: (أى شيئا) خرافيا" للدلالة على استغرابهم وتعجبهم، وتاركا الكلمة التى استعملها حميد الله، كما ذكر هو بالهامش، وهى كلمة "monstrueuse: بشعا"، التى استخدمها كذلك كل من بلاشير وماسون والترجمة السعودية، وكذلك جروسجان، وإن كان قد استعمل صيغة المذكر لأنه ترجم كلمة "شىء" المؤنثة فى الفرنسية بــ" ton :acte عملك"، وهو اسم مذكر. وتعليقى على ترجمة الدكتور سامى هو أن "fabuleuse" تعنى، فيما أفهم، الشىء المدهش الذى لا يكاد يصدَّق "لـِحُسْنه"، اللهم إلا إذا ظننا أن قومها كانوا معجبين بإنجازها هذا العجيب، إذ حملت وأنجبت دون زواج، وهو ما لا يمكن أن يقع إلا فى مسرحية هزلية. أما الــ"monstrueuse" فهو الشىء الغريب القبيح الذى يبعث على الكراهية والاشمئزاز. أما سافارى وكازيميرسكى وميشون فقد وصفوا ما فعلته مريم بأنه "étrange: غريب". وفى ترجمة إدوار مونتيه: "extraordinaire"، فيما قال جاك بيرك: ":épouvantable فظيعا/ مروِّعا". وقد يمكن أن نستعمل أيضا فى ترجمة "فريًّا" كلمة "scandaleuse: فاضحا/ مخزيا" للتعبير عن الإدانة والاشمئزاز. أما لدى كشريد فنجد "quelque chose d'abominable"، وأما زينب عبد العزيز فتقول: "quelque chose d'ahurissant". وعند الصادق مازيغ (التونسى) نجد كلمة واحدة لعبارة "شيئا فريا" كلها، وهى ":une infamie عارا"، أما شوراكى فقد ترجم العبارة على النحو التالى: "une affaire surprenante: أمرا غريبا غير متوقع".
كذلك ترجم الدكتور الذيب كلمة "بَغِىّ" فى قوله عز شأنه: "يا أخت هارون، ما كان أبوكِ امرأ سَوْءٍ، وما كانت أمك بغيا" إلى "abusée"، ومعناها: "المغرَّر بها"، فهل "البغىّ" هى التى يُغَرَّر بها؟ أم هل هى بالأحرى التى تريد إيقاع الرجال فى حبائلها؟ وفى بلاشير وأبو بكر حمزة وماسون والترجمة السعودية وزينب عبد العزيز: "une prostituée"، وهذه ترجمة صحيحة ومباشرة. وفى ترجمة بيرك: "une gaupe"، ولدى ميشون: "une dissolue"، وعند شوراكى: "impudique" (صفةً لا اسمًا)، وكلها تؤدى المعنى المطلوب. وكذلك تؤديها ترجمة كشريد، ولكن بأسلوب المجاز والإشارة، إذ جاءت على النحو التالى: "une femme aux mœurs légères"، ومعناها بأسلوب المجاز مرة أخرى: "امرأة منحلّة".
وفى قوله جل جلاله عن اختلاف الفرق النصرانية حول طبيعة السيد المسيح بعد أن أعلن عليه السلام، وهو صبى فى المهد أمام الجموع التى أتت تتهم أمه بالعهر، بأنه ليس إلا عبدا لله آتاه الله الكتاب وجعله نبيا من أنبيائه: "فاختلف الأحزاب من بينهم..." يترجم د. أبو ساحلية كلمة "الأحزاب" بــ"les coalisés"، وهى تعنى "المتحالفين"، على حين أننا هنا بإزاء فرق منقسمة متناحرة لا متحالفة. فالتحزب فى هذا السياق هو تحزب الفُرْقة والاختلاف، بخلاف التحزب فى غزوة الخندق مثلا الذى كان تحزُّب تحالفٍ ضد النبى والمسلمين، ومن هنا يصدق على من اشتركوا فى تلك الغزوة أن يسمَّوْا: "les coalisés"، ومن هنا أيضا أُطْلِق على تلك الغزوة اسم غزوة "الأحزاب". أما الأحزاب هنا فيمكن ترجمتها بــ"les sectaires" كما هو الوضع عند سافارى، أو "les partis" طبقا لما ترجمها به كل من مونتيه وحميد الله وكشريد وشوراكى، أو "les factions" حسبما نجد فى ترجمة كل من بلاشير والدكتورة ماسون وميشون وجاك بيرك والدكتورة زينب عبد العزيز، أو "les ligues" مثلما ترجمها جروسجان، أو "les sects" مثلما هو الأمر لدن أبو بكر حمزة ومازيغ وترجمة مجمّع الملك فهد. ورغم أن ميشون، كما لاحظنا، قد ترجم كلمة "الأحزاب" بــ"les factions" فقد عاد وقال إن هذه الكلمة تطلق أيضا لهذا السبب على الأحزاب الذين هاجموا المدينة فى العام الخامس للهجرة: "Al-ahzâb- titre de la s.33 - désigne les coalisés qui se sont alliés aux Mekkois contre les musulmans au moment de la bataille du Fossé (Al-Khandaq), en l’an cinq de l’Hégire (cf. s.33, v.9-25). Ici, le même terme (plur. de hizb) semble s’appliquer aux diverses sectes qui se sont constituées au début du christianisme"، وإن لم يغفل مع هذا عن أن تلك التسمية قد أطلقت على الفرق المتناحرة فى بداية النصرانية، حول طبيعة السيد المسيح فيما هو واضح.
أما ترجمة الدكتور الذيب لقوله عَزَّتْ قُدْرَتُه بشأن الذين يؤلهون السيد المسيح: "أِسْمِعْ بهم وأَبْصِرْ يوم يأتوننا" إلى "Écoute-les et vois[-les]" بما يعنى "اسْمَعْهم وأَبْصِرْهم" (متبعا فهم ميشون وجاك بيرك لها، وإن كان بيرك قد استخدم الفعل: "Entends" بدلا من "Écoute"، واستخدم ميشون "observe" عِوَضًا عن "vois")، فليس لها إلا تفسير واحد: أن الأستاذ المترجم لا يعرف هنا من أمر اللغة العربية ما ينبغى أن يعرفه كل أحد لديه فكرة بسيطة عنها، إذ إن تلاميذ المدارس الصغار يدرسون فى النحو والصرف بابا اسمه باب التعجب يضم صيغتين مشهورتين لهذا المعنى هما: "ما أفعله!" و"أَفْعِلْ به!". فأنت إذا أردت أن تعبر عن تعجبك من طول ليلة من الليالى قضيتها ساهرا لا يغمض لك جفن قلت: "ما أطول هذه الليلة!/ أَطْوِلْ بها!"، وإذا أردت أن تتعجب من حسن منظرٍ ما قلت: "ما أحسن هذا المنظر!/ أَحْسِنْ به!"... وهكذا. وعلى ذلك فقوله سبحانه وتعالى يصف ما سوف يكون عليه يوم القيامة حالُ أولئك الكافرين الذين دمغهم فى نهاية الآية بأنهم يعيشون فى الدنيا فى ضلال مبين فلا يسمعون الحق ولا يستطيعون أن يبصروه: "أَسْمِعْ بهم وأَبْصِرْ يوم يأتوننا، لكنِ الظالمون اليوم فى ضلال مبين" معناه أنهم، وإن كانوا لا يسمعون ولا يبصرون اليوم بسبب ما يغشى بصائرهم من كفر غليظ، فإنهم يوم يَلْقَوْن ربهم سوف تكون مقدرتهم على السمع والإبصار والفهم عجبا من العجب، إذ ساعتها سوف ينقشع عنهم ما كان يطمس على أبصارهم ويسد نوافذ أسماعهم. أما ما قاله الدكتور المترجم فهو خطأ فى خطإ فى خطإ.
والعجيب أنه، رغم ذلك، قد أورد فى الهامش ترجمة حميد الله، الذى كتب يخطّئ جهوده فى ترجمة القرآن فى مقال له معلنا أنه قام بترجمة كتاب الله من جديد كى يضع حدا لما فى ترجمة العالم الهندى المسلم الكبير من عيوب. وهذه الترجمة تجرى هكذا: "Comme ils entendront et verrons bien le jour où ils viendront à nous!". وهو ما اتبعته بالحرف الترجمة السعودية، التى اتخذت من عمل محمد حميد الله أساسا لها ومنطلقا. ولقد كان ينبغى أن يقف د. سامى أمام تلك الترجمة مَلِيًّا ويتساءل عن السبب فى أنها جاءت هكذا، وبخاصة أن حميد الله قد أثبت فى نهاية الكلام علامة التعجب. بَيْدَ أنه لم يفعل، وأرجح بل أكاد أوقن أنه حَسِب تلك الترجمة ترجمة خاطئة فضرب عنها صفحا، ثم زاد فأوردها فى الهامش كى يلفت الأنظار إلى أنه يعرف الصواب، وأنه لهذا قد تنكَّبها تنكُّبا إلى ذلك الصواب! وهذه الترجمة نجدها بنصها تقريبا لدى بلاشير وأبو بكر حمزة. وبالمناسبة فقد هلل بعض المصريين لترجمة بيرك حين صدرت فى التسعينات وعَدُّوها فتحا غير مسبوق فى عالم الترجمات القرآنية، وهو ما أظهرت أنه كلام فارغ فى كتابى عن تلك الترجمة الذى يستطيع القارئ أن يحصل على نسخة ضوئية منه من عدد من المواقع المشباكية، إذ الترجمة تعج بالأخطاء الشائنة حتى فيما يتعلق بأوليات القواعد النحوية والمعارف البلاغية، علاوة على ما فيها من بهلوانيات وإساءات إلى الإسلام وكتابه المجيد.
على أن هذا لا يعنى أن ننكر أن بيرك كان، من بين أصحاب الترجمات التى أنظر فيها الآن، أحد من تنبهوا إلى أن كلمة "خَلْف" (بسكون اللام لا بفتحها) التى وردت فى قوله تعالى فى الآية التاسعة والخمسين من سورتنا هذه: "فخَلَفَ مِنْ بعدهم خَلْفٌ أضاعوا الصلاةَ واتبعوا الشهواتِ فسوف يَلْقَوْن غَيًّا" لا تعنى، إذا ما أردنا الدقة، الأجيال التالية بإطلاق، بل السيئ منها، ولهذا وصفهم بــ"indignes"، على حين قال عنهم كشريد إنهم "une mauvaise progéniture"، واقتربت منه د. زينب إذ ذكرت أنهم "une mauvaise génération"، وهو ما لم يتنبه له أى من المترجمين المشار لهم، ومنهم بطبيعة الحال الدكتورالذيب!
وفى معجم "العين" مثلا للخليل بن أحمد أنه "لا يجوز أن يقال: من الأشرار خَلَفٌ، ولا من الأخيار خَلْفٌ"، وإن كان هناك من لا يلتفت إلى هذه الدقيقة اللغوية. إلا أن لغة القرآن هى من الحساسية بحيث ينبغى أن نتعامل معها بما يليق بها من الاهتمام والتدقيق. وفى تفسير الزمخشرى: "خَلَفه: إذا عَقَبَه، ثم قيل في عقب الخير "خَلَفٌ" بالفتح، وفي عقب السوء: "خَلْفٌ"، بالسكون، كما قالوا: "وَعْدٌ" في ضمان الخير، و"وَعِيدٌ" في ضمان الشر". وفى تفسير القرطبى للآية رقم 169 من سورة"الأعراف": "قال أبو حاتم: "الخَلْف" بسكون اللام: الأولاد، الواحد والجميع فيه سواء. و"الخَلَف" بفتح اللام البَدَل، ولدا كان أو غريبا. وقال ٱبن الأعرابيّ: "الْخَلَفُ" بالفتح: الصالح، وبالجزم: الطالح. قال لَبِيد:
ذهبَ الذين يُعَاشُ في أكنافِهم* وبَقِيتُ في خَلْفٍ كجِلْد الأجْرَبِ
ومنه قيل للرديء من الكلام: خَلْفٌ. ومنه المثل السائر «سَكَت ألْفًا ونطق خَلْفًا". فــ"خَلفٌ" في الذَّم بالإسكان، و"خَلَفٌ" بالفتح في المدح. هذا هو المستعمل المشهور. قال صلى الله عليه وسلم: "يَحْمِل هذا العِلْمَ مِن كل خَلَفٍ عُدُولُه". وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر". أما فى آية سورة "مريم" فقد أحال إلى ما قاله فى سورة "الأعراف" مكتفيا فى تفسير "خَلْف" بــ"أولاد سوء".
وحين يترجم د. الذيب كلمة "تاب" فى الآية الستين من السورة: "إلا من تاب وآمن وعمل صالحا..." نراه يستعمل فى مقابلها الفعل: "revenir"، ومعناه "عاد"، وهى كلمة فضفاضة. ومثلها الفعل: "retourner" الذى استخدمه شوراكى. أما المترجمون الآخرون فكلهم استعمل الفعل: "repentir (se)"، إلا ثلاثة لجأوا إلى الفعل: "عاد"، لكن اثنين منهما حددا العودة بأنها إلى الله، فيما حددها الثالث بأنها عودة إلى الندم، ولم يكتفوا بالعودة المطلقة التى لا تغنى هنا شيئا ذا قيمة.
كذلك فعندما يترجم كلمة "سَمِيًّا" فى قول رب العزة: "رب السماوات والأرض ومابينهما، فاعبده واصْطَبِرْ لعبادته. هل تعلم له سميًّا؟" يترجمها بــ"un homonyme"، وهو ما يعنى: هل تعلم شخصا آخر يحمل نفس الاسم الذى يحمله الله؟ فهل هذا كلام يُعْقَل أو يُقْبَل؟ وهل هذا مما يمكن أن يقوله الله جل جلاله؟ لكنى مع ذلك لا أريد أن أظلم المترجم، إذ وجدت الترجمات الأخرى كلها ما عدا مازيغ تقول الشىء ذاته، وإن لم يستعمل جروسجان كلمة "un homonyme"، بل عبارة بمعناها: "qulqu'un qui ait le même nom que lui". أما ترجمة الصادق مازيغ فقالت شيئا آخر أرى أنه هو الفهم الصحيح للآية، ونصها: "En connais-tu quelqu'autre qui puisse L'égaler? ". ذلك أن معنى الكلام فى نظرى هو: "هل ثَمَّ كائن آخر يساميه سبحانه فى عظمته وألوهيته؟"، إذ من معانى كلمة "سَمِىّ": "النظير والمثل" كما فى المعاجم، فكان ينبغى على مترجمى القرآن أن يتنبهوا إلى هذا فيما يخص المولى سبحانه. وأحسب أن ميشون قد حام حول هذا المعنى، وإن لم يقبض عليه تماما، إذ قال: " Connais-tu quelqu'un digne de porter Son Nom? "، وهو ما يعنى أنه لا يوجد من يستحق أن يسمى باسم الله إلا هو سبحانه.
وقد ألفيت لفرط سرورى، حين رجعت الآن إلى الطبرى شيخ المفسرين، أنه لم يذكر فى تفسير هذه الآية إلا المعنى الذى آثرتُه، فحمدت الله على هذا التوافق. قال رضى الله عنه: "قوله: "فـاعْبُدْه"، يقول: فـالزم طاعته، وذِلّ لأمره ونهيه."وَاصْطَبِرْ لِعِبـادَتِهِ"، يقول: واصبر نفسك علـى النفوذ لأمره ونهيه والعمل بطاعته تَفُزْ برضاه عنك، فإنه الإله الذي لا مِثْل له ولا عِدْل ولا شبـيه فـي جوده وكرمه وفضله."هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيًّا"، يقول: هل تعلـم يا مـحمد لربك هذا الذي أمرناك بعبـادته والصبر علـى طاعته مثلا فـي كرمه وجوده، فتعبده رجاء فضله وطوله دونه؟ كلا، ما ذلك بـموجود. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: حدثني علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية عن علـيّ عن ابن عبـاس، قوله: "هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيًّا"، يقول: هل تعلـم للربّ مِثْلا أو شبـيهًا؟ حدثنـي سعيد بن عثمان التنوخي، قال: ثنا إبراهيـم بن مهدي عن عبـاد بن عوّام عن شعبة عن الـحسن بن عمارة عن رجل عن ابن عبـاس فـي قوله: "هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيًّا"، قال: شبـيها. حدثنـي يحيى بن إبراهيـم الـمسعودي، قال: ثنا أبـي عن أبـيه عن جدّه عن الأعمش عن مـجاهد فـي هذه الآية: "هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيًّا"، قال: هل تعلـم له شبـيها؟ هل تعلـم له مِثْلا تبـارك وتعالـى؟ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة، قوله: "هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيًّا"، لا سميّ لله ولا عِدْل له، كلُّ خَلْقِه يقرّ له ويعترف أنه خالقه، ويعرف ذلك، ثم يقرأ هذه الآية: "وَلَئِنْ سألْتَهُمْ مَنْ خَـلَقَهُمْ لَـيَقُولُنَّ اللَّهُ". حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج عن ابن جريج فـي قوله: "هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيًّا"، قال: يقول: لا شريك له ولا مِثْل".
وبالمثل كنت أحب لو أن مترجمنا ترجم كلمة "عِزًّا" فى قوله تعالى: "واتخذوا من دونه آلهة ليكونوا لهم عِزًّا" بما يفيد أنهم كانوا يبتغون عند آلهتهم القوة والعون (puissance) كما فعل عدد من المترجمين الآخرين، بدلا من لجوئه إلى كلمة "fierté"، التى تدل على الفخر والإباء، ولا أظنه المقصود هنا. والآيات القرآنية المتعلقة بهذا الموضوع تدل على ما أقول، فهى تتحدث عن النصر الذى يرجوه المشركون من آلهتهم: "فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192/ الأعراف)"، "وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197/ الأعراف)"، "وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93/ الشعراء)"، " وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75/ يس)". وفى ترجمة جروسجان "un soutien"، أى تدعمهم وتقويهم، على حين نجد فى مجمع الملك فهد: " qu’ils leur soient des protecteurs (contre le châtiment) : أى ليحموهم من عقاب الله".
* * *
هذا عن الترجمة فى ذاتها، لكن هناك أمورا أخرى تتعلق بالترجمة لا تقلّ، إن لم تزد، فى الأهمية عنها، وهى التعليقات والتوضيحات والمقارنات والملاحظات والانتقادات التى يوردها المترجم فى الهامش: من ذلك مثلا إشارته عند قوله تعالى: "وناداها من تحتها ألا تحزنى. قد جعل ربك تحتك سَرِيًّا" إلى الفقرتين الأخيرتين فى النص التالى من سفر "التكوين": "14فَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ صَبَاحًا وَأَخَذَ خُبْزًا وَقِرْبَةَ مَاءٍ وَأَعْطَاهُمَا لِهَاجَرَ، وَاضِعًا إِيَّاهُمَا عَلَى كَتِفِهَا، وَالْوَلَدَ، وَصَرَفَهَا. فَمَضَتْ وَتَاهَتْ فِي بَرِّيَّةِ بِئْرِ سَبْعٍ. 15وَلَمَّا فَرَغَ الْمَاءُ مِنَ الْقِرْبَةِ طَرَحَتِ الْوَلَدَ تَحْتَ إِحْدَى الأَشْجَارِ، 16وَمَضَتْ وَجَلَسَتْ مُقَابِلَهُ بَعِيدًا نَحْوَ رَمْيَةِ قَوْسٍ، لأَنَّهَا قَالَتْ: «لاَ أَنْظُرُ مَوْتَ الْوَلَدِ». فَجَلَسَتْ مُقَابِلَهُ وَرَفَعَتْ صَوْتَهَا وَبَكَتْ. 17فَسَمِعَ اللهُ صَوْتَ الْغُلاَمِ، وَنَادَى مَلاَكُ اللهِ هَاجَرَ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ لَهَا: «مَا لَكِ يَا هَاجَرُ؟ لاَ تَخَافِي، لأَنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ لِصَوْتِ الْغُلاَمِ حَيْثُ هُوَ. 18قُومِي احْمِلِي الْغُلاَمَ وَشُدِّي يَدَكِ بِهِ، لأَنِّي سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً عَظِيمَةً». 19وَفَتَحَ اللهُ عَيْنَيْهَا فَأَبْصَرَتْ بِئْرَ مَاءٍ، فَذَهَبَتْ وَمَلأَتِ الْقِرْبَةَ مَاءً وَسَقَتِ الْغُلاَمَ". ولعلى لا أستطيع أن أبصر هنا وجها قويا للمقارنة بين النصين، إذ كل ما هنالك أن فى النصين ماء، فهل هذا يكفى لكى يلفت المترجم أنظارنا فى هذا السياق إلى نص العهد القديم؟
وفى هامش الآية 20 التى ينادى فيها مريمَ قومُها بــ"يا أخت هارون" نسمع المترجم يقول إن عِمْران ("عَمْرام" عند أهل الكتاب) فى العهد القديم هو أبو هارون وموسى ومريم، وإن النص هنا يجعل من مريم (أمِّ عيسى) أختا لهارون، على حين تجعل الآية رقم 39 فى سورة "آل عمران" من مريم زوجة لعمران. ثم يختم كلامه متسائلا: "هل هناك خلط بين المريمين: مريم أم عيسى، ومريم أخت موسى؟ وتعليقى على هذا أن آية سورة "آل عمران" لم تقل، ولا قال القرآن قط فى أى موضع منه، إن مريم هى زوجة عمران. وأغلب الظن أن فى عبارة المترجم هنا سهوا أو غلطة مطبعية أدت إلى سقوط كلمة، وكان أصل الكلام أن "أم مريم"، لا مريم نفسها، هى التى كانت زوجة عمران. ولما عدت إلى تعليق المترجم على الآية رقم 35 من سورة "آل عمران" ألفيتُه يتحدث عن "أم مريم" لا عن مريم ذاتها. ثم إن القرآن لم يقل هو نفسه إن مريم أخت هارون، بل كل ما هنالك أنه حكى ما قاله قومها لها. فإذا كانت هناك مؤاخذة فلتكن لقومها لا للقرآن. ولا يقولن أحد: ومن أدرانا أن القرآن لم يفتر على قومها وينسب إليهم ما لم ينطقوا به؟ ذلك أن يهود عصر المبعث كانوا مطلعين على القرآن، بل كان فى المدينة المنورة قبائل يهودية كثيرة بينها وبين النبى والمسلمين عداوات عنيفة، وفى قلوبها تجاههم أحقاد سامة، ومع ذلك لم يحدث أن فتح أحد من تلك القبائل فمه بكلمة اعتراضا على هذه العبارة، وهم الذين لم يكونوا يتورعون عن التهكم بكل ما لا يعجبهم فى القرآن أو فى الإسلام أو فى شخصية الرسول. فلو رَأَوْا أن القرآن قد اخترع هذه العبارة من لدنه لهاجوا وماجوا واتخذوا منها أداة للتشنيع عليه وعلى الرسول الذى جاء به، وهو ما لم يحدث على أى نحو من الأنحاء. وقياسا على ما يفعله العرب حين ينادى بعضهم بعضا بــ"يا أخا العرب"، رغم أن العرب أمة كاملة لا شخصٌ فردٌ، ومن ثم لا يمكن أن يكون لها أخ، بل الكلام على المجاز، نقول: ما وجه الغرابة فى أن ينادى بنو إسرائيل مريم عليها السلام فيقولوا لها على سبيل المجاز أيضا: "يا أخت هارون"، تهكمًا عليها ولمزًا وغمزًا فى عرضها؟ وفى الأمثال: "رُبَّ أخٍ لك لم تلده أمك". وفى القرآن الكريم: "إنما المؤمنون إخوة"، والمؤمنون يُعَدّون بالمليارات، وليس بينهم قرابة نسبية إلا فى حالات فردية نادرة لا تكاد تساوى شيئا فى وسط خِضّم هذا الطوفان من أتباع المصطفى عليه السلام. فهذا مِثْل هذا، إذ كثيرا ما تتشابه اللغات واللفتات الذهنية والنفسية عند الأمم المختلفة.
ولكن لماذا نذهب بعيدا، ولدينا "دائرة المعارف الكتابية"، وفيها مادة لكل من كلمتى "أخ" و"أخت" واستعمالاتها فى الكتاب المقدس بكل تفريعاتها؟ فماذا تقول تلك الدائرة؟ اسمعوا وعوا. وهذا ما قالته أولا فى مادة "أخ": "أخ: وجمعه "إخوة"، ويطلق لفظ "الأخ" على:
1- الابن في علاقته بأبناء أو بنات نفس الوالدين (تك 4: 8، 42: 4، مت 10: 2).
2- الابن لنفس الأب فقط دون الأم (تك 20: 12، 42: 3) أو لنفس الأم فقــط دون الأب (قض 8: 19).
3- على قريب من الأسرة الواحدة، كابن الأخ مثلا، فقد قال أبرام عن لوط ابن أخيه أنه " أخوه " (تك 14: 12 و16).
4- على أفراد السبط الواحد (2 صم 19: 12).
5- أطلق اسم "إخوة" على الأفراد من الشعب الواحد (خر 2: 11، أع 3: 22، عب 7: 5).
6- على حليف أو أحد أفراد شعـــب حليف (عدد 20: 14، تث 23: 7، عاموس 1: 9).
7- على شخص يشابه شخصا آخر في صفة من الصفات (أم 18: 9).
8- على الأصدقاء (أيوب 6: 15).
9- على شخص يماثل شخصا آخر في المرتبة أو المكانة (1 مل 9: 13).
10- على شخص من نفس العقيدة الواحدة (أع 11: 29، 1 كو 5: 11).
11- تستخدم مجازيا للدلالة على المشابهة كما يقول أيوب: "صرت أخًا للذئاب" (أيوب 30: 29).
12- على زميل في العمل أو في الخدمة (عزرا 3: 2).
13- أي إنسان من الجنس البشري للدلالة على الأخوة البشرية (مت 7: 3 - 5، أع 17: 26، عب 8: 11، 1 يو 2: 9، 4: 20).
14- للدلالة على القرابة الروحية (مت 12: 50).
15- قال الرب للتلاميذ: "أنتم جميعا إخوة" (مت 23: 8)، كما استخدم الرسل والتلاميذ لفظ " إخوة " للتعبير عن بنوتهم المشتركة لله، وأن كلا منهم أخ للآخر في المسيح (أع 9: 17، 15: 1… إلخ)، فالمؤمنون جميعا إخوة لأنهم صاروا "رعية مع القديسين وأهل بيــــــــت الله" (أف 2: 9). وقد كان الربيون اليهود يفرقـــون بين "أخ" و "قريب" فيستخدمون لفظة "أخ" لمن يجري في عروقهم الدم الإسرائيلي، أما لفــظ "قريب" فيطلقونه على الدخلاء، ولكنهم لم يكونوا يطلقون أي لفظ من اللفظين على الأمم. أما الرب يسوع والرسل فقد أطلقوا لفظة "أخ" على كل المؤمنين، ولفظة "قريب" على كل البشر (1 كو 5: 11، لو 10: 29). وكل المجهودات الكرازية وأعمال الخير إنما هي من منطلق هذا المفهوم المسيحي لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.
16- للدلالة على المحبة القوية المتبادلة (2 صم 1: 26، كو 4: 7 و9 و15 و2 بط 3: 15)".
ثم هذا أيضا ما قالته فى مادة "أخت": "أخت: تستخدم هذه الكلمة كثيرا في العهد القديم وهي في العبرية "أبوت" للإشارة إلى:
1- أخت شقيقة من نفس الأبوين.
2- أخت من أحد الأبوين (تك 20: 12 ، لا 18: 9).
3-امرأة من نفس العائلة أو العشيرة (تك 24: 60، أي 42: 11).
4-امرأة من نفس البلد أو الناحية (عدد 25: 28).
5-يقال مجازيا عن مملكتي إسرائيل ويهوذا إنهما أختان (حز 23: 4).
6-تعتبر المدن المتحالفة أخوات (حز 16: 45).
7-تستخدم نفس الكلمة العبرية، لوصف أشياء ذات شقين أو أشياء مزدوجة، مثل الستائر أو الشقق التي يقال عنها: "بعضها موصــول ببعض" (وفي العبرية "موصول بأخته" - خر 26: 3 و 6)، كما تطلق أيضا على أزواج الأجنحة (حز 1: 9، 3: 13).
8-لوصف بعض الفضائل المرتبطة بالشخص مثل: "قل للحكمة أنت أختي" (أم 7: 4، أي 17: 14).
9-لوصف العلاقة بين محب وعروسه كتعبير عن الإعزاز (نش 4: 9، 5: 1، 8: 8).
وفي العهد الجديد تستخدم الكلمة اليونانية " أيلف " (أخت) في المعاني الآتية:
(1) لوصف القرابة بالجسد أو بالدم (مت 12: 5، 13: 56، 19: 29، لو 10: 39، لو 14: 26، يو 11: 1، 19: 25، أع 23: 16).
(2) أخت في المسيح: "أختنا فيبي" (رو 16: 1، انظــر أيضا 1 كو 7: 15، 1 تي 5: 1، يع 2: 15).
(3) قد تشير إلى كنيسة: "أختك المختارة" (2 يو 13)". وتستطيع، أيها القارئ الكريم، أن تضع بكل سهولة أُخُوّة مريم لهارون لا فى بند واحد من هذه البنود الثمانية والعشرين، بل فى عدد غير قليل منها كما هو واضح، وهو ما يدل على أن توقف البعض أمام قول بنى إسرائيل لمريم حسبما قص علينا القرآن: "يا أخت هارون" هو أمر لا وجه له بأى حال.
وفى ترجمة الدكتور كشريد نجد فى الهامش أن موسى لم يكن له أولاد، فقامت ذرية هارون بخدمة المعبد والمحافظة على التوراة، وأن "الأخوة" عند العرب لا تعنى بالضرورة القرابة الجسدية، ومن هنا نجد القرآن مثلا يقول: "إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين". ولأن هارون هو الجد البعيد لمريم فقد قرّعها قومها بأن من العار على من تنحدر من ذرية هارون التقىّ النقىّ أن تتصرف على النحو الذى تصرفته حين حملت سِفَاحًا حسب وهمهم. وبالمثل خصصت ترجمة مجمّع الملك فهد لهذه الآية هامشا يقول ما نصه: "Hārūn était un homme bien connu pour sa piété. Il était de la tribu de Maryam. "، ومعناه أن هارون هذا كان رجلا من أهل مريم يُضْرَب به المثل فى التقوى. والمقصود أنها نُسِبَتْ إليه لذلك السبب. أما ميشون فقد قال: "L’appellation "soeur d’Aaron" est un rappel de la glorieuse lignée de prophètes, la Famille de ‘Imrân (père de Moïse et de Aaron) à laquelle appartient Marie, dont le père portait lui aussi le nom de ‘Imrân (cf. s.3, v.35): وهذا النداء بــ"يا أخت هارون" يذكرنا بسلالة الأنبياء الكريمة، آل عمران. وعمران هذا هو أبو لموسى وهارون، وهو اسم أبى مريم أيضا حسبما جاء فى سورة "آل عمران"/ الآية 35".
وللمفسرين عدة توجيهات لهذه العبارة أحدها ما جاء فى هذه الترجمة، ونستطيع ان نمثل لهذه التوجيهات بما ذكره الطبرى فى تفسير الآية. قال: "اختلف الناس في معنى هذه الأُخُوّة، ومَنْ هارون. فقيل: هو هارون أخو موسى. والمراد من كنا نظنها مثل هارون في العبادة تأتي بمثل هذا؟ قيل: على هذا كانت مريم من ولد هارون أخي موسى، فنُسِبَتْ إليه بالأخوة لأنها من ولده، كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وللعربي: يا أخا العرب. وقيل: كان لها أخ من أبيها اسمه هارون، لأن هذا الاسم كان كثيرا في بني إسرائيل تبركًا باسم هارون أخي موسى، وكان أمثل رجل في بني إسرائيل: قاله الكلبي. وقيل: هارون هذا رجل صالح في ذلك الزمان تبع جنازته يوم مات أربعون ألفًا كلهم اسمه هارون. وقال قتادة: كان في ذلك الزمان في بني إسرائيل عابد منقطع إلى الله عز وجل يسمى: هارون، فنسبوها إلى أُخُوّته من حيث كانت على طريقته قبلُ، إذ كانت موقوفة على خدمة البِيَع. أي يا هذه المرأة الصالحة، ما كنتِ أهلاً لذلك".
هذا، ويفيد التساؤل الأخير للمترجم أنه يجعل من الكتاب المقدس عِيَارًا على القرآن، وكأن الكتاب المقدس وثيقة صحيحة تاريخيا لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وهذا غير صحيح البتة كما يعلم الجميع. وأنا هنا لا أطالب المترجم بأن يتخذ من القرآن مرجعا يثق به ثقة مطلقة، فقد يجوز أن يردّ بأنه لا يستطيع أن يطمئن إلى القرآن بدوره، وهذا من حقه. إلا أنه كان ينبغى أن يقف موقفا حياديا بين الكتابين ويقول: هذا ما وجدته فى كل منهما، وأترك الأمر للقراء ليروا فيه رأيهم. ذلك أنه ليس هناك دليل على أن والد السيدة مريم العذراء اسمه يواقيم كما يقول النصارى. بل إن الأناجيل الأربعة القانونية لا تذكر اسم والدها البتة. إنما ذلك موجود فى أحد الأناجيل الأخرى التى لا تعترف بها الكنيسة. فمن الممكن جدا أن يكون اسم والد العذراء عليها السلام هو عمران كما قال القرآن، وإلا فهل هناك محظور كونى يحيل إطلاق الاسم الواحد على أكثر من شخص فى عهود تاريخية متباعدة كى ينكر المنكرون أن اسم العذراء هو عمران لا يواقيم، أو أن الاسمين هما كليهما له: واحدٌ اسمًا، والآخرُ لقبًا مثلا؟
وكنت قد رجعت منذ عدة سنوات إلى معجم أوكسفورد لأسماء الأشخاص بحثا عن شىء يضىء لى الطريق فيما يتعلق باسم "يواقيم"، الذى يقول النصارى إنه أبو مريم، فوجدته يذكر أن عندهم رواية بأن مريم هى ابنة يواقيم، لكنه أضاف أن هذه الرواية لا تحظى بثقتهم (Elizabeth Gidley Withy Combe, The Oxford Dictionary of English Christian Names, 1948, P. 78). ثم قرأت فى مراجع أخرى أن الرواية المقصودة هنا هى ما تقوله بعض الأناجيل التى لا تعتمدها الكنيسة. وقد اطلعت على الرواية فعلا فى "إنجيل يعقوب: The Gospel of James" و"إنجيل ميلاد مريم: The Gospel of the Nativity of Mary"، وكذلك "إنجيل متى المزيف (هكذا يسمّونه رغم أنه لا يفترق عن إنجيل متى الذى يعترفون به فى أن كليهما تأليف بشرى لا يخضع للضبط العلمى): The Gospel of Psewdo-Matthew". وهى كلها أناجيل لا تعترف بها الكنيسة، ومن ثم لا يحق لها أن تحاجّ المسلمين بها، إذ لا يعقل أن آتى بشاهد فأحتج بشهادته إثباتًا لحقٍّ أدَّعيه، على حين أنى أعلن فى كل مناسبة أنه شاهِدُ زورٍ، وأنى أنا نفسى لا أثق فى شهادته طرفة عين. ألا إن هذا لَقِمّةُ التناقض!
ثم إن الأناجيل القانونية ذاتها لتضطرب كثيرا فى مسألة الأنساب. ولن نذهب بعيدا، فهناك فى تلك الأناجيل سلسلتا نسب للمسيح عليه السلام لا تتسقان بحال، إذ هناك اختلاف حاد بينهما فى عدد الحلقات وفى ترتيبهما جميعا، إلى جانب أن إحدى السلستين تتحدث عن نسبه بوصفه ابن يوسف النجار، أستغفر الله. وفوق ذلك فالسيد المسيح، حسبما نعرف، كثيرا ما يسمى: "ابن داود" رغم ما يفصل بينه وبين أبى سليمان من أجيال متعددة. بل ثمة نص فى الإصحاح السادس عشر من إنجيل لوقا نرى فيه غنيًّا متكبرا من عصر المسيح يموت فيُلْقَى به فى النار فيصرخ من شدة العذاب قائلا: يا أبى إبراهيم، ارحمنى"، ومعروف أن المسافة الزمنية بينه وبين الخليل أطول كثيرا جدا مما بين المسيح وبين قاتل جالوت، وهذا إن كان بينه وبين إبراهيم أى نسب على الإطلاق. كما أن المسيح ذاته فى الإصحاح الثالث عشر من ذلك الإنجيل يطلق على المرأة العجوز التى بسط لها، بمعجزة من معجزاته، ظهرها المقوَّس: "ابنة إبراهيم". ولن أتكلم عن النصوص الإنجيلية التى تجعل يوسف النجار أبا للمسيح بقول صريح لا مواربة فيه، مع ما فى ذلك من إساءة بالغة إليه وإلى أمه الطهور! والمترجم نفسه يشير فى الهامش إلى موضعين من إنجيل يوحنا يجد القارئ فيهما هذه التسمية المسيئة! فإذا كان هذا هو حال الأناجيل القانونية، فما بالنا بالأناجيل التى لا تعترف بها الكنيسة، تلك الأناجيل التى يعتمد عليها من يثيرون الزوابع فى وجه القرآن بخصوص عبارة "يا أخت هارون"؟ من هنا نعود فنقول إنه كان ينبغى ألا يلمز المترجم النص القرآنى تلك اللمزة الخفية مكتفيا بوضع المسألة فى حيادية علمية لأنه لا يملك شيئا يقينيا يركن إليه فى إثارة مثل تلك الشكوك فى كتاب الله.
كذلك ذكر المترجم فى كل من هامش الآية رقم 39 وهامش الآية رقم 75 وهامش الآية رقم 84 من سورتنا هذه أن ما تحبّذه مِنْ تَرْك المشرك للحساب الإلهى يوم القيامة وعدم التعرض له فى الدنيا بشىء قد نسخته آية السيف، فما حكاية آية السيف هذه؟ المقصود بآية السيف هو قوله تعالى فى سورة "التوبة": "فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)"، الذى يظن البعض أنه يستوجب اطّراح المسلمين سياسة التسامح، وانتهاج سبيل العنف والقتال والإكراه بديلا عنها حتى لو لم يعتدِ عليهم معتدٍ. وهو فهم خاطئ، إذ القتال فى الإسلام مشروط بوقوع العدوان علينا كما هو معروف. وحتى حين يكون هناك قتال ثم يجنح العدو إلى السلام فعلى المسلمين أن يجنحوا هم أيضا نحوه، إلا إذا شعروا أن هناك نية غدر مبيته. وفى هذه الحالة عليهم أن يعلنوا موقفهم واضحا وأن يبينوا أنهم لا يقبلون مثل ذلك السلام الخادع الغادر. ولا أدرى ماذا فى آية سورة"التوبة" بالذات حتى يقال إنها ترسم سياسة جديدة للمسلمين فى تعاملهم مع الأمم الأخرى. إن الأمر بالقتل والقتال غير مقصور على تلك الآية، بل إنها ليست أول آية حملت ذلك الأمر، فلدينا مثلا: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194: البقرة)"، "فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا (90) سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91: النساء)"، "أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15: التوبة)"، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123: التوبة)".
أما إذا قيل إن الآية الخامسة من سورة"التوبة" تقول بقتل المشركين دون سبب سوى أنهم غير مسلمين ولا بد من إدخالهم الإسلام أو فرض الجزية عليهم، فالرد هو أن الأمر بقتل المشركين فى الآية المذكورة مقصور على الذين كانت بينهم وبين المسلمين عهود ثم خاسوا فيها وغدروا بالمسلمين وتكرر ذلك منهم، ولا تشمل كل المشركين فى جميع الظروف والأوقات. وهذا واضح من السياق الذى وردت فيه الآية: "بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)".
وجَلِىٌّ أن الحكم إنما ينصبّ على الخائنين الغادرين من المشركين، وهو ما يصدق أيضا على النصوص الأخرى كما هو واضح، أما من أوفى بعهده فهؤلاء تُحْتَرَم عهودهم. بل إن الأعداء المحاربين إذا أعلنوا عن رغبتهم للسلم فلا بد من الإنصات لهم والقبول بعرضهم ما لم نحس أن هناك غدرا مبيتا. وبالمثل فإننا مأمورون بألا نعتدى إلا على من يعتدى علينا. وفوق ذلك فإن من يقع من الأعداء أسيرا فى يد المسلمين فله، حسبما تذكر الآية الرابعة من سورة "محمد"، حَلاّن: إما الفداء لقاء بعض المال، وإما الفداء دون مال. ومعنى هذا أنه سوف يطلق سراحه على كل حال. أما القول بأن الآية إنما تعنى وجوب مقاتلة غير المسلمين فى كل الظروف وفى كل الأوقات فهو قول يجافى سياق الآية والظروف التى نزلت فيها، علاوة على مجافاته نصوص القرآن الأخرى، وكلها تقيّد إيجاب القتال علينا بقتال الأعداء لنا. وكيف يصحّ اتهام القرآن بأنه يحارب غير المسلمين دون أى سبب سوى الرغبة فى إكراههم على الدخول فى الإسلام تحت سيف التهديد والترويع، والقرآن يقول بصريح العبارة: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9: الممتحنة)"؟
وإذا كان الشىء بالشىء يُذْكَر فقد كان المستشرق إدوراد وليم لين فى بداءة أمره يتصور أن الإسلام يجوّز شن الحرب على الكفار دون أى استفزاز أو عدوان من جانبهم، إلا أنه عَدَل عن هذا الفهم بتأثير كاتب بريطانى آخر هو أوركهارت، الذى نبهه إلى ضرورة مراجعة رأيه السابق فى هذا الأمر، حتى لقد كتب أنه صار مقتنعا بأن ليس فى القرآن أى مبدإ يمكن، لو فُهِم فى سياقه، أن يسوّغ شَهْر حرب عدوانية (Edward William Lane, The Modern Egyptians, London, 1871, Vol. 1, P. 117, Note).
وأخيرا لقد اعترض كل المعلقين تقريبا فى منتديات "واتا" على الطريقة التى رتب بها الدكتور سامى الذيب سُوَر القرآن العظيم فى ترجمته التى نحن بصددها، إذ رتبها بناء على تواريخ نزولها كما يقول لا على أساس ترتيبها فى المصحف الشريف. وكانت حجته أن هذا الترتيب يساعد القراء على أن يفهموا النص القرآنى على نحو أفضل ويُلِمّوا من خلاله بسيرة الرسول وتاريخ الدعوة الإسلامية حسب الترتيب الواقعى لأحداثهما، وكأن الدارسين للقرآن وسيرة المصطفى كانوا ولا يزالون يعانون اضطرابا وتشويشا فى فهمهم لذَيْنِك الموضوعين. وهذا كلام لم يقل ولا يمكن أن يقول به أحد. ويرى العبد لله كاتب هذه الملاحظات أنه كان الأوفق أن يعتمد الدكتور المترجم الترتيب المصحفى الذى يحظى برضا المسلمين منذ أن جُمِع القرآن الـجَمْعَة الثانية فى عهد أبى بكر، ثم يستطيع على رأس الترجمة أو فى ذيلها أن يثبت قائمة بترتيب السُّوَر حسب تواريخ نزولها على ما فى ذلك الترتيب من اختلاف بين علماء القرآن، فضلا عن أن الآيات داخل كل سورة ليست بالضرورة مرتبة تاريخيا. وبهذه الطريقة يكون قد أرضى رغبته فى ترتيب السور تاريخيا كما يظن (مع التحفظ المذكور آنفا)، وراعى حرص المسلمين على احترام الترتيب المصحفى الذى تعودوه على مدار الأربعة عشر قرنا ونيف الماضية، وبخاصة أن الأمانة العلمية تقتضينا أن نحافظ على نظام الكتب التى نترجمها بكل سبيل ممكن، وعلى وجه أخص الكتب المقدسة، التى تستقل بوضع لا يشاركها فيه غيرها.
10 يناير 2008م
ibrahim_awad9@yahoo.com
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9[/align]
للدكتور سامى أبو ساحلية
بقلم د. إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
الدكتور سامي عوض الذيب أبو ساحليّة هو، كما جاء فى التعريف به فى أحد التعليقات فى منتدى "الترجمة الدينية" بموقع "واتا" (الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب)، مسيحيّ علماني سويسري من أصل فلسطينيّ يحمل درجة الدكتوراه في القانون، وله عدة كتب أبرزها: "ختان الذكور والإناث" صدرت عن دار الريس عام 2000م، وترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة الفرنسيّة قيد الإصدار، وبحوث ومقالات متعددة منها بحث بالعربية عنوانه: "من نظام الذمة إلى نظام المساواة والدولة الواحدة"، وآخر باللغة الإنجليزيّة هو: "Muslims in the West, case of Switzerland". ومنذ فترة وجيزة أعلن الدكتور أبو ساحلية فى موقع "واتا" المذكور آنفا عن قرب صدور ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم، وتفضل مشكورا، بناء على طلب بعض المعلقين وأنا منهم أن ينشر لنا عيّنة من ترجمته، فصوّر ترجمة سورتى "آل عمران" و"مريم"، على أساس أن يكون نشر هذين النصين مجالا لإبداء الرأى فى عمله ذاك الذى أثار على صفحات الموقع المشار إليه ضجة عنيفة وأخْذًا ورَدًّا بينه وبين عدد من الكتاب المشاركين فى منتدياته.
وهأنذا أشترك بكتابة ملاحظاتى التى عَنَّتْ لى اليوم أثناء قراءتى لترجمة السورة الكريمة راجيا أن تكون أخطائى فيها قليلة، مع مراعاة انشغالى الشديد فى غمرة بعض الأعمال الملحة التى تحايلتُ عليها واقتطفتُ من وقتها نهار اليوم وليله وخصصتهما للنظر فى ترجمة الدكتور، وكذلك قِصَر الفترة التى أنفقتها فى ذلك، وصعوبة الرَّقْم بالنسبة لى على الكاتوب الحِجْرِىّ الذى ألجأنى إليه عطلٌ أصاب كاتوبى العادىّ الذى ألفتُه وألفنى ولم تعد أصابعى تتشنج على أصابعه وأنا أكتب عليه ولا تخطئ يدى الحرف الذى أريد ضربه إلا فى حدود المعقول. وسوف أبدأ أولا بملاحظاتى على الترجمة ذاتها: لقد ترجم الدكتور الذيب مثلا كلمة "الموالى" إلى "alliés" بمعنى "الحلفاء/ الأصهار" مبتعدا عن المعنى الصحيح للكلمة، فيما ترجمها غيره، حسب كلامه، بما يعنى "الوَرَثة/ الأقارب": "les héritiers, les proches". أما جروسجان فقد ترجمها إلى "ceux qui me succéderont à ma mort: الذين يخلفوننى بعد موتى"، على حين أداها التونسى صلاح الدين كشريد هكذا: "les gens de ma famille après moi: أقاربى من بعدى".
ويزداد الأمر سوءا حين ترجم "وَلِيًّا" فى قوله سبحانه على لسان زكريا: "فهَبْ لى من لدنك وليا يرثنى ويرث من آل يعقوب…" بــ"un allié" أيضا، وهو ما يعنى أن ذلك النبى الكريم كان يدعو الله أن يقيّض له حليفا أو صهرا، على حين أن المقصود هو أن يرزقه ولدا، وإن كان قد استغرب البشرى التى أرسلها الله له بذلك، على عادة كثير من البشر فى مثل تلك الحالة، وكأنهم يستكثرون على أنفسهم تحقق أمانيهم بتلك السهولة بعدما كانت تبدو لهم صعبة، إن لم تكن مستحيلة. والدليل على صحة ما نقول ما جاء فى سورة "آل عمران" من قوله تعالى عن زكريا حين كان يدخل على مريم المحراب فيجد فى كل مرة عندها رزقا، فإذا سألها من أين لها هذا كان جوابها أنه من عند الله. فهنالك ابتهل عليه السلام لربه أن يهبه ذرية طيبة: "كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)". ثم إن الدكتور سامى ذاته قدقال ذلك فى ترجمته لتلك الآية من سورة "آل عمران"، فما المشكلة إذن؟ إن أقل ما يمكن قوله هنا هو أن عمله يفتقر أحيانا إلى التناسق، فهو يقول شيئا فى موضع، ويقول ما يتعارض معه فى موضع غيره. وهذا نص ما قال: "C'est là que Zacharie appela son Seigneur et dit: "Mon Seigneur! Donne-moi de ta part une bonne descendance". إذن فالدعاء إلى الله كان من أجل الولد لا من أجل الحليف أو الصهر. وحتى لو حصرنا انفسنا فى سورة"مريم" فإن قوله تعالى لزكريا ردا على ابتهاله: "يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا" معناه أن زكريا كان يريد ولدا لا حليفا أو صهرا، وإلا لقال له سبحانه إنه يبشره بحليفٍ أو صهرٍ اسمه كذا. ثم هل الحصول على حليف أمر من الصعوبة إلى هذا الحد حتى يسبب له كل ذلك القلق؟ أما الصهر فليس له فى حالتنا هنا محل من الإعراب، فزكريا لم يكن فى سن تسمح له بالزواج والمصاهرة، كما لم يكن عنده ابن أو بنت يمكن أن يصاهره الآخرون بسببه أو بسببها.
ومن ثم فإن ترجمة كازيميرسكى وحميد الله وشوراكى وميشون ومجمّع الملك فهد بالمدينة المنورة مثلا لها بــ"un descendant" هى ترجمة صحيحة، ومثلها ترجمة د. صلاح الدين كشريد ود. زينب عبد العزيز: ":un successeur خليفة". وفى الترجمة السعودية نقرأ فى الهامش ما يلى: " Un descendant: qui hérite du savoir et de la sagesse des prophètes ". أى أن زكريا عليه السلام دعا ربه أن يهبه ولدًا يأخذ عنه ميراث النبوة من علم وحكمة. أما جروسجان فقد تصرف فيها وترجمها بمعناها المباشر، وهو "un fils: ابن"، وهى ترجمة صحيحة على طريقتها.
وفى ترجمة الدكتور لقوله عز شأنه مخاطبا مريم عليها السلام: "وهُزِّى إليك بجذع النخلة تُسَاقِطْ عليكِ رُطَبًا جَنِيًّا" نراه يؤديها بما يعنى أن الله هو الذى يُسْقِط عليها ذلك الرُّطَب، مع أن الآية المثبتة فى المصحف الذى بين يدى د. الذيب تقول إن النخلة هى التى كانت تساقطه عليها ذلك. لقد برر الدكتور فعلته بأنه اتبع القراءة التى تقول: "يُسْقِط عليك رطبا جنيا"، لكنه تبرير غير مقبول ولا مفهوم، إذ هو يترجم النص الموجود أمامه، فكان حقا عليه الالتزام بما فى النص، وأمامه مندوحة فى الهامش يقول فيها ما يشاء. وأخشى أن يكون فى هذا الذى صنع ما يستوجب وصفه، على سبيل الحقيقة لا على سبيل المجاز، بالعبارة المشهورة التى تقول: "المترجم خائن"! قد يقال إن الأمر أبسط من ذلك، بيد أننى أرى فيه نزولا من المترجم على حكم نزوته، وهو ما ينبغى أن يحاربه فى نفسه بكل قواه، لأنه محكوم فى عمله بقواعد علمية وأخلاقية لا ينبغى له أن يتجاوزها ويسير على هواه، وإلا اضطربت الأمور وتشابكت الخيوط وجرؤ المترجمون مع الأيام على ما هو أكبر من ذلك دون أن يطرف لهم جفن أو تعتريهم خالجة من ندم. وبالمناسبة فقد صنع ميشون من قبله الشىء ذاته، إذ جاءت ترجمته هكذا: "il fera tomber sur toi des dattes fraîches et mûres".
كذلك نراه ينقل قول الحق سبحانه، على لسان قوم مريم لها حين رَأَوْها تحمل طفلا رضيعا دون أن يسبق لها زواج: "لقد جئتِ شيئا فَرِيًّا"، على النحو التالى: "Tu as commis une chose fabuleuse"، مستخدما كلمة "fabuleuse: (أى شيئا) خرافيا" للدلالة على استغرابهم وتعجبهم، وتاركا الكلمة التى استعملها حميد الله، كما ذكر هو بالهامش، وهى كلمة "monstrueuse: بشعا"، التى استخدمها كذلك كل من بلاشير وماسون والترجمة السعودية، وكذلك جروسجان، وإن كان قد استعمل صيغة المذكر لأنه ترجم كلمة "شىء" المؤنثة فى الفرنسية بــ" ton :acte عملك"، وهو اسم مذكر. وتعليقى على ترجمة الدكتور سامى هو أن "fabuleuse" تعنى، فيما أفهم، الشىء المدهش الذى لا يكاد يصدَّق "لـِحُسْنه"، اللهم إلا إذا ظننا أن قومها كانوا معجبين بإنجازها هذا العجيب، إذ حملت وأنجبت دون زواج، وهو ما لا يمكن أن يقع إلا فى مسرحية هزلية. أما الــ"monstrueuse" فهو الشىء الغريب القبيح الذى يبعث على الكراهية والاشمئزاز. أما سافارى وكازيميرسكى وميشون فقد وصفوا ما فعلته مريم بأنه "étrange: غريب". وفى ترجمة إدوار مونتيه: "extraordinaire"، فيما قال جاك بيرك: ":épouvantable فظيعا/ مروِّعا". وقد يمكن أن نستعمل أيضا فى ترجمة "فريًّا" كلمة "scandaleuse: فاضحا/ مخزيا" للتعبير عن الإدانة والاشمئزاز. أما لدى كشريد فنجد "quelque chose d'abominable"، وأما زينب عبد العزيز فتقول: "quelque chose d'ahurissant". وعند الصادق مازيغ (التونسى) نجد كلمة واحدة لعبارة "شيئا فريا" كلها، وهى ":une infamie عارا"، أما شوراكى فقد ترجم العبارة على النحو التالى: "une affaire surprenante: أمرا غريبا غير متوقع".
كذلك ترجم الدكتور الذيب كلمة "بَغِىّ" فى قوله عز شأنه: "يا أخت هارون، ما كان أبوكِ امرأ سَوْءٍ، وما كانت أمك بغيا" إلى "abusée"، ومعناها: "المغرَّر بها"، فهل "البغىّ" هى التى يُغَرَّر بها؟ أم هل هى بالأحرى التى تريد إيقاع الرجال فى حبائلها؟ وفى بلاشير وأبو بكر حمزة وماسون والترجمة السعودية وزينب عبد العزيز: "une prostituée"، وهذه ترجمة صحيحة ومباشرة. وفى ترجمة بيرك: "une gaupe"، ولدى ميشون: "une dissolue"، وعند شوراكى: "impudique" (صفةً لا اسمًا)، وكلها تؤدى المعنى المطلوب. وكذلك تؤديها ترجمة كشريد، ولكن بأسلوب المجاز والإشارة، إذ جاءت على النحو التالى: "une femme aux mœurs légères"، ومعناها بأسلوب المجاز مرة أخرى: "امرأة منحلّة".
وفى قوله جل جلاله عن اختلاف الفرق النصرانية حول طبيعة السيد المسيح بعد أن أعلن عليه السلام، وهو صبى فى المهد أمام الجموع التى أتت تتهم أمه بالعهر، بأنه ليس إلا عبدا لله آتاه الله الكتاب وجعله نبيا من أنبيائه: "فاختلف الأحزاب من بينهم..." يترجم د. أبو ساحلية كلمة "الأحزاب" بــ"les coalisés"، وهى تعنى "المتحالفين"، على حين أننا هنا بإزاء فرق منقسمة متناحرة لا متحالفة. فالتحزب فى هذا السياق هو تحزب الفُرْقة والاختلاف، بخلاف التحزب فى غزوة الخندق مثلا الذى كان تحزُّب تحالفٍ ضد النبى والمسلمين، ومن هنا يصدق على من اشتركوا فى تلك الغزوة أن يسمَّوْا: "les coalisés"، ومن هنا أيضا أُطْلِق على تلك الغزوة اسم غزوة "الأحزاب". أما الأحزاب هنا فيمكن ترجمتها بــ"les sectaires" كما هو الوضع عند سافارى، أو "les partis" طبقا لما ترجمها به كل من مونتيه وحميد الله وكشريد وشوراكى، أو "les factions" حسبما نجد فى ترجمة كل من بلاشير والدكتورة ماسون وميشون وجاك بيرك والدكتورة زينب عبد العزيز، أو "les ligues" مثلما ترجمها جروسجان، أو "les sects" مثلما هو الأمر لدن أبو بكر حمزة ومازيغ وترجمة مجمّع الملك فهد. ورغم أن ميشون، كما لاحظنا، قد ترجم كلمة "الأحزاب" بــ"les factions" فقد عاد وقال إن هذه الكلمة تطلق أيضا لهذا السبب على الأحزاب الذين هاجموا المدينة فى العام الخامس للهجرة: "Al-ahzâb- titre de la s.33 - désigne les coalisés qui se sont alliés aux Mekkois contre les musulmans au moment de la bataille du Fossé (Al-Khandaq), en l’an cinq de l’Hégire (cf. s.33, v.9-25). Ici, le même terme (plur. de hizb) semble s’appliquer aux diverses sectes qui se sont constituées au début du christianisme"، وإن لم يغفل مع هذا عن أن تلك التسمية قد أطلقت على الفرق المتناحرة فى بداية النصرانية، حول طبيعة السيد المسيح فيما هو واضح.
أما ترجمة الدكتور الذيب لقوله عَزَّتْ قُدْرَتُه بشأن الذين يؤلهون السيد المسيح: "أِسْمِعْ بهم وأَبْصِرْ يوم يأتوننا" إلى "Écoute-les et vois[-les]" بما يعنى "اسْمَعْهم وأَبْصِرْهم" (متبعا فهم ميشون وجاك بيرك لها، وإن كان بيرك قد استخدم الفعل: "Entends" بدلا من "Écoute"، واستخدم ميشون "observe" عِوَضًا عن "vois")، فليس لها إلا تفسير واحد: أن الأستاذ المترجم لا يعرف هنا من أمر اللغة العربية ما ينبغى أن يعرفه كل أحد لديه فكرة بسيطة عنها، إذ إن تلاميذ المدارس الصغار يدرسون فى النحو والصرف بابا اسمه باب التعجب يضم صيغتين مشهورتين لهذا المعنى هما: "ما أفعله!" و"أَفْعِلْ به!". فأنت إذا أردت أن تعبر عن تعجبك من طول ليلة من الليالى قضيتها ساهرا لا يغمض لك جفن قلت: "ما أطول هذه الليلة!/ أَطْوِلْ بها!"، وإذا أردت أن تتعجب من حسن منظرٍ ما قلت: "ما أحسن هذا المنظر!/ أَحْسِنْ به!"... وهكذا. وعلى ذلك فقوله سبحانه وتعالى يصف ما سوف يكون عليه يوم القيامة حالُ أولئك الكافرين الذين دمغهم فى نهاية الآية بأنهم يعيشون فى الدنيا فى ضلال مبين فلا يسمعون الحق ولا يستطيعون أن يبصروه: "أَسْمِعْ بهم وأَبْصِرْ يوم يأتوننا، لكنِ الظالمون اليوم فى ضلال مبين" معناه أنهم، وإن كانوا لا يسمعون ولا يبصرون اليوم بسبب ما يغشى بصائرهم من كفر غليظ، فإنهم يوم يَلْقَوْن ربهم سوف تكون مقدرتهم على السمع والإبصار والفهم عجبا من العجب، إذ ساعتها سوف ينقشع عنهم ما كان يطمس على أبصارهم ويسد نوافذ أسماعهم. أما ما قاله الدكتور المترجم فهو خطأ فى خطإ فى خطإ.
والعجيب أنه، رغم ذلك، قد أورد فى الهامش ترجمة حميد الله، الذى كتب يخطّئ جهوده فى ترجمة القرآن فى مقال له معلنا أنه قام بترجمة كتاب الله من جديد كى يضع حدا لما فى ترجمة العالم الهندى المسلم الكبير من عيوب. وهذه الترجمة تجرى هكذا: "Comme ils entendront et verrons bien le jour où ils viendront à nous!". وهو ما اتبعته بالحرف الترجمة السعودية، التى اتخذت من عمل محمد حميد الله أساسا لها ومنطلقا. ولقد كان ينبغى أن يقف د. سامى أمام تلك الترجمة مَلِيًّا ويتساءل عن السبب فى أنها جاءت هكذا، وبخاصة أن حميد الله قد أثبت فى نهاية الكلام علامة التعجب. بَيْدَ أنه لم يفعل، وأرجح بل أكاد أوقن أنه حَسِب تلك الترجمة ترجمة خاطئة فضرب عنها صفحا، ثم زاد فأوردها فى الهامش كى يلفت الأنظار إلى أنه يعرف الصواب، وأنه لهذا قد تنكَّبها تنكُّبا إلى ذلك الصواب! وهذه الترجمة نجدها بنصها تقريبا لدى بلاشير وأبو بكر حمزة. وبالمناسبة فقد هلل بعض المصريين لترجمة بيرك حين صدرت فى التسعينات وعَدُّوها فتحا غير مسبوق فى عالم الترجمات القرآنية، وهو ما أظهرت أنه كلام فارغ فى كتابى عن تلك الترجمة الذى يستطيع القارئ أن يحصل على نسخة ضوئية منه من عدد من المواقع المشباكية، إذ الترجمة تعج بالأخطاء الشائنة حتى فيما يتعلق بأوليات القواعد النحوية والمعارف البلاغية، علاوة على ما فيها من بهلوانيات وإساءات إلى الإسلام وكتابه المجيد.
على أن هذا لا يعنى أن ننكر أن بيرك كان، من بين أصحاب الترجمات التى أنظر فيها الآن، أحد من تنبهوا إلى أن كلمة "خَلْف" (بسكون اللام لا بفتحها) التى وردت فى قوله تعالى فى الآية التاسعة والخمسين من سورتنا هذه: "فخَلَفَ مِنْ بعدهم خَلْفٌ أضاعوا الصلاةَ واتبعوا الشهواتِ فسوف يَلْقَوْن غَيًّا" لا تعنى، إذا ما أردنا الدقة، الأجيال التالية بإطلاق، بل السيئ منها، ولهذا وصفهم بــ"indignes"، على حين قال عنهم كشريد إنهم "une mauvaise progéniture"، واقتربت منه د. زينب إذ ذكرت أنهم "une mauvaise génération"، وهو ما لم يتنبه له أى من المترجمين المشار لهم، ومنهم بطبيعة الحال الدكتورالذيب!
وفى معجم "العين" مثلا للخليل بن أحمد أنه "لا يجوز أن يقال: من الأشرار خَلَفٌ، ولا من الأخيار خَلْفٌ"، وإن كان هناك من لا يلتفت إلى هذه الدقيقة اللغوية. إلا أن لغة القرآن هى من الحساسية بحيث ينبغى أن نتعامل معها بما يليق بها من الاهتمام والتدقيق. وفى تفسير الزمخشرى: "خَلَفه: إذا عَقَبَه، ثم قيل في عقب الخير "خَلَفٌ" بالفتح، وفي عقب السوء: "خَلْفٌ"، بالسكون، كما قالوا: "وَعْدٌ" في ضمان الخير، و"وَعِيدٌ" في ضمان الشر". وفى تفسير القرطبى للآية رقم 169 من سورة"الأعراف": "قال أبو حاتم: "الخَلْف" بسكون اللام: الأولاد، الواحد والجميع فيه سواء. و"الخَلَف" بفتح اللام البَدَل، ولدا كان أو غريبا. وقال ٱبن الأعرابيّ: "الْخَلَفُ" بالفتح: الصالح، وبالجزم: الطالح. قال لَبِيد:
ذهبَ الذين يُعَاشُ في أكنافِهم* وبَقِيتُ في خَلْفٍ كجِلْد الأجْرَبِ
ومنه قيل للرديء من الكلام: خَلْفٌ. ومنه المثل السائر «سَكَت ألْفًا ونطق خَلْفًا". فــ"خَلفٌ" في الذَّم بالإسكان، و"خَلَفٌ" بالفتح في المدح. هذا هو المستعمل المشهور. قال صلى الله عليه وسلم: "يَحْمِل هذا العِلْمَ مِن كل خَلَفٍ عُدُولُه". وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر". أما فى آية سورة "مريم" فقد أحال إلى ما قاله فى سورة "الأعراف" مكتفيا فى تفسير "خَلْف" بــ"أولاد سوء".
وحين يترجم د. الذيب كلمة "تاب" فى الآية الستين من السورة: "إلا من تاب وآمن وعمل صالحا..." نراه يستعمل فى مقابلها الفعل: "revenir"، ومعناه "عاد"، وهى كلمة فضفاضة. ومثلها الفعل: "retourner" الذى استخدمه شوراكى. أما المترجمون الآخرون فكلهم استعمل الفعل: "repentir (se)"، إلا ثلاثة لجأوا إلى الفعل: "عاد"، لكن اثنين منهما حددا العودة بأنها إلى الله، فيما حددها الثالث بأنها عودة إلى الندم، ولم يكتفوا بالعودة المطلقة التى لا تغنى هنا شيئا ذا قيمة.
كذلك فعندما يترجم كلمة "سَمِيًّا" فى قول رب العزة: "رب السماوات والأرض ومابينهما، فاعبده واصْطَبِرْ لعبادته. هل تعلم له سميًّا؟" يترجمها بــ"un homonyme"، وهو ما يعنى: هل تعلم شخصا آخر يحمل نفس الاسم الذى يحمله الله؟ فهل هذا كلام يُعْقَل أو يُقْبَل؟ وهل هذا مما يمكن أن يقوله الله جل جلاله؟ لكنى مع ذلك لا أريد أن أظلم المترجم، إذ وجدت الترجمات الأخرى كلها ما عدا مازيغ تقول الشىء ذاته، وإن لم يستعمل جروسجان كلمة "un homonyme"، بل عبارة بمعناها: "qulqu'un qui ait le même nom que lui". أما ترجمة الصادق مازيغ فقالت شيئا آخر أرى أنه هو الفهم الصحيح للآية، ونصها: "En connais-tu quelqu'autre qui puisse L'égaler? ". ذلك أن معنى الكلام فى نظرى هو: "هل ثَمَّ كائن آخر يساميه سبحانه فى عظمته وألوهيته؟"، إذ من معانى كلمة "سَمِىّ": "النظير والمثل" كما فى المعاجم، فكان ينبغى على مترجمى القرآن أن يتنبهوا إلى هذا فيما يخص المولى سبحانه. وأحسب أن ميشون قد حام حول هذا المعنى، وإن لم يقبض عليه تماما، إذ قال: " Connais-tu quelqu'un digne de porter Son Nom? "، وهو ما يعنى أنه لا يوجد من يستحق أن يسمى باسم الله إلا هو سبحانه.
وقد ألفيت لفرط سرورى، حين رجعت الآن إلى الطبرى شيخ المفسرين، أنه لم يذكر فى تفسير هذه الآية إلا المعنى الذى آثرتُه، فحمدت الله على هذا التوافق. قال رضى الله عنه: "قوله: "فـاعْبُدْه"، يقول: فـالزم طاعته، وذِلّ لأمره ونهيه."وَاصْطَبِرْ لِعِبـادَتِهِ"، يقول: واصبر نفسك علـى النفوذ لأمره ونهيه والعمل بطاعته تَفُزْ برضاه عنك، فإنه الإله الذي لا مِثْل له ولا عِدْل ولا شبـيه فـي جوده وكرمه وفضله."هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيًّا"، يقول: هل تعلـم يا مـحمد لربك هذا الذي أمرناك بعبـادته والصبر علـى طاعته مثلا فـي كرمه وجوده، فتعبده رجاء فضله وطوله دونه؟ كلا، ما ذلك بـموجود. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: حدثني علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية عن علـيّ عن ابن عبـاس، قوله: "هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيًّا"، يقول: هل تعلـم للربّ مِثْلا أو شبـيهًا؟ حدثنـي سعيد بن عثمان التنوخي، قال: ثنا إبراهيـم بن مهدي عن عبـاد بن عوّام عن شعبة عن الـحسن بن عمارة عن رجل عن ابن عبـاس فـي قوله: "هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيًّا"، قال: شبـيها. حدثنـي يحيى بن إبراهيـم الـمسعودي، قال: ثنا أبـي عن أبـيه عن جدّه عن الأعمش عن مـجاهد فـي هذه الآية: "هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيًّا"، قال: هل تعلـم له شبـيها؟ هل تعلـم له مِثْلا تبـارك وتعالـى؟ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة، قوله: "هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيًّا"، لا سميّ لله ولا عِدْل له، كلُّ خَلْقِه يقرّ له ويعترف أنه خالقه، ويعرف ذلك، ثم يقرأ هذه الآية: "وَلَئِنْ سألْتَهُمْ مَنْ خَـلَقَهُمْ لَـيَقُولُنَّ اللَّهُ". حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج عن ابن جريج فـي قوله: "هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيًّا"، قال: يقول: لا شريك له ولا مِثْل".
وبالمثل كنت أحب لو أن مترجمنا ترجم كلمة "عِزًّا" فى قوله تعالى: "واتخذوا من دونه آلهة ليكونوا لهم عِزًّا" بما يفيد أنهم كانوا يبتغون عند آلهتهم القوة والعون (puissance) كما فعل عدد من المترجمين الآخرين، بدلا من لجوئه إلى كلمة "fierté"، التى تدل على الفخر والإباء، ولا أظنه المقصود هنا. والآيات القرآنية المتعلقة بهذا الموضوع تدل على ما أقول، فهى تتحدث عن النصر الذى يرجوه المشركون من آلهتهم: "فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192/ الأعراف)"، "وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197/ الأعراف)"، "وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93/ الشعراء)"، " وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75/ يس)". وفى ترجمة جروسجان "un soutien"، أى تدعمهم وتقويهم، على حين نجد فى مجمع الملك فهد: " qu’ils leur soient des protecteurs (contre le châtiment) : أى ليحموهم من عقاب الله".
* * *
هذا عن الترجمة فى ذاتها، لكن هناك أمورا أخرى تتعلق بالترجمة لا تقلّ، إن لم تزد، فى الأهمية عنها، وهى التعليقات والتوضيحات والمقارنات والملاحظات والانتقادات التى يوردها المترجم فى الهامش: من ذلك مثلا إشارته عند قوله تعالى: "وناداها من تحتها ألا تحزنى. قد جعل ربك تحتك سَرِيًّا" إلى الفقرتين الأخيرتين فى النص التالى من سفر "التكوين": "14فَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ صَبَاحًا وَأَخَذَ خُبْزًا وَقِرْبَةَ مَاءٍ وَأَعْطَاهُمَا لِهَاجَرَ، وَاضِعًا إِيَّاهُمَا عَلَى كَتِفِهَا، وَالْوَلَدَ، وَصَرَفَهَا. فَمَضَتْ وَتَاهَتْ فِي بَرِّيَّةِ بِئْرِ سَبْعٍ. 15وَلَمَّا فَرَغَ الْمَاءُ مِنَ الْقِرْبَةِ طَرَحَتِ الْوَلَدَ تَحْتَ إِحْدَى الأَشْجَارِ، 16وَمَضَتْ وَجَلَسَتْ مُقَابِلَهُ بَعِيدًا نَحْوَ رَمْيَةِ قَوْسٍ، لأَنَّهَا قَالَتْ: «لاَ أَنْظُرُ مَوْتَ الْوَلَدِ». فَجَلَسَتْ مُقَابِلَهُ وَرَفَعَتْ صَوْتَهَا وَبَكَتْ. 17فَسَمِعَ اللهُ صَوْتَ الْغُلاَمِ، وَنَادَى مَلاَكُ اللهِ هَاجَرَ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ لَهَا: «مَا لَكِ يَا هَاجَرُ؟ لاَ تَخَافِي، لأَنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ لِصَوْتِ الْغُلاَمِ حَيْثُ هُوَ. 18قُومِي احْمِلِي الْغُلاَمَ وَشُدِّي يَدَكِ بِهِ، لأَنِّي سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً عَظِيمَةً». 19وَفَتَحَ اللهُ عَيْنَيْهَا فَأَبْصَرَتْ بِئْرَ مَاءٍ، فَذَهَبَتْ وَمَلأَتِ الْقِرْبَةَ مَاءً وَسَقَتِ الْغُلاَمَ". ولعلى لا أستطيع أن أبصر هنا وجها قويا للمقارنة بين النصين، إذ كل ما هنالك أن فى النصين ماء، فهل هذا يكفى لكى يلفت المترجم أنظارنا فى هذا السياق إلى نص العهد القديم؟
وفى هامش الآية 20 التى ينادى فيها مريمَ قومُها بــ"يا أخت هارون" نسمع المترجم يقول إن عِمْران ("عَمْرام" عند أهل الكتاب) فى العهد القديم هو أبو هارون وموسى ومريم، وإن النص هنا يجعل من مريم (أمِّ عيسى) أختا لهارون، على حين تجعل الآية رقم 39 فى سورة "آل عمران" من مريم زوجة لعمران. ثم يختم كلامه متسائلا: "هل هناك خلط بين المريمين: مريم أم عيسى، ومريم أخت موسى؟ وتعليقى على هذا أن آية سورة "آل عمران" لم تقل، ولا قال القرآن قط فى أى موضع منه، إن مريم هى زوجة عمران. وأغلب الظن أن فى عبارة المترجم هنا سهوا أو غلطة مطبعية أدت إلى سقوط كلمة، وكان أصل الكلام أن "أم مريم"، لا مريم نفسها، هى التى كانت زوجة عمران. ولما عدت إلى تعليق المترجم على الآية رقم 35 من سورة "آل عمران" ألفيتُه يتحدث عن "أم مريم" لا عن مريم ذاتها. ثم إن القرآن لم يقل هو نفسه إن مريم أخت هارون، بل كل ما هنالك أنه حكى ما قاله قومها لها. فإذا كانت هناك مؤاخذة فلتكن لقومها لا للقرآن. ولا يقولن أحد: ومن أدرانا أن القرآن لم يفتر على قومها وينسب إليهم ما لم ينطقوا به؟ ذلك أن يهود عصر المبعث كانوا مطلعين على القرآن، بل كان فى المدينة المنورة قبائل يهودية كثيرة بينها وبين النبى والمسلمين عداوات عنيفة، وفى قلوبها تجاههم أحقاد سامة، ومع ذلك لم يحدث أن فتح أحد من تلك القبائل فمه بكلمة اعتراضا على هذه العبارة، وهم الذين لم يكونوا يتورعون عن التهكم بكل ما لا يعجبهم فى القرآن أو فى الإسلام أو فى شخصية الرسول. فلو رَأَوْا أن القرآن قد اخترع هذه العبارة من لدنه لهاجوا وماجوا واتخذوا منها أداة للتشنيع عليه وعلى الرسول الذى جاء به، وهو ما لم يحدث على أى نحو من الأنحاء. وقياسا على ما يفعله العرب حين ينادى بعضهم بعضا بــ"يا أخا العرب"، رغم أن العرب أمة كاملة لا شخصٌ فردٌ، ومن ثم لا يمكن أن يكون لها أخ، بل الكلام على المجاز، نقول: ما وجه الغرابة فى أن ينادى بنو إسرائيل مريم عليها السلام فيقولوا لها على سبيل المجاز أيضا: "يا أخت هارون"، تهكمًا عليها ولمزًا وغمزًا فى عرضها؟ وفى الأمثال: "رُبَّ أخٍ لك لم تلده أمك". وفى القرآن الكريم: "إنما المؤمنون إخوة"، والمؤمنون يُعَدّون بالمليارات، وليس بينهم قرابة نسبية إلا فى حالات فردية نادرة لا تكاد تساوى شيئا فى وسط خِضّم هذا الطوفان من أتباع المصطفى عليه السلام. فهذا مِثْل هذا، إذ كثيرا ما تتشابه اللغات واللفتات الذهنية والنفسية عند الأمم المختلفة.
ولكن لماذا نذهب بعيدا، ولدينا "دائرة المعارف الكتابية"، وفيها مادة لكل من كلمتى "أخ" و"أخت" واستعمالاتها فى الكتاب المقدس بكل تفريعاتها؟ فماذا تقول تلك الدائرة؟ اسمعوا وعوا. وهذا ما قالته أولا فى مادة "أخ": "أخ: وجمعه "إخوة"، ويطلق لفظ "الأخ" على:
1- الابن في علاقته بأبناء أو بنات نفس الوالدين (تك 4: 8، 42: 4، مت 10: 2).
2- الابن لنفس الأب فقط دون الأم (تك 20: 12، 42: 3) أو لنفس الأم فقــط دون الأب (قض 8: 19).
3- على قريب من الأسرة الواحدة، كابن الأخ مثلا، فقد قال أبرام عن لوط ابن أخيه أنه " أخوه " (تك 14: 12 و16).
4- على أفراد السبط الواحد (2 صم 19: 12).
5- أطلق اسم "إخوة" على الأفراد من الشعب الواحد (خر 2: 11، أع 3: 22، عب 7: 5).
6- على حليف أو أحد أفراد شعـــب حليف (عدد 20: 14، تث 23: 7، عاموس 1: 9).
7- على شخص يشابه شخصا آخر في صفة من الصفات (أم 18: 9).
8- على الأصدقاء (أيوب 6: 15).
9- على شخص يماثل شخصا آخر في المرتبة أو المكانة (1 مل 9: 13).
10- على شخص من نفس العقيدة الواحدة (أع 11: 29، 1 كو 5: 11).
11- تستخدم مجازيا للدلالة على المشابهة كما يقول أيوب: "صرت أخًا للذئاب" (أيوب 30: 29).
12- على زميل في العمل أو في الخدمة (عزرا 3: 2).
13- أي إنسان من الجنس البشري للدلالة على الأخوة البشرية (مت 7: 3 - 5، أع 17: 26، عب 8: 11، 1 يو 2: 9، 4: 20).
14- للدلالة على القرابة الروحية (مت 12: 50).
15- قال الرب للتلاميذ: "أنتم جميعا إخوة" (مت 23: 8)، كما استخدم الرسل والتلاميذ لفظ " إخوة " للتعبير عن بنوتهم المشتركة لله، وأن كلا منهم أخ للآخر في المسيح (أع 9: 17، 15: 1… إلخ)، فالمؤمنون جميعا إخوة لأنهم صاروا "رعية مع القديسين وأهل بيــــــــت الله" (أف 2: 9). وقد كان الربيون اليهود يفرقـــون بين "أخ" و "قريب" فيستخدمون لفظة "أخ" لمن يجري في عروقهم الدم الإسرائيلي، أما لفــظ "قريب" فيطلقونه على الدخلاء، ولكنهم لم يكونوا يطلقون أي لفظ من اللفظين على الأمم. أما الرب يسوع والرسل فقد أطلقوا لفظة "أخ" على كل المؤمنين، ولفظة "قريب" على كل البشر (1 كو 5: 11، لو 10: 29). وكل المجهودات الكرازية وأعمال الخير إنما هي من منطلق هذا المفهوم المسيحي لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.
16- للدلالة على المحبة القوية المتبادلة (2 صم 1: 26، كو 4: 7 و9 و15 و2 بط 3: 15)".
ثم هذا أيضا ما قالته فى مادة "أخت": "أخت: تستخدم هذه الكلمة كثيرا في العهد القديم وهي في العبرية "أبوت" للإشارة إلى:
1- أخت شقيقة من نفس الأبوين.
2- أخت من أحد الأبوين (تك 20: 12 ، لا 18: 9).
3-امرأة من نفس العائلة أو العشيرة (تك 24: 60، أي 42: 11).
4-امرأة من نفس البلد أو الناحية (عدد 25: 28).
5-يقال مجازيا عن مملكتي إسرائيل ويهوذا إنهما أختان (حز 23: 4).
6-تعتبر المدن المتحالفة أخوات (حز 16: 45).
7-تستخدم نفس الكلمة العبرية، لوصف أشياء ذات شقين أو أشياء مزدوجة، مثل الستائر أو الشقق التي يقال عنها: "بعضها موصــول ببعض" (وفي العبرية "موصول بأخته" - خر 26: 3 و 6)، كما تطلق أيضا على أزواج الأجنحة (حز 1: 9، 3: 13).
8-لوصف بعض الفضائل المرتبطة بالشخص مثل: "قل للحكمة أنت أختي" (أم 7: 4، أي 17: 14).
9-لوصف العلاقة بين محب وعروسه كتعبير عن الإعزاز (نش 4: 9، 5: 1، 8: 8).
وفي العهد الجديد تستخدم الكلمة اليونانية " أيلف " (أخت) في المعاني الآتية:
(1) لوصف القرابة بالجسد أو بالدم (مت 12: 5، 13: 56، 19: 29، لو 10: 39، لو 14: 26، يو 11: 1، 19: 25، أع 23: 16).
(2) أخت في المسيح: "أختنا فيبي" (رو 16: 1، انظــر أيضا 1 كو 7: 15، 1 تي 5: 1، يع 2: 15).
(3) قد تشير إلى كنيسة: "أختك المختارة" (2 يو 13)". وتستطيع، أيها القارئ الكريم، أن تضع بكل سهولة أُخُوّة مريم لهارون لا فى بند واحد من هذه البنود الثمانية والعشرين، بل فى عدد غير قليل منها كما هو واضح، وهو ما يدل على أن توقف البعض أمام قول بنى إسرائيل لمريم حسبما قص علينا القرآن: "يا أخت هارون" هو أمر لا وجه له بأى حال.
وفى ترجمة الدكتور كشريد نجد فى الهامش أن موسى لم يكن له أولاد، فقامت ذرية هارون بخدمة المعبد والمحافظة على التوراة، وأن "الأخوة" عند العرب لا تعنى بالضرورة القرابة الجسدية، ومن هنا نجد القرآن مثلا يقول: "إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين". ولأن هارون هو الجد البعيد لمريم فقد قرّعها قومها بأن من العار على من تنحدر من ذرية هارون التقىّ النقىّ أن تتصرف على النحو الذى تصرفته حين حملت سِفَاحًا حسب وهمهم. وبالمثل خصصت ترجمة مجمّع الملك فهد لهذه الآية هامشا يقول ما نصه: "Hārūn était un homme bien connu pour sa piété. Il était de la tribu de Maryam. "، ومعناه أن هارون هذا كان رجلا من أهل مريم يُضْرَب به المثل فى التقوى. والمقصود أنها نُسِبَتْ إليه لذلك السبب. أما ميشون فقد قال: "L’appellation "soeur d’Aaron" est un rappel de la glorieuse lignée de prophètes, la Famille de ‘Imrân (père de Moïse et de Aaron) à laquelle appartient Marie, dont le père portait lui aussi le nom de ‘Imrân (cf. s.3, v.35): وهذا النداء بــ"يا أخت هارون" يذكرنا بسلالة الأنبياء الكريمة، آل عمران. وعمران هذا هو أبو لموسى وهارون، وهو اسم أبى مريم أيضا حسبما جاء فى سورة "آل عمران"/ الآية 35".
وللمفسرين عدة توجيهات لهذه العبارة أحدها ما جاء فى هذه الترجمة، ونستطيع ان نمثل لهذه التوجيهات بما ذكره الطبرى فى تفسير الآية. قال: "اختلف الناس في معنى هذه الأُخُوّة، ومَنْ هارون. فقيل: هو هارون أخو موسى. والمراد من كنا نظنها مثل هارون في العبادة تأتي بمثل هذا؟ قيل: على هذا كانت مريم من ولد هارون أخي موسى، فنُسِبَتْ إليه بالأخوة لأنها من ولده، كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وللعربي: يا أخا العرب. وقيل: كان لها أخ من أبيها اسمه هارون، لأن هذا الاسم كان كثيرا في بني إسرائيل تبركًا باسم هارون أخي موسى، وكان أمثل رجل في بني إسرائيل: قاله الكلبي. وقيل: هارون هذا رجل صالح في ذلك الزمان تبع جنازته يوم مات أربعون ألفًا كلهم اسمه هارون. وقال قتادة: كان في ذلك الزمان في بني إسرائيل عابد منقطع إلى الله عز وجل يسمى: هارون، فنسبوها إلى أُخُوّته من حيث كانت على طريقته قبلُ، إذ كانت موقوفة على خدمة البِيَع. أي يا هذه المرأة الصالحة، ما كنتِ أهلاً لذلك".
هذا، ويفيد التساؤل الأخير للمترجم أنه يجعل من الكتاب المقدس عِيَارًا على القرآن، وكأن الكتاب المقدس وثيقة صحيحة تاريخيا لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وهذا غير صحيح البتة كما يعلم الجميع. وأنا هنا لا أطالب المترجم بأن يتخذ من القرآن مرجعا يثق به ثقة مطلقة، فقد يجوز أن يردّ بأنه لا يستطيع أن يطمئن إلى القرآن بدوره، وهذا من حقه. إلا أنه كان ينبغى أن يقف موقفا حياديا بين الكتابين ويقول: هذا ما وجدته فى كل منهما، وأترك الأمر للقراء ليروا فيه رأيهم. ذلك أنه ليس هناك دليل على أن والد السيدة مريم العذراء اسمه يواقيم كما يقول النصارى. بل إن الأناجيل الأربعة القانونية لا تذكر اسم والدها البتة. إنما ذلك موجود فى أحد الأناجيل الأخرى التى لا تعترف بها الكنيسة. فمن الممكن جدا أن يكون اسم والد العذراء عليها السلام هو عمران كما قال القرآن، وإلا فهل هناك محظور كونى يحيل إطلاق الاسم الواحد على أكثر من شخص فى عهود تاريخية متباعدة كى ينكر المنكرون أن اسم العذراء هو عمران لا يواقيم، أو أن الاسمين هما كليهما له: واحدٌ اسمًا، والآخرُ لقبًا مثلا؟
وكنت قد رجعت منذ عدة سنوات إلى معجم أوكسفورد لأسماء الأشخاص بحثا عن شىء يضىء لى الطريق فيما يتعلق باسم "يواقيم"، الذى يقول النصارى إنه أبو مريم، فوجدته يذكر أن عندهم رواية بأن مريم هى ابنة يواقيم، لكنه أضاف أن هذه الرواية لا تحظى بثقتهم (Elizabeth Gidley Withy Combe, The Oxford Dictionary of English Christian Names, 1948, P. 78). ثم قرأت فى مراجع أخرى أن الرواية المقصودة هنا هى ما تقوله بعض الأناجيل التى لا تعتمدها الكنيسة. وقد اطلعت على الرواية فعلا فى "إنجيل يعقوب: The Gospel of James" و"إنجيل ميلاد مريم: The Gospel of the Nativity of Mary"، وكذلك "إنجيل متى المزيف (هكذا يسمّونه رغم أنه لا يفترق عن إنجيل متى الذى يعترفون به فى أن كليهما تأليف بشرى لا يخضع للضبط العلمى): The Gospel of Psewdo-Matthew". وهى كلها أناجيل لا تعترف بها الكنيسة، ومن ثم لا يحق لها أن تحاجّ المسلمين بها، إذ لا يعقل أن آتى بشاهد فأحتج بشهادته إثباتًا لحقٍّ أدَّعيه، على حين أنى أعلن فى كل مناسبة أنه شاهِدُ زورٍ، وأنى أنا نفسى لا أثق فى شهادته طرفة عين. ألا إن هذا لَقِمّةُ التناقض!
ثم إن الأناجيل القانونية ذاتها لتضطرب كثيرا فى مسألة الأنساب. ولن نذهب بعيدا، فهناك فى تلك الأناجيل سلسلتا نسب للمسيح عليه السلام لا تتسقان بحال، إذ هناك اختلاف حاد بينهما فى عدد الحلقات وفى ترتيبهما جميعا، إلى جانب أن إحدى السلستين تتحدث عن نسبه بوصفه ابن يوسف النجار، أستغفر الله. وفوق ذلك فالسيد المسيح، حسبما نعرف، كثيرا ما يسمى: "ابن داود" رغم ما يفصل بينه وبين أبى سليمان من أجيال متعددة. بل ثمة نص فى الإصحاح السادس عشر من إنجيل لوقا نرى فيه غنيًّا متكبرا من عصر المسيح يموت فيُلْقَى به فى النار فيصرخ من شدة العذاب قائلا: يا أبى إبراهيم، ارحمنى"، ومعروف أن المسافة الزمنية بينه وبين الخليل أطول كثيرا جدا مما بين المسيح وبين قاتل جالوت، وهذا إن كان بينه وبين إبراهيم أى نسب على الإطلاق. كما أن المسيح ذاته فى الإصحاح الثالث عشر من ذلك الإنجيل يطلق على المرأة العجوز التى بسط لها، بمعجزة من معجزاته، ظهرها المقوَّس: "ابنة إبراهيم". ولن أتكلم عن النصوص الإنجيلية التى تجعل يوسف النجار أبا للمسيح بقول صريح لا مواربة فيه، مع ما فى ذلك من إساءة بالغة إليه وإلى أمه الطهور! والمترجم نفسه يشير فى الهامش إلى موضعين من إنجيل يوحنا يجد القارئ فيهما هذه التسمية المسيئة! فإذا كان هذا هو حال الأناجيل القانونية، فما بالنا بالأناجيل التى لا تعترف بها الكنيسة، تلك الأناجيل التى يعتمد عليها من يثيرون الزوابع فى وجه القرآن بخصوص عبارة "يا أخت هارون"؟ من هنا نعود فنقول إنه كان ينبغى ألا يلمز المترجم النص القرآنى تلك اللمزة الخفية مكتفيا بوضع المسألة فى حيادية علمية لأنه لا يملك شيئا يقينيا يركن إليه فى إثارة مثل تلك الشكوك فى كتاب الله.
كذلك ذكر المترجم فى كل من هامش الآية رقم 39 وهامش الآية رقم 75 وهامش الآية رقم 84 من سورتنا هذه أن ما تحبّذه مِنْ تَرْك المشرك للحساب الإلهى يوم القيامة وعدم التعرض له فى الدنيا بشىء قد نسخته آية السيف، فما حكاية آية السيف هذه؟ المقصود بآية السيف هو قوله تعالى فى سورة "التوبة": "فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)"، الذى يظن البعض أنه يستوجب اطّراح المسلمين سياسة التسامح، وانتهاج سبيل العنف والقتال والإكراه بديلا عنها حتى لو لم يعتدِ عليهم معتدٍ. وهو فهم خاطئ، إذ القتال فى الإسلام مشروط بوقوع العدوان علينا كما هو معروف. وحتى حين يكون هناك قتال ثم يجنح العدو إلى السلام فعلى المسلمين أن يجنحوا هم أيضا نحوه، إلا إذا شعروا أن هناك نية غدر مبيته. وفى هذه الحالة عليهم أن يعلنوا موقفهم واضحا وأن يبينوا أنهم لا يقبلون مثل ذلك السلام الخادع الغادر. ولا أدرى ماذا فى آية سورة"التوبة" بالذات حتى يقال إنها ترسم سياسة جديدة للمسلمين فى تعاملهم مع الأمم الأخرى. إن الأمر بالقتل والقتال غير مقصور على تلك الآية، بل إنها ليست أول آية حملت ذلك الأمر، فلدينا مثلا: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194: البقرة)"، "فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا (90) سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91: النساء)"، "أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15: التوبة)"، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123: التوبة)".
أما إذا قيل إن الآية الخامسة من سورة"التوبة" تقول بقتل المشركين دون سبب سوى أنهم غير مسلمين ولا بد من إدخالهم الإسلام أو فرض الجزية عليهم، فالرد هو أن الأمر بقتل المشركين فى الآية المذكورة مقصور على الذين كانت بينهم وبين المسلمين عهود ثم خاسوا فيها وغدروا بالمسلمين وتكرر ذلك منهم، ولا تشمل كل المشركين فى جميع الظروف والأوقات. وهذا واضح من السياق الذى وردت فيه الآية: "بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)".
وجَلِىٌّ أن الحكم إنما ينصبّ على الخائنين الغادرين من المشركين، وهو ما يصدق أيضا على النصوص الأخرى كما هو واضح، أما من أوفى بعهده فهؤلاء تُحْتَرَم عهودهم. بل إن الأعداء المحاربين إذا أعلنوا عن رغبتهم للسلم فلا بد من الإنصات لهم والقبول بعرضهم ما لم نحس أن هناك غدرا مبيتا. وبالمثل فإننا مأمورون بألا نعتدى إلا على من يعتدى علينا. وفوق ذلك فإن من يقع من الأعداء أسيرا فى يد المسلمين فله، حسبما تذكر الآية الرابعة من سورة "محمد"، حَلاّن: إما الفداء لقاء بعض المال، وإما الفداء دون مال. ومعنى هذا أنه سوف يطلق سراحه على كل حال. أما القول بأن الآية إنما تعنى وجوب مقاتلة غير المسلمين فى كل الظروف وفى كل الأوقات فهو قول يجافى سياق الآية والظروف التى نزلت فيها، علاوة على مجافاته نصوص القرآن الأخرى، وكلها تقيّد إيجاب القتال علينا بقتال الأعداء لنا. وكيف يصحّ اتهام القرآن بأنه يحارب غير المسلمين دون أى سبب سوى الرغبة فى إكراههم على الدخول فى الإسلام تحت سيف التهديد والترويع، والقرآن يقول بصريح العبارة: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9: الممتحنة)"؟
وإذا كان الشىء بالشىء يُذْكَر فقد كان المستشرق إدوراد وليم لين فى بداءة أمره يتصور أن الإسلام يجوّز شن الحرب على الكفار دون أى استفزاز أو عدوان من جانبهم، إلا أنه عَدَل عن هذا الفهم بتأثير كاتب بريطانى آخر هو أوركهارت، الذى نبهه إلى ضرورة مراجعة رأيه السابق فى هذا الأمر، حتى لقد كتب أنه صار مقتنعا بأن ليس فى القرآن أى مبدإ يمكن، لو فُهِم فى سياقه، أن يسوّغ شَهْر حرب عدوانية (Edward William Lane, The Modern Egyptians, London, 1871, Vol. 1, P. 117, Note).
وأخيرا لقد اعترض كل المعلقين تقريبا فى منتديات "واتا" على الطريقة التى رتب بها الدكتور سامى الذيب سُوَر القرآن العظيم فى ترجمته التى نحن بصددها، إذ رتبها بناء على تواريخ نزولها كما يقول لا على أساس ترتيبها فى المصحف الشريف. وكانت حجته أن هذا الترتيب يساعد القراء على أن يفهموا النص القرآنى على نحو أفضل ويُلِمّوا من خلاله بسيرة الرسول وتاريخ الدعوة الإسلامية حسب الترتيب الواقعى لأحداثهما، وكأن الدارسين للقرآن وسيرة المصطفى كانوا ولا يزالون يعانون اضطرابا وتشويشا فى فهمهم لذَيْنِك الموضوعين. وهذا كلام لم يقل ولا يمكن أن يقول به أحد. ويرى العبد لله كاتب هذه الملاحظات أنه كان الأوفق أن يعتمد الدكتور المترجم الترتيب المصحفى الذى يحظى برضا المسلمين منذ أن جُمِع القرآن الـجَمْعَة الثانية فى عهد أبى بكر، ثم يستطيع على رأس الترجمة أو فى ذيلها أن يثبت قائمة بترتيب السُّوَر حسب تواريخ نزولها على ما فى ذلك الترتيب من اختلاف بين علماء القرآن، فضلا عن أن الآيات داخل كل سورة ليست بالضرورة مرتبة تاريخيا. وبهذه الطريقة يكون قد أرضى رغبته فى ترتيب السور تاريخيا كما يظن (مع التحفظ المذكور آنفا)، وراعى حرص المسلمين على احترام الترتيب المصحفى الذى تعودوه على مدار الأربعة عشر قرنا ونيف الماضية، وبخاصة أن الأمانة العلمية تقتضينا أن نحافظ على نظام الكتب التى نترجمها بكل سبيل ممكن، وعلى وجه أخص الكتب المقدسة، التى تستقل بوضع لا يشاركها فيه غيرها.
10 يناير 2008م
ibrahim_awad9@yahoo.com
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9[/align]
تعليق