الوحــوش..
يتأمّل من شرفة الغرفة شجارا نشب بين شابين..
يتحسّر على مأساوية هذا الوجود وسوداويته، ينبذ الواقع، يشكر الله أنه عشق العزلة.. الابتعاد عن الحياة الصّاخبة.. شرورها المتزايدة.. يتمتم:
يتحسّر على مأساوية هذا الوجود وسوداويته، ينبذ الواقع، يشكر الله أنه عشق العزلة.. الابتعاد عن الحياة الصّاخبة.. شرورها المتزايدة.. يتمتم:
- لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
يغلق جميع النّوافذ، ينحني على صفحات كتاب قديم، يتصفّح سطور فقراته، يترامى إلى سمعه صوت شجار ثاني.. ثالث.. رابع..!
يحاول اقتلاع نفسه من هذا العالم، يتحرّك إلى فراشه المتواضع، يبتلع منوما، يحسّ أنّ كلّ شيء من حوله يدور.. يبتعد، يسافر على ظهر غيبوبة منتفضة.
عند غفوة كلّ مساء يقوم بجولة عبر الشّوارع المتصاعدة لمدينة "القصبة".. صديقه الحميم الذي ألف معه جولاته، يستمدّ منها قوّته، يعبق تاريخها أعماق فخره، يرسم جمال التّدرج المتناسق لمنازلها وحدائقها، يسافر خياله إلى حقبة تلك القصور الفخمة.. يحدّثها:
يحاول اقتلاع نفسه من هذا العالم، يتحرّك إلى فراشه المتواضع، يبتلع منوما، يحسّ أنّ كلّ شيء من حوله يدور.. يبتعد، يسافر على ظهر غيبوبة منتفضة.
عند غفوة كلّ مساء يقوم بجولة عبر الشّوارع المتصاعدة لمدينة "القصبة".. صديقه الحميم الذي ألف معه جولاته، يستمدّ منها قوّته، يعبق تاريخها أعماق فخره، يرسم جمال التّدرج المتناسق لمنازلها وحدائقها، يسافر خياله إلى حقبة تلك القصور الفخمة.. يحدّثها:
- أصبحت يا صديقتي مجرّد آثار مهدّدة بجريمة النّسيان..!
يسبح في بحر تاريخها، ينصهر في قصص أبطال الّزمن العثماني، يشعّ قلبه حبّا وفضولا لحكاياتهم، تقتحم ضلوعه، تلسع أنفه رائحة الرّطوبة المنبعثة من منازلها القديمة المهترئة، يسمع أنينها.. يخاطبها:
- آه.. يا "القصبة" لا تستحقين الموت.. فالأبطال لا يموتون..!
يغمض عينيه.. يفلت من شرود تأمّلاته.. يغطس في رحمها، يتشبّث بحبل، يشعر بالدّفء والأمن، يتفحّص هذه المساحة البيضاء وهي تداعب زرقة السّماء.. تشغل الدّنيا في حياء، يكتشف على أرضها تكاثر نسل آدام وحوّاء.. يتشاركون في البناء.. في الفداء.
يتربّص بالجرائم والتّشويهات العديدة التي تعرّضت لها.. المعارك الضّارية التي نشبت من أجلها، بين أصحابها وأعداء حاولوا اقتلاعها.. بين عشاقها ومغتصبين لعدالة بقائها، تنهمر برك الدّماء من جدران قصورها، تندثر أجساد قدّمتهم قربانا من أجل استمرار حياتها، يتحسّر.. يرى فيها بقايا عمره.. جفاف حياته، يواسي آلامها، يتحسّس جبروت قوّتها.. تصلّب إرادتها، يتحرّك.. يهمس من رحم معاناتها:
يتربّص بالجرائم والتّشويهات العديدة التي تعرّضت لها.. المعارك الضّارية التي نشبت من أجلها، بين أصحابها وأعداء حاولوا اقتلاعها.. بين عشاقها ومغتصبين لعدالة بقائها، تنهمر برك الدّماء من جدران قصورها، تندثر أجساد قدّمتهم قربانا من أجل استمرار حياتها، يتحسّر.. يرى فيها بقايا عمره.. جفاف حياته، يواسي آلامها، يتحسّس جبروت قوّتها.. تصلّب إرادتها، يتحرّك.. يهمس من رحم معاناتها:
- لم يرحمك أحد، لكنّك ضمّدت بشاعة جرائمهم، واحتفظت بكثير من الذّكريات.
تنبعث رائحة عفونة من حاضرها، تحتضنه قشعريرة، ينخرط مرة أخرى في جوف جراحها، يتذوّق من أوجاعها، يرثي آثار التّهديم.. التّخريب.. اللاّمبالاة التي تفترس تحفة أثريّة منسيّة.. ينتفض.. يتخبّط، تتألّم.. تصرخ.. تئن.. تسري حمى آلام المخاض عبر شبكة أزّقتها الضّيقة المتعرّجة، يتمسّك بكلّ قوّته، يطلب منها بأعلى صوته:
- لا أريد الخروج.. لا تملّ مني.. أرجوك..
يفتّق رحمها عن ميلاد حزين آخر.. تمسك وليدها، تحتضن آلام رجل يجمع في أعماق ذكرياته جماجم أسرته.. كان الذّبح الشّنيع غارة فضيعة، فقد خلالها إخوته والدته.. زوجته وابنته الرّضيعة، سقط بين أنياب الفاجعة.. ولا يزال يتقدّم على جسر عويلها، حاول مسح صوّر تلك الجماجم من ذاكرته.. لم يقدر.. حاول الهروب من أربعين سنة بائسة نهشت عمره.. لم يقو.. ينظر نظرة رضيع إلى عينيها.. يصارحها:
- ما أشقانا يا أمي!
يصل إلى الشّاطئ، تمتصّ خضرة عينيه تلك الطّبقة المائية التّي تتمايل فوقها البوارج والمراكب، يهتزّ قلبه..
- انّه البحر الذي صنع مجدك وثرّوتك.. البحر الذّي يموت
في جوفه الآلاف ممن جفّ الأمل في قلوبهم..!
في جوفه الآلاف ممن جفّ الأمل في قلوبهم..!
تغادر روحه في عجلة أسوار ذاكرته المكفهرّة، يتذّكر صديقه "سمير" الذّي اختطف منذ ثلاث سنوات ولم يظهر عنه أي خبر، يرنّ في السماء حديثه الممتع.. تشعّ صور أحلامه البريئة.
كان يرسم لوحات جميلة لأحلام يقظته بريشة مخيلة واسعة، لينسى همومه.. فقره.. عجزه.. اعتقد دائما أنّ لون السّماء يتغيّر في الظّلمة.. فتشعّ نجومها في غضب وتحد.. تمسح بعضا من هذا اللّون الدّاكن، حتى إذا بلغت شمس النّهار وأشرق شعاعها غرب سواد اللّيل بعد وحشة ظلمته.
وفي الشّتاء يتعكّر صفاؤها النّقي.. فتحاول ألوان قوس قزح رسم ابتسامة دائرية تعبيرا عن عدم الرّضى.. عن إصرارها في إبراز جمال السّماء، حتى جاء الرّبيع والصّيف طغى جمال لونها الأزرق وهدأت ثائرة الرّياح والغيوم.. هي ظواهر طبيعيّة لكنّها كانت تساعده على رسم صور الأمل في شرايين قلبه..
كان يرسم لوحات جميلة لأحلام يقظته بريشة مخيلة واسعة، لينسى همومه.. فقره.. عجزه.. اعتقد دائما أنّ لون السّماء يتغيّر في الظّلمة.. فتشعّ نجومها في غضب وتحد.. تمسح بعضا من هذا اللّون الدّاكن، حتى إذا بلغت شمس النّهار وأشرق شعاعها غرب سواد اللّيل بعد وحشة ظلمته.
وفي الشّتاء يتعكّر صفاؤها النّقي.. فتحاول ألوان قوس قزح رسم ابتسامة دائرية تعبيرا عن عدم الرّضى.. عن إصرارها في إبراز جمال السّماء، حتى جاء الرّبيع والصّيف طغى جمال لونها الأزرق وهدأت ثائرة الرّياح والغيوم.. هي ظواهر طبيعيّة لكنّها كانت تساعده على رسم صور الأمل في شرايين قلبه..
- أتمنى عودتك يا صديقي العزيز..
يغوص في أعماق الموت، يستجمع صوّر أفراد عائلته، ترّتجف مشاعره، تنسلخ روحه، يبكي بكاء النّساء، يضرب بكفيه رأسه، يبتلع حزنه، يلمح طيف ابنته، تتقطّع.. تنتحب أبوّته:
- لقد ذبحوك يا صغيرتي، تلذذوا بتقطيع رقبتك..! حرموني منك.
تدمي عيناه، ترتعش رموشها، يجلس على صخرة، يحضن وجهه بركبتيه كالمهزوم، يراقب تلاطم الأمواج.. سواد الأيّام.. قسوة الإنسان..
- لقد رأيتك أيّتها الوحوش، تغادرين باب العمارة.. بعدما ارتكبت المجزرة.
يبتعد بنظراته كمن يبحث عن مأوى الوحوش.. ينخر الحزن قلبه، يسلّم للسّماء أمره، يغادر شاطئ البحر، يعود إلى حدود ذاته، يبلغ شقّته الصّغيرة، يسافر بأفكاره حاملا حقيبة اللّحظات التّي ينفصل فيها عن عالمه.. مستشّعرا بمستقبل أمّة لن تّرحم اليابس والأخضر.
بوزريعة أفريل 2007
----------------------
*"القصبة": هي مدينة قديمة بالجزائر العاصمة، مبنية على طراز تركي وتحوي عدّة أزّقة متشعبة. وهندسة بيوتها من الخارج والداخل يعطيها سحرا يرجعك لزمان زاهر قد مضى.
"الحرّاقة": المهجرون غير الشرعيين
بوزريعة أفريل 2007
----------------------
*"القصبة": هي مدينة قديمة بالجزائر العاصمة، مبنية على طراز تركي وتحوي عدّة أزّقة متشعبة. وهندسة بيوتها من الخارج والداخل يعطيها سحرا يرجعك لزمان زاهر قد مضى.
"الحرّاقة": المهجرون غير الشرعيين
تعليق