اختلاس - قصة قصيرة
الاديب القاص محمد عزوز هو من اعلام القصة القصيرة في سورية
له اربع مجموعات قصصية كان اخرها ( حروف الدمع )الذي صدر حديثا عن دار بعل للطباعة والنشر بدمشق وله العديد من الدراسات الادبية والنقدية بالصحف الدورية بسورية
الاديب القاص محمد عزوز هو من اعلام القصة القصيرة في سورية
له اربع مجموعات قصصية كان اخرها ( حروف الدمع )الذي صدر حديثا عن دار بعل للطباعة والنشر بدمشق وله العديد من الدراسات الادبية والنقدية بالصحف الدورية بسورية
إختـــــــــلاس
قصة : للكاتب محمد عزوز
دونوا في أعلى الورقة :
التهمة : اختلاس
( لاأعرف من أين جاؤوني بهذه التهمة بعد هذا العمر .. وذاك الزمن ... )
طلبوا مني أن أكتب بياناً تفصيلياً بالمبالغ والأشياء التي اختلستها ...
دفعوا إلي بالورقة ..
كان القلم لايزال في مكانه المعتاد أعلى قميصي .. ، سحبته ، نزعت غطاءه ببعض العناء ،
كتبت :
ـ مجموعة أوراق لاأعرف عددها ، استخدمتها لكتابة أشياء لاعلاقة لها بالعمل ..
تطلع إلي أحدهم غاضباً ، فهمتُ :
ـ ثلاثون .. خمسون .. اعتبروها مئة .. ماعوناً من الورق بسعره الحالي خلال خدمة زادت عن خمس وعشرين سنة .
ـ دوِّن ذلك ..
ـ نسيت في بعض الأيام قلمي ، أخذته إلى البيت ، كتبت به أشياء هناك ، لكنني والله العظيم كنت حريصاً على إعادته في اليوم التالي ..
ـ دوِّن ذلك ..
ـ بضع مغلفات كنت أضع فيها قصاصات صحف كي لاتتلفها أصابعي المتعرقة في الطريق ... ربما أكون قد أعدت بعضها .
ـ دوِّن ذلك ..
صمتٌّ قليلاً ، حاولت أن أتذكر ..
ـ مكالمات هاتفية ... نعم .. كنت أضطر لاستخدام خط الهاتف في الحديث مع زوجتي وأولادي للإطمئنان على مريض أو نتائج امتحان .. هذا فقط منذ عشرة أعوام ليس أكثر .. قبل ذلك لم يكن لدي خط هاتفي في المنزل .
ـ دوِّن ذلك .. وقدِّر قيمة المكالمة .. نحن سنجمعها في النهاية .. الأمر يحتاج إلى آلة حاسبة .
ـ بضع حبات زائدة من مسكنات الصداع ، كنت أحصل عليها من مستوصف الإدارة ، الحقيقة أنها كانت تزيد عن حاجتي في مواسم الإستقرار النفسي ، فأقدمها لطالب في البيت أو الحي أوربما في أمكنة أخرى .. كنت أخشى أن تنتهي مدة صلاحيتها فأضطر إلى إتلافها .
ـ دوِّن ذلك بدقة ..
ـ لكنني ...
ـ ليس من الصعب وضع قيمة ما لذلك ..
حاولت أن أعصر ذاكرتي ، أن أدون أشياء أخرى ..
طال صمتي .. فلكزني مجاوري :
ـ عليك أن تدون كل شيء .. إذا لم تفعل فستوجه إليك تهمة تضليل العدالة أيضاً ..
ـ تضليل .. أنا لاأعرف كيف يضللون ، حتى توجهون لي مثل هذه التهمة .
ـ لاتتغابى الآن .. أكمل بيانك ..
لم أكن في وضع يسمح لي بحالة من الصفاء الذهني والقدرة على تذكر ( اختلاساتي ) خلال تلك المدة .. قلت متمتماً :
ـ لاأعرف .. ربما أكون قد نسيت شيئاً ما في جيبي .. فعبث به أطفالي في البيت ، ولم تعد تجدي إعادته إلى العمل ..
ـ ها .. أنت تعترف إذاً .. هذا اختلاس وتخريب .. دوِّن ذلك ..
ـ أنا لاأستطيع تدوين شيء هنا ..
ـ أكتب أي شيء .. حدد له قيمة ما ..
ـ قيمة ..!! ( يهمس لنفسه ) هي كلها أشياء ليست بذات قيمة .. أنا أرى الكثير منها في سلال المهملات ، في المكاتب المجاورة ..
ـ بماذا تبربر ... ؟
ـ لا.. لاشيء .. كنـت أحاول أن أتذكر ..
امتلأت ورقة الإستجواب عن آخرها ، طلبوا مني أن أوقع في الجزء الأيسر من أسفلها ، اعترض محقق آخر :
ـ بل خذ بصمة إبهامه الأيسر .
وقعت وبصمت ، وأعلنت بصوت عالٍ :
ـ أنا مقر باختلاساتي تلك ومسؤول عنها ، فافعلوا بي ماتشاؤون ..
صاح كبيرهم :
ـ هذا ليس من شأنك .. الأمر متروك لذوي الشأن ..
في الزنزانة .. تذكرت أشياء أخرى ، طلبت ورقة كي أدونها فيها ، سخر مني السجانون المتعاقبون على حراستي ، صرخت بأعلى صوتي ، رق أحدهم لبحة الألم في صراخي :
ـ لن يفيدك الأمر شيئاً ، لماذا لم تذكر ذلك في حينه ..؟ أمرك في يد القضاء الآن ..
ـ هناك اختلاسات أخرى لم أذكرها في الإستجواب ..
لاح برأسه ساخراً ، وتركني ..
أدمنت الصراخ ـ الصمت ، وصلتني قهقهات السخرية من الممرات العفنة ، ولم يفعل أي كائن في هذا العالم شيئاً من أجلي ..
مضى زمن ما ، لم يكن باستطاعتي معرفة مقداره أو تفاصيله ، كنت أنتظر فيه أن يحدث ذاك الشيء ..
جاء في النهاية رجلان ، وضعا قيداً في معصمي ، سألت :
ـ إلى أين ...؟ هل فرجت أخيراً ..؟
ـ ( موشغلك )..
أخرستني حدة الجواب ..
دفعت إلى داخل قاعة المحكمة ، إلى زاوية فصلتني فيها قضبان حديدية عديدة متقاطعة عن تجمع بشري آخر .. عرفت بينهم بعض أهلي وأقاربي ..
وبدأت أسمع أشياء كثيرة ..
يقف كبير القضاة ، يعلن بعد مقدمة كرر فيها لائحة اتهامي :
ـ حكم عليه بالسجن ....
لم أسمع المدة ، ولم أسمع قيمة الغرامة ، لكنني عرفت أن قيمة تلك الأشياء التي وقعت وبصمت عليها في بيان الإستجواب كانت كبيرة جداً ، لاتغطيها قيمة مواسم الحنطة في حواكير قريتنا جميعها .
بكى بعض الحضور واقتربوا مني ، عرفت وجوه ، وتجاهلت أخرى ..
وفي اليوم التالي .. غطوا صفيحة طعامي ، وعلى غير العادة ، بقصاصة من صحيفة ، استطعت أن أرى صورتي فيها مقيد اليدين ، وقد كتب تحتها بخط أسود عريض :
في إطار تفكيك شبكات الفساد في مؤسسات القطاع العام
إنهاء قضية اختلاس كبيرة في البلد ...
التهمة : اختلاس
( لاأعرف من أين جاؤوني بهذه التهمة بعد هذا العمر .. وذاك الزمن ... )
طلبوا مني أن أكتب بياناً تفصيلياً بالمبالغ والأشياء التي اختلستها ...
دفعوا إلي بالورقة ..
كان القلم لايزال في مكانه المعتاد أعلى قميصي .. ، سحبته ، نزعت غطاءه ببعض العناء ،
كتبت :
ـ مجموعة أوراق لاأعرف عددها ، استخدمتها لكتابة أشياء لاعلاقة لها بالعمل ..
تطلع إلي أحدهم غاضباً ، فهمتُ :
ـ ثلاثون .. خمسون .. اعتبروها مئة .. ماعوناً من الورق بسعره الحالي خلال خدمة زادت عن خمس وعشرين سنة .
ـ دوِّن ذلك ..
ـ نسيت في بعض الأيام قلمي ، أخذته إلى البيت ، كتبت به أشياء هناك ، لكنني والله العظيم كنت حريصاً على إعادته في اليوم التالي ..
ـ دوِّن ذلك ..
ـ بضع مغلفات كنت أضع فيها قصاصات صحف كي لاتتلفها أصابعي المتعرقة في الطريق ... ربما أكون قد أعدت بعضها .
ـ دوِّن ذلك ..
صمتٌّ قليلاً ، حاولت أن أتذكر ..
ـ مكالمات هاتفية ... نعم .. كنت أضطر لاستخدام خط الهاتف في الحديث مع زوجتي وأولادي للإطمئنان على مريض أو نتائج امتحان .. هذا فقط منذ عشرة أعوام ليس أكثر .. قبل ذلك لم يكن لدي خط هاتفي في المنزل .
ـ دوِّن ذلك .. وقدِّر قيمة المكالمة .. نحن سنجمعها في النهاية .. الأمر يحتاج إلى آلة حاسبة .
ـ بضع حبات زائدة من مسكنات الصداع ، كنت أحصل عليها من مستوصف الإدارة ، الحقيقة أنها كانت تزيد عن حاجتي في مواسم الإستقرار النفسي ، فأقدمها لطالب في البيت أو الحي أوربما في أمكنة أخرى .. كنت أخشى أن تنتهي مدة صلاحيتها فأضطر إلى إتلافها .
ـ دوِّن ذلك بدقة ..
ـ لكنني ...
ـ ليس من الصعب وضع قيمة ما لذلك ..
حاولت أن أعصر ذاكرتي ، أن أدون أشياء أخرى ..
طال صمتي .. فلكزني مجاوري :
ـ عليك أن تدون كل شيء .. إذا لم تفعل فستوجه إليك تهمة تضليل العدالة أيضاً ..
ـ تضليل .. أنا لاأعرف كيف يضللون ، حتى توجهون لي مثل هذه التهمة .
ـ لاتتغابى الآن .. أكمل بيانك ..
لم أكن في وضع يسمح لي بحالة من الصفاء الذهني والقدرة على تذكر ( اختلاساتي ) خلال تلك المدة .. قلت متمتماً :
ـ لاأعرف .. ربما أكون قد نسيت شيئاً ما في جيبي .. فعبث به أطفالي في البيت ، ولم تعد تجدي إعادته إلى العمل ..
ـ ها .. أنت تعترف إذاً .. هذا اختلاس وتخريب .. دوِّن ذلك ..
ـ أنا لاأستطيع تدوين شيء هنا ..
ـ أكتب أي شيء .. حدد له قيمة ما ..
ـ قيمة ..!! ( يهمس لنفسه ) هي كلها أشياء ليست بذات قيمة .. أنا أرى الكثير منها في سلال المهملات ، في المكاتب المجاورة ..
ـ بماذا تبربر ... ؟
ـ لا.. لاشيء .. كنـت أحاول أن أتذكر ..
امتلأت ورقة الإستجواب عن آخرها ، طلبوا مني أن أوقع في الجزء الأيسر من أسفلها ، اعترض محقق آخر :
ـ بل خذ بصمة إبهامه الأيسر .
وقعت وبصمت ، وأعلنت بصوت عالٍ :
ـ أنا مقر باختلاساتي تلك ومسؤول عنها ، فافعلوا بي ماتشاؤون ..
صاح كبيرهم :
ـ هذا ليس من شأنك .. الأمر متروك لذوي الشأن ..
في الزنزانة .. تذكرت أشياء أخرى ، طلبت ورقة كي أدونها فيها ، سخر مني السجانون المتعاقبون على حراستي ، صرخت بأعلى صوتي ، رق أحدهم لبحة الألم في صراخي :
ـ لن يفيدك الأمر شيئاً ، لماذا لم تذكر ذلك في حينه ..؟ أمرك في يد القضاء الآن ..
ـ هناك اختلاسات أخرى لم أذكرها في الإستجواب ..
لاح برأسه ساخراً ، وتركني ..
أدمنت الصراخ ـ الصمت ، وصلتني قهقهات السخرية من الممرات العفنة ، ولم يفعل أي كائن في هذا العالم شيئاً من أجلي ..
مضى زمن ما ، لم يكن باستطاعتي معرفة مقداره أو تفاصيله ، كنت أنتظر فيه أن يحدث ذاك الشيء ..
جاء في النهاية رجلان ، وضعا قيداً في معصمي ، سألت :
ـ إلى أين ...؟ هل فرجت أخيراً ..؟
ـ ( موشغلك )..
أخرستني حدة الجواب ..
دفعت إلى داخل قاعة المحكمة ، إلى زاوية فصلتني فيها قضبان حديدية عديدة متقاطعة عن تجمع بشري آخر .. عرفت بينهم بعض أهلي وأقاربي ..
وبدأت أسمع أشياء كثيرة ..
يقف كبير القضاة ، يعلن بعد مقدمة كرر فيها لائحة اتهامي :
ـ حكم عليه بالسجن ....
لم أسمع المدة ، ولم أسمع قيمة الغرامة ، لكنني عرفت أن قيمة تلك الأشياء التي وقعت وبصمت عليها في بيان الإستجواب كانت كبيرة جداً ، لاتغطيها قيمة مواسم الحنطة في حواكير قريتنا جميعها .
بكى بعض الحضور واقتربوا مني ، عرفت وجوه ، وتجاهلت أخرى ..
وفي اليوم التالي .. غطوا صفيحة طعامي ، وعلى غير العادة ، بقصاصة من صحيفة ، استطعت أن أرى صورتي فيها مقيد اليدين ، وقد كتب تحتها بخط أسود عريض :
في إطار تفكيك شبكات الفساد في مؤسسات القطاع العام
إنهاء قضية اختلاس كبيرة في البلد ...
تعليق