رواية السماء تعود الى اهلها / وفاء عبدالرزاق

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • وفاء عبدالرزاق
    عضو الملتقى
    • 30-07-2008
    • 447

    رواية السماء تعود الى اهلها / وفاء عبدالرزاق

    السماء تعود إلى أهلها
    وفاء عبد الرزاق


    رواية
    الطبعة الأولى

    ------------------
    مدخل


    على مشارف الريح افتقدنا الخطى، اتسع غبار المسافة، تبعنا شرطيّ إلى مرايانا، يلوّح لنا مبتهجاً بعتمتنا، زحف ألم الدقائق على أجسادنا، فغدونا مثل وطن يبحث عن قلب أوعن اتجاه للنهار، وطوّق الصليب صدورنا......... الحقائب لم تزرّر قمصانها، بقيت ظلالنا وحيدة كأمنية بأعقاب السجائر، والرحيل طارد أشجارها.

    وفاء

    --------------------

    إهداء:


    قلبٌ يسكنهُ الفـقـرُ
    قلبٌ تسكنهُ المدينـةُ
    قلبٌ تسـكنهُ الفـأسُ
    سكني بهذا الثقب
    ..........
    أيها الصاعق سآوي إليك

    و
    ف
    ا
    ء

    التعديل الأخير تم بواسطة وفاء عبدالرزاق; الساعة 25-08-2010, 12:43.
  • وفاء عبدالرزاق
    عضو الملتقى
    • 30-07-2008
    • 447

    #2
    فصل
    غصن تدلـّى من إطار
    ما تكون الذاتُ التي تحيا في آنٍ ضحيةً وجلاّداً؟؛

    (أدونيس)

    ----------------
    1

    تلمّستْ خاتمها، أطبقت يداً على يد، تجوّلت عيناها في كل أرجاء المعرض، تقادحت يداها كشعلة أوقِدت للتو، حرارة الكفين لم تجد الباب يُفتح على مصراعيه، شارحاً مفسراً ولو باختصار عن سبب تسمية إحدى اللوحات انبهروا بدمعة حائرة في عينيّ المرأة، استوقفه أحد المعجبين: إنها اكتمال النضج.
    - اسمح لي أطرح عليك بعض الأسئلة إن أمكن .
    وليد: بكل سرور.
    - أسئلـــتي عن ســر الدمعة، أهي دمعة فرح أم حزن، لقاء أم وداع؟ أم مدينة لم تجد من يكتشفها؟
    كلمات الرجل أعطت لروح وليد جناحين حلاّ وثاق قلبه المرتبك في لحظة عصيبة حرجة، ها هي حواء تحتلّ الصدارة، بهذا الحماس يقف متفرجاً أحياناً ومبتسماً ابتسامة المتفائل، ريشته ما عادت تسخر منه، قدرته في استيعاب اللمسة الأخيرة التي رسمتها بفطرتها سمراء اللوحة، رعشة النظرة المتوسلة بحبيب يجهل أضاميم باقات العشق، قولها له تعال وعش معي في كوني وهواي ، كل هذا يعني أن ريشته موج أناشيد من غزل ٍ ، ترجمت صمتاً تعرّق في ملامح امرأة ذات جمال خاص، إنه صمت رباني يتهدّج داخل الروح.
    نظرتها المحدّقة إلى المجهول كما لو أنها مغروسة بنار، خطـّت كحلتها ريشةٌ صدّاحة على مسرح التكوين، حين يرى معجباً بمحبوبته الشقراء ، يرشفه لهب الجســـــد، هاجـــــس الفوز يزيده توهّجاً، يزوّق تفاصيله شارحاً حالات انفعالاته ومعاناته ساعة متعة جنونية. جنون بلا حدود يملؤه بكلمة إطراء لصورة الشقراء.
    لوحة البحر تدفأت بزرقتها، أطبق الموج أجفانه وصفا في هدأته.. حين قال (غارسيا لوركا) مرة : (حتى البحر يموت)؛ لم يعرف أن وليداً أعطى جناحاً لكل رملة، وجعلها تحلـّق حول روح البحر كي لا يموت. هي أيضاً توقفت طويلاً عند اللون الأحمر، وميّزت بين اللون الذي شربه القماش واللون الذي امتزج البارحة، امرأة في نهاية الأربعين، شعر متوسط الطول، قامة بين الطول والامتلاء، ترتدي ملابس محتشمة، تحمل بيدها حقيبة رمادية، تستخرج منها قلماً ودفتراً صغيراً تدوّن عليه ملاحظاتها بين الفينة والأخرى.
    تخطو متباطئة، تصفو نظراتها، ثم تشوبها لحظة غموض، تنصت لمجادلات الزائرين .
    ـ هذا الفنان لم يقلّد الطبيعة كما هي، بل جنّد الطبيعة كلها لمنطقه، ليصرخ من خلال الطبيعة ذاتها ولتسبق الزمن صرخته المدوّية، في حركة البحر من تلك الزاوية يصوّر انفعالاته، يجوز لنا تسمية لوحة البحر هذه لوحة رواسب أعماقه، أعماق الأستاذ وليد.
    احتفظت برأيها الخاص، ولم تنخرط في الكلام معهما، كانت ترى ذات الرداء الأحمر كغصن تأرجح من إطار.
    تجمَّع بعض الأصدقاء حول وليد، استجابوا لدعوته بعد طول غياب واحتجاب عن الأنظار، صديــــــق قديم قبّله على جبينه، عانقه بقوة وحرارة،
    تنافست ثلاث نساء على عزلة نجمة في سماء لوحة (الوجوه الأربعة). قالت إحداهنّ :
    - إنها تمثل حالة الفنان، سمعت أنه منزوٍ لا يخالط أحداً حتى أقرب أصدقائه إليه.
    ردت عليها الأخرى :
    - عندما نعجز عن مواجهة الحقائق ننزوي مختبئين وراء لوحة أو قصيدة أو موقف بشجاعة كاذبة. ليس للفنان حق التقوقع على نفسه أو يجلس في غرفته يعدّ على أصابعه سنين عمره، الفنان مَن تعايش وأعطى.
    سمعهنّ عن بُعد، وابتسم في وجه السيدة بعد أن تبسّمت بدورها. رفع يده بالتحية المعهودة لديه، إذ يهزّ كفـّه ثلاث مرات متتالية معبّراً عن ودّه.
    عاشقان يحتضنان بعضهما أثارا انتباه الجميع، شاب إنجليزي وفتاة عربية، التفّ ساعده حول خصرها مداعباً وسطها، تمادت يده وامتدّت إلى مفرق الورك. ألصقت ظهرها ببطنه وصدره، وتابعا خطوهما الجذل بين تجمهر المعجبين وعدسات المصوّرين.
    موعد للشوق ومساحة للروح، لقاءات خارج البيت، خارج الترقّب. إلتصاق جسدها بجسده أثار فضول العرب، خاصةً من لهم علاقة بأبيها. امتدّت يد الشاب داخل التنورة القصيرة، دنت من صورة ذات الرداء الأحمر، ارتجّ صدرها في قميص فضح الحلمتين. رقبتها السمراء امتدّت كجسر، فرّقت بين أصابعها المطليّة بصبغ لامع و مسّدت شعر الصورة.
    شاركهما وليد نظرات الإعجاب، كان يبدو أحياناً على بلاهــــة وذهول وكأنه يقول: من أين جاء كل هؤلاء؟
    عيناه تشوبهما لمعتان رماديتان، الإنهاك الشديد خطف بريقهما، بشرته مالت إلى الصفرة، فنان مهجور، غائر في جدب أيامه، ليس في حصيلته غير أيام طفولته العالقة بمخزون الذاكرة، إلى قربها نافذة معطـّلة بانتمائها الحزبي. الكلمات تحتاج اختراعاً وإعادة نظر في القواميس لتعيد إليه ما سُرق منه وما فاته من وقت.
    العمر لا يُعدّ بالسنوات، بل باللحظات الفاعلة.
    التعديل الأخير تم بواسطة وفاء عبدالرزاق; الساعة 25-08-2010, 12:44.

    تعليق

    • وفاء عبدالرزاق
      عضو الملتقى
      • 30-07-2008
      • 447

      #3
      2
      في رائحة الزيت الممزوج بألوانه كان يشمّ رائحة أبيه (بائع النفط) مما كان يضطرّه أحياناً إلى السير في طرقات مدينة الناصرية خلف أبيه، خارج براءة الطفولة ونعومة أظفارها، وقد امتلأت يداه بالنفط حتى يبستا وتقشّرت جلدتهما وخشنت.
      طفل لم يبلغ العاشرة، تعلـّق بخضرة النخيل والأغاني الشجية، يرسم بأصابعه في استراحتة القصيرة كل الصور التي مرّت أمامه. ماء النهر يتركه ينام في مخيلته، يحفر بسبابته على تراب الأرض أعذاق النخيل، عربة أبيه، صورة الحمارة وهي تجـرّ العربة، ابنة الجيران"علية"، كانت تحب البلح كثيراً لذا يرسمها وشمروخ بيدها.
      انتقل إصبعه من التراب إلى القلم، تأخر في دخوله المدرسة، الفقر يحول دائماً دون تحقيق الرغبات إلا أنه يفجر الإبداع. أول صورة رسمها على سبّورة المدرسة لـ (عبد الكريم قاسم)، كان ذلك في الصف الرابع الابتدائي، ولبراعة الطفولة وقصر التجربة صفّق معلم الصف، وصفق التلاميذ معه.
      يخلو إلى لوحاته في غرفة المرسم، فيجد أنه يحدّث البياض. يترك الريشة من يده ويهيّئ نغمة بيضاء، وفي مساحة قماش أبيض يقرأ بداية لون جديد، كلما شاهد مكاناً أبيض رسم عليه، عادة اكتسبها في السادسة عشر من عمره، في أول يوم لتنظيمه في الحزب الشيوعي، تعلّم ملء جدران البيوت والدوائر بالشعارات، يخطّها بقلم الطباشير الملوّن.
      حين اشتدّ عوده وقوي، أصبحت مناوبته في المساء، (سطل بويَـه)، وفرشاة، بأحــــلام بيضاء، كما تعـــــود حين يتجول ليلاً ليعدّ أعمدة النور في الشارع الرئيسي وفي الشوارع الفرعية لقياس المسافات والالتحام بهمس الذكورة. مراهقته ونضج شاربه هيّـأه لترقيع نعله بيديه.
      قفز إلى خاطره هاجس مفاجئ،" الفنان يخلـّد التأريخ، أم التاريخ هو الذي يخلـّد الفنان؟" فوجدهما يعملان على استنزاف بعضهما!
      على مرأى من الجميع قبّلت عشيقها متحدية تقاليدَ وقيماً تظنها مهترئة بالية. لا شك أنها تنتقم من أبيها الذي هجرها وأختها في حضن أم عزلاء، إحساسها بالجنس وممارسته في إحدى حدائق لندن. شاهد وليد من خلال ساقها جمال المرأة العربية وامتلاء فخذيها. كان هارباً ذات يوم من غول الوحدة ملتجئاً إلى الـ (هايد بارك)، بين الأعشاب رآها مبلـّلة بشبقها، جف العِـِرق العربي في وريده، وشعر به كعملة خاسرة، تذكر القضبان وكم كفن مرّ على حديده وكم لحد غرق فيه.
      وقتها أغمض عينيه واستلّ ورقة من جيبه وقلماً، وراح يرسم على مساحة الورقة الصغيرة رجلاً مبتور الأطراف راقداً قرب شجرة في الـ(هايد بارك)، لسعه لسان الإنجليزي وهو يتلمّظ حول شفتين غليظتين.
      استرجع الشهية الأنثوية، شوك عذب، وخز لذيذ صعد إلى مسامه.. صعد السطح، ببطء رفع رأسه من جدار السطح، شاهد (علية) نائمة، ملتحفة شرشفاً أبيض من رأسها حتى أخمص قدميها.
      أعاده ضوء الكاميرات إلى واقعه، شمّ رائحة فحيح يملأ المكان، عاد لرفقة الصمت. اهتزّت الرؤوس طرباً لسماع صوت أغنية عراقية رغب أن ترافق زمن العرض.. (أنا وخلـّي تسامرنه وحكينه ).. اهتزّ هو أيضاً، اقترب من ذاته وتجمّع ماء النهر على شكل أقواس يلامس أرضه، لام غفلته على تواطئها مع الزمن، ارتجفت يده اليمنى ورعش شيء تحت قميصه وصوّبه نحو القلب، شمّ رائحة تعفـّن يده اليسرى.
      التعديل الأخير تم بواسطة وفاء عبدالرزاق; الساعة 25-08-2010, 12:45.

      تعليق

      • وفاء عبدالرزاق
        عضو الملتقى
        • 30-07-2008
        • 447

        #4
        3
        في وقت تعفـّنت فيه أعمدة الضوء التي مازال يتذكر سيرها خلفه ترسل شعاع نورها على كتفيه، تراقص أنغاماً خاطئة على فوانيس الطرقات، وتسكّعِ النغمِ الخاطئ في كل أحياء بغداد، وأصبح كومة مزبلة تجول في شوارع العراق. المزبلة ذاتها أرسلت طبيبها لبتر يده اليسرى بعد أن اهترأت وتمزّقت حدّ التعفـّن، في زنزانته الضيقة التي بالكاد كان يرفع رأسه فيها.
        ارتفاع الزنزانة لم يكد يصل حدّ رأس رجل قزم، وفي التعذيب الجماعي كان يستردّ قوته من الآخرين، من إنهاكهم وتهشّم أضلاعهم. لكن في التعذيب الانفرادي، وهو معصوب العينين وموثق اليدين والقدمين، كانت تمتدّ عصا غليظة بين الوثاق، فتبرز عقيرته على شكل كرة لحمية عارية، تسيل الدماء من دبره، يسحّ الشحم فوق دمه بعد تمزّق الأحشاء. بقي ثلاثة أيام غائباً عن الوعي، وحين استرد وعيه زعق زعقة هزّت أركان السجن. تحركت الأصفاد وتقلـّبت بتقلـّبه، فرح شرطي جاء إثر زعقته، لمظ لسانه وهو يتابع وليداً الفزِع في السواد والزرقة والتورّم وتفحّم أصابع يسراه بعد اقتلاع الأظافر منها.
        قرار الطبيب بالبتر، عطيّةٌ من عطايا القائد في الإبقاء على جسده حياً واستئصال ما تعفـّن منه*
        على حذر، دخل وفد صغير من ثلاث نسوة وأربعة رجال. رصانة إنجليزية، ابتسامات هادئة، هزّ رؤوس هادئ، يستطيع أن يكوّن فكرة عن منبعهم الثقافي من خلال ارتفاع الياقات البيضاء وانخفاضها، كم حلُم أن يرى الوفد الصغير هذا يهزّ ياقاته إعجاباً أمام إحدى لوحاته في (المعرض الوطني) في العاصمة لندن.
        رجلٌ صامت غارق في حفرة دون ماء، عاد له الماء ثانية وتلمّس أرضه، عرِقَ، غاب، سكنَ، بينما الرجل الذي دخل معه ساعة تغليف اللوحة ظلّ طوال الوقت بسؤاله الحائر على شفتيه، يقف صامتاً مستغرقاً في صمته كلما شاهد زائراً جديداً شدّته ذات الرداء الأحمر.
        ابتهج لاقتراب السيدة إليه واختراقها توحّده بدمعة حيّرت الحاضرين، وهو يرتشف نظرتها حادثته السيدة:
        ـ بلغ الفنان أوج اللذة حين تسرّب إليه دفء الجسد البضّ، حالة زنبقية بين أنثى وريشة وإيقاع لون وخبز احتواء، ثم استطردت:
        - هل سبق لكَ أن مشيت حافياً كي لا توقظ امرأة نائمة؟
        تفاجأ لسؤالها، عدّل ربطة عنقه، بلع ريقه، تبيّن له أنها من النمط الذي يحب أن يتثاقف أمام المثقفين، كوّن فكرته هذه بسبب صديقة له تزوره، تسمع أقواله وأحاديثه عن الثقافة وتضيف عليها فرادتها بمعلومة تتباهى بها أمام نساء عقيمات مثلها، ومما يضحك في الأمر، أنها تُعيد على مسامعه الحديث ذاته، لكن بشكل آخر، تخلط بين الجهل وما تدلي به على أنه فكرتها أو رأيها. لكن بعد لحظات من تبادل الحديث تيقّن أنها من الشكل الآخر، ذات خلفية ثقافية وجرأة في طرح الرأي والموقف.
        سؤال جديد صدر منها أزاح عنه غمّ صديقته الرعناء:
        - أليست المرأة أسطورة حين تتزعم الفنون؟.
        واصلت حديثها دون أن تنتظر الجواب:
        - يجب أن يسجّل الجمال قبل أن يذبل تحت وطأة السنين، فليس أقدر من ريشة الفنان على تحدّي الزمن.. انظر، انظر لذات الرداء الأحمر، خرساء ناطقة تتحدى الفناء... لم تدرِ (فيكتورين مورنييه) عن دورها الإنساني حين وقفت عارية أمام الفنان، إنه التعرّي الذي يصنع الجمال ويسمونه بالغرائز. لو رأت (الموناليزا) الطوابير المتوافدة على متحف (اللوفر) لما اتسعت الدنيا لفرحتها.
        أجابها مشدوداً لحديثها : جذوة الريشة التي يشعّ منها النور لا تنطفئ.
        انسجاما مع حديثهما الشائق، بدّد وليد صمته وشارك في الاستماع والحديث، أجاب دون أن يسأله أحدهم:
        - وبقينا نرسم بيد واحدة.
        ليس من المصادفة أن ينقاد المبدعون إلى بعضهم، انتعشت الأحاديث بفيض ثقافي، وفيض المطّلع تقلقه حيرة عن قيم موروثة وقيم يحاول أن يتعايش معها.
        قالت: لقد أثبتت الروائع الفنّية أن وراءها مجهولين احترقوا من أجل أن يتوحّد الجمال.
        كانت واثقة من نفسها، تطرح آراء ذات قيمة حين واجهته:
        - سيد وليد، هل بمقدور الفنان العربى أن يتخذ من زوجته موديلاً؟ أم سيبقي حصراً لانفعالاته المؤقتة؟ محاطاً بهالة من التبجيل الذكوري؟.
        أجابها وعيناه على أول زائر: المعادلة صعبة يا..
        ـ اسمي راوية.
        ـ تشرفنا سيدة راوية. مازلنا بين الشدّ والجذب، ومازلنا في مرحلة بتر الأطراف. نحن بحاجة ماسّة للتخلـّص من تراكمات كثيرة، ومازال حاضرنا يضيف تراكماته حتى صرنا رتل تراكمات أقرب إلى الرنين.. أنا مثلاً خير مثال.. (صمت).. معذرة هناك زائر جديد.
        شعرتْ بإحراج الوقت و ورطته مع رجل معتدّ بذاته، رغم أنَفَته كان يدور حول نفسه متوسلاً أنثاه أن تخرج من إطارها. ابتلعت راوية وقارها، وتحرّشت به:
        ـ كلانا له شيء يفتقده، غنوة، صديق، حبيبة، امرأة نطاردها مثلاً. بكلمة امرأة اختصرت عليه الطريق، أجابها:
        ـ أنا أنشد امرأة تملك جمال الكون نسيت فردة حذائها.
        مدّ يده في كيس يحمله طوال الوقت، واستخرج حذاء:
        - حذاء أدفع عمري من أجله.
        ضحكت راوية، وراحت تخاطبه بلغة مأزومة، لتُكمل حول ما يدفع عمره كله من أجله:
        ـــ ندفع عمرنا من أجل حذاء، ومن أجل حذاء دفع أجمل شباب بلدنا أعمارهم، كما دفعتها أنا من قضيتي.. إرمِ الحذاء عنك، صاحبته لن تعود.
        كاد أن يقفز عليها ويحتضنها.. نسى أنه في مكان عام، صاح بأعلى صوته:
        ـ هل تعرفينها؟ وضغط على ذراعيها.
        ـ عيناء.. وكلّ الحياة التي تدور حولنا، زخارف على السطور.
        أربعة كراسٍ متفرقة تأخذ أركاناً متباعدة، جرّته من يده، جلســـت على أحد الكراسي وطلبت منه إحضار كرسي له:
        - أنت يا محمود مشحون بالذكريات .
        قاطعها:
        - وتعرفين اسمي أيضاً؟
        - أجل.. وأراك الآن تريد مزيداً من الإيضاح.
        لم تدعه يجيب بنعم، تابعت حديثها:
        - أنا أيضاً مشحونة بالذكريات.. أكشط عن أوراقي كلمات قديمة، وأكتب ذكريات أحبّ إلي من كل أحبار الحروف وأقرب إلى نفسي، تفضل لنجلس، سأبدأ من كلمة كنتُ.
        التعديل الأخير تم بواسطة وفاء عبدالرزاق; الساعة 25-08-2010, 12:46.

        تعليق

        • وفاء عبدالرزاق
          عضو الملتقى
          • 30-07-2008
          • 447

          #5
          4
          - كنتُ في ميوع الزهرة، أحب الجميل في أحلى الأشياء، في الناي، في الربابة، أعشق الناي حدّ الجنون، فالناي صوت نفَس العازف، ألمه المباشر، لا يمرّ على وتر ويقرع طبلاً.. أحب المطر، منذ الطفولة وأنا عاشقة للمطر، وكانت عيني أوسع من واقعها، ومن أجل الجمال قيّدتُ العماء بربطة عنقه، أطلقت عصفوراً كتبت على جناحيه وصاياي، وقرأت في لوحي عن حسناء لم يتعرّف عليها حلمها ، ولم تمتطِ نجمة في سماء الخيال ،سمعتُ من جدّتي عن مصباح علاء الدين، فصرتُ مصباح نفسي، أسند جداري على جداري، وأتخذ لي موقعاً في الحياة. تمرّدت على سماء الشرق الرصاصية وعلى حواجز تمنع توهّجي، أصغيت لصوت الإنسان بداخلي، وقطّعت خرقة أسمال بالية التصقت بي.
          تبنّيت فكرة النهوض من العتمة حين ناشدت نوافذ جديدة، حساباتي كانت في الموقع الخاطئ أو بالأحرى لم يتركونا نحسبها بشكل صحيح، مثلما لم يتركوا لنا أصواتنا. تصوّر.. أنا الآن أزعج صوتي وأقول له؛ تحمّلني أيها الأبله، بلا منطق أتمنطق*
          فوجئتْ به يروي آلاف السنين في نظراته، استمرّ يتطلـّع في وجهها لخمس دقائق كزمن، فيلسوف يستطلع ما وراء نظرة سيدة قلـّما يجد مثلها بين نساء مررن بحياته، في نظرته لها شهوانية غريبة، اضطربت لرجولة لمعت في عينيه.
          شمّت رائحة أنوثة فيها أرجعتها إلى فخ القـُبلة الأولى ساعة هروبها من المدرسة بأمنياتها البسيطة و تنورتها الزرقاء. جرّت قميصها الأبيض إلى الداخل ليبدو أكثر التصاقاً بجسدها ... كانت الشمس شيطانة والأرض يؤلمها حفيف الأشجار، بذات الحفيف اهتزّت وتعرّفت على إله غريق بين الشفة والشفة، بقبلة كانت لها.
          دارت نصف استدارة تقيس مساحة الفراغ الذي يباعد بين الفتاة وحبيبها، لم تجدهما، غادرا القاعة وتركا رغبتهما محبوسة في شفاه الرجال.
          بحلول وقت الغذاء، تناقص عدد الحضور، اعتبر وليد أنّ الزمام بيده وأن أمامه فرصة للتعرف أكثر على السيدة راوية، سحب بدوره كرسياً ثالثاً وقابلهما في جلسته، ثم وجّه سؤالاً للسيدة:
          ـ أي لوحة أعجبتك؟ يهمنى رأيك.
          أجابت: لوحة البحر، ولوحة المرأتين.
          استذكرت شيئاً طارئاً:
          ـ إنها اللوحة الوحيدة دون اسم:
          - ألم يطلق عليها الجميع اسمَ لوحة الرداء الأحمر؟
          - لم يجبها منتظـراً جواباً لسؤالها، حين تابعت:
          - المهم أنتَ أولاً، أنتَ خالقها وخالق اسمها.
          - قالت ذلك، وحرّكت يديها ارتباكاً.
          شاركها ارتباكها:
          ـ بصراحة، لم يسعفني الوقت. لقد جئتُ بها صباحاً، وسأنقش عليها اسم تناغم.
          تدخّل محمود: أي تناغم تقصد؟،. إنهما امرأتان مختلفتان كليّـاً.
          ـ عفوك سيدي، قلتَ لي أن اسمك محمود، أم أنا مخطئ؟.
          ـ لا.. لستَ مخطئاً.
          ـ أقصد تناغم الثوب الأزرق مع الشعر الأشقر، كيف ينسجم اللونان ويتناغمان مع جسد رشيق.
          ـ اعذر لي جرأتي أخ وليد، أنت فنان، والفنان مرهف الحس، لكني أجدك لا تدرك بهجة دمعة مشبّعة بالملح وحارقة ومتورمة بالحزن، إنها عصارة ألم وفرح وحزن ولقاء ووداع.. أم لم تلحظ دمعة السمراء؟ والانسجام الذي تحدثت عنه أراه في انسياب الشعر الأسود المتماوج على المنكبين .. أنتَ رسمتَ دواخل نفسك.
          ـ ما هو الاسم الذي يليق بها في رأيكٍ..؟ سيدتي راوية..؟؟.
          ـ أفضل أن تظل اللوحة بلا اسم.. أو لربما سأجد ابناً من أبنائي على ورق لستَ فيه، يكون أكثر التحاماً بدمعة محيّرة، يطلق عليها اسمها القادم.
          عقد حاجبيه تساؤلاً واستغراباً:
          ـ أتقصدين أننا حبرٌ على ورق؟.
          ـ بل مجرد صور تعبر في مرآة الحياة.
          أشارت إلى ذاتها والى الجميع: - نعم إننا حبر على ورق، ولا حبر ولا ورق.
          ـ أهذا لغز؟
          ـ سمّهِ ما تشاء.
          قال وليد: لغزي الأول رسمتـــه في الصف الــــرابع الابتدائي، صورة لعبد الكريم قاسم، وصفّق الصف كله لوليد فنان المستقبل. تحدثت معه كثيراً، لم يسمعنى رغم كبر أذنيه. وآخر الصور كانت لمومس نصف عارية، نصف يعرض بضاعته ونصف تغطى بأخطائه، لا تكتمل الرجولة إلا بالجنس.
          قالت السيدة: لستَ وحدك من يكمله الجنس.
          واستدارت تقول لمحمود:
          - لي صديق شاعر، يقولب طاقاته الجنسية إلى نتاج فني، يكتب بالتماع الرغبة، إنه لا يختلف عن أي شاعر جاهلي. انظر يا سيد محمود، لقد رسم وليد امرأة أخرى عارية تماماً، لولا الشال الذي اختنق بين نهديها، وارتخت أطرافه على أسفل البطن :
          - هل أنت الشال يا وليد؟
          انقطع الحديث فجأة ، حين انتبهوا إلى رجل فارع الطول، عرفوا من هيئته وملابسه أنه من أصحاب الأموال. فتح زراً بجيب سترته الداخلي، استخرج دفتر صكوكه ملتزماً بأدب الارستقراطيين، انحنى باتجاه وليد مستفسراً عن ثمن لوحة أشار إليها.
          تلعثم وليد بردّه:
          - عذرك، هذه ليست للبيع. إن رغبتَ بصور النساء العاريات، فأرشّح لك لوحة (عبث الحرير).
          لم يرق الجواب للرجل، وبكلمات معدودة ولباقة شكر وليداً، واستدار ليتفحّص عبث الحرير.
          على مــــدى وقفة امتـــــدت ربع ساعة أمام جسد عارٍ لامرأة تكشف عن مفاتنها ، عاد إلى وليد ثانية، نفث نفثة طويلة من سيجاره تغلـّب بها على صمته؛ بادر بوضع الثمن وهو يردّد:
          ـ ثلاثة آلاف جنيه، أهذا يكفي؟
          أجرٌ ليس له نظير بالنسبة لوليد، ها هو يقبض أجر سهره وتعبه، سعر لم يحلم به، وافق على الفور. عندها وقّع الرجل الثري صكاً، وقدّمه إليه قائلاً:
          ـ سآتي لأخذها بعد أسبوع.
          لحق به وليد مسرعاً، حين لاحظه يهمّ بالخروج:
          ـ سيدي العرض ليوم واحد، اليوم فقط، أعطني العنوان وسأوصلها بنفسي.
          ـ لا داعي، سآتي لأخذها غداً، شكراً.
          رجع إلى جلسائه منتشياً، ومتفاخراً بالرجل الذي لا يعرفه:
          ـ إنّ شخصاً مثل صاحبنا على درجة من العلم والفن كان خليقاً بلوحة أدمت أصابعي، يا سيدة راوية.. اضطراب أعصابي تجدينه في كل جزء منها.
          ـ هذا يعني أن اللون الأحمر هو لون أعصابك على ثوب عيناء.
          ـ مَن عيناء؛؟،.
          أجابت: أقصد ذات الرداء الأحمر.
          ـ اللوحة هذه هي روحي، عليها استعرضت كل حياتي، أتظنين أنها مجرد لوحة؟. الحب في لوحات العشاق رسالة للعاشقين.
          أجابته متبرّمة:
          - رسمت امرأة واحدة أحببتها، وتقول دمى واضطراب أعصابي، ماذا لو أحببتَ سبع نساء مثل بيكاسو بأفكاره المتمردة والمتطرفة، هل تتطاير أعصابك بالمقلوب؟ وأكملت:
          - في حياة كل فنان امرأة واحدة وعدة عشيقات، امرأة هي حياته، لتكن ما تكون وإن صورة وهمية من بنات أفكاره. المهم بَصمَتها في روحه، وروحه في إطار.
          - قال لها: من خلال العشق نتمرّد، نصلـّي ،ونعصى، نُجلد، ونفقد أعضاءنا.. ولكل عصيان ثمن.
          - اسمعي سيدتي، هناك شيء ضائع نبحث عنه، ربما ضوء في أصواتنا لم ندركه، أو نظرة عاشق... ثم وقف منشداً مداخلة طويلة عن الفنان والعشاق والعشق من أول نظرة. ولكن قطع حديثه عندما بدأ زوار جدد يتوافدون، بينما راوية عمدت إلى كتابة جملة خطرت ببالها. أرجعت دفترها الصغير إلى الحقيبة، ودنت من وليد هامسة:
          - يدك قطعها الالتزام.
          - بل من أجل الحرية سيدتي، أنت على خطأ.
          - قالت: كيف لأصحاب الارتباط بحزب أن يطالبوا بالحرية للآخرين وارتباطهم عبودية، أليست شيوعيتك عبودية؟.
          - سألها: مَن قال إني شيوعي؟
          نزفت السنون في صدره وارتاب مما تعرفه عنه سيدة تعرّف عليها قبل قليل، سيطرت عليه فكرة جاسوسيتها، ماذا لو كانت من عيون السلطة السابقة، أبعد الشكوك عنه، رفع حاجبيه قليلا وردد في سره:
          - وإن كانت من أعوانهم، لقد انقلبت الدنيا عليهم وتحرّرنا من موتنا. لن يستولي علينا الخوف بعد الآن.
          التعديل الأخير تم بواسطة وفاء عبدالرزاق; الساعة 25-08-2010, 12:47.

          تعليق

          • وفاء عبدالرزاق
            عضو الملتقى
            • 30-07-2008
            • 447

            #6
            5
            تزاحمت الأفكار عليه، برز حائط السجن المحفور بأظافر قاطنيه، سمع طقطقة براميل النفط، شمّ رائحة دشداشة أبيه، سمع صوت عراك أمه وهي تتوسط الحوش، تصبّ الماء الساخن في طست وتدلق عليه الصابون وترطن:
            - إي يمته يريحني ربى من الضيم، إيديـّه ورمت من غسل النفط).
            تراءى له الموت الكامل والعظام الناتئة بعد سلخ الجلد وتهدّله، السلك الكهربائي حُني وأدخلوه عورته، طوّقه بالألم والعجز.
            منذ أن وطأت قدماه أرض لندن لم يذق طعم النساء، رجعت إلى مخيلته صور الشبابيك المتسخة بفضلات الذباب، الكلاب الملتصق جلدها على عظمها ، الاستعطاء في الشوارع، ممرات ضيقة متعرّجة وراح يسأل نفسه بهدوء من يخاف الرقيب:
            - هل نحتاج أربعاً وثلاثين سنة من الانتظار لتخلصنا أمريكا من حزب ظالم ومن طواغيته الزناة؟
            على مقربة من محمود مشت راوية، ذكرت له أسماء ولحظات ومواعيد لم يذكرها أمام أحد، مكالماته الهاتفية، ثلـّة السكر والعربدة.
            حبّه لفتاة لا يعرف عنها شيئاً يركض خلفها بحذاء لا يعرف كيف يتعامل معه، عمله في جريدة صاحبها كان من أقرب المقربين لـ (عدي بن صدام) وصراعه مع نفسه بين القبول والرضا، مصداقية علاقات السكر والنساء، أنّى لها أن تخترق صدره؟

            كل هذا أظهرت السيدة معرفتها به، هل كانت معه؟ أبوسعها اختراق الجدران؟،.هل كانت ترتدي طاقية الإخفاء،هل شاهدت عريه على السرير؟،.
            لا بدّ أن يعرف، كما لا بدّ أن يكون يقظاً. حتى المخابرات العراقية التي تعرف عدد شعرات إبطه، ليست كمثل السيدة راوية.
            طلبت منه راوية أن يسأل وليداً عن آخر ساعة للمعرض، وعـّلّقت:ـ
            أعتقد أنه سيقول الساعة السابعة والنصف.
            ـ مادمت تعرفين الموعد لمَ تطلبين مني سؤاله؟.
            واستمرّ يسألها:
            - أختي، اسمحي لي، أنت شرطي متنقل؟ لكن شرطي مثقف، هذا ما لم نتعوّد؟؟!!
            ضحكت حتى كادت ضحكتها العالية أن تخرجها عن وقارها، ربما سيستنتج الحقيقة. مرّت على أسماء العراقيين الذين تعرّف عليهم في لندن، نساء ساقطات عاشرهن، سماسرة مغاربة في ساحة الطرف الأغر (ترافغلر سكوير)، مشاعره، كيف توصّلت لمشاعره؟

            ***

            ذكّرته بكلمة سمعها من لاجئ عراقي ذات يوم، يوم سُرقت من جيبه محفظة نقوده ،،، حيث عبـّر عن استيائه وهو يتفحص أوراقاً مهمّة وضعها في الجيب الخلفي لبنطلونه، سنوات من عمره في الغربة سُرقت منه، جواز سفره، بطاقة التأمين وتذكرة سنوية اشتراها للتنقل.
            رأى رجلاً قادماً ممسكاً بيد شاب في السابعة عشرة من العمر:
            ـ لقد أوقعت به سيدي، شاهدته وقت سرقك، راقبت وقفته، لم يرني وأنا أتابع حركاته، ها هو خذه وقدّمه للبوليس.
            توسّل إليهما الصبي بعربية كردية:
            - (أنا ابنكم، عراقي من الشمال، لا تنطوني للإنجليز).
            أشفق عليه محمود، وطلب منه أن يسلـّمه ما سرقه. أفرغ جيوبه، وجد ثلاث ساعات نسائية، وسلسلة ذهبية.
            ـ ( عمّي خذهن كلهن.)
            ـ سآخذ خاصتي، والله يعوّض أصحاب الساعات والسلسلة.
            ـ (ممنون منك عمِّي والله بعد ما أسويها تبت لن أعدها ثانية).
            كان محمود يحاول التخلص من لوم نفسه على سهوه، وكان الشاب خائفاً يبكي ويطلب المعذرة والسماح، و محمود يرد عليه:
            ـ لا عليك لست المخطئ، إنه خطأ الأوطان .
            (ضحك وقتها على الذين يكتبون عن الأوطان) واستمرّ قائلاً:
            ونضيع نحن في الخطأ*
            ـ الصمت راحة بال أليس كذلك سيدة راوية..؟.
            سألها وصمت، ثم استطرد قائلاً:
            - هل أنت (مُخاوية)..؟؟.
            ـ لم أفهم.
            ـ يعني هل عندك جنّي ينقل إليك أخباري؟ حتى كلمة الرجل الذي قبض على اللص حفظتِها؛
            لم تجب على سؤاله، بل راحت تشير بإصبعها إشارة استخفاف تعقيبا على قوله عن الذين يكتبون عن الأوطان:
            - الوطن كالسرير، كلما اهتزّ أكثر لمك في حضنه، بشرط أن تمحو من جبينك كلمة شرف.
            اكتشف دموعاً حبيسة في عينيه وهو يجيب السيدة :
            - والله يا سيدة راوية لطالما تمنيت لوطني أن يرحل من هذا الوطن قبل أن يصبح قشرة بصل.
            ـ للأسف الشديد. (متعجلا)
            ـ للأسف أصبحنا قشرة بصل.
            شعر بضيق أصابها، لم يلتحق بها وهي تنزوي على كرسي في زاوية بعيدة من المعرض. رأت من مكان جلوسها وليداً يشرب قهوته ببرود.
            التعديل الأخير تم بواسطة وفاء عبدالرزاق; الساعة 25-08-2010, 12:49.

            تعليق

            • وفاء عبدالرزاق
              عضو الملتقى
              • 30-07-2008
              • 447

              #7
              6
              بسبب حبها للفن تمايلت على صوت وحيدة خليل (نزهة والبدر شاهد علينه، والعـْذيَبي تنسّم)، ومن كلمة مرحبا، عرفت راوية أنها من مدينة الموصل، أما الشابة، فالمصحف الصغير في رقبة راوية جعلها تتطفل وتسألها متقرّبة في فضول شبابي:
              ـ من أين حضرتك؟.
              أجابتها السيدة مبتسمة:
              ـ أنا من البصرة، وأنتِ من الموصل، هذا واضح من لهجتك. كم سنة أنت في لندن؟.
              ـ (أنا جئت مع أبي بوقت كان عمري سبع سنوات، أنتِ مسلمة صح؟
              ـ نعم، مسلمة.
              ـ (الإســلام عنيف، ونحن دينـنّا يعلمنا المحبة والسلام ،أ ليس لديك فكرة جيدة عن هذا؟)
              أجابتها السيدة راوية:
              ـ نعم لكن كل دين يختار لنفسه طريقة تقرّبه من الله وطريقة حسابه وعقابه، ومثلما لكل دين حسناته فلكل دين أخطاؤه.
              ـ ( لا ما هكذا، حين ذهبت للكنيسة، كنت بوقتها كثير صغيرة، ما سمعتُ القس يقول يسّوع على خطأ، ماذا كان يقول لكم السيّد؟)
              ـ يا بنتي هذا حوار عقيم، استمتعي بالمعرض، هذا المكان لا يتحمل حواراً بالدين، تفضلي خذي راحتك.

              بين الفينة والأخرى تتابع انفعالات وحيد ومحمود، امرأة تحب رجلاً لا يحبها ورجل تثيره امرأة لا تحبه، ومن أجل إثارة الصورة النهائية لرجلين يغيبان حول جملة فارغة. ليت وليداً يعرف كيف استوطن في قلب عيناء، وليتها تشعر بوجودها في قلب محمود.
              الزمن يثأر من محمود على تصرفه مع (لبنى) التي تعلـّقت به حدّ العبادة، واعتبرته ملاذها وحضنها.. لكنه تركها تلوك أيامها بعد أن نال منها ما يريد، بينما الأغاني التي يؤلفها الرجال تُبرز إضافة لجمال الإناث خياناتهن وألاعيبهن، حتى ضاعت مفاهيم الخيانة ابتداءً من الجسد وانتهاء بالوطن.. لم نعد نعــرف تنقل الرجل من امرأة إلى أخرى أهو أحقية له وحده منحتها له رجولته أم هي طبيعة البشر؟. كيف لامرأة قدرة على هوى عدة رجال في آنٍ واحد، أتُجمَع الرجال وتكدَّسهم كتكديس المجوهرات؟ آدم وقت خالف ربه هل أراد أن يصبح خير مثال لبني جنسه؟ أم كان يدافع عن حقه في الحرية؟ وتعدّدت الحريات والزنا واحد.
              جلست تعاقب وتحاسب الرجال، وهي تنتظر قيامةً وانطباق الجدران على الجدران، يوم نشور الكلمة..... رنت بمسامعها أصوات الغانيات في رواية تولستوي ( الانبعاث ) ، وكشاعرة وروائية كانت تسمع أصوات الكلمات والفضاء العام للمباني والشتائم التي تتعرض لها البغي على يد الشرطة للحصول على بطاقة رخصة البغاء، عدالة عرجاء تحبك التدمير.
              في غمرة الكآبة والقرف ودونية المجتمع ودونية المخابرات في تجنيدها لنساء غانيات وإعطائهن شرف الدفاع عن الأرض والدولة، علاقة الرئيس بالبغاء العام، الابن غير الشرعي للخطيئة الكونية التأريخ..
              عذرت الحروب الخاوية وعلامات التذكير والتأنيث في اللغة، وعذرت لوليد براعته في تجسيد إرثه على قماش الرسم، ركضه ولهاث فحولته ساعات وساعات يملأ بياضاً لم يتعود رؤيته على لوحة الحياة، بعصارة التكوين الهش لعشق شقرائه.
              ***

              كان يقبـّلها قبل أن تكتمل في يديه، يقبـّلها حين يبدأ وحين يكل، كيفية تسليط الضوء، كيفية تسليط العتمة، اختلاط الضوء بالعتمة على ثوبها الأصفر؛ بينما أنين امرأة من تكوينه عشقته من اللمسة الأولى من النقطة الصفر، شكوكها وتودّدها، ثورتها وانتظارها، غضبها الصامت وصمتها الغضوب، الاحتياطي من الصبر الذي استنفدته في خلق أعذار لخطيئته، قهوته الباردة، سيجارته بنصف احتراقها ، أصابعه المصفرّة من الدخان والتبغ، رائحة عرقه، انهياره، سكره، عربدته، العتاد الفاشل لمن خانهم المبغى العام، القصائد التي يتلوها، أسماء الرسامين والأدباء..
              حفظتهم من خلال أنفاسه اللاهثة والمتقطعة والخافتة ساعة اندماجه باللاوعي الفني، استعادته لوعيه، نومه، صحوته، خروجه من دورته الدموية في مدحه شقراء ذات قلب عاقر لا ينجب حباً كحبها.. حفظت معه أسماء الفائزين بجائزة نوبل، وتساؤلها لخيبتها:
              - أما كان الأجدر للجنة التحكيم أن تمنحها الجائزة.
              اشتداد الحزن والتصاقه في قلبها، في أي وقت من أوقات تغزله بعشقه الوحيد.
              كان يسمعها قرآنه، يتلو آيته الوحيدة، هو لم يؤمن بالتوحيد ولم يعرف الله، لم يعرف غير لوثته بعشق يشرب عصير دمه. وقفته مبهوراً بفضائل الجمال والطيبة من شقرائه عليه، حيثما يذهب وحيثما يعود يُسمعها آيته؛
              ـ الله يا شقرائي.. أدفع عمري كله، مالي، سعادتي، رضاي، نومي ويقظتي من أجل نظرة رضا من عينيك..
              كم شكرتْ السجن ورجال التعذيب على إحصائه وإلاّ لحمّـل الرجولة عذاباً كعذابها، الصرخة لا تخرج إلا من أعماق المخذول، ولكن ليس المخذول برجولته.
              تمنّت أن تفوز بجائزة نوبل للقهر لتبرعت بفوزها للقلوب المخذولة، ولطرقت أبواب البيوت المغلقة على نسائها .. وأعطت نساءها حصةً من فوز ألمها.
              ابتسامته لها من وراء قدح الخمر، قبولها بفراغ كأسه واحتساؤها ثمالة الحب، تجاهله رعشتها وهو يضع لمساته على رقبتها، شراعها المنعطف نحوه، مسحه حافة قدحه بعد فراغه، شعورها بالضآلة في تلاوته عليها آيته الوحيدة، طرحها أسئلة دون أن تجد جواباً من صمتها:
              ـ لماذا رسمني في لوحته؟
              تبهجها أية كلمة منه ، لكن تصرفاته تقتلها باليوم عشر مرات لعله يقول في سره كيف تريدين موتك؟
              يطاردها خياله حتى حين يغلق نور الغرفة ويترك الألوان مبعثرة على الأرض، لتحلم به وتتمنى أن تكون حقيقة وليست صورة، هو من رسمها، هو من جعلها ممتلئة وصبغ شعرها بالسواد كما صبغ قلبها بألمه، هو خالقها وخالق مفاتنها، هو خطؤها إذن، وهو ذنبها وغفرانها.
              وضعت راوية رجْلاً على رجْل هاربة من تفاصيل تعتبرها كشرارة الجذع المحترق، سمعت عجوز بقبعة حمراء وطقم أحمر فالتفتت إليها وقد رددت: ما أعمق هذه النظرة.

              ـ الله يا عيناء.. حتى الآن لم يتعرّف على دمعتك التي لم يسعفك الوقت لمَسحها ساعة رجوعك المرسم، ها هو يفرح بفوزه متوهماً أنه حبا كطفل إلى عينيك وجسّد نظرة اعتراها الألم. أنت صاحبة الفوز. جائزة المعرض وإعجاب الوافدين أنت مَن يستحقهما، لا هو ولا صديقته القديمة سما، التي جاهدت للتقرّب منه كامرأة ورجل ولم يصل جهدها إلى جدواه. كل ما فعلته بعد مكالمته لها بدعوتها حضور معرضه، هو اتصالها بأصدقاء لها يعملون بالصحافة.
              ها هو يقف مطمئناً هادئ النفس، يستلم من الجيوب المنتفخة ثمن فنّـه وثمن تزييف الواقع المادي.. دمى آدمية، وزبائن تشترى نظرات تطلـّعت باتجاه واحد وجمدت إرضاءً لثرائهم، بؤرة رخام تبتلع كل شيء حتى غرور وليد في هذه اللحظة.
              التعديل الأخير تم بواسطة وفاء عبدالرزاق; الساعة 25-08-2010, 12:50.

              تعليق

              • وفاء عبدالرزاق
                عضو الملتقى
                • 30-07-2008
                • 447

                #8
                7
                في الضفة الأخرى قرأت راوية في مفكرة حياتها أول يوم لها في امتلاكها ذاتها واستردادها بعضاً من آدميتها، وهي تطأ أرض لندن، استعادتها لأنفاسها النقية، خوفها من أيام تجهل كيف سترتب لها المشهد القادم وتخطط لها حياتها القادمة، احتياجها لقلب بعد أن طردها قلبها، احتياجها للمسة حنان حقيقية.
                على مرمى من الخديعة، من حرية لم تتحرر من صدور أصحابها، تعرفت على شوارع المدينة، على الوجوه العربية والآسيوية، على العيون الزرق والقوام الرشيق، على العجائز الأنيقات، والعجائز البدينات.. على الفرح المعلب، القهر المستورد والتلف المعبأ بالقناني العربية في واجهات محلات " أجورد رود"، على الجميلات بملابسهن القصيرة وكعوبهن العالية.
                سيقان عارية، وسيقان ملتحفة بعباءات سود، وجوه سمراء بمساحيق وعدسات لاصقة، عرب، كرد، هنود، أفارقة، إيرانيون، طقوس عزاء حسينية في الـ (هايد بارك)، رجال الشرطة المحيطة بالموكب حماية له. ورائحة النفط في (أجورد رود)؛ تمنطق خارطة ثرائها بشرب الشيشة في المقاهي، رشوة للوقت، رشوة للمطر ولهواء عذب.
                على الضفة التائهة نفسها التقت بعيناء، وقت عودتها من ديوان الكوفة، بعد انعقاد ندوة حول ديوان أدونيس (تنبأ أيها الأعمى). خلال المحاضرة كانت تتخيل العميان، المبصرين الذين يناشدهم الشاعر، وتتساءل:
                ـ ماذا لو تنبّـأ العميان، هل ننال المقصود؟ أم يسوقنا القطار الى دوّامة جديدة..؟؟.
                وتخيّلت كيف يتنبأ كل أعمى على طريقته الخاصة وعلى مستوى وعيه الفكري ونضجه الثقافي وفهمه لما كان يدور خلف نظارته السوداء.

                ***

                فُـُتحت ستارة المسرح، المشهد الأول: عشرة عميان يسيرون باتجاه معاكس على خشبة المسرح، المكان قاتم بلا أنوار، لفتة إيحائية من المخرج بتصوير العمى للجمهور، تزداد حركة الرجال بازدياد إيقاع الموسيقى المصاحبة للعرض.. يتخبطون بالسير، يصطدم بعضهم ببعض، كلما احتدمت الموسيقى زاد الردم، تدخل نساء مسرعات بنفس سرعة الإيقاع، سكارى، واعون، أميرات، أمراء، عبيد، حاشية، رجال يحملون كتباً،غواني، باعة صحف، نغمات تتوالى بسرعة دخول وتوالي أمثلة الحياة على الخشبة، واحتشاد المكان بالعمى..
                دخان يتصاعد من جهة واحدة، يصبح المكان ضبابياً، الاختناق يبدو على الوجوه، الرقاب تتدلـّى إعياءً، شخير الاختناق يعلو على صوت الموسيقى، تنشقّ الخشبة لنصفين، يخرج من الشق عميان جدد، يفور المكان ويدور حول ناسه، تتشقق كل أجزاء الأرضية، تتهاوى من سقف المسرح أحجار البنايات والبيوت، أصوات رعد وصيحات.
                فجأة يسوّر المكان بالصمت.. يُضاء المسرح.. يعلو تصفيق الجمهور، يحني الممثلون رؤوسهم تشرّفاً بالتصفيق، يستمر العرض. استعمل المخرج أسلوب الإنارة والظل، ظهرت خلفية المسرح كشاشة عرض، ظلال لبشر مكبلين بالحديد، أحمال ثقيلة على أكتافهم ولكن بتفاوت، أثقال خفيفة من السهل حملها، أثقال أوقعت أصحابها أرضاً، أثقال بصناديق خشبية كبيرة يجرها شخص واحد، أثقال تجرجرها جماعات مجنزرة قيودهم.
                انشقّ المســـرح على شكل نهر بضفّتين، مـــــراكب ورقية ترسو، مراكب خشبية، في الضفة الأخرى، عينا ماء منفصلتان، يباعد بينهما نهر عميق.. واحدة تفوح منها رائحة المسك، يدور حولها صبيان وصبيّات يرشون عليها ماء الورد، من العين الثانية فاحت رائحة أبخرة ماء مغلي.. رجال ذوو عضلات مفتولة يرمون فيها أسياخاً من الحديد، الممثلون المربوطون بالسلاسل بعد أن تفتّحت عيونهم يفقدون الذاكرة، لا أحد يعرف اسمه.
                صاح رجلان دخلا مع ثالث أكبر منهما سناً:
                ـ كيف سنعقد المحكمة؟.
                أشار لهم الرجل الوقور، وهو يتوسط الجلسة الى دفتر كبير معهم:
                ـ لا داعي للحيرة، أمامكم كل شيء. فقط نادوا بالاسم وزنوا الثقل، وينتهي كل شيء.
                ـ لكن يا سيدي نحن مَن أنسيناهم أسماءهم.
                أما الشخص الرابع الذي دخل قبلهم، فقد وقف وقفة المتفرج. مطّ رقبته وفرد طوله، تكتّـف ووقف يستطلع.. أحد الرجلين يرتدي جلباباً واسعاً بنيّ اللون، يفتح أول صفحة من دفتره، وينظر إلى الرابع الذي كان يهزّ رأسه هزّة العارف:
                ـ ونعرفهم جيدا.
                دوّت مطرقة الرجل الوقور: محكمة.
                أعاد المخرج فكرة التلاعب بالإضاءة، أنوار خافتة جداً، بالكاد تبدو الظلال على خلفية المسرح. موسيقى صاخبة، ثم أطبق الصمت بعدها على جو المسرح. أدرك الجمهور أنه المشهد الأخير، تهيأت الأصوات والأيدي للتصفيق والإعجاب والتعظيم.. أضيئت الإنارة على المسرح والقاعة كلها.
                الصناديق والأثقال مركونة على الضفة القريبة من المحكمة، لا أحد على المسرح غير الرجل الطويل الذي تفرّج فقط، ورجل في نهاية المسرح، يهزّ رأسه بحركات تعاكس بعضها، خرج في هذه اللحظة رجال من عين الماء، وبخروجهم عبق المكان برائحة المسك وماء الورد، قدّمت لهم الصبايا مناشف بيضاء معطـّرة، التحفوا بها وجلسوا على سجادة خضراء، صبيان قدموا لهم أطباق الفاكهة، ووقفوا وقفة المطيع.
                نفخ صدره بانتصار، وراح يتلمس الصناديق، ويفتل شاربيه متلذذاً بانتصاره، تضاحك بخبث، وكلم الرجل الواقف في نهاية المسرح:
                ـ تعال.
                ـ أنا سيدي..؟؟
                ـ لم أستطع أن أكون سيدك.
                ثم سأله عن كتاب بيده: ما هذا الكتاب؟
                ـ إنه كتاب اشترته لي صديقة، اسمه (تنبأ أيها الأعمى ). وطلبت مني أن أحاضر به، قادتني إلى هذا المسرح. لكن كيف سيدي، كيف أحاضر عن كتاب لم أقرأه؟
                ـ لماذا لم تقرأه، ألست مسئولاً عن المحاضرة؟
                ـ كان بودّي.. (واقترب منه مشيراً إلى فتحتين غائرتين في وجهه) - - انظر سيدي، أنا بلا عينين أصلاً، وكلمة أعمى تـُطلق على الذي كانت له عينان وفقد متعة البصر. لذا حين عنون الشاعر ديوانه لم يجد لي اسماً في قاموسه من كلمة واحدة مثل أعمى، ومــن أربعة أحرف لآخذ نفس المساحة على كتابه.لا أدري سيدي لمَ َطلبوا مني أنا بالذات أن أحاضر بهذا الكتاب ، ربما عرفوا أني أستأجر قارئا اعتمد عليه*
                صفـّق الجميع، وصفـّقت راوية معهم. سمعت صديقاً اتخذ له مقعداً قربها:
                ـ هل أعجبتك المحاضرة؟
                ـ أية محاضرة؟.
                ـ عجباً.. شاهدتك تصفقين بحرارة، علماً بأنني لم أفهم من المحاضر كلمة واحدة مثلما لم أفهم شعر أدونيس.
                ـ أنا بصراحة (والتقطت حمّـالة حقيبتها من الأرض) أنا دخلت مع أدونيس عالمه غير المرئي للجميع.
                التعديل الأخير تم بواسطة وفاء عبدالرزاق; الساعة 25-08-2010, 12:52.

                تعليق

                • وفاء عبدالرزاق
                  عضو الملتقى
                  • 30-07-2008
                  • 447

                  #9
                  8
                  المسافة بين شقتها وديوان الكوفة ليست بعيدة، رغم ذلك فضّلت صعود الحافلة رقم (7) الأشياء لا تتفجر مصادفة، ولا تتدفق إلا إذا وجدت ما يدفقها. لاحظت راوية أن عيناء تدس أصابعها في محتويات حقيبتها اليدوية، وتخرج فارغة. أغلقتها وأعادت فتحها ثانية، وبنفس التوتر سألتها فيما إذا كانت بحاجة إلى مساعدة؟
                  أجابتها؛ شكراً، لقد كنت أبحث عن حبة مهدئ للصداع.
                  رجل عربي يرتدي نظارة طبية، أكرش تفوح منه رائحة الخمر، تسمّرت عيناه على صدر الفتاة وراحتا تلتهمان مفاتنها.. نظرة التلصص تسير حيثما يسير العربي، عرضاً وطولاً، من تختّله بين الأشجار، من السطوح والنوافذ، من الثقوب الإسمنتية. ويد التحرش تهاجر معه لترتعش باكتساء آخر، وتتلـّمس رقة اللحم الأبيض، بعد أن كانت تخترق العباءات السود وقت العزاء الحسيني، أو تستقر على الصدور البارزة في الأسواق. وتصدح الحناجر المهتاجة ( فدوة أروح لهذه العيون ) ، ويتغنج الغضب الأنثوي بين اللذة والخجل .
                  بعد أن امتدت يد الرجل إلى ظهر عيناء، وتحركت هي بدورها غاضبة،ردّ عليها:
                  - ( اشدعوى دادة..عيوني ليش شنو سوّينة)..؟؟
                  عرفت راوية أنها في المكان الصحيح، في الموكب ذاته، أو في الأسواق المكتظة ببضاعة النساء، بادرتها بتصرف يقيها حرجها، وفسحت لها مجالاً قربها:
                  ـ تفضلي قربى.. هنا أفضل.
                  في تلك اللحظة ولد الكلام بينهما، وبعد ابتسامة ودعابة دارت بينهما، اطمأنت عيناء وأخذت تبتسم بعض الشيء لابتعادها عن العاصفة.
                  طلب محمود من المصور الخاص بالصحيفة التي يعملان بها، أن يلتقط له صورة تذكارية قرب لوحته المفضلة، أخذ وقفته المعهودة بفتح ساقيه وميـّل وسطه جانباً وابتسم، ثم طلب صورة أخرى على أن تكون قريبة جداً، ورغب أن يكون وجهه ووجه ذات الرداء الأحمر لصيقين. أسرع وليد إليهما وطلب هو الآخر أن تكون لديه صورة تذكارية مع الجميع، بعد أن وقف من الجهة الأخرى من اللوحة.
                  استدركا تصرفهما، وقدّما اعتذارهما بصوت واضح للسيدة راوية: عذرك سيدتي، تصرفنا غير مقصود.
                  أجابتهما: لا عليكما، لكل منكما صراع داخلي ترغبان أن تجسّداه في صورة تذكارية، أما أنا فصراعي في ثمن الكرامة، هل بمقدور مصور تجسيده في صورة؟
                  شعر وليد بحرج واعتبر كلام السيدة موجهاً إليه، ترك محموداً على وقفته ووقف قرب السيدة: لم أدفع كرامتي ثمناً لإبداعي، لم ولن يكون هذا في أي يوم.
                  بعد أن وضعت يدها على كتفه، هزت رأسها: أعرف يا وليد، أعرف، لكن في مختبر الحياة تكون النظرة معكوسة دائماً خارج المنطق.. كم تدفع، كم تقدم تنازلات، ولو فعلت أي واحدة مما قلت ستجد سرب الحشرات يركض وراءك، إنه التواطؤ مع الشذوذ، وما علينا إلا أن نكون خارج الفراغ. صدق محمود درويش حين قال؛ (ما أضيق الأرض التي لا أرض فيها للحنين إلى أحد).
                  وأنا أقول ما أضيق الأرض التي لا أرض فيها للشرف.
                  ارتدّ وليد إلى نفسه كطفل مرتبك، واعتذر آسفاً على فوات وقت الغداء دون أن يجلب ولو شطائر أو أي شيء لسدّ الرمق، أنا لم أذق الطعام منذ ظهيرة أمس.
                  ـ لا عليك (ردت راوية) في عالمك الجميل لسنا في حاجة لمعدة. إنه الجوع المخلـَّد، غداً سيذكر التأريخ عن جوعنا وشبعنا الإبداعي، وسيقول: ثلاثة مبدعين ممتلئي البطون، وسيتخرج آلاف الأساتذة في علم التأريخ وينالون شهادات الدكتوراه بشرح وتحليل مفردات كهذه.
                  فتحت حقيبة يدها لتدوّن ما قالته، سقطت ورقة على الأرض، التقطتها بسرعة، ردت إليها كلمات سبق أن كتبتها، وعاينت في وجه وليد:
                  - أنا مثلك أرسم على الورق، الورق هو ستري وغطائي.
                  ابتسم محمود:
                  - ما أرخص الورق في أيامنا هذه، تركتها منشورة في غرفة نومي، دوّنت عليها حتى اللحظات العابرة.
                  قاطعته راوية:
                  - هل قرأت نفسك فيها؟ هل سبق أن استيقظت من نومك مذعوراً ودارت حولك كلماتك تجسد شخوصها أمامك، حادثتهم مثلاً؟.
                  ـ لا سيدتي، وإلاّ لـجُننت.
                  ـ ما رأيك بالذي يجالس ويحادث أبطال أعماله؟ هل تسمّي هذا جنوناً؟ (وأكملت):
                  - أنا آكــــل معهم، أتنـــــزّه معهم، أدخل شذوذهم وسكــــــــرهم، خياناتهم وذكورتهم، ممارساتهم الخاطئة وخذلانهم، أدخل زنزانات توزّع حبوب منع الحمل على أوطانها، أدخل شوارع متكررة لها صورة واحدة وإن تعدّدت أسماء الأوطان، سورية، العراق، فلسطين، مصر، مرآة زائفة أرى فيها رجالاً يركضون خلف نصفهم الأسفل. أقرأ المنطق المقلوب، فأرى النظرية النصفية، أقصد السفلى. أضف الى نظرياتك يا وليد (التنظير السفلي).
                  رفع محمود يديه مستجيراً:
                  - الله الله، كل شي ولا تترك كاتباً يتحدث.
                  ردّ عليه وليد:
                  - كن صبوراً أو تهادى كالجمل.
                  ضحكت راوية حتى سالت دموعها على خديها:
                  ـ وأنتم على الجمل، لا تنسوا أنكم كائنات تتحرك بشبقها النصفي، وتركتم النصف العلوي تستخفّ به أمريكا.
                  حاول وليد استمالتها إليه :
                  - لم نقرأ أشعاراً في الصحف اللندنية؟.
                  أجابت بعد أن احتقن الدم في وجهها: لأني لا أتعامل بمنطق النصف.
                  محمود: بالله عليك فسّري لنا كيف تتحاورين مع أبطال أعمالك، هل تأكلين معهم حقاً؟ أهذا يُعقل؟.
                  ردّت:
                  - ولمَ لا.

                  التعديل الأخير تم بواسطة وفاء عبدالرزاق; الساعة 25-08-2010, 12:53.

                  تعليق

                  • وفاء عبدالرزاق
                    عضو الملتقى
                    • 30-07-2008
                    • 447

                    #10
                    9
                    مرة طرأت لي فكرة زيارة إحدى المقاهي، فكرت في محاورة إحدى بطلاتي وهي تقرأ الصحف في مقهى. اقتربت منها حيث كانت تدخن الشيشة، كانت وقتها لا تعرف ماذا تقرأ، فالصحف كلها سواسية، الكذب على واجهات الصفحات بالعناوين الكبيرة، وبما أني أطلقت عليها اسم عيناء بعد أن وجدتها بلا اسم في الحافلة، أخذت تسألني عن معنى اسمها، وحين شرحت لها أن العيناء هي ذات العيون الواسعة السواد فرحت وقالت لي: إنه يترجم صفتي، كلانا كانت على عجل، وكأن الريح تحتها.
                    طلبتُ منها أن تحتسي القهوة بسرعة كي نخرج لنتمشى قليلاً، جمعنا أعضاءنا المتناثرة وأخذناها مشيا ، سألتني وقتها:
                    - إلى أين؟ ثم ضحكت وبدت أسنانها البيضاء كأنها حبات لؤلؤ، يبدو أن قولي المقاهي للكسالى أثلج صدرها، وأدخل بعض بهجة عليها.
                    في سيرنا كنّـا نعدّ الكنائس التي نمرّ بمحاذاتها، كثرتها جعلتني أقارن بينها وبين عدد المساجد في بلداننا العربية.. إذا كانت الموسيقى ترافق صلاتهم وفنّ الرسم والحفر يملأ كنائسهم، فنحن لنا فن الزخرفة والمنمنمات حيث أعطى مساجدنا خصوصيتها.
                    أذكر أني دخلت المسجد مع أبي مرة وأنا في الثانية عشرة، بعد أن طلبت منه ذلك سألني فيما إذا كنت طاهرة، استفزّني سؤاله فسألته :
                    ـ وهل أنا نجسة يا أبي؟
                    ـ لا يا ابنتي، أقصد، أقصد..
                    استدرك قصده في دهشة وجهي، وعرف بأني لم يمرّ علي طقس المحيض. رحت معه يوم الجمعة، وأدخلني إلى مكان ذي ستر مخصص للنساء.. كنت أبحث عن روح الله في ساحة المسجد*
                    ـ لمَ توقفت سيدة راوية؟
                    ـ تعال، نسأل وليداً عن سعر ثالث لوحة بيعت اليوم.
                    اقتربا من وليد، وجداه غير مسرور، فمازحه محمود:
                    ـ ستصبح برجوازياً، هذا ثالث رجل أعمال يشتري منك، من أين وفدوا؟
                    ـ صديقة قديمة لها معارف كثيرون، وعلى ما أعتقد هي وراء كل ذلك.
                    (ثم واصل): لغة رجال الأعمال لا تضع النقاط على الحروف في لغة الفن.
                    وفيما هم يتبادلون الأحاديث دخل مصور يحمل كاميرا تلفزيونية وبرفقته مذيعة، ترتدي بنطلونا ضيقا من اللون البيج، وقد تركت قميصها الأحمر مسدلاً على جانب البنطلون، بينما باقي أطراف القميص عقدتها وتركت العقدة مربوطة من الأمام، وقد زرّت ثلاثة أزرار سفلية فقط من القميص.
                    بعد أن ترجرج نهداها، وتمايل خصرها الممتلئ بعض الشيء، سألت عن وليد. أسرعت إليه وقتما حدّدوه لها من بين الجمع الغفير، مشطت شعــــرها الأســـــود بأطراف أصابعها، وأشارت إلى المصوّر (أن اتبعني)
                    وقالت:
                    ـ لو كنت غير متزوج لخطبتكَ، مرحباً سيد وليد. وعذراً، هذه طريقتي في الكلام؛ لا أحبّ التكلـّف والتصنّع.
                    ارتبك وليد وهو يجاملها :
                    ـ أبداً، والله أنتِ لطيفة جداً وعليك السلام، هل من خدمة أقدمها إليكِ؟.
                    ـ أنا مذيعة من تلفزيون (arb) وأرغب بإجراء حوار معك، هذا إذا لم تمانع.
                    ـ بكل سرور.. لكن اسمحي لي، مَن أخبرك عن معرضي وكيف عرفت مكانه؟.
                    ـ اتصل بي الأخ محمود قبل ساعة.
                    ـ آه. فهمت. تفضلي، كيف تحبين، أنظلّ واقفين أم؟ (تطلـّع إلى الكراسي الأربعة فوجدها غير شاغرة، فأكمل) :
                    - الوقوف أفضل.
                    ـ لن أسألك عن بداياتك وحياتك الخاصة، إنه سؤال متهرئ ،صفة المذيعين السذّج.. سيد وليد، الجزء البسيط من حياتنا أُعلن عليه التلف، حتى عواطفنا بتنا نخاف عليها من بخار الدمع، كيف تستطيع كفنان أن تحتفظ بجزئكَ البسيط أو بما تبقى لديك؟
                    ـ يقول (نيتشه) :
                    - إن إرادتنا خير مَن يهدم القبور. عواطفنا ومبادئنا الحقيقية هي الشفاء لبؤسنا، فليعلنوا الحرب كيفما شاءوا.
                    ـ هذا يعني أنك لا تخضع للمقايضة؟
                    ـ يا سيدتي.. (وراح يتحسّس ذراعه).. أنا يا سيدتي حتى عند حافة الموت أحمل صليبي وأمشي على تلك الحافة. أما ترينني أقف بيد واحدة، أصافح أصدقائي وهذا الحشد الذي اختارني هو ولم أبذل جهداً للوصول إليه؟
                    - سمعت، وأرجو المعذرة، سمعت أنك مقطوع من شجرة.. أي لا أحد لك، فلمَ العزلة إذاً؟
                    احمرّت وجنتاه بحرج سؤالها، وسال عرق جبهته، تردّد في الإجابة، ثم انطلقت الكلمات من فمه مسرعة:
                    ـ الابتعاد أو العزلة كما تسمينها هما أول نقطة الجريان.
                    ـ جريان ماذا؟
                    وطلبت بطرف عينها من المصوّر أن يقترب منه أكثر.
                    ـ جريان النهر، أي نهر يبدأ من نقطة، ثم قطرة.
                    قالت بعد أن عقدت حاجبيها:
                    - من خلال نظرتي السريعة للوحاتك وجدت أنك في صراع مع الظلام.. مرة يتغلب عليك، ومرة تنتصر عليه بتسليط الضوء، أليس كذلك؟ أم إنّ حدسي الفني قد خانني؟،.
                    ـ لقد أصبتِ.. أحياناً تعتريني فرجة أمل، فأبعد الضرير عني وأتحرش بالضوء.
                    ـ قبل قليل سيد وليد كنت تردّد مقولة نيتشه عن الإرادة، وردك الآن على سؤالي يظهر شخصيــــة غير متوازنة الكفتين. هل أنت من الــرجال الذين يكون منطقهم عكس تصرّفهم؟. بصراحة إني أجد تسعين بالمائة من الشرقيين والعرب تحديداً متناقضين، أين تضع نفسك؟
                    عن بعد كانت راوية تسترق السمع، ربـّما يردّ وليد على سؤال يتحدى به نفسه. وحين وجدته (نيـﮔتف ) لكل الصور، اتخذت لها كرسياً فرغ للتو، وراحت تعيد ترتيب الصور والأحداث.

                    ***

                    فاجأتها صورة عيناء الباكية، ووجهها يرسم طفولة منكسرة، وتذكرت أنها طلبت منها أن تكفّ عن البكاء، وتتصبّر.
                    الخروج من عتمة الألم هي أن تتذكر سوقيـّة العصر، وتنظر للتلفاز، قالت لها: افعلي شيئاً من أجلك أنت لا من أجل رجل لا يعجبه غير فحيحه ، ثم يطلق عليك طلقته ويمنعك من الانضمام إلى عالمه.
                    وتابعت شعرها الأسود خصلة خصلة، خصرها الذي أطبق عليه ورك شرقي وجعله كغصن يلتوي من ثقل ثماره، تتبعت كل أجزاء جسدها، كلها تنبض عشقاً، سقطت على خدها دمعة دون قصد منها، هكذا خرجت نافرة من حرارة جفن ظليل، حتى كادت راوية أن تشمّ رائحة تلك الدمعة، لم تكن دمعة نافرة بل طفلة في حضن العمر. طبطبت على كتف عيناء قائلة:
                    ـ الحب هو ترياق الحياة، حفنة من رماد الحب تحيي القلب، حالتان لا يمكن العيش دونهما، الحب والحرية.(و واصلت الحديث) لكن يا حبيبتي، حزنك روّضيه، ومخاوفك من فقدان رجل تعبدينه لا مبرّر لها، مَن يراه وهو يتعطـّف عليك بابتسامة أو نظرة من خلال ألوانه المجنونة مثله، يتمنى أن يخنقه.
                    ـ دخلك ست راوية، لا تكوني قاسية عليه، تركته يفعل ما يريد، إنها طريقتي في الحب ، يكفيني صوته ورائحته. (ثم استطردت بعد أن وضعت المشط في وسط فرشاة للشعر):
                    - أنا يا ست راوية أنظر إليه من زاوية أخرى، فمثلاً عندما يهزّ رأسه طرباً وهو يتغزل في شقـــرائه أمامي ويذكر محاسنـها ومميزاتها، أعطف عليه لأنه بعين واحدة ومريضة. فنظره باتجاه واحد، لا يستطيع تحريك عينه يمنة أو يسرة، ولطالما وضع شقراءه نصب عينه لا يرى غيرها .
                    - إذن؟
                    ـ كيف تعشقين رجلاً أحادي النظرة؟
                    ـ هذا أعذب عشق.
                    ـ قرأتُ مرة لـ (شمس الدين التبريزي)،،، (لا تكلـّف نفسك في الذهاب إلى البستان، انظر إلى وجه العاشق) وأحادي النظرة خاصتك لم يكلـّف نفسه حتى النظر إليكِ.
                    ـ لا بل ينظر إلي، وإلا كيف رسمني؟
                    ـ ليست العين هي التي ترى، بل القلب، القلب يا عيناء. العين ما هي إلا ساعي بريد بين القلب ومن نحب، إنها الثقب الذي نُدخل إليه نهارنا وجراحنا*
                    في محاولتها لإعادة ترتيب الأشياء، وإعطاء البداية أحقيتها بالظهور على مسرح ذكرياتها، بلغ سمعها آخر سؤال وجهته المذيعة إلى وليد:
                    ـ لماذا لا ترسم الموت والمقابر الجماعية في بلدك؟
                    فرحت وقتها لجوابه:
                    لأني لا أجيد تعظيم القتلة. ثم.. ثم.. (تلعثم) هل هناك ما يكفي من اللون لرسم الدم؟
                    عدّلت راوية من جلستها، ومن خلال ثقب عينيها أدخلت شريطها، وراحت تستعيد كل ما فعلته الكتابة على أوراقها.

                    تعليق

                    • وفاء عبدالرزاق
                      عضو الملتقى
                      • 30-07-2008
                      • 447

                      #11
                      فصــــــــل
                      ثاني
                      فكرة اللون

                      تعليق

                      • وفاء عبدالرزاق
                        عضو الملتقى
                        • 30-07-2008
                        • 447

                        #12
                        أنتَ طائر نفسك
                        وفخّ نفسك
                        وصدر نفسك
                        وأرض نفسك
                        وسماء نفسك.

                        ( جلال الدين الرومي )
                        1
                        في جهة العمر، تعبر حفنةٌ من السنين، بلا هوية تتحسس قيدها في اختصار الهواء، تشرب قهوتها كطائر غالبه النعاس.
                        لوحة مخدوشة لفنان معتزل الحياة، تشاركه عزلته منفضة سجائر، ضباب يترنح بسكرة الذبح، من المدن والشوارع والأرض، لوحة خشبية نُقش عليها (شقة رقم 202) كان من المفترض أن تـُدق على باب الشقة من الخارج. وبملل طريد تكوّر الوقتُ على شكل دائرة، وعجز وليد عن إضافة لمسة فنية لشقة فقيرة الأثاث. بقيت لوحة رقم الشقة مرمية على الأرض و منذ شهور، بالتكرار اليومي الممل وإيقاع رتابة أكثر منه مللاً يقضي وليد معظم وقته، ويعدّ على أصابعه احتمالات أيامه الباقية في كأس الحياة.
                        موكيت أزرق باهت اللون لقدِمه، أريكة لونها أبيض ، (صوفا بيد) ، مصنوعة من الخشب الرخيص، طاولة طعام صغيرة لا تسع أكثر من كرسيين، في المطبخ رفـّان مستطيلان، المطبخ جزء من الصالة، فضاء لتسعة أمتار بمثابة قبر، على الرفوف بعض علب من الفول والحمـّص، كيس من البصل مفتوح وكيس بطاطس مفتوح أيضاً.
                        حبتا بطاطس قرب فوهة الكيس ذبلت عروقهما، علب فارغة من البيرة مرمية بفوضى قرب الأريكة.
                        بالنسبة لوليد يكفيه سد رمق، لذا لا تحتوي ثلاجته على أكثر من شرائح جبن وخبز وثلاث تفاحات ذابلات ، اللون والشاي وقليل من سد رمق، هو الزهو بالنسبة إليه، علـّمه السجن على ضمور البطن وعلى التقشف.
                        مسجـّل صغير أسود اللون ولقِدمه يخرج الصوت منه شبه مبحوح، كثيراً ما يجلس جلسته المفضلة حيث يضع ساقاً على ساق ويخطط في مخيلته صورة للوحة جديدة. لم يعتد الخروج إلا نادراً، وأغلب الأحيان لشراء أبسط حاجاته.
                        يتصل هاتفيا بأصدقائه ويطمئن عليهم، وإذا ألحّوا عليه بالخروج يرضخ لإلحاحهم، ثم يعتذر هاتفياً بعد نصف ساعة.
                        لوحاته أكثرها تعبيرية، قدره اختار له الفن، على عكس ما كانت ترغب به أمه، إذ تمنّت له أن يصبح طبيباً يمدّها بالطمأنينة ساعة وقوع المرض، رغم أنه لم يرفض لها طلباً وإن كلـّفه حياته، فإنه كان يطمئنها ويداعب ضفيرتيها :
                        ـ ابنك يعالج المرض باللون يا أمي.

                        حين لم تفهم قصده راح يسألها ويفسّر لها في الوقت نفسه:
                        ـ لدينا طبيب مختص بالقلب، وآخر مختص بالعيون، أليس كذلك يا أم وليد؟.
                        ـ إي والله يمّـه ما تقول إلا الصحيح.
                        ـ وأنا طبيب ألوان، أعالج مرضاي بالألوان وليس بالدواء.
                        ـ الله يسلمك يمّـه من كل شر، أكو صيدلية تبيع الألوان؟ (ثم تبدّل لهجتها ): المهم طبيب وبس، حتى يصيحوا لي أم" الدكتور" وليد.
                        ـ وبَسْ يا حلوة وليد.
                        ـ وحتى تداوي أهل المحلة، كلهم بعوز يا يمـّه، حتى الموظف ما قادر يأكل خبز، الله يخليك إلهم*

                        من بين الجامعات والكليات المتعددة اختار كلية الفنون، وعليه أن يعزم على الرحيل، والسفر إلى بغداد. تفادياً لعوزه باعت أمه قلادة مهرها بثلاثين ديناراً، وهي تعرف أن قيمتها أكثر من ذلك، فلطالما سمعت من عمتها أم زوجها أن مهرها ثمين وثقيل الوزن. وهي تتطلـّع بوجه الصائغ، تفقدت يدها، إذ سبق لها أن باعت أسورتها لعوز، امتلأت أعماقها صرخة وإصراراً، لا حاجة لها بالذهب، الغالي للغالي. أجبرت خاطرها بمحاولة خداع نفسها أنه أقل من ثلاثين ديناراً، من فرط غيرة عمتها منها تتصور أن قلادتها ثمينة.

                        ـ منين يا حسرة، قالت للصائغ، ثم استدركت أنها تحادث نفسها.
                        لكنه سألها: ما بك يا أختاه؟
                        ـ أخي أسألك سؤال.
                        ـ إي تفضلي.
                        ـ من يشتغل ببيع النفط يقدر يشترى لامرأته قلادة غالية؟
                        وضع القلادة في الميزان، ودون أن ينظر إليها ردّ على سؤالها:
                        ـ من جاء لنا بالبلاء غير النفط.
                        ـ أرجو أن تزّد عليها شوي، والله أحتاج فلوسها.
                        رماها في وجهها؛ بطّلت اشترى.
                        ـ لا عيوني لا تغضب، ثلاثين، ثلاثين؛ أمري لله.
                        خيطت له كيساً من القماش، وضعت فيه الثلاثين ديناراً وعشرين أخرى من أبيه، وتركته يتدلـّى من رقبته. بعد أن عوّذته بالمعوذات، طلبت منه أن يخفي الكيس تحت ملابسه، وأعطته كيساً من البلاستيك فيه متاع للطريق، فقد خبزت له (خفيفيـَّات) في التنـّور ورشّتها بالسمسم والسكّر.
                        في شقته المتواضعة لم يبقَ طعم للسكّر، غير ما تركه في بيته في مدينة الناصرية.
                        حين استقل القطار كان كل شيء يركض وراءه، ولا تزال تلك الأخيلة تلاحقه. صوت القطار، صفيره، الغبار المتطاير من النوافذ، أصوات بائعي الماء البارد، وبائعات الخبز الساخن، بائعي الشاي والكعك. كل تلك الذكريات تسكن جراحاته وتتولى الدفاع عن يده المبتورة.
                        من أجل الكشف عن شلاّل مخيلته الفنية، يدخل الحمام، يستحم ثلاث مرات بالصابون واللـّيفة، كأنه يطهّر جسده مما علق به من وسخ السجن.. لم يستطع أن يتحرّر من حالته هذه، لازمه مرض الوسواس منذ خروجه من السجن.

                        ***

                        تعليق

                        • وفاء عبدالرزاق
                          عضو الملتقى
                          • 30-07-2008
                          • 447

                          #13
                          2
                          تتزاحم عليه الأفكار وتحاصره، تأخذه إلى ركنها الحميم، الركن الجميل ما بين تعلـّقه" بعلية"، ابنة الجيران وتنظيمه الحزبي، وقت تعرّفه على جسده و همهمة رجولته تخترق نومه ويقظته، يغتسل منها صباحاً وتغويه رغماً عنه، يلوذ بمكان بعيد عن أعين الرائحين والغادين، يأخذ ركناً تحت شجرة توت، ويتعامل مع الذي يخترق دشداشته فاضحاً برطوبته الدافئة احتياجه لأنثى.
                          أصول الجيرة وما توارثه من أعراف، وكل القيم والأخلاق تقيّده، فابنة الجيران لا يمكن التحرش بها ولو بالنظر، هي شرف ابن المحلـّة وعليه المحافظة عليه.
                          وقت يشعر بحاجته للاغتسال يرمي نفسه في النهر، يتحرّر من ذكورته بمائه وموجاته العذبة. يعرف وقت ذهابها إلى المدرسة، يخرج قبلها، يقف بباب الدار ويعيد الكرة ذاتها عند عودتها. يرتجف شاربه كأنه نبات طري نبت للتو في أرضه، الشعور بتبادل الحب، عار، لذا يجب إخفاؤه ومداراته.
                          غير أن أسلوبه بالكشف عن عشقه تلوّن بعدة ألوان، بنظرة من طرف عينيه، وبابتسامة يخفيها بين شفتيه لئلا تفضحه "علية" بشموعها المتراقصة، تختلق الأعذار لتدخل بيتهم، تارة بطبق خبز من تنـّورهم ومن يد والدتها، وتارة أخرى بما احتاجته أمها ساعة الطبخ، كرّاث أو بصل أو ثوم. وجفناها المراهقان يضيئان لها مساحة العمر.. تطلب من أم وليد وعينيها على (السوباط) تقصدان وقفة وليد، تلتقطان من عينيه ما تبحث عنه، تنفذ إليه، إلى الداخل وتبقى عالقة فيه.
                          ذات يوم انقطعت عن المدرسة، تهيأ له أنه عارض مرضي أو ألم الأنثى الشهري أعاقها من الذهاب إلى المدرسة. لكن الأيام توالت، لم يستطع مقاومة قلقه بعدها، فطلب من أمه أن تزور جيرانهم، حق الجار على الجار:
                          ـ يا يمـّه صار أسبوعين ما زرتِ بيت أم لطيف.
                          فتزداد خفقات قلبه، وعندما وجدها متباطئة ومتكاسلة، وجد أنه لا بدّ من إخبارها بحبه. تخابثت وكأنها لم تلحظ ذلك، ثم سارعت لارتداء فوطتها النظيفة بعد أن نزعت القديمة الملطخة بالعجين. وأخذت بيدها ثلاثة أقراص من الخبز المسمسم، لم يمض على خبزها نصف ساعة.
                          عادت مسرعة، تعرف أن ابنها على نار، لم تقوَ على محادثته أو التركيز في عينيه، وقت فتح لها باب الدار. تمنّت أن لا يسألها، تشاغلت بإدخال الرغيف إلى داخل الغرفة، ونهرته على أنه تركه ينشف في الهواء، وأبوه يحبه طرياً :
                          ـ ما تفكر بأبيك، ما عنده سنون،
                          دنا منها وقبّل خدها، أدرك أنّ في الأمر شيئاً، ابتسمت بوجهه، ثم عادت تختبئ بأعذارها وهياجها، تركها كما هي، وذهب الى شجرته المفضلة، شجرة التوت، يشكو لها:
                          ـ يا عمتي يا شجرة ما تعرفين شي عن علية، قولي لي وحياة من رفعك عالية وثمَّرك؟
                          بقي حتى الليل.. راعه ظلام المكان فأسرع راجعاً إلى داره، حال دخوله وجد أباه جالساً في وسط الحوش، يفترش حصيرة من خوص النخيل، يلف سيجارته، وأمه جالسة إليه تقدم له الشـــاي. لم يسلـّم عليهما كعادته أو يقبّل يد أبيه، سمع أمه تطلب من أبيه أن لا ينهره لعدم لحاقه به للمساعدة ببيع النفط بعد انتهاء دوام المدرسة.
                          عبرت الدماء الساخنة غاضبة في عروقه، خرج مسرعاً وجلس في السوباط، دون أن يكلم أحداً، لكنّ أباه اختصر عليه صمته :
                          ـ لماذا يا بني لم تخبرني، كان خطبتها إلك أقلها وبعّثت خطـَّاب..
                          أضافت الأم : منين يا حسرة، الخطـَّاب ما تريد وعود، ما تريد مهر مقدّم، ما تريد.
                          وثب وليد بعد سماع أمه:
                          ـ قولي إنها مخطوبة، ها.. قولي لماذا الصمت؟
                          ـ إي يمّه خطبها ابن عمها اللي يشتغل بالكويت.
                          تحوّل ارتباطه بالحزب إلى عشق جديد يعوّض فيه خسارته الأولى، لم يضجر من أي أمر يأتيه من مدرّس اللغة العربية الأستاذ عبد الأمير، بل راح يتصرف كأمير، وأصبحت البيوت والشوارع والمدرسة مملكة أخرى، لها طعم ولون جديد، ومن أجلها وزّع المناشير في المقاهي في متوسطة البنين ورمى بعضها قرب متوسطة البنات. وراح يعلـّم أباه ويشرح له أن عمله في بيع النفط ليس عيباً ولا نقصاً. ماركس يقول: (العمل هو تعبير الحياة الإنسانية ).
                          حالما سمعت أمه بهذا الاسم تقدمت نحوه:
                          ـ يمّـه هذا اسمه صعب؟ من أين هو يا يمه لا أعرفه، الم يجد غير هذا الاسم؟
                          ـ إي يمّه هذا إمام جديد طالع، لقوا قبره يم الشط.
                          ـ إي يا بعد أمك، ما تأخذني إله، يمكن أزوره واطلب منه يطيّب راسي شو الوجع ما يفكني ليل نهار.
                          من وقتها تركه أبوه يفعل ما يريد، يتأخر في الليل، يخرج في الظلمة من باب الحوش الخلفي، يأتي فجراً بصحبة ثلاثة أو أربعة يخبئهم في المجلس ويطلب من أمه أن تقدم لهم الطعام والشراب، وفمها مغلق، ويحذّرها ويؤكد سرّية الأمر.
                          ذات يوم طفح الكيل بها:
                          - ما تشوف صرفة مع ابنك، منين أجيب أوكلكم لو أوكّل ثلاثة آخرين؟. الفلوس اللي تعطيها يومية ما تكفي ، ماذا أفعل؟. دبر أمرك، دخيل مار.. نسيت اسم هذا الإمام الجديد؟
                          ـ ماركس.
                          ـ إي دخيل مار،،يطيب عيوني ويرزقنا شوي.
                          ردّ عليها الأب مؤنباً:
                          ـ الرزاق هو الله، وبعدين ابنك راح يصير شي، وباكر يصبح مهم وإله اسم، تسترين، قولي أبو وليد قال.
                          وضعت يدها على صدره:
                          ـ بمحبتي عندك أبو وليد منين جبت اسم وليد، وأبوك كان يريد تسمّيه خلف، على اسمه؟
                          ـ كنت متعدي على مدرسة الأولاد وسمعتهم يقولون خالد بن الوليد؛ فقلت أسمّيه وليد وابنه نسميه خالد، حتى يصير اسمه خالد بن الوليد وتذكره المدارس.. خلـّي قلبك بماء بارد، الولد راح يصيــــــــر مهم. هي ثالث سنة وهو على هذه الحال يسهر للفجر برّه وينجح في المدرسة، بعد ماذا تردين؟؟؟
                          ـ قول لا إله إلا الله.
                          فردّ عليها بنفس التعويذة، خوفاً من عيونهم .
                          -اسمعي يا مرة، ما يحسد المال إلا أصحابه؛ قولي قل أعوذ برب الفلق..
                          وهو يضع كيس الخمسين ديناراً في رقبته تلبية لطلب أمه، سمع صوت سيارة تقف قرب بيت الجيران، كما سمع كلمة يمّـه انقطع قلبي على غيابك؛ ترك كل شيء من يده، سقط كيس متاعه أرضاً، عليه مجابهة قلبه الآن.
                          فتح الباب، فوجد علية تنزل من سيارة مرسيدس خصوصي سوداء، ثلاثة أولاد صعدوا على واجهة السيارة، وبقية الأطفال يحومون حولها. كانت علية تحمل بيديها طفلة تشبهها تماماً، وعندما جاءت عينه بعينها أطرقت أرضاً، وطلبت من زوجها أن يحمل عنها الطفلة. لكن تلقفتها أم لطيف، وهي تتطلع في وجهها قائلة؛
                          - (( ولك يمّـه هاي علية صغيرونه.. والله العظيم هاي علية الثانية)).

                          تعليق

                          • وفاء عبدالرزاق
                            عضو الملتقى
                            • 30-07-2008
                            • 447

                            #14
                            3
                            اختراقات الذاكرة تُقاس بحجم الهاوية وبسنتمترات التيه، بعد أن حفروا بسكاكين الأكل والملاعق في سجن نقرة سلمان، سنة كاملة، عشرة سجناء محكوم عليهم أن يناموا على التراب المحفور ويخالطوا الديدان والصراصير. ثم يعمدون إلى تغطية الفتحة في الصباح، ويسوون التراب، حتى حانت الساعة التي أوصلتهم واحداً تلو الآخر إلى مدخل مزرعة، وتوزّعوا دون هداية أو دراية. فقط توزّعوا، واختبئوا كل على طريقته.
                            أما وليد فقد خرج بنصفه المبتور، ويد متعبة من الحفر والتعذيب، وكرامة مهانة كل صباح ومع كل وجبة طعام تُقدم لهم. قصد بيت صديق له، كان بائع ثلج في بغداد، تعرّف عليه في مقهى يرتاده البسطاء، ونظـّمه في الحزب. وهذا بدوره أخذه لصديقة له تعيش مع أمها فقط، وخبأته أسبوعاً في دارها، خططوا فيه طريقة هروبه خارج العراق عن طريق سوريا.
                            تكفـّل صديقه بالمصاريف، كما وضع في جيبه عشرين ديناراً، ووعده بأنه سيخبر أهله لاحقاً بمغادرته. تحقق من دقة العنوان، وأكد كلامه ووعده له، بعد أن تهدأ الأمور: اطمئن يا وليد، سأخبر أهلك.
                            في طغيان الظل، تبقى النوافذ مشرعة، تتصفح الريح. وصرخة تتراكض لنهاية خربة، بعيداً عن الحكام الذين يصنعون الظلام لشعوبهم.
                            ضمن باب النسيان يكون أول دخول السيف حيث اختراق الرئة إلى باب المذبحة، لا عصافير تغرّد على نافذة تُثير الروح لفرحة هادئة، غربان تعدد الأسماء الجديدة، وتضحك علي، موتاها المتحركين. ترافق وليداً في رحلته البرية آخر نظرة من عيون" عليـــة"، وآخر إيقاع لقلب أمه، صــــوت عربة النفط، نهيق الحمار، مغزل جدته، وزاوية من ارتباط مقدس بشجرة التوت، وقليل من كلمات أعلن فيها اعتصامه وانتماءه الحزبي.
                            كما رافــقه يقين يد مبتورة، وسنوات دراسية لم يكملها. إذ كان اعتقاله قبل انتهاء السنة الدراسية الأولى بتهمة تنظيم الطلبة وإثارتهم على الشغب وقلب نظام الحكم.
                            سنـــة كاملة في سوريا وهو ينتظر قرار قبوله كلاجئ سياسي في بريطانيا، يده المبتورة كانت هويته للعبور، لكن على الطريقة الإنجليزية، يجب أن يقف في الصف ليأتي دوره .(The line - queue).
                            حفظ هذه الكلمات، زخرفها على حيطان الدار القديمة التي استأجرها لمدة شهر، وجابه الحياة الجديدة. صبي في مقهى، كل ما أراده الابتعاد عن وليد معذّب، وليد مضطهد في ماضيه وحاضره، والجَلد للروح كي لا يصل ارتجافها لذاته.
                            أهو حُـرٌ الآن أم مسجون بوليد لا يعرفه..؟؟ هل يضع قدميه على عتبة هشة؟ هل يخلع نعليه في وقت الدخول؟ هل ينتظر بعثاً جديداً لموته؟
                            هل يلعن الموت، و مؤسّسيه أم المنتمين إليه؟
                            الكلمات التي حفظها لـ (جلال الدين الرومي) كانت قوته وتجلّده، في السجن وخارجه، سنده كلما ضاقت عليه الجدران واستحكمت؛ (أنت طائر نفسك، وفخّ نفسك، وصدر نفسك، أرض نفسك وسماء نفسك).
                            يعود إليها ويختصر المسافات، إذ لا وجود لإنسان حرّ في البلد العربي، أي بلد دون استثناء، تختلط الأشياء بعضها ببعض، لكن كما هي أوامر الحكومات: أنتَ لست إنساناً.
                            في لندن غربة من نوع آخر، يلاقيها وليد في وجه الأطفال اللاجئين مع ذويهم، بحثاً عن آدميتهم. الأمسيات تقترب لتألف بعضها،كل شيء، الزحام، المشي المستعجل، بائعات الهوى، العربيات والإنجليزيات، الروسيات والقادمات من أوروبا الشرقية. هزّة صدر لراقصة من (سراييفو)؛ مصادرة للرقص الشرقي، غجريات عراقيات يرقصن في المطاعم الفاخرة، مطربون من الدرجة العاشرة من بقايا أندية عدي؛ وسماسرته، أميرات عربيات، مجلات عربية، راقصات مغربيات، أسماء لا تعلق بالذاكرة، أسماء مألوفة، رجال متزينون بزينة نسائية، روج وملابس نسائية وشعر مستعار، رائحة النارجيلة، سندويشات الشاورما، الهامبرجر الأمريكي، كلها امتحان للصوت، ومفاتيح لعبور الأرصفة.
                            كل خطوة يخطوها وليد على الرصيف يقف بعدها متردداً، أ يبادر بالأخرى؟
                            بعد تساؤلات يلتقط أنفاسه من صدره ويحادث نفسه: أنت أكثر أمناً من رصيف وطنك، سر.
                            مع إحدى الخطوات انتبه لبقالة تبيع ورق اليانصيب بباوند واحد للعمود الواحد. خلع معطفه الأسود الذي اشتراه من سوق الحميدية، وراح يبحث في جيبه الداخلي عن بقايا عطاء الإنسانية الإنجليزية. حين اشترى البطاقة قرأ عليها (لوتري)؛ كان يعرف أنه من المستبعد الفوز بها.
                            وقف في الشارع يقرأ بعض الملاحظات المدوّنة في الورقة، واسترجع ذاكرة تذكرة لم تبادر والدته بشرائها له.
                            التعديل الأخير تم بواسطة وفاء عبدالرزاق; الساعة 26-08-2010, 22:28.

                            تعليق

                            • وفاء عبدالرزاق
                              عضو الملتقى
                              • 30-07-2008
                              • 447

                              #15
                              4
                              وقت سفرها بالقطار إلى بغداد قاصدة زيارة (الإمام الكاظم)؛ حين جاء المفتش، انزلق العرق على رقبته، صكت أمه فخذيها وقدميها، وأنزلت عباءتها كي لا يظهر للمفتش رأسه، بعد أن خبّـأته تحت المقعد الخاص بها. ساعتها تصرّف المفتش كما لو كان الخطأ متجاوَزاً من قِبل رجل يدرك العوز، ويدرك أنه بثمن التذكرة اشترت المرأة متاعها ومتاع من اختبأ تحت عباءتها، غضّ طرفه، ومدّ يده للطفل:
                              ـ قم يا بني، أنت في أمان لا تخف.
                              خرج وليد كدجاجة مخذولة، وعندما اختلطت رائحة العشب برائحة "الصمّون" والحلوى المصنوعة من الراشي، التهم المقسوم بشراهة وكأن شيئاً لم يحدث*
                              بعد هطول المطر، انتبه وليد إلى ورقة اليانصيب المبتلـّة، وأكد لنفسه بهزة رأس: ألم أقل يا وليد إن بينك وبين الحظ مسافة.
                              وهو في الطريق، بين الحلم والرصيف والتذكرة، شاهد امرأة مسنّةً ترتدي عباءة سوداء، وقفت متوثبة للشتيمة بعد أن سمعته يطلب منها أن يمسك يدها ويقبّلها:
                              ـ أبمقدوري أن أقبّـل يدك سيدتي؟
                              ألقت عليه نظرة، وقطبت حاجبيها غضباً:
                              ـ أما تستحي يا مجنون، أنا بعمر أمك؟
                              أجابها: ولأنك هكذا وددت تقبيل يدك.
                              تركها تهذي وتسبّ، رغم تدخل شـــاب كان يسير خلفها وقوله لها إنه "لم يقصد شيئاً، وربما رأى فيك شبهاً بأمه.. يا أماه".
                              لم يمر القطار بمساحات الروح، ولم يكن المفتش حاضراً وقت نهرته العجوز، ولم يكن سؤاله خطأ؛ أدرك لحظتها أنه اشترى تذكرة غربته. تعانق عرق خجله مع قطرات المطر المتزاحمة، التي بللت معطفه، أخذ يضحك على جسد يرافق روحه ويقول له:
                              ـ امش أيها الصنم، ولا تسأل، ألم تتعلـّم من المسطرة التي كسّرت أصابعك في درس التأريخ؟ قال المدرس:
                              -لا تسأل عن ما لا يعنيك، أحفظ ما يُطلب منك وامتحن، لتنال درجتك.
                              كان يعني له السؤال وقتما سأل مدرّسه: هل سنصبح غداً في التأريخ؟
                              ردّ عليه المدرس باقتضاب :
                              - نعم.
                              لكنه كان لحوحاً، واستمرّ يجادل مدرّسه، فهو في بداية الصبا وعمره ثلاثة عشر عاماً، بداية الفوران في كل شيء. وحيّر مدرّسه، ولم يعرف بماذا يجيبه،
                              فقط قال له :
                              ـ من الآن وصاعداً اخنق تساؤلاتك ولا داعي أن تطلعني عليها.
                              رفع إصبعه ثالثة:
                              - أستاذ، ردّك هذا يعني أن التأريخ الذي نتعلمه كاذب، ويحتاج أن نبكي عليه.
                              فرح بسؤال المدرّس: ولمَ يا ولدي؟
                              لقد نعته بولــــــدي؛ هذا يعني أنه هادئ البال، ولن يزعق به ثانية. في وقفته المسرعة تجاه ما يدور في خاطره من أفكار، علق قميصه في طاولة الدرس، وشُقّ الجيب وتهدّلت خيوطه. لم يخَف من توبيخ أمه القادم، بل وقف وقفة المتحدي:
                              ـ أستاذ، قلت قبل قليل نحن سنصبح تأريخاً، لكن أبي والناس في البيوت والحافلات والشوارع، أسمعهم يقولون متذمرين:
                              - كل شيء أعوج، كل شيء غلط.. يعني يا أستاذ راح نصير التأريخ الخطأ.. مو؟
                              أكل عشــر مساطر ضرباً على أصابعه، وقرص قوي في أذنه.
                              عبر صوت العجوز إلى أذنه ثانية، تحسّسها فوجد قرص مدرّسه مازال عالقا عليها. وهو يدخل المفتاح بباب الشقة، شعر بإجابة لحيرته طمأنته أن لا حاجة له بالسؤال، ولا شأن له بموت المؤرخ، والكتب أيضاً ليس لها حاجة أن تعرف عنه شيئاً.
                              المؤرخ موثـّق للحقائق، ومزوّر غير موثوق به، كما هي تقنية توزيع الجوائز لكـتّاب عظام أرّخوا مرحلة ما، في أعمالهم أو كتبوا التأريخ بعين الواقع، لكنهم نسوا توثيق الأحاسيس وفكرة اللون.. في غير مرسمه لم يجد لون الفكرة، فأوثق يده اليمنى بما تبقى من يسراه، وراح يستكشف حقيقة ألوانه*
                              حين فتح باب الشقة، صادفه رجل نحيل، يميل إلى الطول، أسمر اللون، كثيف الشارب، أسود العينين، لمعة حادة تتوسط اسودادهما، تنمّ عن ذكاء وقدرة في إدراك الأشياء واستيعــــابها. العزلة هي حدود الكرامة، كرر هاتين الكلمتين بعد أن حاول جاهداً تحرير الأسمر الذي صادفه في المرآة من معطف مبلـّل، مدّ يده على شاربه وخاطب أسمره:
                              -لم تبق لديك شعرة سوداء.
                              تذكر أنه لم يتيسر له ما يسدّ الرمق، فقد ألهته بطاقة اليانصيب عن ذلك. فتح الثلاجة فوجد علبة بيرة وكعكة، راح يغمس الكعكة في البيرة بعد أن صبّها في كوب الشاي الكبير. وجلس على الأريكة، قضم قضمة واحدة، وغاب بعيداً.. حين انتبه وجد أنه يضع كوب البيرة بين فخذيه.
                              ضحك ضحكة عالية، واحتسى البيرة كلها دفعة واحدة، ثم رمى نصف الكعكة في منفضة السجائر. استخرج قداحته من جيبه، ودخّن. سحب بكل قوته نفَساً عميقاً وراح يراقب حلقات الدخان الهاربة منه، تنهّد:
                              -هه.. إنه مثلك أيها الدخان، بارد مثل البيرة. يدي لم تحرك له ساكناً، لو تدري تلك العجوز أنه مخصي لما شتمتني.
                              - ثم ضرب على عجزه:
                              - الحزن كبير، كبير يا.. يا ماذا، أنت مجرد لحم متهرئ يبحث عن جواز سفر، ولست من طوابير الإناث كما لست من طوابير الذكور. (ضربه بقوة)؛ أنتَ بحاجة إلى تعمير. لو حصل لجلال الدين الرومي ما حصل لي، لما قال: كن نفسك.
                              من خلال تأمله المتواصل بعواطفه وحزنه العميق، فشله وتحويله إلى خنثى عاجزة، يطرح أسئلة تدبر له مخرجاً للوصول إلى لون إيقاع الحياة. اثنتان وخمسون لوحة لم تأت بإيماءة لثوب فاتنة يراها في حلمه، الرسائل المتبادلة بينه وبين صديق له في ألمانيا، كانت الوسيلة الوحيدة لديه لطرد الوحشة عنه، كما هي الزاوية التي يتذكر فيها علاقته مع شوارع سوريا وطعم الخيار الطازج والطماطم الطازجة والخبز الساخن، ضحكه على قصائد عبد الحق، بعد نثر الخيار والطماطم على طاولة متواضعة وانتقاء أصغرها وتقديمها لعبد الحق.
                              المحطات البعيدة تقترب، ثم ترجع إلى تجزئة المكان، تثور فيه على نفسها وعلى مَن قاس خطواته بلون الدروب وإغراءات المطارات، إذ تتحول الأقفاص من سجن إلى ثكنة عسكرية ثم إلى ملاجئ لإحالة الجسد إلى التقاعد، والعقل إلى التلصص على حقيقة كانت من نوافذ لا تسمع ولا تفهم معنى أغنية ( نخل السماوة يقول طرّتني سمرة ).
                              من ذات النافذة يفسر لقاموسه المتضاحك عليه معنى كلمة طرّ؛ طرَّ طراً كان طريراً، ذا رواء وجمال، لا هذه لا تعنيك يا وليد. يتركها ويلجأ الى تفسير آخر، فالطرير تعني ذا المنظر والرواء، وفي العراق منذ صغره كان يسمع في الشارع كلمة أطرّك طر، أي أقسمك نصفين، كما سمعها مراراً في التلفزيون:
                              (( اللي يخالفنا نطرّو طر، هـ..هـ.. مو هإ إي))
                              بالتأكيد لم يقصد التلفاز أن يزيننا بغرتنا ويسدل شعرنا على الجبين، فالطـّرة هي زينة المرأة في شعرها المصفـّف على جبهتها، لكن كلمة طرّيته نصفين قديمة، الله كم حاكم يا وليد طرّ أجساد شعبه طراً، وقصّه قصاً؟
                              لتعبر الذكريات المطرورة بنصفيها المملوئين بالدم، سخرية حمقاء لا معنى لها. الشيء الوحيد الذي يضحكه بعض الطرف والنكات الوسخة في رسائل عبد الحق إليه، إذ كم تمنى أن يسمعها منه صوتاً لا مكتوبة.. الغربة ليست شرطاً من شروط الإبعاد الإجباري أو الاختياري، الغربة هي شعورك بنفَس يصعد ويهبط في صدرك وهو غريب عليك.. هذه الغربة العمياء والأكبر في طرّها.
                              شدّ على يده بأطراف أصابعه، ضغط بقوة كأنه يرسم شيئاً ذا معنى، ضغط أكثر من ذي قبل، استعطف رائحة المكان، صداقته، والتقاءه بعبد الحق في سوريا. استحضر لحظات توديعه في المطار، جرّها جراً إليه، رفّ قلبه إلى عيني صديقه. اكتشف على شفتيه كلمة غريبة، فحّت رائحة حفرة عمياء على ساعده، مرّر أصابعه المرتعشة. هذه المرة استوضح الشكل الذي بين أصابعه، كان كفاً بخمسة أصابع.
                              وكأعمى يهتدي إلى شيء رآه لأول مرة، فتح عينيه فوجد أصابعه تتلمس الفراغ.
                              استخرج رسالة قديمة من عبد الحق، قرأ اسمه مكتوباً بالإنجليزية (From Abdulhak). آه لو نتخلص من إرث عبوديتنا، لأصبح لدينا الحق لطرح الأسئلة.
                              وبقي يحادث نفسه.. كل ما أردته أن أزخرف الأشياء الجميلة وأطرحها على شكل سؤال، أبعِد عنها ما شككت به ومازال يحاصرني شكّه، سألت ما يمكن أن أسأله، وطرحت ما أشك به مستوضحاً.
                              نلت بعدها مساطر على كفيّ، وتورّمت أصابعي.
                              البراهين؟ لا، لسنا في حاجة لبراهين، في طابور المدرسة؛ قفوا، اصطفوا، أحفظوا، امتحنوا، تعالوا غداً نظيفين سيزورنا مفتش وزارة التربية.
                              كل ما أردته من أبي أن يعطيني دينارين لشراء قميص، فقد تعبت أمي من ترقيع قميصي. لم أبادر بسؤاله؛ لماذا؟ وكل ما سمعته:

                              -( جيب يا كلب، أنت عارف بالحالة شلون بنت كلب).
                              خجل أبوه من نفسه، بعد أن تطلعت إليه والدته مؤنّبة، التجأ إلى حضنها، مسحت دموعه .
                              ـ كل ما قصدته أن.. أن
                              ـ أسكت يا بني، لا تعذبني أكثر.
                              فأكرمها بسكوته، وأكل تأنيب مدرّس الصف له، فالمدرس رغب أن يقدمه كأشطر الطلبة ويتفاخر به أمام المفتش، لكنه قدّم عليه ابن تاجر الغنم، الذي ارتدى قميصاً نظيفاً لم تظهر عليه آثار الترقيع*
                              بعيداً عن نافذة الخيال، بعيداً عن عبد الحق، رمى الرسالة أرضاً، أشعل سيجارة، أعد كوب شاي، وراح يتأمل طفولته وألوانه.

                              تعليق

                              يعمل...
                              X