تقمص

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مناف بن مسلم
    أديب وكاتب
    • 19-09-2013
    • 72

    تقمص

    تقمص
    مرّ وقت طويلا جداً وما يزال واقفاً بجانب النافذة , منصتاً لصوت المطر المنهمر بغزارة . لم تكن لديه الرغبة للخروج من المنزل . تمنّى أن يمضي اللّيلة قربها . يشرب قدحا من الشاي منتظرا رحيل اللّيل بهدوء , بعيداً عن الخوف والترقب من هذا المجهول الذي ينتظره في الظلام . - هل تتركني وحدي؟. أيّقظه صوتها من استغراقه الطّويل . متأمّلا الطّريق الطّيني الّذي سيجتازه تحت المطر المتساقط والبرد القارص , والاحساس الخافت بالموت المؤجل الحاضر في كلّ لحظة . - هل تتركني وحدي؟. التفت اليّها وأحسّ انّ شيئاً ما يتقلّص في معدته , حرارة تلتهب في داخلها , ربما . حرك شفتيه فلم يخرج صوته . حاول أن يبقى صامتا. يقبّلها ثمَّ يخرج لقدره الذي ينتظره . كانت جالسة على حافّة السّرير , واضعة يديّها بين فخذيها وتحرك قدميها على الأرض هنا وهناك . رأسها منخفض , تتابع بعيونها حركات قدميها التي تتحرك كبندول ساعة قديمة . - أنا خائفة .... ابق معي الليلة . - يجب أن أذهب ... اغلقي الأبواب والنّوافذ .. وأضيئِ المنزل فيتلاشى خوفك . - الا تستطيع أن تبقى ؟ - لا أستطيع. عندما خرج من المنزل , لم يكن أمامه غير أن يجتاز الطّريق الطّيني الطويل , في هذه القرية النائية . المطر غزيراً , والظلمة قاتمة . لا شيء سوى صوت الرعد ونباح الكلاب وهزيز الريح . وخطواته المغروزة في الوحل. بقيت وحدها , تجترّ افكارها المخيفة , جالسة على حافّة السّرير . واضعة يديها على رأسها . لم تعرف كم مرّ عليها من الوقت . امتلئ رأسها بصور مشوشة . أخيراً أرتمت على السرير , منصة لانهمار المطر الذي يطرق الأبواب والنّوافذ . ايقاع رتيب , نغمات خافته , متواصلة مع وقع الرّعد الثّقيل والبرق الخاطف . نباح الكلاب يرتفع بين فترة وأخرى , يشارك هو الآخر في هذا اللّحن المخيف الّذي لا ينتهي . أغمضت عينيّها وحاولت ان تغفو , أن تهرب من الخوف الجاثم على صدرها . لكنّها تذكّرت بشدّة تلك الحكاية القديمة التي حكتها جدّتها لامّها في ليلة من ليال الشتاء , سمعتها عندما كانت طفلة نائمة قرب امّها , دون أن يعرفا انّها مستيقظة , تنصت وتتخيّل كلّ كلمة تنطقها جدّتها . عن تلك المرأة التي يتركها زوجها وحدها في ليلة ممطرة , في تلك القرية النائية , بين أنياب الأشباح الشّريرة . انّها الآن تتخيلها وتشعر بخوفها ورجائها لحظة بلحظة , بواقعية مشؤومة . كأنها تقمّصت روحها , ارتفع وقع الأقدام خارج المنزل . ثم طرق عنيف على الباب الخشبي . طرق متواصل . مع همهمات وأصوات مخيفة , دمْدَمَة الريح , زمْزَمَة الرعد , وحفيف الأشجار المبلولة بماء المطر . ربما حاصر زوجها المطر فعاد مسرعا , فكّرت ثم نهضت ببطء تلفّها العتمة . لم تفكر أن تضيء أنوار المنزل , واكتفت بتلمّس الجدران والانصات لصدى خطواتها المترددة . كانت المسافة الى الباب تمتد أمامها الى ما لا نهاية . أستمر الذي يطرق الباب بطرق الباب بانفعال شديد. خافت أن تفتح الباب , وسألت (من الطارق ؟) لم يرد عليها واستمر يطرق أكثر وأكثر . ازداد خوفها وحاولت أن تعود لغرفتها , لكنّها بتلقائية غريبة فتحت الباب ببطء شديد جداً . ما أن انفتح الباب قليلاً حتى انقضّوا دفعة واحدة . انهال الضرب والرّكلات عليها . لم تستطع الدّفاع عن نفسها . أحسّت برأسها يكاد يتهشم , والأرض لم تعد ثابتة , صارت تدور وتدور مثل مغزل صوف . ثم سقطت على الأرض الصلبة دون أن تفهم شيئا , ودون أن ترى شيئاَ سوى أشباح ضبابية متراقصة حولها , أشبه باحتفالات الزنوج حول النّار . اعتلاها جسد بعد الآخر , امتلأ أنفها بروائح نتنة . لم تعرف ما الذي يريده هؤلاء الاشباح , هل الاغتصاب ام الانتقام من شيء ما تجهله , ام قتل بطريقة أخرى . أغمضت عينيها مستسلمة لكل شيء يحدث الآن . تقلصت معدتها , أرتجف جسمها . فتحت فمها بحثا عن الهواء , فأحست انّها تتقيأ . امتلأ وجهها بسائل حامض . امتزجت أنفاسها برائحتهم النتنة ورائحة القيء والدم المتدفق منها . ولمّا التفّوا حولها سمعت لهاثهم المتقطع اشبه بفحيح الافاعي السامة وهم يلعقون دمائها ولعابها والسائل الحامض التي ما زالت تتقيئه . ارتفع الصّدى عميقا في العتمة , يؤكد لها واقعية هذا الكابوس العنيف بحضوره . انّهم وحوش . ذئاب شرسة قادمين من المجهول الغامض ثم يرحلون الى المجهول الغامض . وحدها الآن تتمزق اشلاء متناثرة في صحراء خاوية . عتمة قاتمة تخنق انفاسها الشاحبة . ترتجف ثم تتقيأ مرة أخرى . جسدها ينتظر المزيد من الألم المؤجل , والخلاص صار وهما متلاشيا كتلاشي وجوههم في العتمة , متناغما مع هدير الرعد الصاخب . الريح غاضبة خارج المنزل , يعلو عويلها مشتتا همهماتهم المبتورة . كل شيء مستمر حتى النهاية ولا أحد يعرف النهاية . اشرقت الشمس , تلاشت الغيوم واصبحت السماء صافية . انتشر ضوء الشمس في الغرفة . استيقظت متعبة جدا , حاولت النهوض من سريرها فلم تستطع . احست بأن جسمها مكسر , كأنها رميت من فوق سطح بناية عالية . تذكرت كابوس ليلة البارحة فارتجف جسمها كالسعفة , كابوس مخيف , عنيف . بسبب جدّتها . لم تستطع التخلص من تأثير حكايتها الملعونة تلك . رغم مرور كل تلك السنين . فلا تزال تعيش تفاصيل الحكاية بين فترة واخرى . نهضت بصعوبة واقتربت من المرآة . ما ان شاهدت صورتها في المرآة حتى صرخت صرختا ارتفع صداها بين جدران المنزل ثم سقطت على الأرض دون حركة .
    مناف كاظم محسن - العراق
يعمل...
X