"مراتب الصيام":
لحضرة الشيخ عباس السيد فاضل الحسني:ـ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
✍️ الحمد لله الجليل الجميل، على دين الإسلام الحنيف، وعلى نعمة الإيمان العظيم، وعلى كرامة الإحسان القريب، والصّلاة والسّلام على سيد الوجود، الحبيب المحبوب، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، والركوع والسجود للربِّ المعبود ـ جلَّ جلالُهُ وعمَّ فضلُهُ ونوالُهُ. وارضَ اللّهمَّ عن آل بيت النَّبيّ المكرمين ـ أهل القرابة والوداد، وأصحاب رسول الله الأتقياء ـ أهل البيعة والرضوان، وتابعيهم بإحسان إلى يوم القرار ـ فهم أهل الصدق والصفاء والوفاء، والمؤمنين والمؤمنات ـ أهل التقى والامتثال، والمسلمين والمسلمات ـ أهل الشهادة والإخاء.
✏️ أمّا بَعْدُ: فقد قال أكمل الرّسل ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، رواه مسلم وأبو داود وأحمد وابن حبان.
💐 "أيُّ إخوتي": قوله ـ عليه الصّلاة والسّلام: «إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا»، أي: عزيمةً لكمال صيامه وقيامه، وسرورًا بهما وإن طال نهاره، واشتد حرّه؛ وكمال قيامه: حتى مطلع الفجر ـ فبشراكم بلياليه العظام، ونهاره الكريم، وما أجمل لو كانت السنة كلّها رمضان ـ لعظيم ما فيه من الخير والفيض الإلهي ـ من الرّحمة، والمغفرة، والعتق من النار، واستجابة الدعوات.
🍁 "أيُّ سادة": أخرج أبو نُعيم عن سمرة السوائي عن أبيه، قال: جاء رجل إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم، فقال يا رسول الله، ما أقرب الأعمال إلى الله ـ عزَّ وجلَّ؟ قال: «صِدْقُ الْحَدِيثِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ»، قلت: يا رسول الله، زدنا قال: «صَلاةُ اللَّيْلِ، وَصَوْمُ الهَوَاجِر»، "صوم الهواجر"؛ أي: في شدة الحرِّ، ولما في ذلك من الظمأ مع طول نهاره، كما قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» متفق عليه. وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب وأبو نعيم في الحلية واللفظ لأبي نعيم عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ ـ قَالَ: خَرَجْنَا غَازِينَ فِي الْبَحْرِ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ وَالرِّيحُ لَنَا طَيِّبَةٌ وَالشِّرَاعُ لَنَا مَرْفُوعٌ، فَسَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي: يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ، قِفُوا أُخْبِرْكُمْ، حَتَّى وَالَى بَيْنَ سَبْعَةِ أَصْوَاتٍ، قَالَ أَبُو مُوسَى: فَقُمْتُ عَلَى صَدْرِ السَّفِينَةِ فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ أَوَمَا تَرَى أَيْنَ نَحْنُ؟ وَهَلْ نَسْتَطِيعُ وُقُوفًا؟ قَالَ: فَأَجَابَنِي الصَّوْتُ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِقَضَاءٍ قَضَاهُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى نَفْسِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى أَخْبِرْنَا، قَالَ: فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَضَى عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ مَنْ عَطَّشَ نَفْسَهُ لِلَّهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فِي يَوْمٍ حَارٍّ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَرْوِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قَالَ: فَكَانَ أَبُو مُوسَى يَتَوَخَّى ذَلِكَ الْيَوْمَ الْحَارَّ الشَّدِيدَ الْحَرِّ الَّذِي يَكَادُ يَنْسَلِخُ فِيهِ الْإِنْسَانُ فَيَصُومُهُ ".
🥀 "أيُّ إخوتي": خرج عبد الله بن عمر؛ في سفر معه أصحابه فوضعوا سفرة لهم، فمرَّ بهم راعٍ فدعوه إلى أن يأكل معهم، قال: إنّي صائمٌ، فقال ابن عمر ـ رضي الله عنه: في مثل هذا الشديد حرّه وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم؟، فقال: "أبادر أيامي هذه الخالية"، فعجب منه ابن عمر، فقال له ابن عمر: هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك ونطعمك من لحمها ما تفطر عليه، ونعطيك ثمنها، قال: إنّها ليست لي، إنّها لمولاي، قال: فما عسيت أن يقول لك مولاك إن قلت: أكلها الذئب؟ فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء، وهو يقول: فأين الله! فلم يزل ابن عمر يردد كلمته هذه؛ فلما قدم المدينة بعث إلى سيد الراعي، فاشترى منه الراعي والغنم، "فأعتق الراعي، ووهب له الغنم". فتأملوا إلى هذه العظمة.
✏️ قال الحسن ـ رضي الله عنه: تقول الحوراء لولي الله وهو متكئ معها على نهر الخمر في الجنّة، تعاطيه الكأس في أنعم عيشة، أتدري أي يومٍ زوجنيك الله؟؛ إنّه نظر إليك في يومٍ صائف بعيد ما بين الطرفين وأنت في ظمأ هاجرة من جهد العطش، فباهى بك الملائكة، وقال أنظروا إلى عبدي ترك زوجته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي، رغبةً فيما عندي؛ اشهدوا إني قد غفرت له. فغفر لك يومئذ وزوجنيك.
💐 "أيُّ سادة": اعلموا أنّ للصائم: مراتبَ ثلاثًا:ـ
🌿 المرتبة الأولى: "الفرضية بالأمر"، وهي أدنى رتبة، وهي الكفُ عن الشهوتين ـ البطن والفرج في وقته مقرونًا بالنِّيّة المعتبرة المذكورة في محله، وهذا جواز الفتوى في ظاهر شرع الدُنيا، كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، أي: طاعته، وعدم مخالفته مطلقًا، فـ {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} للذين يُخالفونه ـ صلّى الله عليه وسلّم، فهو بابنا الأعظم إلى المولى ـ جلَّ جلالُهُ، وعمَّ فضلُهُ ونوالُهُ.
🌿 المرتبة الثانية: "كفّ الجوارح عن المعاصي، وتقييدها بالطاعات"، أي: منع الأعضاء من العين والأذن واللسان وسائر الأعضاء والأركان عن مطلق العصيان، كما قال أكمل الرّسل ـ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»، رواه البخاري وغيره، وقال ـ عليه السّلام: «إِنَّ الصِّيَامَ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا، فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنْ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ، أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ» رواه الإمام أحمد.
وهو "مناط القبول"، وليس الجواز، بتوفيق الله ورحمته، وهي مرتبة العلم والعمل، كما قال ـ جلَّ ثناؤه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، والتقوى، هي: أداءُ الواجبات، واجتناب المحرمات، ومن تلك الواجبات: تعلم العلم الشّرعيّ الضّرُورِيّ.
🌿 المرتبة الثالثة: كفّ القلب عمّا سوى الله تعالى، وهو: أن يخاف الرّد، ويرجو من الله القبول، وهو: حال أهل الخشية والهيبة ـ وهذا حال الكبار ـ من النّبيّين والرّبانيّين، كما قال ـ عزَّ وجلَّ: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}، ولقوله ـ جلَّ مجدُه: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}، وقال النَّبيّ الكريم ـ صلّى الله عليه وسلّم: «فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً»، رواه البخاري. وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام: «اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ»، رواه الترمذي، وفي أخرى: {أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، رواه أحمد.
"أيُّ إخوتي": كلّما قويّ إيمان العبد ويقينه، عظم خوفه ورجاؤه بربه ـ عزَّ وجلَّ، كما قال ـ جلَّ شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}، وقال ـ جلَّ ذكره: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، وقال ـ جلَّ مجده: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}.
فهنيئًا لكم يا أعزاء القلوب في الله ـ بصومكم وقد أمركم المولى تعالى ـ بصيامه، فتحمّلتم لشدة الحرّ شوقًا إلى جلاله الأقدس، وغذاكم بذكره وحبّه ـ عن ظمئه وأتعابه، فإذا كان صوم يومٍ في الحرّ يبعد عن النّار وعذابه سنينًا؛ فكيف بصوم الشهر في حرّه شوقًا للقائه ـ جلَّ جلال اللطيف الواسع العليم.
🤲 اللّهمَّ؛ هب لنا من فضل رحمتك مقام الخوف منك، والخشوع لجلال وجهك الكريم، والشوق للقائك الأقدس ـ تبارك وتعالى ربّنا وتقدّس، آمينَ آمينَ آمين. والحمد لله ربِّ العالمين.
منقول
لحضرة الشيخ عباس السيد فاضل الحسني:ـ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
✍️ الحمد لله الجليل الجميل، على دين الإسلام الحنيف، وعلى نعمة الإيمان العظيم، وعلى كرامة الإحسان القريب، والصّلاة والسّلام على سيد الوجود، الحبيب المحبوب، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، والركوع والسجود للربِّ المعبود ـ جلَّ جلالُهُ وعمَّ فضلُهُ ونوالُهُ. وارضَ اللّهمَّ عن آل بيت النَّبيّ المكرمين ـ أهل القرابة والوداد، وأصحاب رسول الله الأتقياء ـ أهل البيعة والرضوان، وتابعيهم بإحسان إلى يوم القرار ـ فهم أهل الصدق والصفاء والوفاء، والمؤمنين والمؤمنات ـ أهل التقى والامتثال، والمسلمين والمسلمات ـ أهل الشهادة والإخاء.
✏️ أمّا بَعْدُ: فقد قال أكمل الرّسل ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، رواه مسلم وأبو داود وأحمد وابن حبان.
💐 "أيُّ إخوتي": قوله ـ عليه الصّلاة والسّلام: «إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا»، أي: عزيمةً لكمال صيامه وقيامه، وسرورًا بهما وإن طال نهاره، واشتد حرّه؛ وكمال قيامه: حتى مطلع الفجر ـ فبشراكم بلياليه العظام، ونهاره الكريم، وما أجمل لو كانت السنة كلّها رمضان ـ لعظيم ما فيه من الخير والفيض الإلهي ـ من الرّحمة، والمغفرة، والعتق من النار، واستجابة الدعوات.
🍁 "أيُّ سادة": أخرج أبو نُعيم عن سمرة السوائي عن أبيه، قال: جاء رجل إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم، فقال يا رسول الله، ما أقرب الأعمال إلى الله ـ عزَّ وجلَّ؟ قال: «صِدْقُ الْحَدِيثِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ»، قلت: يا رسول الله، زدنا قال: «صَلاةُ اللَّيْلِ، وَصَوْمُ الهَوَاجِر»، "صوم الهواجر"؛ أي: في شدة الحرِّ، ولما في ذلك من الظمأ مع طول نهاره، كما قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» متفق عليه. وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب وأبو نعيم في الحلية واللفظ لأبي نعيم عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ ـ قَالَ: خَرَجْنَا غَازِينَ فِي الْبَحْرِ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ وَالرِّيحُ لَنَا طَيِّبَةٌ وَالشِّرَاعُ لَنَا مَرْفُوعٌ، فَسَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي: يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ، قِفُوا أُخْبِرْكُمْ، حَتَّى وَالَى بَيْنَ سَبْعَةِ أَصْوَاتٍ، قَالَ أَبُو مُوسَى: فَقُمْتُ عَلَى صَدْرِ السَّفِينَةِ فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ أَوَمَا تَرَى أَيْنَ نَحْنُ؟ وَهَلْ نَسْتَطِيعُ وُقُوفًا؟ قَالَ: فَأَجَابَنِي الصَّوْتُ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِقَضَاءٍ قَضَاهُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى نَفْسِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى أَخْبِرْنَا، قَالَ: فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَضَى عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ مَنْ عَطَّشَ نَفْسَهُ لِلَّهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فِي يَوْمٍ حَارٍّ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَرْوِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قَالَ: فَكَانَ أَبُو مُوسَى يَتَوَخَّى ذَلِكَ الْيَوْمَ الْحَارَّ الشَّدِيدَ الْحَرِّ الَّذِي يَكَادُ يَنْسَلِخُ فِيهِ الْإِنْسَانُ فَيَصُومُهُ ".
🥀 "أيُّ إخوتي": خرج عبد الله بن عمر؛ في سفر معه أصحابه فوضعوا سفرة لهم، فمرَّ بهم راعٍ فدعوه إلى أن يأكل معهم، قال: إنّي صائمٌ، فقال ابن عمر ـ رضي الله عنه: في مثل هذا الشديد حرّه وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم؟، فقال: "أبادر أيامي هذه الخالية"، فعجب منه ابن عمر، فقال له ابن عمر: هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك ونطعمك من لحمها ما تفطر عليه، ونعطيك ثمنها، قال: إنّها ليست لي، إنّها لمولاي، قال: فما عسيت أن يقول لك مولاك إن قلت: أكلها الذئب؟ فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء، وهو يقول: فأين الله! فلم يزل ابن عمر يردد كلمته هذه؛ فلما قدم المدينة بعث إلى سيد الراعي، فاشترى منه الراعي والغنم، "فأعتق الراعي، ووهب له الغنم". فتأملوا إلى هذه العظمة.
✏️ قال الحسن ـ رضي الله عنه: تقول الحوراء لولي الله وهو متكئ معها على نهر الخمر في الجنّة، تعاطيه الكأس في أنعم عيشة، أتدري أي يومٍ زوجنيك الله؟؛ إنّه نظر إليك في يومٍ صائف بعيد ما بين الطرفين وأنت في ظمأ هاجرة من جهد العطش، فباهى بك الملائكة، وقال أنظروا إلى عبدي ترك زوجته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي، رغبةً فيما عندي؛ اشهدوا إني قد غفرت له. فغفر لك يومئذ وزوجنيك.
💐 "أيُّ سادة": اعلموا أنّ للصائم: مراتبَ ثلاثًا:ـ
🌿 المرتبة الأولى: "الفرضية بالأمر"، وهي أدنى رتبة، وهي الكفُ عن الشهوتين ـ البطن والفرج في وقته مقرونًا بالنِّيّة المعتبرة المذكورة في محله، وهذا جواز الفتوى في ظاهر شرع الدُنيا، كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، أي: طاعته، وعدم مخالفته مطلقًا، فـ {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} للذين يُخالفونه ـ صلّى الله عليه وسلّم، فهو بابنا الأعظم إلى المولى ـ جلَّ جلالُهُ، وعمَّ فضلُهُ ونوالُهُ.
🌿 المرتبة الثانية: "كفّ الجوارح عن المعاصي، وتقييدها بالطاعات"، أي: منع الأعضاء من العين والأذن واللسان وسائر الأعضاء والأركان عن مطلق العصيان، كما قال أكمل الرّسل ـ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»، رواه البخاري وغيره، وقال ـ عليه السّلام: «إِنَّ الصِّيَامَ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا، فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنْ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ، أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ» رواه الإمام أحمد.
وهو "مناط القبول"، وليس الجواز، بتوفيق الله ورحمته، وهي مرتبة العلم والعمل، كما قال ـ جلَّ ثناؤه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، والتقوى، هي: أداءُ الواجبات، واجتناب المحرمات، ومن تلك الواجبات: تعلم العلم الشّرعيّ الضّرُورِيّ.
🌿 المرتبة الثالثة: كفّ القلب عمّا سوى الله تعالى، وهو: أن يخاف الرّد، ويرجو من الله القبول، وهو: حال أهل الخشية والهيبة ـ وهذا حال الكبار ـ من النّبيّين والرّبانيّين، كما قال ـ عزَّ وجلَّ: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}، ولقوله ـ جلَّ مجدُه: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}، وقال النَّبيّ الكريم ـ صلّى الله عليه وسلّم: «فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً»، رواه البخاري. وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام: «اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ»، رواه الترمذي، وفي أخرى: {أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، رواه أحمد.
"أيُّ إخوتي": كلّما قويّ إيمان العبد ويقينه، عظم خوفه ورجاؤه بربه ـ عزَّ وجلَّ، كما قال ـ جلَّ شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}، وقال ـ جلَّ ذكره: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، وقال ـ جلَّ مجده: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}.
فهنيئًا لكم يا أعزاء القلوب في الله ـ بصومكم وقد أمركم المولى تعالى ـ بصيامه، فتحمّلتم لشدة الحرّ شوقًا إلى جلاله الأقدس، وغذاكم بذكره وحبّه ـ عن ظمئه وأتعابه، فإذا كان صوم يومٍ في الحرّ يبعد عن النّار وعذابه سنينًا؛ فكيف بصوم الشهر في حرّه شوقًا للقائه ـ جلَّ جلال اللطيف الواسع العليم.
🤲 اللّهمَّ؛ هب لنا من فضل رحمتك مقام الخوف منك، والخشوع لجلال وجهك الكريم، والشوق للقائك الأقدس ـ تبارك وتعالى ربّنا وتقدّس، آمينَ آمينَ آمين. والحمد لله ربِّ العالمين.
منقول