المشاركة الأصلية بواسطة عبدالله حسين كراز
مشاهدة المشاركة
عبق الشعر في وصف النفيس: قراءة في عالم الشاعرية في
"مِنْ ربّةِ الشعر" للشاعرة العراقية بلقيس الجنابي
"مِنْ ربّةِ الشعر" للشاعرة العراقية بلقيس الجنابي
من منا لا يحب الشعر وحروفه وثورته الباطنية في العقل والقلب، ما دام ينهض من رحم تجربة أو رؤية تشتعل فيها الأفكار والأحاسيس والمشاعر التي ترتسم بألوان تستمدها القصيدة من عبقرية الذات الشاعرة ووعيها وقدرتها على الكتابة والتعبير والبناء والتشكيل كي تبلغ رسالة النص ويتوحد مع قناعه/ذاته الشاعرة/صوته المتسيد القراء والمتلقين والمستمعين من مستويات متعددة ومتباينة في همومها وأحلامها وأمانيها.
هنا النص ينطق بالعديد من بؤر الشعور والشاعرية ويستنطق الجسد والعقل والقلب في حميمية الكلمات والصور والتعبيرات. حيث تتحرك الفكرة ضمن إطارها الشاعري ووحدتها الموضوعية والعضوية بسلاسة واقتدار وتمكن. وينطوي النص على أبعاد قيمية إنسانية تتراوح من الحميمي الوطني والكوني الإنساني، ومن الخاص إلى العام وبالعكس في تراسل فني وبنية سليمة ومترابطة ومنسجمة في تداعياتها التصويرية والانطباعية التي يرسمها النص في لوحة القلب. ينطلق النص من قمة الأحاسيس وذروتها حيث الشعر والمشاعر والأحاسيس والكلمات والعبارات والتراكيب والأبنية كلها تتمازج أو تتوازى وتمنح المتلقي فضاءً من التأمل والتدبر والمتعة، مستلهماً في خاطره ما تدور فكرة النص حوله وفي بوتقته. وعند الولوج في عالم الشاعرية والنص، نستشف قدراً فنياً دالاً وقوياً امتشقت الشاعرة منه صهوة القصيدة وأصوات الحروف التي هيمنت عليها حرارة التعبير والتجاور الصوري والبديعي.
وتبدأ الشاعرة بوحها من عمق التجربة وبوتقة الأحساس من فضاء الشعر ذاته تعبيراً عن حبها الحميمي للشعر الذي يكتب لحن الحياة وصيرورة المشاعر، حيث تقوى على صوغ مادتها الشعرية بإرادة تستمد قوتها من تشابكات حروف الفن العربي الأول: الشعر،
من ربّةِ الشعرِ جاءَتْ تُسْعِفُ الجُمَلُ
فلا تَرَدُّدَ من ذاتي ولا وَجَلُ
وهي هنا تجسد عالم الشعر وتشخصه بعالم الأسطورة وفعلها التراثي والمعرفي والإنساني، ما يعني قوة التعبير والتشخيص، كما في قولها "جاءت تسعف الجمل،" برغم نبرتها الفردية والذاتية المباشرة، إلا أنها تحمل بعداً جمعياً وإنسانياً.
ويتحول الخطاب الشعري في عالم القصيدة بما ينسجم مع فكرة النص وذاته الشاعرة، في صيغة الخطاب الناقد والساخر لمن "لجوا برأيهم" في غير مخمصةٍ ولا طائل:
وهمّتي فوقَ من لجّوا برأيِهُمُ
جهلاً ودونَ مراقي عِزّتي زُحَلُ
ربما استحضرت الشاعرة "رمز الأسطورة العريقة "زحل" من مكامن التاريخ والثقافة والتراث لتثري فكرتها وتعمق دلالات الصورة التي تعزز روح الانتماء والولاء للشعر الذي يكتب الوطن والذات الإنسانية بتلاحم حميمي.
ثم تغمر الشاعرة بهو نصها بصور فنية وذات دلالات سامية وقيم إنسانية ببعض اللسمات الرومانسية وفي ذلك تداخل للمعرفة والثقافة والرأي والرؤية من حقول قطفت منها الشاعرة ما راق لها لتخدم فكرتها وثيماتها المنثورة في مساحات القصيدة، كما في:
ألشعرُ بعضُ أغاريدي وأنسُجُهُ
ففي الصورة تلك وصف جمالي ودال لعالم الشعر وكينونته الفنية والدلالية والماتعة الشيقة، حيث عالم الشعر هو عالم الأغاريد والمنسوج بقلم الشاعرة في مراحل تشظيها من جهة، ومن أخرى في توحدها مع الحرف والكلمات المعبرة عن حلمها وأمانيها وما يعتمل في باطنها الجوانية دون فجوات ودون غموض ولا إبهام، ليكون النسج رقيقاً وبهياً وجميلاً ورائقاً يمتزج بروح النثر الذي يخرج منه "مزج العسل" كما تصر الشاعرة على وصفه:
نسجاً رقيقاً ونثري مزْجُهُ العسلُ
وما يستيد فضاء النص هو الوطن الأعز وأشياؤه وتضاريسه ومعالم الحياة والخلود فيه، والتي تستلهم الشاعرة منه مادتها الشعرية والشعورية العميقة والمتسعة والبليغة، ليصبح ملاذاً لمشاعرها وعالمها الشعري وملهماً لها في كل حرف ترسمه في لوحاتها الشاعرية.
ويتواصل بوح الشاعرة بكل حميميته وشاعريته وبالاستعانة بجماليات التعبير والكتابة الشاعرية وبتقنيات إبداعية واعية وموفقة من تشبيه وإزاحة تصويرية وتجاور واستعارة وتكثيف، وصفاً لحالة من التلاحم مع الوطن والنفس الخالدة فيه، وهنا تقارن الشاعرة ذاتها العاشقة للوطن وفيه ع أولئك الذين أصابوه بمرارة وتسببوا في مأساته وكبواته وخرابه:
مثلُ الرحيقِ مقالي في تذوّقِهِ
وقولُهمْ بمرارِ الصابِ مُتّصِلُ
وتبوح الشاعرة بطريقتها المتفردة عن شعروها بالفخر وهي العاشقة الأولى للوطن الذي يدعوها لتبادل الحالة ذاتها من العشق والمغازلة:
ألفخر لي حين أمضي في مغازلتي
حِبِّي ، وبعضُ تراتيلي هي الغَزَلُ
ورغم غموض الصورة في "أمضي في مغازلتي" و "بعض تراتيلي هي الغزل"، إلا أن النص يفكك غموضه بوحدته العضوية والموضوعية/الثيماتية دون انتقاص من المعنى والقيمة الدلالية للنص ككل.
وفي حالة من التماهي مع الأنا العليا ومثيلتها الباطنية تتوحد الشاعرة مع الطبيعة بكل تفاصيلها وأشيائها عشقاً للوطن الذي هيمنت على فضاءاته تعابير دالة ومعمقة وإيحائية مثل "يمامة البر" وهي تحيك في خاطر الشاعرة لباس الشاعرية وزي البوح الوطني والإنساني خالصاً ونقياً:
صوتي وصوتي بحالِ الوَجْدِ متّصِلُ
وهنا تجسيد لصوتها الذي يسافر عبر المكان والزمان في بنية الوطن كما النص، حيث التوحد بين الصوت الآتي من عميق الوطن وذلك الصاعد من باطن الذات الشاعرة ووجدانها وعاطفتها الحارة والمتقدة. ولا أدل على قدرة الشاعرة على البوح المعرفي والتاريخي والتراثي إلا استحضارها المتميز لرمز تراثي وتاريخي وأسطوري أصيل يحمل دلالات العشق والحب والموت في حياة الوطن، إذ تقول بصوت متفرد في عبق حروف "ولادة" التي تتماهى معها من حيث قوة شعرها وفصاحته وعزيز فكرها، ويشهد لها بالعفاف والطهر:
"ولاّدةُ الشعر" في الماضي رسمتُ لها
دربَ النسيبِ ولا ربعٌ ولا طللُ
وهي هنا تحط رحال القصيدة وإرهاصات بوحها فوق جودي الفنية السامقة والتعبيرية الشاعرية المتحولة جمالاً ورونقاً دالاً على الصلة القوية والخالدة بين قلب الوطن وقلب الشاعرة، وعلى ماضيها العريق والأصيل والمشرف، وعلى نسبها الوطني والنافذ في أعماق الجسد المترع بعشقه وحبه المتنامي في كل وقت:
مضتْ على رِسْلِها في رحلةٍ عبرتْ
دنيا الخيالِ ولا ناقٌ ولا جَمَلُ
وبتوظيف تقنيات الشاعرية المتقنة والدالة بكل وعي ودربة ودراية، تنجح الشاعرة في وصف الحالة الإنسانية لعشقها الأبدي للوطن، فتارةً الوطن محاط كما الرسغ بأسورة من الماس المترجم حباً وولعاً وهياماً وعشقاً لا ينفد وبحصون القلب الذي ينبض بكل هذا وذاك، وتعزز فكرتها ورؤيتها الشاعرية بمزيد صور لشخصيات لها دلالاتها وقيمتها ووزنها التاريخي والمعرفي والتراثي والانساني كما شخصية "سافو":
وهي الحصون ُ وأبياتي تذكّرني
بشعرِ " سافو " لها من ربِّهِ القُبَلُ
بحيث تصبح "سافو" رمزاً كونياً على قدر الشاعرة في التماهي والتوحد مع شاعرة الإغريق الأولى التي تفردت في طرحها قضايا الأمة والناس بصورة جريئة وصريحة، وفي التحدي والتحمل والوفاء، وبما تحمله من دلالات أسطورية عابقة بالحياة والجماليات والمعنى.
وتواصل الشاعرة بوعي وحنكة في وصف حروفها الراسمة لأحاسيسها ومشاعرها المفعمة بعشق الأوطان وأمكنتها وتاريخها وبطولاتها، موظفةً أدق التفاصيل وابلغ الصور الشاعرية والجماليات الشكلية والرائقة، فتقول بنيرة الكبرياء ما دام الوطن ينتصب شاخصاً أمامها وفي مرآةعيونها كما وعيها:
قصائدي مثلُ غزلانٍ مُكَحَّلَةٍ
لا يُحْسَدُ الكُحْلُ لكنْ يُحْسَدُ الكَحَلُ
ففي اللوحة الشاعرية هنا تشبيهٌ بليغ وصريح أدل من وصفها المباشر للحالة التي امتشقت أحاسيسها واعتملتها في باطنها، بحيث تصبح قصائدها "غزلانٍ مُكَحَّلَةٍ" بكل ما تحمله الصورة من بلاغة في الوصف والجمال، ولتدل على مدى عشقها المستدام لوطنها الخالد في دمها وعروقها. وعندما تخاطبنا بقولها،
لا يُحْسَدُ الكُحْلُ لكنْ يُحْسَدُ الكَحَلُ
وبكل ما تحمله الصورة الشاعرية هنا من تجانس لفظي بين "الكُحْلُ" و "الكَحَلُ"- وما قد تسببه من غموض لدى القارئ – لتعبر عن مدى اعتزازها بنفسها العاشقة وذاتها المتوحدة مع الوطن عبر الزمن دون توقف وتحدياً لمن يتآمرون عليه وفيه.
ثم يتحول النص ليرسم معالم عشق مستجدة وحميمية وعميقة، حيث تعزف الذات الشاعرة مشاعر الانتماء والحنين للوطن على قيثارتها الخاصة بأوتار قلبها المتجدد النبضات والدماء:
عزفتُ أمسِ على قيثارتي غزلاً
عنّي وعنهُ أهالي العشْقِ قد سألوا
وينطوي البيت السابق على لحظة من الدهش والتساؤل، بحيث يكون حله في:
فقيل " رابعةٌ " والشوقُ تيّمَها
إلى الحبيبِ لديهِ يُسْكِرُ النَّهَلُ
لتمنح نصها لوحةً متفردةً وجديدةً مع "رابعة" – ابنة الوطن ذاته وتحديداً ابنة البصرة الراسخة في قلب الوطن العراق - التي تتمثل في إرادتها وقوة شخصيتها ومواقفها أزاء الوطن والحبيب الذي احتضنه الوطن بطل جغرافيته وطقوسه، وبما تحمله، وبما يحمله هذا الاستحضار الواعي لشخصية أسطورية ورمزية كبيرة من دلالات العشق الإلهي والتصوف والزهد والعبادة الوفية.
وما دام البوح يعبر عن لحظات العشق والحب الخالد، تأخذنا الشاعرة إلى شطآن "دجلة" ومائه الأحلى، ملهماً إياها ومبصراً لها كون العراق وفضاء الوطن كله، في تجاوره مع "الفرات" مائه الأعذب، وفي ذلك اعتزاز لا يخفت بالوطن وحبه:
وقلتُ من دجلةٍ جاءتْ حلاوتُهُ
ماءً فُراتاً ويحلو شُربُهُ العَلَلُ
هذا البوح ينطوي على تداخل الثيمات وتمازجها في وعي الشاعرة التي تميزت في عرض فكرتها شعرياً وشعورياً بكل حميمية وفنية وبتوظيف تقنيات شاعرية وجمالية دلّت على ثقافة الشاعرة وإرادتها التعبيرية بكل ما تملك من أدوات إثرائية من محسنات بديعية وتجاور وإزاحة وتكثيف وانسيابية وحراكية تصويرية في وحدة موضوعية وثيماته وعضوية ملموسة في ثنايا النص وتلافيف فكرته، بحيث تهيمن حالة العلاقة بين الوطن والعشاق له بكل تفاصيلها وإرهاصاتها على فضاء النص ومشاهده الفنية والجمالية.
د. عبدالله حسين كرازهنا النص ينطق بالعديد من بؤر الشعور والشاعرية ويستنطق الجسد والعقل والقلب في حميمية الكلمات والصور والتعبيرات. حيث تتحرك الفكرة ضمن إطارها الشاعري ووحدتها الموضوعية والعضوية بسلاسة واقتدار وتمكن. وينطوي النص على أبعاد قيمية إنسانية تتراوح من الحميمي الوطني والكوني الإنساني، ومن الخاص إلى العام وبالعكس في تراسل فني وبنية سليمة ومترابطة ومنسجمة في تداعياتها التصويرية والانطباعية التي يرسمها النص في لوحة القلب. ينطلق النص من قمة الأحاسيس وذروتها حيث الشعر والمشاعر والأحاسيس والكلمات والعبارات والتراكيب والأبنية كلها تتمازج أو تتوازى وتمنح المتلقي فضاءً من التأمل والتدبر والمتعة، مستلهماً في خاطره ما تدور فكرة النص حوله وفي بوتقته. وعند الولوج في عالم الشاعرية والنص، نستشف قدراً فنياً دالاً وقوياً امتشقت الشاعرة منه صهوة القصيدة وأصوات الحروف التي هيمنت عليها حرارة التعبير والتجاور الصوري والبديعي.
وتبدأ الشاعرة بوحها من عمق التجربة وبوتقة الأحساس من فضاء الشعر ذاته تعبيراً عن حبها الحميمي للشعر الذي يكتب لحن الحياة وصيرورة المشاعر، حيث تقوى على صوغ مادتها الشعرية بإرادة تستمد قوتها من تشابكات حروف الفن العربي الأول: الشعر،
من ربّةِ الشعرِ جاءَتْ تُسْعِفُ الجُمَلُ
فلا تَرَدُّدَ من ذاتي ولا وَجَلُ
وهي هنا تجسد عالم الشعر وتشخصه بعالم الأسطورة وفعلها التراثي والمعرفي والإنساني، ما يعني قوة التعبير والتشخيص، كما في قولها "جاءت تسعف الجمل،" برغم نبرتها الفردية والذاتية المباشرة، إلا أنها تحمل بعداً جمعياً وإنسانياً.
ويتحول الخطاب الشعري في عالم القصيدة بما ينسجم مع فكرة النص وذاته الشاعرة، في صيغة الخطاب الناقد والساخر لمن "لجوا برأيهم" في غير مخمصةٍ ولا طائل:
وهمّتي فوقَ من لجّوا برأيِهُمُ
جهلاً ودونَ مراقي عِزّتي زُحَلُ
ربما استحضرت الشاعرة "رمز الأسطورة العريقة "زحل" من مكامن التاريخ والثقافة والتراث لتثري فكرتها وتعمق دلالات الصورة التي تعزز روح الانتماء والولاء للشعر الذي يكتب الوطن والذات الإنسانية بتلاحم حميمي.
ثم تغمر الشاعرة بهو نصها بصور فنية وذات دلالات سامية وقيم إنسانية ببعض اللسمات الرومانسية وفي ذلك تداخل للمعرفة والثقافة والرأي والرؤية من حقول قطفت منها الشاعرة ما راق لها لتخدم فكرتها وثيماتها المنثورة في مساحات القصيدة، كما في:
ألشعرُ بعضُ أغاريدي وأنسُجُهُ
ففي الصورة تلك وصف جمالي ودال لعالم الشعر وكينونته الفنية والدلالية والماتعة الشيقة، حيث عالم الشعر هو عالم الأغاريد والمنسوج بقلم الشاعرة في مراحل تشظيها من جهة، ومن أخرى في توحدها مع الحرف والكلمات المعبرة عن حلمها وأمانيها وما يعتمل في باطنها الجوانية دون فجوات ودون غموض ولا إبهام، ليكون النسج رقيقاً وبهياً وجميلاً ورائقاً يمتزج بروح النثر الذي يخرج منه "مزج العسل" كما تصر الشاعرة على وصفه:
نسجاً رقيقاً ونثري مزْجُهُ العسلُ
وما يستيد فضاء النص هو الوطن الأعز وأشياؤه وتضاريسه ومعالم الحياة والخلود فيه، والتي تستلهم الشاعرة منه مادتها الشعرية والشعورية العميقة والمتسعة والبليغة، ليصبح ملاذاً لمشاعرها وعالمها الشعري وملهماً لها في كل حرف ترسمه في لوحاتها الشاعرية.
ويتواصل بوح الشاعرة بكل حميميته وشاعريته وبالاستعانة بجماليات التعبير والكتابة الشاعرية وبتقنيات إبداعية واعية وموفقة من تشبيه وإزاحة تصويرية وتجاور واستعارة وتكثيف، وصفاً لحالة من التلاحم مع الوطن والنفس الخالدة فيه، وهنا تقارن الشاعرة ذاتها العاشقة للوطن وفيه ع أولئك الذين أصابوه بمرارة وتسببوا في مأساته وكبواته وخرابه:
مثلُ الرحيقِ مقالي في تذوّقِهِ
وقولُهمْ بمرارِ الصابِ مُتّصِلُ
وتبوح الشاعرة بطريقتها المتفردة عن شعروها بالفخر وهي العاشقة الأولى للوطن الذي يدعوها لتبادل الحالة ذاتها من العشق والمغازلة:
ألفخر لي حين أمضي في مغازلتي
حِبِّي ، وبعضُ تراتيلي هي الغَزَلُ
ورغم غموض الصورة في "أمضي في مغازلتي" و "بعض تراتيلي هي الغزل"، إلا أن النص يفكك غموضه بوحدته العضوية والموضوعية/الثيماتية دون انتقاص من المعنى والقيمة الدلالية للنص ككل.
وفي حالة من التماهي مع الأنا العليا ومثيلتها الباطنية تتوحد الشاعرة مع الطبيعة بكل تفاصيلها وأشيائها عشقاً للوطن الذي هيمنت على فضاءاته تعابير دالة ومعمقة وإيحائية مثل "يمامة البر" وهي تحيك في خاطر الشاعرة لباس الشاعرية وزي البوح الوطني والإنساني خالصاً ونقياً:
صوتي وصوتي بحالِ الوَجْدِ متّصِلُ
وهنا تجسيد لصوتها الذي يسافر عبر المكان والزمان في بنية الوطن كما النص، حيث التوحد بين الصوت الآتي من عميق الوطن وذلك الصاعد من باطن الذات الشاعرة ووجدانها وعاطفتها الحارة والمتقدة. ولا أدل على قدرة الشاعرة على البوح المعرفي والتاريخي والتراثي إلا استحضارها المتميز لرمز تراثي وتاريخي وأسطوري أصيل يحمل دلالات العشق والحب والموت في حياة الوطن، إذ تقول بصوت متفرد في عبق حروف "ولادة" التي تتماهى معها من حيث قوة شعرها وفصاحته وعزيز فكرها، ويشهد لها بالعفاف والطهر:
"ولاّدةُ الشعر" في الماضي رسمتُ لها
دربَ النسيبِ ولا ربعٌ ولا طللُ
وهي هنا تحط رحال القصيدة وإرهاصات بوحها فوق جودي الفنية السامقة والتعبيرية الشاعرية المتحولة جمالاً ورونقاً دالاً على الصلة القوية والخالدة بين قلب الوطن وقلب الشاعرة، وعلى ماضيها العريق والأصيل والمشرف، وعلى نسبها الوطني والنافذ في أعماق الجسد المترع بعشقه وحبه المتنامي في كل وقت:
مضتْ على رِسْلِها في رحلةٍ عبرتْ
دنيا الخيالِ ولا ناقٌ ولا جَمَلُ
وبتوظيف تقنيات الشاعرية المتقنة والدالة بكل وعي ودربة ودراية، تنجح الشاعرة في وصف الحالة الإنسانية لعشقها الأبدي للوطن، فتارةً الوطن محاط كما الرسغ بأسورة من الماس المترجم حباً وولعاً وهياماً وعشقاً لا ينفد وبحصون القلب الذي ينبض بكل هذا وذاك، وتعزز فكرتها ورؤيتها الشاعرية بمزيد صور لشخصيات لها دلالاتها وقيمتها ووزنها التاريخي والمعرفي والتراثي والانساني كما شخصية "سافو":
وهي الحصون ُ وأبياتي تذكّرني
بشعرِ " سافو " لها من ربِّهِ القُبَلُ
بحيث تصبح "سافو" رمزاً كونياً على قدر الشاعرة في التماهي والتوحد مع شاعرة الإغريق الأولى التي تفردت في طرحها قضايا الأمة والناس بصورة جريئة وصريحة، وفي التحدي والتحمل والوفاء، وبما تحمله من دلالات أسطورية عابقة بالحياة والجماليات والمعنى.
وتواصل الشاعرة بوعي وحنكة في وصف حروفها الراسمة لأحاسيسها ومشاعرها المفعمة بعشق الأوطان وأمكنتها وتاريخها وبطولاتها، موظفةً أدق التفاصيل وابلغ الصور الشاعرية والجماليات الشكلية والرائقة، فتقول بنيرة الكبرياء ما دام الوطن ينتصب شاخصاً أمامها وفي مرآةعيونها كما وعيها:
قصائدي مثلُ غزلانٍ مُكَحَّلَةٍ
لا يُحْسَدُ الكُحْلُ لكنْ يُحْسَدُ الكَحَلُ
ففي اللوحة الشاعرية هنا تشبيهٌ بليغ وصريح أدل من وصفها المباشر للحالة التي امتشقت أحاسيسها واعتملتها في باطنها، بحيث تصبح قصائدها "غزلانٍ مُكَحَّلَةٍ" بكل ما تحمله الصورة من بلاغة في الوصف والجمال، ولتدل على مدى عشقها المستدام لوطنها الخالد في دمها وعروقها. وعندما تخاطبنا بقولها،
لا يُحْسَدُ الكُحْلُ لكنْ يُحْسَدُ الكَحَلُ
وبكل ما تحمله الصورة الشاعرية هنا من تجانس لفظي بين "الكُحْلُ" و "الكَحَلُ"- وما قد تسببه من غموض لدى القارئ – لتعبر عن مدى اعتزازها بنفسها العاشقة وذاتها المتوحدة مع الوطن عبر الزمن دون توقف وتحدياً لمن يتآمرون عليه وفيه.
ثم يتحول النص ليرسم معالم عشق مستجدة وحميمية وعميقة، حيث تعزف الذات الشاعرة مشاعر الانتماء والحنين للوطن على قيثارتها الخاصة بأوتار قلبها المتجدد النبضات والدماء:
عزفتُ أمسِ على قيثارتي غزلاً
عنّي وعنهُ أهالي العشْقِ قد سألوا
وينطوي البيت السابق على لحظة من الدهش والتساؤل، بحيث يكون حله في:
فقيل " رابعةٌ " والشوقُ تيّمَها
إلى الحبيبِ لديهِ يُسْكِرُ النَّهَلُ
لتمنح نصها لوحةً متفردةً وجديدةً مع "رابعة" – ابنة الوطن ذاته وتحديداً ابنة البصرة الراسخة في قلب الوطن العراق - التي تتمثل في إرادتها وقوة شخصيتها ومواقفها أزاء الوطن والحبيب الذي احتضنه الوطن بطل جغرافيته وطقوسه، وبما تحمله، وبما يحمله هذا الاستحضار الواعي لشخصية أسطورية ورمزية كبيرة من دلالات العشق الإلهي والتصوف والزهد والعبادة الوفية.
وما دام البوح يعبر عن لحظات العشق والحب الخالد، تأخذنا الشاعرة إلى شطآن "دجلة" ومائه الأحلى، ملهماً إياها ومبصراً لها كون العراق وفضاء الوطن كله، في تجاوره مع "الفرات" مائه الأعذب، وفي ذلك اعتزاز لا يخفت بالوطن وحبه:
وقلتُ من دجلةٍ جاءتْ حلاوتُهُ
ماءً فُراتاً ويحلو شُربُهُ العَلَلُ
هذا البوح ينطوي على تداخل الثيمات وتمازجها في وعي الشاعرة التي تميزت في عرض فكرتها شعرياً وشعورياً بكل حميمية وفنية وبتوظيف تقنيات شاعرية وجمالية دلّت على ثقافة الشاعرة وإرادتها التعبيرية بكل ما تملك من أدوات إثرائية من محسنات بديعية وتجاور وإزاحة وتكثيف وانسيابية وحراكية تصويرية في وحدة موضوعية وثيماته وعضوية ملموسة في ثنايا النص وتلافيف فكرته، بحيث تهيمن حالة العلاقة بين الوطن والعشاق له بكل تفاصيلها وإرهاصاتها على فضاء النص ومشاهده الفنية والجمالية.
دكتور عبدالله كراز , المحترم
شكري وإمتناني لتفضلكم في النقد الجليل. لا حدود له
لذا لن أزيد على ما تفضلتم في طرحكم ,,حتى لا أضيع جمالية وروعة ما تفضلتم
أطال الله بعمركم المديد
كفيت ووفيت سيدي
بارك الله فيكم سيدي
شكري وإمتناني لتفضلكم في النقد الجليل. لا حدود له
لذا لن أزيد على ما تفضلتم في طرحكم ,,حتى لا أضيع جمالية وروعة ما تفضلتم
أطال الله بعمركم المديد
كفيت ووفيت سيدي
بارك الله فيكم سيدي
اترك تعليق: