الإشارة والرمز في ( الفوضى في غير أوانها )
الباحث والناقد والصحفي
جمال خضير الجنابي
يظهر (Ernst cassirer ( الفرق بين الإشارة والرمز بقوله ( أن الإشارة جزء من عالم الوجود المادي , وإما الرمز فجزء من عالم المعنى الإنساني ) .
والإشارة مرتبطة بالشيء الذي تشير إليه على نحو ثابت , وكل إشارة واحدة ملموسة تشير إلى شيء واحد معين , وإما الرمز فعام الانطباق أي يوحي بأكثر من شيء واحد وهو متحرك ومتنقل ومتنوع .
ويستدل من هذا الكلام إن كلا من الإشارة والرمز ينتمي إلى عالم مختلف عن الأخر إذ تنحصر الإشارة في إطار محدود لا يتغير , ويعبر بها الفهم دون إن يلحظها لأنها بطبيعتها خالية من المعنى واليه , وأما الرمز فغير محدود في إيحائه أو ثابت كما أنه شامل ومتنوع
القراءة الاولى لمجموعة الشاعر ( حميد سعيد ) التي حملت عنوان ( فوضى في غير أوانها ) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة عام 1996 التي تتكون من ثلاثة عشر نصا تنوع بين انفجارات الذات وقدسية المكان الذي احيضنه الشاعر حيث يقول في قصيدة ( اللوحة الأخيرة ) .
( في تلك الليلة .. كانت تسهز في مرسمها
تتصيد من بعض كنوز أصابعها
أقمارا وسحابا وفراشات
لكن الألوان
اعتكفت في حق الكحل
ونامت في برد النسيان
أو بعد الألفة ..
يعلن في هذا الليل .. الآلاف العصيان ) .
إن قصيدة ( اللوحة الأخيرة ) ذات بناء بسيط وان حاولت اعتماد أكثر من أسلوب بنائي فمزجت بين
السرد القصصي ذي الإحداث القليلة والوصف المتداخل بالمنولوج , والجمل الحوارية القليلة المتناثرة في السرد القصصي , التي لا تبتعد كثيرا عن طابع الحكاية واعتماد التقسيم إلى مقاطع متشابهة الإحداث والمعاني لا ينمو فيها الحدث إلا في المقطع الأخير , كل ذلك لا يخرج القصيدة عن طبيعتها البنائية كما في قصيدة ( تداخل ) حيث يقول :
( ما تبقى لي من الوقت سأعطيه لنفسي
وأغني .. قبل إن يسبقني صوتي إلى الحفل
وأدعو أمرآة لم أرها يوما ..
إلى إن نبدأ النسيان .. نستدرجه
حتى إذا كنا معا ...
تسألني من أنت ..
لا أدري ... ولا تدري ... ).
نجد الميل لدى ( حميد سعيد ) إلى كتابة القصائد القصار التي تكشف التجربة القصة القصيرة أو تكون المعادل الموضوعي للحالة النفسية أو الفكرية في طموح لخلق أسلوب الإيجاز والتكثيف في الكتابة الشعرية بحيث تتمكن القصيدة من الوفاء بمطالب القصائد الطوال , بعد إن تستطيع عبر التكثيف الذكرى الموحي التخلص من الزوائد والاستطالات في العبارة والمقطع واعتماد القصة القصيرة جدا والرمز أو المعادل الموضوعي يقول ( ت . س . اليوت) أن ( الطريقة الوحيدة للتعبير عن العاطفة في قالب فني أنما تكون بالعثور على (المعادل موضوعي) لها ) .
ففي قصيدة ( على حدود الأبجدية ) يقول :
( لقد وجدتك ..
أنت مثقلة بماض ... ساحر
وأنا ...
بتفاح تساقط من أصابع ..
أول أمرآة رأيت
على حدود الأبجدية ....).
انفعالات السريعة المتداخلة استطاعت أن تستوفي انفعاله وتعبر عنه بوضوح وقد يرسم الشاعر مشهدا أو لقطة تشكل معادلا موضوعيا لحالة نفسية أو فكرة صغيرة ولقد شاع هذا النمط من البناء لدى شعراء الستينات , لكنه بقي يراوح بين اللقطة الطريفة أو الحالة العاطفة السريعة التي لا تستقل وحدها بقصيدة , أو يمكن إدراجها في سباق أية قصيدة طويلة ذات تجربة شعرية مماثلة .
أن القصيدة الحديثة هي ثورة على الكلاسيكية في القوانين الصارمة التي تفرضها على عملية الإبداع الأدبي , كما أنها ثورة على الرومنطيقية التي انسياقها العاطفي وانشغالها بالهموم الفردية , فهي مغروسة في القضايا القومية والإنسانية . لهذا يستمد الشاعر ( حميد سعيد ) قصائده من روح الواقع في رؤيا معبرة بالصورة والرمز .