[align=justify]قراءة في قصص خالد ساحلي القصيرة جدا
جاسم خلف إلياس
إذا كنا نتفق على أن صياغة أي نص أدبي تعتمد على المراوغة في العلاقات الترابطية بين المهيمنات اللغوية (كيف نقول ) وبين المهيمنات الثيمية(ماذا نقول ) فإن ّ القصة القصيرة جدا معنية في تناول حدث محدد في لحظة توتر بأقل عدد من الكلمات . فهي نص مكثف سريع الإيقاع، فعلي الجملة، مكثف الهوية، ينأى بنفسه عن أي حشو أو تطويل ، كما انها ليست مولعة بالأحداث المتعددة ومن هنا يحدث الفارق بينها وبين القصة القصيرة الاعتيادية . وإذا كان أي نص يمكننا توجيه قراءته بحسب اشتراطاته الفنية التي كتب بها ، فان القاص خالد ساحلي قدم لنا أربع قصص قصيرة جدا اختلفت فيها هذه الاشتراطات مما أوقعنا تحت ضغط السؤال الاجناسي : هل تنتمي هذه القصص إلى نوع القصة القصيرة جدا ؟
نعم لدي خلاف حول التجنيس فـ : ( مقام الشهيد ، فتية البحر ، الفخ) قصص قصيرة جدا ، تنتمي إلى النوع القصصي الذي وضعه القاص كموجه قرائي لها ولا خلاف على ذلك ، متجاوزين التشكيل البصري المغاير للنص الثالث ؛ وإنما الخلاف ينصب على قصته الرابعة ( لا احد) ، فعلى الرغم من توفر الومضة ، إذ هي تقانة مهمة في مثل هذا النوع القصصي إلا أن القصة بأكملها نستطيع أن نعدها حوارا في أي قصة قصيرة ، أو سطرا شعريا ؛ لأن التكثيف في الرؤية والحدث والشحنة العاطفية قد يوقع القصة القصيرة جدا في دائرة المتاهة بسبب اقترابها من القصيدة ؛ لإن مجال الشاعر أقرب إلى الجمالية المحضة
، لذا يجب الإحراز من خطورة هذه الغنائية إذا طفت على سطح الأحداث أو طغت على مشابهة الواقع وأصبحت هدفا في ذاتها كما هو الحال في الشعر ؛ لأنها تقع على هامش السرد حسب تعبير د. خيري دومه (تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة ) فمن السهل أن تتداخل مع قصيدة النثر رغم الفارق بينهما، فالقصة تدعونا لكي نبني ونتصور تفصيلات غير واردة في القصيدة، تفصيلات تتعلق بالسببية والترابط بين الأحداث ودوافع الشخصيات. أما القصيدة فتعمل في مملكة الشاعر. إنها تكشف عن افتتان باللغة (عبر التوريات، القوافي، الطباق، المجاز المفرط، الاهتمام الفائق بالأداء والأسلوب الشعري وكل هذا يتصادم مع تقدم القصة أو تبلور المعنى في النص . واعني هنا العلاقات السببية والمنطقية (في القصة ) وخلخلة هذه العلاقات في ( الخطاب) .
نعم لا شك أن القصة القصيرة جدا هي لغة إيجاز، وترميز، وإيحاء، وحذف إبداعي، وإيقاعات متعددة في عبارات محدودة... إلى حد أن تصبح اللغة في مجملها استعارة أو مجازاً؛ ولكن بشرط ألا يخل هذا القصر ببنيتها شبه المتكاملة، وبذلك تبتعد عن اشتراطاتها الفنية وتوقعنا في فخ المتاهة .
وإذا أردنا أن نتوسع في لغة القصة القصيرة جدا عموما فيمكننا حصرها في أنموذجات ثلاثة:
1ـ أنموذج في اللغة الإنشائية التي يعلو فيها الخطاب ، فتصرخ في منبر الوعظ والإرشاد والإخبار، وكأنها أداة إقناعية لا إمتاعية وقلما يستطيع القاص الذي يستخدم هذا الأنموذج الإفلات من قبضته وتمثل قصصه معظم النماذج البائسة التي أساءت إلى القصة القصيرة جدا ، وظهر فيها القاص مباشرة باستخدام ضمير المتكلم بلغة تقريرية ، وقد كثرت في الصحافة الأدبية والانترنيت في الآونة الأخيرة.
2ـ أنموذج يتشكل في لغة بسيطة تحمل واقعية الكلمة وصورها الشعرية الشفافة وأحيانا رومانسيتها الصارخة ويتخفى القاص فيها وراء الراوي ويعمل قاص هذا الأنموذج على خلو التعبير القصصي من الإفاضة التي لا تغني الدلالة.
3ـ أنموذج تعلو فيه اللغة الشعرية وتمتلك خطورتها بذاتها ، فإما أن تجر القاص إلى آليات الشعر وتقضي على القصصية، وإما أن تسمو بقصته وتأشيرة دخولها إلى دائرة القص بجدارة. وبدأت هذه القصص تزداد مساحتها الإبداعية فكتابها يبحثون عنها في الوقت الذي هي تبحث عنهم فيكتبونها وتكتبهم بلغة الإتقان والتداخل الايجابي . وقد تراوحت قصص خالد ساحلي بين الأنموذجين الثاني والثالث فكانت بحق قصص فيها الإثارة والمتعة والهدف الإنساني النبيل .
وقد انحازت القصص الثلاث التي قدمها لنا خالد ساحلي إلى لثراء الرمزي ، والطاقة الإيحائية العالية ، ففي قصته الأولى (مقام الشهيد) يفتح القاص أمامنا فضاء يتجاوز بعده الزمكاني القصير بقدرة تنتمي إلى فعل يكاد يقترب من حراك الفعل الصوري في الإنتاج السينمائي ، ولإنّ المكان يؤدي بتمظهراته وأنساقه وإيحاءاته دورا بارزا في التشكيل السردي بوصفه عنصرا مركزيا في معمارية السرد ، فالقصة القصيرة جدا تتعامل مع المكان بخصوصية العلاقات التي تربطه مع بقية عناصر السرد كي تتحول إلى بعد جمالي من أبعاد النص السردي لما تمنحه من إمكانية الغوص في أعماق البنية المتخفية ورصد علاقاتها المتشابكة وبذلك يكون المكان في النص القصصي "مجموع العلاقات اللغوية التي تؤسس للفضاء المتخيل وتعمل على إيجاده وتحويله من لغة سردية إلى أيقونة بصرية في ذهن المتلقي، وبهذا تتجلى العلامة بوصفها معطى سيميائيا لا مجرد تراكيب لغوية مبنية على تراتبية مكانية " ( العلامة في ثلاثية ارض السواد لعبد الرحمن منيف دراسة سيميائية د. فيصل غازي النعيمي ). هذه الأيقونات الصورية المتجسدة في( المقام ) و ( المعرض ) على الرغم من تطابقها في وظيفة المكان من ناحية الموروث الشعبي من جهة ، واستقبال الناس كل على طريقته الخاصة ، إلاّ أن القاص استطاع أن يخلخل هذا التوازن في الأداء من خلال جملة واحدة وهي ( اكتشفهم يرقصون بأقدام سوداء) ولم يختر القاص لفظة (سوداء ) لتعطي ثباتها الدلالي فحسب ؛ وإنما كان اختياره استفزازيا ليعمق التقارب بين الفعل والفاعل ،بوصفها – أي اللفظة - علامة تفضي إلى التدليل أكثر من الدلالة ذاتها ، أي خلق تتابع دلالي بحسب كل قراءة ، فالاستشهاد في هذا المعنى لا يشكل سوى اختيار أصحاب التابو الأول في واقعنا العربي تحديدا ( السياسة )، لا اختيار الشهيد ذاته بدليل عدم اهتمام الحضور بصور الشهداء ، وحين تأكد من لا جدوى وجودهم في هذا المكان ، استرق السمع والنظر حين اخذ يتبول ، وكرد فعل على مثل هذا الفعل الخلاق لرفض التسلط ، أطلق عليه العسس (العياري الناري) ، فعاد شهيدا ، وكإنّ القاص يريدنا أن نرجع ثانية إلى بداية القصة ، ليقول لنا : وهكذا تتكرر مأساتنا في عالمنا المؤثث بالطغاة . فتراكيب ( ظلام الليل ، أقدام سوداء (والأصح أن يقول أقدام سود ، لان الأقدام جاءت بصيغة الجمع ، (العسس) علامات تضيء النص وتمنحه حيوية أكثر باتجاه مقاربتنا.
وإذا كانت قصة ( مقام الشهيد ) استفزت مشاعرنا لتعلن جرأتها إزاء هول ما جرى ، فان قصة( فتية البحر ) تشكل صرخة مدوية بوجه الطغاة ، ولها وقعا اشد مما لو كانت قد أعلنت لغتها الصارخة ، فالترميز والغموض الشفيف أضافا لها الكثير في تلقيها (عند انبلاج الصباح) هذا المقطع المتكرر يوميا في حياتنا الطبيعية اخذ مسارا فنيا اختلف بكل تفاصيله عن الواقع الحياتي فهو صباح أتى بعد ظلام كان قد أخفى حقائق كثيرة لقد استطاعت هذه القصة ان تقول ما يقوله أي نص سردي طويل وقد تجلت قدرة القاص الإبداعية في اختزال الأحداث وتسريبها إلينا عبر ملفوظات شكلت علامات نستطيع قراءتها( صباح / فتية/ ضياع/ أناشيد/ عبودية/ ثعالب / فاجعة و...) .
أما القصة الثالثة( الفخ ) فهي لا تختلف في توجيه لطمة قوية للطغاة الذين مارسوا عمليات القتل( رحلت أسراب كثيرة منا ، منها من مات في الطريق )أو أجبرته على قبول الواقع المزري بطريقة وأخرى سواء أكانت ترهيبا أو ترغيبا وهذا هو حال الشعوب المغلوبة على أمرها بشكل عام( وما تبقى أوقعته المصيدة وأدخل أقفاص الحديد ) فالتكثيف في هذه القصة يعد عنصرا حيويا بما تنطوي عليه من مجازات وثنائيات تستحضر عند تحليلها أو قراءتها من فضاءات المحذوف أو الغائب أو المحتمل أكثر مما هو حاضر في لغتها ودلالاتها المباشرة . وكان بودي أن يردف القاص صفة مقاربة على صفة ( الثعالب ) غير صفة ( الصقور ) لتكون اكثر توازناً .
قد يرى القارئ أنني أطلت كثيرا في التنظير لهذه القصص الأربع ولكن في الحقيقة هي التي أثارتني في بعض هذه الاستنتاجات لذا شكل التنظير علاقة ترابطية لغرض الإجراء بشكل غير مباشر ، وعلى هذا الأساس استطيع أن أضع هذه المغامرة الجمالية التي قام بها خالد ساحلي في أروقة الإبداع القصصي القصير جدا وأتمنى عليه الاستمرار في متابعتها بالجدية نفسها لكي نخلصها من الشوائب التي علقت بها وهي ما زالت غضة وطرية .[/align]
جاسم خلف إلياس
إذا كنا نتفق على أن صياغة أي نص أدبي تعتمد على المراوغة في العلاقات الترابطية بين المهيمنات اللغوية (كيف نقول ) وبين المهيمنات الثيمية(ماذا نقول ) فإن ّ القصة القصيرة جدا معنية في تناول حدث محدد في لحظة توتر بأقل عدد من الكلمات . فهي نص مكثف سريع الإيقاع، فعلي الجملة، مكثف الهوية، ينأى بنفسه عن أي حشو أو تطويل ، كما انها ليست مولعة بالأحداث المتعددة ومن هنا يحدث الفارق بينها وبين القصة القصيرة الاعتيادية . وإذا كان أي نص يمكننا توجيه قراءته بحسب اشتراطاته الفنية التي كتب بها ، فان القاص خالد ساحلي قدم لنا أربع قصص قصيرة جدا اختلفت فيها هذه الاشتراطات مما أوقعنا تحت ضغط السؤال الاجناسي : هل تنتمي هذه القصص إلى نوع القصة القصيرة جدا ؟
نعم لدي خلاف حول التجنيس فـ : ( مقام الشهيد ، فتية البحر ، الفخ) قصص قصيرة جدا ، تنتمي إلى النوع القصصي الذي وضعه القاص كموجه قرائي لها ولا خلاف على ذلك ، متجاوزين التشكيل البصري المغاير للنص الثالث ؛ وإنما الخلاف ينصب على قصته الرابعة ( لا احد) ، فعلى الرغم من توفر الومضة ، إذ هي تقانة مهمة في مثل هذا النوع القصصي إلا أن القصة بأكملها نستطيع أن نعدها حوارا في أي قصة قصيرة ، أو سطرا شعريا ؛ لأن التكثيف في الرؤية والحدث والشحنة العاطفية قد يوقع القصة القصيرة جدا في دائرة المتاهة بسبب اقترابها من القصيدة ؛ لإن مجال الشاعر أقرب إلى الجمالية المحضة
، لذا يجب الإحراز من خطورة هذه الغنائية إذا طفت على سطح الأحداث أو طغت على مشابهة الواقع وأصبحت هدفا في ذاتها كما هو الحال في الشعر ؛ لأنها تقع على هامش السرد حسب تعبير د. خيري دومه (تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة ) فمن السهل أن تتداخل مع قصيدة النثر رغم الفارق بينهما، فالقصة تدعونا لكي نبني ونتصور تفصيلات غير واردة في القصيدة، تفصيلات تتعلق بالسببية والترابط بين الأحداث ودوافع الشخصيات. أما القصيدة فتعمل في مملكة الشاعر. إنها تكشف عن افتتان باللغة (عبر التوريات، القوافي، الطباق، المجاز المفرط، الاهتمام الفائق بالأداء والأسلوب الشعري وكل هذا يتصادم مع تقدم القصة أو تبلور المعنى في النص . واعني هنا العلاقات السببية والمنطقية (في القصة ) وخلخلة هذه العلاقات في ( الخطاب) .
نعم لا شك أن القصة القصيرة جدا هي لغة إيجاز، وترميز، وإيحاء، وحذف إبداعي، وإيقاعات متعددة في عبارات محدودة... إلى حد أن تصبح اللغة في مجملها استعارة أو مجازاً؛ ولكن بشرط ألا يخل هذا القصر ببنيتها شبه المتكاملة، وبذلك تبتعد عن اشتراطاتها الفنية وتوقعنا في فخ المتاهة .
وإذا أردنا أن نتوسع في لغة القصة القصيرة جدا عموما فيمكننا حصرها في أنموذجات ثلاثة:
1ـ أنموذج في اللغة الإنشائية التي يعلو فيها الخطاب ، فتصرخ في منبر الوعظ والإرشاد والإخبار، وكأنها أداة إقناعية لا إمتاعية وقلما يستطيع القاص الذي يستخدم هذا الأنموذج الإفلات من قبضته وتمثل قصصه معظم النماذج البائسة التي أساءت إلى القصة القصيرة جدا ، وظهر فيها القاص مباشرة باستخدام ضمير المتكلم بلغة تقريرية ، وقد كثرت في الصحافة الأدبية والانترنيت في الآونة الأخيرة.
2ـ أنموذج يتشكل في لغة بسيطة تحمل واقعية الكلمة وصورها الشعرية الشفافة وأحيانا رومانسيتها الصارخة ويتخفى القاص فيها وراء الراوي ويعمل قاص هذا الأنموذج على خلو التعبير القصصي من الإفاضة التي لا تغني الدلالة.
3ـ أنموذج تعلو فيه اللغة الشعرية وتمتلك خطورتها بذاتها ، فإما أن تجر القاص إلى آليات الشعر وتقضي على القصصية، وإما أن تسمو بقصته وتأشيرة دخولها إلى دائرة القص بجدارة. وبدأت هذه القصص تزداد مساحتها الإبداعية فكتابها يبحثون عنها في الوقت الذي هي تبحث عنهم فيكتبونها وتكتبهم بلغة الإتقان والتداخل الايجابي . وقد تراوحت قصص خالد ساحلي بين الأنموذجين الثاني والثالث فكانت بحق قصص فيها الإثارة والمتعة والهدف الإنساني النبيل .
وقد انحازت القصص الثلاث التي قدمها لنا خالد ساحلي إلى لثراء الرمزي ، والطاقة الإيحائية العالية ، ففي قصته الأولى (مقام الشهيد) يفتح القاص أمامنا فضاء يتجاوز بعده الزمكاني القصير بقدرة تنتمي إلى فعل يكاد يقترب من حراك الفعل الصوري في الإنتاج السينمائي ، ولإنّ المكان يؤدي بتمظهراته وأنساقه وإيحاءاته دورا بارزا في التشكيل السردي بوصفه عنصرا مركزيا في معمارية السرد ، فالقصة القصيرة جدا تتعامل مع المكان بخصوصية العلاقات التي تربطه مع بقية عناصر السرد كي تتحول إلى بعد جمالي من أبعاد النص السردي لما تمنحه من إمكانية الغوص في أعماق البنية المتخفية ورصد علاقاتها المتشابكة وبذلك يكون المكان في النص القصصي "مجموع العلاقات اللغوية التي تؤسس للفضاء المتخيل وتعمل على إيجاده وتحويله من لغة سردية إلى أيقونة بصرية في ذهن المتلقي، وبهذا تتجلى العلامة بوصفها معطى سيميائيا لا مجرد تراكيب لغوية مبنية على تراتبية مكانية " ( العلامة في ثلاثية ارض السواد لعبد الرحمن منيف دراسة سيميائية د. فيصل غازي النعيمي ). هذه الأيقونات الصورية المتجسدة في( المقام ) و ( المعرض ) على الرغم من تطابقها في وظيفة المكان من ناحية الموروث الشعبي من جهة ، واستقبال الناس كل على طريقته الخاصة ، إلاّ أن القاص استطاع أن يخلخل هذا التوازن في الأداء من خلال جملة واحدة وهي ( اكتشفهم يرقصون بأقدام سوداء) ولم يختر القاص لفظة (سوداء ) لتعطي ثباتها الدلالي فحسب ؛ وإنما كان اختياره استفزازيا ليعمق التقارب بين الفعل والفاعل ،بوصفها – أي اللفظة - علامة تفضي إلى التدليل أكثر من الدلالة ذاتها ، أي خلق تتابع دلالي بحسب كل قراءة ، فالاستشهاد في هذا المعنى لا يشكل سوى اختيار أصحاب التابو الأول في واقعنا العربي تحديدا ( السياسة )، لا اختيار الشهيد ذاته بدليل عدم اهتمام الحضور بصور الشهداء ، وحين تأكد من لا جدوى وجودهم في هذا المكان ، استرق السمع والنظر حين اخذ يتبول ، وكرد فعل على مثل هذا الفعل الخلاق لرفض التسلط ، أطلق عليه العسس (العياري الناري) ، فعاد شهيدا ، وكإنّ القاص يريدنا أن نرجع ثانية إلى بداية القصة ، ليقول لنا : وهكذا تتكرر مأساتنا في عالمنا المؤثث بالطغاة . فتراكيب ( ظلام الليل ، أقدام سوداء (والأصح أن يقول أقدام سود ، لان الأقدام جاءت بصيغة الجمع ، (العسس) علامات تضيء النص وتمنحه حيوية أكثر باتجاه مقاربتنا.
وإذا كانت قصة ( مقام الشهيد ) استفزت مشاعرنا لتعلن جرأتها إزاء هول ما جرى ، فان قصة( فتية البحر ) تشكل صرخة مدوية بوجه الطغاة ، ولها وقعا اشد مما لو كانت قد أعلنت لغتها الصارخة ، فالترميز والغموض الشفيف أضافا لها الكثير في تلقيها (عند انبلاج الصباح) هذا المقطع المتكرر يوميا في حياتنا الطبيعية اخذ مسارا فنيا اختلف بكل تفاصيله عن الواقع الحياتي فهو صباح أتى بعد ظلام كان قد أخفى حقائق كثيرة لقد استطاعت هذه القصة ان تقول ما يقوله أي نص سردي طويل وقد تجلت قدرة القاص الإبداعية في اختزال الأحداث وتسريبها إلينا عبر ملفوظات شكلت علامات نستطيع قراءتها( صباح / فتية/ ضياع/ أناشيد/ عبودية/ ثعالب / فاجعة و...) .
أما القصة الثالثة( الفخ ) فهي لا تختلف في توجيه لطمة قوية للطغاة الذين مارسوا عمليات القتل( رحلت أسراب كثيرة منا ، منها من مات في الطريق )أو أجبرته على قبول الواقع المزري بطريقة وأخرى سواء أكانت ترهيبا أو ترغيبا وهذا هو حال الشعوب المغلوبة على أمرها بشكل عام( وما تبقى أوقعته المصيدة وأدخل أقفاص الحديد ) فالتكثيف في هذه القصة يعد عنصرا حيويا بما تنطوي عليه من مجازات وثنائيات تستحضر عند تحليلها أو قراءتها من فضاءات المحذوف أو الغائب أو المحتمل أكثر مما هو حاضر في لغتها ودلالاتها المباشرة . وكان بودي أن يردف القاص صفة مقاربة على صفة ( الثعالب ) غير صفة ( الصقور ) لتكون اكثر توازناً .
قد يرى القارئ أنني أطلت كثيرا في التنظير لهذه القصص الأربع ولكن في الحقيقة هي التي أثارتني في بعض هذه الاستنتاجات لذا شكل التنظير علاقة ترابطية لغرض الإجراء بشكل غير مباشر ، وعلى هذا الأساس استطيع أن أضع هذه المغامرة الجمالية التي قام بها خالد ساحلي في أروقة الإبداع القصصي القصير جدا وأتمنى عليه الاستمرار في متابعتها بالجدية نفسها لكي نخلصها من الشوائب التي علقت بها وهي ما زالت غضة وطرية .[/align]