مقدمة
لابد وأن تلوم نفسك الضعيفة المسالمة قبل أن تلوم من يستغل ضعفها ، فبضعفك تدعو الأخرين لإستغلالك ، وتغري الضعف ذاته لأن يستوطن فيك ، فأين يذهب الضعف إن ترك الضعفاء .؟ إن المحسوسات من المشاعر الانسانية تدرك تماما بغيتها في الانسان الذي تريد أن يؤديها كاملة فيه ، ليصبح لها مضربا للمثل ، فالحزن لا يذهب لشخص حتى يتوسم فيه الوجع والهم والغم ، " فنلقبه بالحزين " والفقر لا يذهب لشخص حتى يتوسم فيه الفشل والكسل والتراخي ، " فنناديه يا فقري " ، ولا يسكن الحب أرواح الغلظاء الجفاة حتى تغرق قلوبهم دموع الرقة وتحرق وجناتهم آهات الحنين ، ولا تقوى قلوب الجبناء لحمل سيف الشجاعة حتى تصارع دوامة الأقوياء أياديهم ، ولا يأوي الصبر لصدر رجل جذوع حتى تشرب من كؤوس التصبر المريرَ رواحيهم ، والمغفل لن يجد أفضل منه التغفلُ ليتخذه موطنا ومثالا له إلى أن ينعش بصريته برؤى الإيمان وعقله بتجارب الأخرين ، ولن تترك الشخص خصلة من هذه الخصال طالما ظل مستكينا لها حتى يُبدي لها عزمه الأكيد على دحرها بكل قواه باستعانته بالنقيض عليها ، فمن يريد دحر الضعف ، لابد وأن يحطم أيادي القوة التي تصنع ضعفه ، و من يريد جذب الرحمة إلى روحه ، لابد وأن يعتاد سبل اللطفاء ، و من يرد النجاح لابد و أن يتلاشى خطاوي الفشل .ولسنا وحدنا من نعاني هذه المشاعر ، فنحس بالضعف من جبروت الأقوياء ، والحزن لفقد الأحباء ، ونتألم بالوجع من قسوة الحياة ، فالأشياء والمخلوقات الأخرى غير الإنسان لها مدارك تحس وتشعر من خلالها ، ولكنها لا تملك الإرادة للفعل والتعبير عن ذواتها ، فتلقي إرادتها إلى الكفيل بها .فالحمار يحس بالعطش فإن لم يجد الماء فسيموت عطشا إذا لم يقدم مالكه الماء له ، والشارع حين يتسخ لن ينظف نفسه ، وإلم يقم عامل النظافة بتنظيفه سيصبح مأوى للقمامة بذاته ، والنخلة كذلك إلم يطلعها راعيها بلقاح الذكور من النخيل لن تطرحه ثمارا سوى العناء ، وإذا لم يحافظ عليها من بطون الطامعين لن يحصد منها شيئا غير الشقاء ، لذا تعشقنا الأشياء وتعطينا بقدر احساسنا بها من خلال رعايتنا وحفاظنا عليها من مكائد الحياة التي بأيدينا درءها عنها ، وتكرهنا كثيرا حينما تتأكد أننا لم نولها الحماية والرعاية التي تليق بها ، فيموت الحمار عطشا ، ويتحول الشارع ملها للنفايات ، و تمسي النخلة عقيما أو كالتي اختططف طفلها .***
تجسست فاتن على حوارهما هذه المرة فهو يخصها وتأكدت كل التأكيد أن صفوان لو امتلك البيت والساحة بما فيهما وفعل بهما ما شاء لن تجد للإعتراض ولو همسا من قبل والدها لذا ذهبت لتعد الشاي حزينة تتقاطر الدموع من عين قلبها الشجي قبل عين وجها القمري حزنا على والدها الضعيف ربما لو تستطيع قتل صفوان بهذه السكين التي تشاكس عينيها الآن فوق الطاولة لتخلص والدها ونفسها من قيود وجبروت الأقوياء لفعلت لكنها أدركت أن والدها سيقف حائلا مدافعا عن صفوان ضدها.. ماذا تفعل .؟ هل تخرج بهذا الوجه الحزين المكتظ بالآهات إليهما لتقدم الشاي في ثياب الباكين الضعفاء لمن هو السبب في حزنها فيطمع في ضعفها أكثر كما حاله مع ابيها ؟ " كلا يا صفوان .. أيها المتاجر باسلاحة الموت ، أيها العفريت في ثياب الأنس لن أرضخ لرغبتك ، ولن أدعك تلهو كما تشاء مستغلا ضعف أبي بعد هذا اليوم أيها الرجل الجميل اللئيم ، السليم السقيم ، القوي الوقح " وخرجت كمن تعانق السماء أنفها بعد أن مسحت دمعها تمشي نحوهما بخطى الكبرياء " أيتها البنت الطاهرة الفاتنة القادمة تجاهي " بفرع يزين المتن أسود فاحم ، حثيث كقنو النخلة المتعثكلِ ، غدائره مستشزرات إلى العلى ، تضل المدارى في مثنى و مرسلِ * " كأميرة من أميرات السماء ، تلين تحتها الأرض حنانا لها ، ويتبعها النسيم كجواري خادمات من حوالها يغنين أغنية " رحمة القلب الوحيدة أنت " فمن قبلكِ لم أعرف إلا وجوه الزناة وقلوب العصاة ، واصدقاء العار " لا تعذبيني كثيرا فمولع منذ اللحظة الأولى بك شريان القلب يغتلي ، فتمهلي يا كتلة من عطور البرتقال ، روايدا أيتها النخلة الباسقة بالحسن أوقعتيني ضحية هذا الموسم كتمرة سقطت من أعلى النخلة فلا تدري مَن من المارة سيأكلها ، ليكن فمك أيتها البلحة الحمراء آكلي و إن فقدت بعدها انفاس الحياة " هكذا تغنت عيون صفوان حين رأتها قادمة في ثوب من القطن الملون كأطياف القزح و أجنحة الفراشات " ..الشاي يا أبي " لماذا تأخرتي كل هذا ؟ لم أتأخر فلست أقوى من النار .. قولي لي أيتها الفاتنة ألم تجدي خاتمي العقيقي بعد ، " ليس هاهنا أثر لخاتمك هذا ابحث عنه في مكان أخر إن كان صدقا قد ضاع منك خاتم " .. لقد ضاع خاتمي هاهنا حقا يا عروسة النخيل هل تظنين أني أكذب !؟ ، ولم لا ؟ .. ولم لا !؟.. " نعم فإن لم يكذب من يتاجر بدماء الناس فمن يكذب إذا .؟ مخطئة أنتِ يا نخلة فاتنة .. " مخطئة أم على صواب كنت لا اكترث بخاتمك ولو كان من أحجرة السماء فلا تسألني عنه مرة أخرى " كما تشلئين يا صغيرة .. ثم غادرت فظل يرمقها يغتلي وجهه احمرارا لا يبالي بوجود والدها المتواري خجلا من عنف ابنته في حديثها مع جليسه فأطرق أخيرا ليخرج نفسه وصفوان من هذه الحالة ومن حمية الموقف ، أواثق أنك تركته هنا يا صفوان ..؟ " أنا لم أتركه يا أبا سند لقد نسيته نسيا بجواري بعد أن خلعته من اصبعي ، أولم تره في يدي يومها ؟ " .. الحقيقة لم أرك يوما تختتم باصبعك خاتما لكنه وعلى كل حال يا عزيزي لا بد وأن نعثر عليه فأين سيذهب ؟ .. " .. لا عليك ، كل ما في الأمر أنه كان لأبي عثرت عليه وأنا أعبث في ذكراياته فلبسته وها أنا قد أضعت ذكرة غالية له " .. البقاء لله ، وما ضاع مال من حلال وقد كان والدك يكتسب من عين الحلال .." هل أتقصد أن مالي من حرام ؟ ما بك يا صفوان ؟ قطعا لا أقصد هذا ، يبدو أنك مازلت متأثرا بكلام بنت العمياء ، انسي يا رجل لا تفكر في الأمر كثيرا فما هي إلا طفلة لا تعي ما تقول .." نعم هي طفلة لا تعي ( قالها مجاملة و تخفيفا عن نفسه أمام عويس ) لم تقل لي بما أجبت أعضاء الحزب .. هل قبلت طلبهم ؟ " ليس بعد .. فهذه مخاطرة كبرى تحتاج إلى الكثير من التفكير والتأني " .. هذا صحيح لكنها تستحق المخاطرة .. " هل هذا رأيك .؟ نعم " .. فهل إن قصدوك لها ستقبل طلبهم " .. أنا .؟ أنت نعم .. " قطعا لن أقبل ف أنا لست تاجرا ذخيرة مثلك وكما تعرف لم أذهب يوما لمكان أبعد من المدينة و حتى هي لا أذهب إليها سوى مرتين في السنة أتريدني بعد هذا أن أحمل هذه التهمة الضخمة وأذهب إلى بلد أخر أبعد ، رباه ، أريد أن أموت مكاني ها هنا إلى جوار النخيل يا رجل .. ( ابتسم صفوان قليلا لإقرار عويس بالحقيقة ) جميل أنك ابتسمت اخيرا .. طقطقة صفوان رأسه واستئذان للإنصرف فقام عويس لتوديعه و مازال يمشي معه يجبر بخاطره بكلماته الطيبة حتى وصلا إلى باب الساحة فناده عويس بعد أن أصبح بعيدا بقليل " لا تغب أريد أن أراك قريبا .. " لم ينظر صفوان خلفه لعويس ولم يجبه واكتفى بالتلويح بظهر يديه ( فمازال متغيرا من حديث النخلة الفاتنة له ) .. عاد عويس سريعا ألقى إلى البقرة بعض الحشائش واحضر بعدها إناء مقعرا وأخذ يفت به بقايا الخبز اليابس و يبلله بالماء و توسط الساحة ونادي على البط و الدجاج و الأوز و هي نائمة في اكنتها بصوت لا تفهمه سوى الطيور فكأنه " لكلكة لسان " فإذا بالطيور على أشكالها من أماكنها فرحة مسرعة زامت حوله فأخذ ينثر لها بيده فتات الخبز فتلتهمه سريعا سريعا ، يا له من ملاك سماوي و الطيور حوله بأصواتها المختلفة ، هديل ، قوقأة ، بطبطة ، و أنغام النخيل كلها تغنيه ألحانا طبيعية لا غثاء فيها حبا لروحه الملائكي نعم ملاك هو يعشقه النخل وتهواه الطيور و تجله الساحة لكنها جميعها تقفد الإنسان فيه كالعادة أثار فعله بنته الحانقة على أعمال النساء الريفيات التي يقوم بها فخرجت إليه كالمجنونة " يا أبي لله ألا تمل من هذه الأعمال النسائية أكاد أراك أمهر من ربة منزل فماذا تركت لنا يا معشر الفلاحات .. " .