[b][size="5"]رسالة الفنان [/size][/b]:

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد جابري
    أديب وكاتب
    • 30-10-2008
    • 1915

    [b][size="5"]رسالة الفنان [/size][/b]:

    رسالة الأديب

    [align=center][/align] [align=center]{ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}
    (هود: من الآية100) [/align]

    ولئن بدا لواصف أن يصف موكب جنازة بموكب عرس، أضحت فيه النائحات مغنيات مترنمات مائلات مميلات يغدون في خفة الأطياف، ويعدن مصفقات على الخدود، مصطفات يشد بعضهن على بعض كمن لا يتمالكن من شدة الثمل، وغدا حاملو الجنازة منشدين يترنمون بلسان واحد وقد انقسموا فرقتين ترد إحداهن على الأخرى، ويجوبون الطرقات إلى أن أدخلوا العريس بيته الجديد. ورجعوا وقد زفوا العريس لا لزوجه وإنما لأمه.

    ولئن بدت اللوحتان متماثلتان يشد بعضها على بعض، فقد غاب عنها الإحساس الشاعري الصادق، وإن لم يغب الخيال الموار المتوقد إحساسا. فشتان بين من يمضي في نشوة وغرور وكبرياء، ومن تتزلزل أقدامه، ويضطرب فؤاده من جراء سماع نبأ الموت.

    ويحلو للكاتب أن يرسم خطوطه الفنية على لوحاته، فتبدو اللوحة في أعين الناس جذابة المنظر تسلب الناظر لبه وقد تستولي على خياله ؛ لكنها في عيون الفنان مجرد دم كذب ؛ لكونه عرض على الناس مساحيق وأصباغ كما يعرضها التاجر على فرق بين من يعرضها للبيع في إناء أو على صفحة الورق. فما قيمة اللوحة إن لم تؤد رسالة إنسانية نبيلة.

    إنها رسالة الشهود الحضاري، حيث يتحول الفنان إلى مبشر ومنذر، ريشته لسانه الناطق والمعرب عن آمال الأمة وعن أحزانها، وأصباغه تلون الجو بإشراقة شمس ضاحكة حتى بدت نواجذها، أو يكفهر جوها وتتكهرب سماؤها وينزل مطرها ويغطي ثلج يقينها الواقع.

    ورسالة الشهود الحضاري هي الثبات والاستمرار على درب النبوة، بالقومة لله والشهادة على الناس، فضلا عما يستجيش الشاعر من إحساسات باطنية ورغبة تذكي صموده ليبرز إيحاءاته ولو جحدها الجاحدون وصدها الصادون ؛ إذ ليس في ناموس الله إلا :

    - قائم لله بالشهادة على النفس أو الوالدين أو الأقربين بله غيرهم،
    - و حصيد حصدته عجلة التاريخ لما عارض الحق وجحده.


    في هذا المنحى تعقبت ريشة المنفلوطي وهي تأخذ ألفاظ ترجمة صديقه محمد عبد السلام الجندي وتحولها من جو الرواية، حيث خشبة مسرحها إلى سحر بديع ترى وتشاهد حلقاته على شريط سينمائي.

    فإن أضحى المترجم أو المهذب عدسة كاميرا ليس لها إلا أن تعكس الصورة، ، فيا لكم هو جهد ضائع وترف سابغ، ومداد للأوراق صابغ حتى ولو ذاد عنها بمداده السهل الممتنع : فمصباح الأشعة ما تحت الحمراء لو لم تكن له مزية إضافية تكشف ما سترته المصابيح الأخرى لكانت الرؤية تحت المصباح الواضح أجدى وأيسر للنظر من غيره.

    ولربما اعترض معترض بكون المسألة مسألة أمانة التبليغ، لئن كان جديرا به الحفاظ على أمانة النقل فإن حرية التعليق تتيحه فرصة ذهبية ليفجر المكبوت، ويقيد المطلق، وإلا أضحت الترجمة عمل الآلة التي لا تحس ولا تشعر ، إنما تـنفذ المأمور وليس لها دخل في الأمر ، فهل أدرك المنفلوطي رحمه الله خطأه وهو يفتخر :

    "لقد حافظت على روح الأصل بتمامه وقيدت نفسي به تقييدا شديدا، فلم أتجاوز إلا في حذف جمل لا أهمية لها، وزيادة بعض العبارات اضطرتني إليها صورة النقل والتحويل واتساق الأغراض والمقاصد، بدون إخلال بالأصل، والخروج عن دائرته، فمن قرأ التعريب قرأ الأصل الفرنسي بعينه، إلا ما كان من الفرق بين بلاغة القلمين ومقدرة الكاتبين وما لا بد من عروضه على كل منقول من لغة إلى أخرى، وخاصة إذا قيد المعرّب نفسه وحبس قلمه عن التصرف والافتتان."


    أكان مخلصا فأخلص للترجمة أم كان لينا فلان، وحبس مشاعره حتى بات قاضيا لا حق له في إبداء رأيه في السياسة ؟ وكيف استطاع الثبات في سجن من غير حراس ولم يفلت من قبضة السجان ؟

    ومصباح لطفي استنار بزيت الزيتون المغايرة للغاز الذي يتوهج منه مشعل المؤلف، فكيف لم تعطر زيت الزيتون المكان وتركت ريح الغاز يهيمن على القاعة ؟ لكن شاعرنا لم يكن ليراهن على الاستعلاء على غيره، وبخاصة إن تجسدت المخالفة له في الدين واللغة معا ؛ لكون ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما ؛ إذ :

    " مؤلف هذه الرواية شاعر، وبطلها شاعر، وأكثر أشخاصها شعراء، وموضوعها الشعر والأدب، وعبرتها أن النفس الشعرية هي أجمل شيء في العالم وأبدع صورة رسمتها ريشة المصور الأعظم في لوح الكائنات، وأنها هي التي يهيم بها الهائمون، ويتوله المتولهون،حين يظنون أنهم يعشقون الصور ويستهيمون بمحاسن الوجوه.
    لذلك أقدمها هدية إلى الشعراء فهم رجالها وأبطالها وأصحاب الشأن فيها، ولا أطلب منهم جزاء عليها أكثر من أن أراهم جميعا في حياتهم الأدبية والاجتماعية : سيرانو دي برجراك."11


    هدية ساقها لنا وقد لفها في قماش أبيض من العبارات الراقية والرقيقة، ذات الجمال البالغ والألفاظ البليغة والرشيقة لا لشيء إلا لأنها تدعو إلى الفضيلة :

    " وأفضل ما أعجبني منها أنها صورت التضحية تصويرا بديعا وهي الفضيلة التي أعتقد أنها مصدر جميع الفضائل الإنسانية ونقطة دائرته12.

    إلى هنا يطل علينا المنفلوطي من شرفة الفضيلة، ترى أنصدقه وهو لم يصدقنا؟ فالفضيلة إن لم تنبت في أرضها وبين بنيها تسقيها شمس المعارف من أشعتها ما تنير به الأرجاء ويسقيها المطر بمائه الزلال الخالص، وتستمد من الأرض أكسيجينها النقي الصافي، فضلا عن جودة التربة، نبتت شوهاء عرجاء لا تتماسك يكتنفها الغموض ويشوبها الالتباس ويتساءل المرء أفضيلة هي أم رذيلة ؟ فما هي فضيلة سيرانو التي اختارها لنا زيا نتجمل به عسانا نؤدي قيمة هديته ؟

    " فكان جامعا للشجاعة إلى درجة التهور، والخجل إلى درجة الضعف، ومن القسوة إلى معاقبة أعدائه على أصغر الهفوات، والرقة إلى البكاء من بؤس البائسين من أصدقائه وأبناء حرفته، وكان كريما متلافا لا يبقي على شيء مما في يده، وعفيفا لا يمد يده إلى مخلوق كائنا من كان، وصريحا لا يتردد لحظة واحدة في مجابهة صاحب العيب بعيبه كيفما كانت النتيجة المترتبة على ذلك..."

    فأية أخلاق لهذا الرجل ؟ شجاع إلى درجة التهور...خجول إلى درجة الضعف...قاس يعاقب على الهفوات... رقيق بكاء على بؤس البائسين...كريما متلافا لا يبقي على شيء...
    قف بنا نبكي على مفهوم الفضيلة عند المنفلوطي. فالفضيلة هي الوسطية بين رذيلتين، وكل ما تجاوز حده انقلب إلى ضده.

    فالشجاعة إقدام يوم تصطك الأسنان، وترتعد الفرائص من خشية جبار لوح بسيف عزه ليستكين الخائفون ؛ هنالك يقو م زعيم وثيق بوعد ربه، ويقلق راحة الطاغية ويسفه أحلامه، ويتحدى طغيانه وجبروته في عزة لا تضاهى، وكبرياء لا يقبل في غير هذا الموطن.

    ومن لم يدرك للشجاعة حدودا ساقه التهور إلى منحدر الظلم والظلام. فأي سيف ذاك الذي ينقلب على حامله بالبلايا والرزايا ؟

    وقس على ذلك باقي الصفات، فهل يمدح مبذر متلاف ؟ وهل رقته على المساكين وبكاؤه عليهم يمدهم بالكفاف ما دامت أنفته عقبة كأداء لا تحض على طعام المسكين ؟ وما تغني صراحة تهدم جسور البناء لعلاقة الأخوة والمرحمة.

    لطف الله بك يا لطفي لمدحك ما لا يمدح ؟ ولثنائك على من لم يستحق الثناء، ولا أخفي أن هذه الصور الشوهاء، وهذه الأحكام العرجاء صدتني عن تناول الكتاب لأتابع سطوره كي لا أكتشف ما هو أدهى ؛ لذلك عطفت عليه وتبرمت في وجهه، وأقبلت إقبال المحب بخفة نحو العقاد الذي انتقد المدرسة الرمزية :
    " كان الرمزيون على حق لولا الغلو الذي يندفع إليه أصحاب كل مدرسة حين يتصدون لحرب المدارس الأخرى، فيذهبون من أقصى النقيض إلى أقصى النقيض.
    فالأدب لا يستغني عن الوحي والإشارة، وأبلغ الفن ما يجمع الكثير في القليل، ويطلق الذهن من وراء الظواهر القريبة إلى المعاني البعيدة التي تومئ إليها الألفاظ، ولا تحتويها بجملتها إلا على سبيل التنبيه والتقريب.
    ولكن هذه المدرسة غلت وتمادت في الغلو حتى قام من دعاتها من يجعل الغموض والتعمية مقصودا لذاته، ولو لم يكن من ورائه طائل، وخيل إليهم أنهم مطالبون بالتعبير عن أنفسهم بالرموز وإن أغنتهم الحروف الواضحة والكلمات المفهومة..."


    إنها وسطية القول التي تذهب بالمرء إلى الاعتدال السلوكي ليقيم شهادة لله بحق سواء في حق من تنكروا للرمزية أو من ساندوها وعاضدوها.

    وحصد التاريخ المدرسة الرمزية وبقيت شهادة شاهد عليها قائمة لله.
    إننا حين نمضي على غير هدى من سنن الله في القرآن قد نتناقض في كل شيء حتى في فهم القرآن نفسه، فكيف بغيره من المفاهيم ؟
    التعديل الأخير تم بواسطة محمد جابري; الساعة 25-04-2009, 10:54.
    http://www.mhammed-jabri.net/
يعمل...
X