[align=center]في الثلج[/align]
ضبابي كثيف، يلقي بستاره على خلفية شجيرات الصنوبر، تلتمع فيه بتلصص عيون سيارات فارة بإتجاه الملاذ، قبل أن تنتفش السجادة البيضاء أكثر، من ندف الثلج القطنية الاخذة بحياكة نفسها برقي مخملي، وإيمان ارستقراطي على عمان.
من خلف النافذة تشعل سيجارا بطعم الشوكلاتة، يداعب كأس بلاك ليبل او قدح اسبيرسو بحليب مركز، تشد مئزر النوم، تسترخي على مقعد المخمل المنجد، أمام شاشة النافذة السميك، تاركا خوليو اغلاسياس يضج بقيثارته رغم الانارة الصفراء الشاحبة المنسلة من اماكن مبهمة تحت الجبصين المنحوت بمزاج إغريقي عتيق في زوايا الدار.
إن لم تملك مدفأة الخشب فمدفأة كاز تتقلب فوقها حبات كستناء تفي بالغرض، او صوبة غاز تصدر حفيفا افعوانيا تضفي مزيدا من الاسطورية لسيمفونية خوليو، رغم اجهزة التدفئة المركزية او تلك التي تحت البلاط، ليس لمزيد من الدفء، بل لتعيش دور عمر الشريف في فيلم "الوردة الحمراء" هاربا من موعد العمال "البلاشفة" آخر الشهر، متحايلا على باقي التجار "المناشفة" في أول الشهر، رغم ان الحسرة تاكلك لإفتقاد دور عشيقة تداعب رموشها اسفل رقبتك الفواحة برائحة نعناع مابعد الحلاقة، فترمي نظرة غضب ممرورة تجاه غرفة النوم الذي تلفعت بكل الاغطية فيه زوجة تقاعدت عن كل تكتيكات العشق والرقص تحت المطر منذ أن نجحت في ضربتها القاضية وأسقطتك أسير عقد الزواج.
لكنك لن تسمح للمرارة بالاسترسال، فالدنيا ثلج، وغدا ستتسكع في اروقة الحي بإنتظار صبية تفقد السيطرة على لهوها فتقصفك بكرة ثلج على حين غرة، تلوث معطفك الجوخي، وتمنحك فرصة تجريب مهاراتك في تسديد رذاذ أبيض، وتجريب فائض رجولة فقدته منذ استرخيت للأعراض الانسحابية في السوق الجديدة التي تؤمن بكل شيء الا الشرف.
عمان! رغم كل شيء مكان جميل، لا يتذوقه المرء الا اذا كان متطرف العشق للشتاء، فهي كالحورية تتحين العشا الليلي والسبات الشتوي لتخلع ثيابها التنكرية، من خرق الشحاذين، ودشاديش السائحين، وضيق حدقات المنافقين، فتلبس عريها لتستلقي فقط على طاولة حالم تدخن معه وتختلس من قصائد نزار قباني الدمشقية بما يتناسب ومقاسها الشتوي..
***
لكن.. هل تملك حقا نفاذة ببلور مزدوج الطبقات، بحيث تسترسل في حلمك بصدر عار يستر اكتافه ووسطه مئزر ساتان خمري!
الثلج جميل، وجبال عمان السبعة تنتصب ككتيبة من الشيوخ الاجلاء وبيوتها كأنها جموع القمل النازح من رؤوسهم الحربية، لكن هل تملك أنت الساكن في قاع المدينة على ضفاف مجرى يطفح بالسيول النازلة منها كأنه لعاب أولئك الشيوخ، الذين داسوا عليك أمل اللحاق بزمان لن يدركوه!
ليس أحر من برودة المشروب اللاذعة أسفل الحلق، وخيط الاسيد المثلج يحفر دربا في مريء دافئ، أو بخار القهوة المحمصة بذوق يسبق شتلات الكافيين التي تنبت أينما انساحت وغسلت اللسان من بقايا زنخة اللحم المطبوخ بطناجر التيفال المانعة لإلتصاق أي شيء بأي شيء، بدءا من صدر زوجة بحضن زوج، أو قدم مجرد إنسان بمجرد وطن..
لكن هل أكلت اللحم حقا؟
طيب بلاش! هل أكلت دجاجة ذات الكيلو بدينار ونصف؟مرتاديلا! ساندويش شاورما! أقله علبة طن يارجل..فالعرق محلي الصنع أو السبيرتو المكسور بكازوز وما شابهها من مشروبات لا تؤخذ على مجرد معدة ممتلئة بالحمص او الزعتر فحسب، بل يجب أن تكون قد شيدتها بأنسجة لحمية ودهنية تمتص الاحماض والقلويات وتخفف من حدة الصدمة على غشائها المخاطي الذي طالما بصقت اجزاء منه على شاشات التلفزيون وعلى قارعة الطريق آخر كل شهر، الا اذا كانت خطتك تقضي بالاستلقاء في كاريدورات طوارئ مستشفى البشير لصق "شوفاجات" التدفئة المركزية، بإنتظار طلة زائر يحمل لفافة ورق هدايا سيلوفاني خبأ فيه علبة لبن باتت تضاهي بقيمتها المادية والمعنوية علبة توفي "ناشد" أو سلفانا "شعراوي"!
إذا لم تأكل ذلك ولم تكن تخطط للذهاب هناك فهل لك ان تكتفي بكأس شوربة عدس!
نعم.. فليلة كهذه لا تعوض، ورشقات الثلج تترك بصماتها على بيوت الجيران المسقوفة بالخيش، كرشقات مني على سروال بني، وسميفونية المطر المتجمد الرتيبة بطرقها على لوح الزينكو سقيفة شرفتك على قعر السيل، كضوضاء لاوعي خلفية لخيط الماء الناز داخل طنجرة الاستحمام، بعد تفريغ شحنة غضب بعدائية على الفراش، ولا بد من استغلال جماليتها حتى لو أصبت بنزلة برد اشد انحدارا من كسارات جبل المريخ فوق المؤسسة الاستهلاكية التي يزورها كل الناس إلا أنت وجيرانك المكتفون برصد زجاجات الكاتشب المكسورة من زبون طفحت سيارته بكل انواع الزجاج، والأعلاف التي تدفع ثمنها من كل اتصال تطمئن فيه على صديق او تغازل فيه أمينة الصندوق قبيل انتهاء الشهر..
عمان جميلة يا أخي! والشتاء يغتصب خمارها وثيابها التنكرية.. لكن العدس أيضا غال‘ والمدفأة شاحبة منذ أنزلتها عن السدة، فاستمتع قبل حتى ان تفتقد شحوبها اخر هذا الاسبوع، وتفكر بكانون الحطب، حين يصير قرار تدفئة زوجك رديفا لاحتمال زيارة السجن بتهمة التعدي على البيئة وأشجار الصنوبر التي تجمل أزياء عمان التنكرية.
الثلج ملهم وناعم، لكن البرد قاس وحاد تعرفه فقرات ظهرك واطراف اصابعك.
زوجتك نائمة، لأن الكهرباء مقطوعة، اعتزلت الرقص تحت المطر لأن الروماتيزم لاك ماتبقى من مفاصلها، وألحقها بجدتها قبل الاوان بثلاثين شتاء.
يمكنك شراء شريط لخوليو بنصف دينار، وبطارية بالنصف الاخر، ليس لتستمتع بمقطوعة guardian بل لتسجل ماتبقى من نداءات الاستغاثة من غزة المنكوبة علك تساهم في تذكير الاجيال القادمة لماذا الشتاء ليس جميلا دائما في عمان..
وان عمان ليست مدينة واحدة ولا ثلاث.. إنها عمانان.. المسترخية على طاولة أمام كأس ريد ليبل، والاخرى الحاملة خرج الجباية طوال العمر.
محمد لافي "الجبريني"
ضبابي كثيف، يلقي بستاره على خلفية شجيرات الصنوبر، تلتمع فيه بتلصص عيون سيارات فارة بإتجاه الملاذ، قبل أن تنتفش السجادة البيضاء أكثر، من ندف الثلج القطنية الاخذة بحياكة نفسها برقي مخملي، وإيمان ارستقراطي على عمان.
من خلف النافذة تشعل سيجارا بطعم الشوكلاتة، يداعب كأس بلاك ليبل او قدح اسبيرسو بحليب مركز، تشد مئزر النوم، تسترخي على مقعد المخمل المنجد، أمام شاشة النافذة السميك، تاركا خوليو اغلاسياس يضج بقيثارته رغم الانارة الصفراء الشاحبة المنسلة من اماكن مبهمة تحت الجبصين المنحوت بمزاج إغريقي عتيق في زوايا الدار.
إن لم تملك مدفأة الخشب فمدفأة كاز تتقلب فوقها حبات كستناء تفي بالغرض، او صوبة غاز تصدر حفيفا افعوانيا تضفي مزيدا من الاسطورية لسيمفونية خوليو، رغم اجهزة التدفئة المركزية او تلك التي تحت البلاط، ليس لمزيد من الدفء، بل لتعيش دور عمر الشريف في فيلم "الوردة الحمراء" هاربا من موعد العمال "البلاشفة" آخر الشهر، متحايلا على باقي التجار "المناشفة" في أول الشهر، رغم ان الحسرة تاكلك لإفتقاد دور عشيقة تداعب رموشها اسفل رقبتك الفواحة برائحة نعناع مابعد الحلاقة، فترمي نظرة غضب ممرورة تجاه غرفة النوم الذي تلفعت بكل الاغطية فيه زوجة تقاعدت عن كل تكتيكات العشق والرقص تحت المطر منذ أن نجحت في ضربتها القاضية وأسقطتك أسير عقد الزواج.
لكنك لن تسمح للمرارة بالاسترسال، فالدنيا ثلج، وغدا ستتسكع في اروقة الحي بإنتظار صبية تفقد السيطرة على لهوها فتقصفك بكرة ثلج على حين غرة، تلوث معطفك الجوخي، وتمنحك فرصة تجريب مهاراتك في تسديد رذاذ أبيض، وتجريب فائض رجولة فقدته منذ استرخيت للأعراض الانسحابية في السوق الجديدة التي تؤمن بكل شيء الا الشرف.
عمان! رغم كل شيء مكان جميل، لا يتذوقه المرء الا اذا كان متطرف العشق للشتاء، فهي كالحورية تتحين العشا الليلي والسبات الشتوي لتخلع ثيابها التنكرية، من خرق الشحاذين، ودشاديش السائحين، وضيق حدقات المنافقين، فتلبس عريها لتستلقي فقط على طاولة حالم تدخن معه وتختلس من قصائد نزار قباني الدمشقية بما يتناسب ومقاسها الشتوي..
***
لكن.. هل تملك حقا نفاذة ببلور مزدوج الطبقات، بحيث تسترسل في حلمك بصدر عار يستر اكتافه ووسطه مئزر ساتان خمري!
الثلج جميل، وجبال عمان السبعة تنتصب ككتيبة من الشيوخ الاجلاء وبيوتها كأنها جموع القمل النازح من رؤوسهم الحربية، لكن هل تملك أنت الساكن في قاع المدينة على ضفاف مجرى يطفح بالسيول النازلة منها كأنه لعاب أولئك الشيوخ، الذين داسوا عليك أمل اللحاق بزمان لن يدركوه!
ليس أحر من برودة المشروب اللاذعة أسفل الحلق، وخيط الاسيد المثلج يحفر دربا في مريء دافئ، أو بخار القهوة المحمصة بذوق يسبق شتلات الكافيين التي تنبت أينما انساحت وغسلت اللسان من بقايا زنخة اللحم المطبوخ بطناجر التيفال المانعة لإلتصاق أي شيء بأي شيء، بدءا من صدر زوجة بحضن زوج، أو قدم مجرد إنسان بمجرد وطن..
لكن هل أكلت اللحم حقا؟
طيب بلاش! هل أكلت دجاجة ذات الكيلو بدينار ونصف؟مرتاديلا! ساندويش شاورما! أقله علبة طن يارجل..فالعرق محلي الصنع أو السبيرتو المكسور بكازوز وما شابهها من مشروبات لا تؤخذ على مجرد معدة ممتلئة بالحمص او الزعتر فحسب، بل يجب أن تكون قد شيدتها بأنسجة لحمية ودهنية تمتص الاحماض والقلويات وتخفف من حدة الصدمة على غشائها المخاطي الذي طالما بصقت اجزاء منه على شاشات التلفزيون وعلى قارعة الطريق آخر كل شهر، الا اذا كانت خطتك تقضي بالاستلقاء في كاريدورات طوارئ مستشفى البشير لصق "شوفاجات" التدفئة المركزية، بإنتظار طلة زائر يحمل لفافة ورق هدايا سيلوفاني خبأ فيه علبة لبن باتت تضاهي بقيمتها المادية والمعنوية علبة توفي "ناشد" أو سلفانا "شعراوي"!
إذا لم تأكل ذلك ولم تكن تخطط للذهاب هناك فهل لك ان تكتفي بكأس شوربة عدس!
نعم.. فليلة كهذه لا تعوض، ورشقات الثلج تترك بصماتها على بيوت الجيران المسقوفة بالخيش، كرشقات مني على سروال بني، وسميفونية المطر المتجمد الرتيبة بطرقها على لوح الزينكو سقيفة شرفتك على قعر السيل، كضوضاء لاوعي خلفية لخيط الماء الناز داخل طنجرة الاستحمام، بعد تفريغ شحنة غضب بعدائية على الفراش، ولا بد من استغلال جماليتها حتى لو أصبت بنزلة برد اشد انحدارا من كسارات جبل المريخ فوق المؤسسة الاستهلاكية التي يزورها كل الناس إلا أنت وجيرانك المكتفون برصد زجاجات الكاتشب المكسورة من زبون طفحت سيارته بكل انواع الزجاج، والأعلاف التي تدفع ثمنها من كل اتصال تطمئن فيه على صديق او تغازل فيه أمينة الصندوق قبيل انتهاء الشهر..
عمان جميلة يا أخي! والشتاء يغتصب خمارها وثيابها التنكرية.. لكن العدس أيضا غال‘ والمدفأة شاحبة منذ أنزلتها عن السدة، فاستمتع قبل حتى ان تفتقد شحوبها اخر هذا الاسبوع، وتفكر بكانون الحطب، حين يصير قرار تدفئة زوجك رديفا لاحتمال زيارة السجن بتهمة التعدي على البيئة وأشجار الصنوبر التي تجمل أزياء عمان التنكرية.
الثلج ملهم وناعم، لكن البرد قاس وحاد تعرفه فقرات ظهرك واطراف اصابعك.
زوجتك نائمة، لأن الكهرباء مقطوعة، اعتزلت الرقص تحت المطر لأن الروماتيزم لاك ماتبقى من مفاصلها، وألحقها بجدتها قبل الاوان بثلاثين شتاء.
يمكنك شراء شريط لخوليو بنصف دينار، وبطارية بالنصف الاخر، ليس لتستمتع بمقطوعة guardian بل لتسجل ماتبقى من نداءات الاستغاثة من غزة المنكوبة علك تساهم في تذكير الاجيال القادمة لماذا الشتاء ليس جميلا دائما في عمان..
وان عمان ليست مدينة واحدة ولا ثلاث.. إنها عمانان.. المسترخية على طاولة أمام كأس ريد ليبل، والاخرى الحاملة خرج الجباية طوال العمر.
محمد لافي "الجبريني"