في رحلتي الطويلة مع الروايات الجيدة ، والتي تحت الحزام .. عربية وعالمية أتيت على بعض ما أبدعه الروائي السوري حنا مينا , ولا أعرف تماما لماذا إستوقفتني روايته الموسومة " حدث في بيتاخو " .
بيتاخو مدينة في الصين مجاورة للمحيط الهادي تمتاز بمصيفها المائي الجميل يجلب الزوار من أنحاء العالم . أخمن أن الكاتب كان هناك , ومن هناك بدأت فكرة الرواية , بطلها " زبيد الشحري " يبدو عاريا في ملابس البحر , والجروح الحمر على جسده ترمز بالتأكيد الى آلامه الجسدية والنفسية كإنسان عربي يعيش مأساة السيطرة الإستعمارية أولا , وكشيوعي ملاحق ثانيا . حالة اغتراب وجد لها متنفسا في هذا المكان , فراح يستغل حريته المؤقتة ويشبع رغباته مع مارلين وبورجرون وسواهما من النساء الأجانب , يفرح يتفرهد ويكرع البيرة , ينعم بحياة دون قيود ، رغبته المكبوتة بالتحرر , لكنه يدرك أن الحرية الحقيقية لها ثمن وتحتاج الى مجازفة واستعداد , لذلك يبدأ بانتظار " السمكة الكبيرة " لتبتلعه فينتهي من عذاباته وقيوده , أو يحالفه الحظ فيخرج منتصرا كما خرج يونس من بطن الحوت .
لقد استنفد الشحري جنسيا من قبل أكثر من امرأة أجنبية , إشارة الى استنفاد الطاقة العربية . هذه النماذج من نساء الشحري ظلت شخصيات مسطحة تميل رومانسيا الى تسويغ ذواتها . كشخصيات " ديكنز " كلها تقريبا مسطحة . لكن هذه الشخصيات في رواية حنا مينا دخلت ببراعة في نسيج الحبكة , واستمرت تفعل ما تحب بإلحاح من الكاتب دون أن يضغطها . وهذا نهج سليم في العمل الروائي عموما , أن لا يجبر الكاتب شخصية على سلوك أو عمل لا يتناسب مع مزاجها ,ظرفها , وتكوينها البيولوجي .
بديهي أن صناعة الشخصية المسطحة في الرواية أسهل بكثير من ابتكار الشخصية المغلقة تحتاج الى جهد ووقت . كنت أتوقع من الكاتب ان يجعل من السيدة " بورجرون " تحديدا شخصية مغلقة بأن يمنحها وظيفة أخرى بالإضافة الى اللعب والجنس , ما دامت تقوم –بشكل مضمر- بدور خطير في اللعبة السياسية التي سنشير اليها لاحقا . لكنه ابقاها شخصية مسطحة وشبه تافهة !. هل كان في عجلة من امره ؟ أم هكذا تطلب النص .
أمّا سمات الشخصية المحورية "الشحري" فيحددها الكاتب بدقة ويجعل منها شخصية "مغلقة" بالمفهوم الروائي . شخصية تتكيف وتتصرف حسب المناخ الذي يتكوّن بفعل الظروف السياسية والاجتماعية .
ان اختيار الكاتب للصين مسرحا للأحداث يجعلنا نعتقد انه أعجب بالتحول الذي حدث بعد تحرير الصين عام 1949 لمصلحة الصين العصرية المحررة والموحدة لأول مرة في تاريخها . لكننا نكتشف ان الكاتب ورغم ارتياحه لهذا التحول ينتقد التطبيق الاشتراكي في الصين والاتحاد السوفيتي . وهذا يضعنا امام حقيقة ان الرواية سياسية لكن باسلوب غاية في الهندسة ، من خيال وابتكار وتقنية وهدف . بيد اننا نحس بضآلة عنصر التشويق الذي هو من العناصر الضرورية والمطلوبة في العمل الروائي . كأن يجد لك الروائي سببا لعلاقة بين رجل وامرأة من خلال التشكيله البنائية . كما حدث مع الشحري والسيدة بورجرون التي "تنز غلمة امرأة محرومة او غير مكتفية" .
لكن هذه اللقطة وغيرها من اللقطات الشائقة هي قليلة ومتباعدة . لعل حنا مينا ادرك ذلك فوضع امامنا البديل . ظل علينا ان نقبل بهذا العرض وتسير الامور على ما يرام . البديل كمثال هو التصوير او الوصف الممتع لمطعم صيني :
(( الأسطح المغطاة بقرميد أحمر ، والبنايات ذات الطابقين ، والمداخل الخارجية المسقوفة والمقوسة ، مع تزيينات في الأعمدة ، ورسوم وزخارف هي بعض من الأشكال الزخرفية البوذية،
والخضرة النضرة ، المتعرشة على الجدران من الخارج ، أو المقلمة التي ترتفع كحواجز بين الأبنية ، مع الاشجار الوارفة ، والدروب المستقيمة )) .
أو هذا الوصف في الفصل الثاني ، يشرع زبيد الشحري باستعراض ما مر به من احداث مخيفة في حي الجعيتاوي في الأشرفية ببيروت ، حين أتهم من قبل المباحث بحمل الفكر الاشتراكي :
(( يأتون ليلا الى غرف التعذيب ، حيث الدولاب المعد للفلقة ، والحبل للتشبيح ، والسوط الذي يتناثر مع ضرباته لحم الضحية ، والى ان تهدأ ثائرتهم ، ويروى ظمأهم السادي ، ويفوزوا بأيما اعتراف ، يكلل جهدهم غير المشكور بالظفر )).
في هذه الرواية ينتمي حنا مينا الى المدرسة الواقعية ، والدليل انه لا يلجأ الى التمويه والمداورة ، بل يتحدث بصراحة وجرأة ، يلتمس الحقيقة في الواقع الملموس او اجزاء من الواقع يشحنها بما لديه من خبرات فنية وذوق رفيع ، كذلك يستخدم الرمز دون اللجوء الى الذاكرة اللاواعية ، بل يخرج بمكنونات شعورية تتراءى حقائق غير بعيدة المنال .
وقمة ميزة في هذه الرواية وهي الصيغة التجديدية التي يشار اليها بمعنى "كسر السرد ، تحطيم التسلسل الزمني ، استخدام المونولوغ ، اختلاط الازمان " .
لا يهمني ما يقال عن هذه الصيغة بأنها اصبحت تقليدا . المهم في المسألة ان يوصلك الكاتب الى حالة من المتعة والفائدة ، خاصة في إطار اهتمامه بالشخصيات مسطحة ومقفلة او معقدة . والشخصيات هي الجانب الاكثر إثارة ، وهي من اركان الرواية السبعة ، او الطرق المختلفة التي نستطيع النظر بوساطتها الى أية رواية .
حقا لقد ابدع حنا مينا في هذا العمل الأدبي ، وتجسدت قيمة الابداع في الأثر الذي تتركه الرواية في نفس القارئ فكرا وتجاوبا ، أثر يحتاج الى وقفة تأمل وتفكير ، وربما الى إعادة ذهنية وشعورية لهذه الاوراق بما حملت من احداث ومشاهد وتصورات هي مزيج من الواقع والخيال .
بيتاخو مدينة في الصين مجاورة للمحيط الهادي تمتاز بمصيفها المائي الجميل يجلب الزوار من أنحاء العالم . أخمن أن الكاتب كان هناك , ومن هناك بدأت فكرة الرواية , بطلها " زبيد الشحري " يبدو عاريا في ملابس البحر , والجروح الحمر على جسده ترمز بالتأكيد الى آلامه الجسدية والنفسية كإنسان عربي يعيش مأساة السيطرة الإستعمارية أولا , وكشيوعي ملاحق ثانيا . حالة اغتراب وجد لها متنفسا في هذا المكان , فراح يستغل حريته المؤقتة ويشبع رغباته مع مارلين وبورجرون وسواهما من النساء الأجانب , يفرح يتفرهد ويكرع البيرة , ينعم بحياة دون قيود ، رغبته المكبوتة بالتحرر , لكنه يدرك أن الحرية الحقيقية لها ثمن وتحتاج الى مجازفة واستعداد , لذلك يبدأ بانتظار " السمكة الكبيرة " لتبتلعه فينتهي من عذاباته وقيوده , أو يحالفه الحظ فيخرج منتصرا كما خرج يونس من بطن الحوت .
لقد استنفد الشحري جنسيا من قبل أكثر من امرأة أجنبية , إشارة الى استنفاد الطاقة العربية . هذه النماذج من نساء الشحري ظلت شخصيات مسطحة تميل رومانسيا الى تسويغ ذواتها . كشخصيات " ديكنز " كلها تقريبا مسطحة . لكن هذه الشخصيات في رواية حنا مينا دخلت ببراعة في نسيج الحبكة , واستمرت تفعل ما تحب بإلحاح من الكاتب دون أن يضغطها . وهذا نهج سليم في العمل الروائي عموما , أن لا يجبر الكاتب شخصية على سلوك أو عمل لا يتناسب مع مزاجها ,ظرفها , وتكوينها البيولوجي .
بديهي أن صناعة الشخصية المسطحة في الرواية أسهل بكثير من ابتكار الشخصية المغلقة تحتاج الى جهد ووقت . كنت أتوقع من الكاتب ان يجعل من السيدة " بورجرون " تحديدا شخصية مغلقة بأن يمنحها وظيفة أخرى بالإضافة الى اللعب والجنس , ما دامت تقوم –بشكل مضمر- بدور خطير في اللعبة السياسية التي سنشير اليها لاحقا . لكنه ابقاها شخصية مسطحة وشبه تافهة !. هل كان في عجلة من امره ؟ أم هكذا تطلب النص .
أمّا سمات الشخصية المحورية "الشحري" فيحددها الكاتب بدقة ويجعل منها شخصية "مغلقة" بالمفهوم الروائي . شخصية تتكيف وتتصرف حسب المناخ الذي يتكوّن بفعل الظروف السياسية والاجتماعية .
ان اختيار الكاتب للصين مسرحا للأحداث يجعلنا نعتقد انه أعجب بالتحول الذي حدث بعد تحرير الصين عام 1949 لمصلحة الصين العصرية المحررة والموحدة لأول مرة في تاريخها . لكننا نكتشف ان الكاتب ورغم ارتياحه لهذا التحول ينتقد التطبيق الاشتراكي في الصين والاتحاد السوفيتي . وهذا يضعنا امام حقيقة ان الرواية سياسية لكن باسلوب غاية في الهندسة ، من خيال وابتكار وتقنية وهدف . بيد اننا نحس بضآلة عنصر التشويق الذي هو من العناصر الضرورية والمطلوبة في العمل الروائي . كأن يجد لك الروائي سببا لعلاقة بين رجل وامرأة من خلال التشكيله البنائية . كما حدث مع الشحري والسيدة بورجرون التي "تنز غلمة امرأة محرومة او غير مكتفية" .
لكن هذه اللقطة وغيرها من اللقطات الشائقة هي قليلة ومتباعدة . لعل حنا مينا ادرك ذلك فوضع امامنا البديل . ظل علينا ان نقبل بهذا العرض وتسير الامور على ما يرام . البديل كمثال هو التصوير او الوصف الممتع لمطعم صيني :
(( الأسطح المغطاة بقرميد أحمر ، والبنايات ذات الطابقين ، والمداخل الخارجية المسقوفة والمقوسة ، مع تزيينات في الأعمدة ، ورسوم وزخارف هي بعض من الأشكال الزخرفية البوذية،
والخضرة النضرة ، المتعرشة على الجدران من الخارج ، أو المقلمة التي ترتفع كحواجز بين الأبنية ، مع الاشجار الوارفة ، والدروب المستقيمة )) .
أو هذا الوصف في الفصل الثاني ، يشرع زبيد الشحري باستعراض ما مر به من احداث مخيفة في حي الجعيتاوي في الأشرفية ببيروت ، حين أتهم من قبل المباحث بحمل الفكر الاشتراكي :
(( يأتون ليلا الى غرف التعذيب ، حيث الدولاب المعد للفلقة ، والحبل للتشبيح ، والسوط الذي يتناثر مع ضرباته لحم الضحية ، والى ان تهدأ ثائرتهم ، ويروى ظمأهم السادي ، ويفوزوا بأيما اعتراف ، يكلل جهدهم غير المشكور بالظفر )).
في هذه الرواية ينتمي حنا مينا الى المدرسة الواقعية ، والدليل انه لا يلجأ الى التمويه والمداورة ، بل يتحدث بصراحة وجرأة ، يلتمس الحقيقة في الواقع الملموس او اجزاء من الواقع يشحنها بما لديه من خبرات فنية وذوق رفيع ، كذلك يستخدم الرمز دون اللجوء الى الذاكرة اللاواعية ، بل يخرج بمكنونات شعورية تتراءى حقائق غير بعيدة المنال .
وقمة ميزة في هذه الرواية وهي الصيغة التجديدية التي يشار اليها بمعنى "كسر السرد ، تحطيم التسلسل الزمني ، استخدام المونولوغ ، اختلاط الازمان " .
لا يهمني ما يقال عن هذه الصيغة بأنها اصبحت تقليدا . المهم في المسألة ان يوصلك الكاتب الى حالة من المتعة والفائدة ، خاصة في إطار اهتمامه بالشخصيات مسطحة ومقفلة او معقدة . والشخصيات هي الجانب الاكثر إثارة ، وهي من اركان الرواية السبعة ، او الطرق المختلفة التي نستطيع النظر بوساطتها الى أية رواية .
حقا لقد ابدع حنا مينا في هذا العمل الأدبي ، وتجسدت قيمة الابداع في الأثر الذي تتركه الرواية في نفس القارئ فكرا وتجاوبا ، أثر يحتاج الى وقفة تأمل وتفكير ، وربما الى إعادة ذهنية وشعورية لهذه الاوراق بما حملت من احداث ومشاهد وتصورات هي مزيج من الواقع والخيال .