معالم من التجربة الفلسفية لابن طفيل - 3 -

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • إبراهيم عبد الله
    أديب وكاتب
    • 06-11-2008
    • 280

    معالم من التجربة الفلسفية لابن طفيل - 3 -

    -
    أهمية قصة حي بن يقظان وموضوعها
    -
    3-

    كتب ابن طفيل رسالته الفلسفية - الأدبية حي بن يقظان وقسمها إلى ثلاثة أقسام؛
    القسم الأول، يمكن النظر إليه باعتباره مقدمة في تاريخ الفلسفة يؤرخ فيه ابن طفيل لكثير من الإشكاليات التي عرفها تاريخ الفلسفة في الإسلام، منها إشكالية الاتصال، غشكالية الكتابة الفلسفية، إشكالية المعاد، وغيرها من الإشكاليات التي يطرحها تاريخ الفلسفة في الإسلام والتي عرض لها ابن طفيل بإيجاز كبير من خلال إثارته للصعوبات التي تكتنف النص الفلسفي الإسلامي، سواء من حيث القضايا التي يثيرها أو من خلال الأساليب التي عرض بها قضاياه هذه. وهذه الإشكاليات سيتردد صدى كثير منها في هذا النص الطريف. إم مقدمة حي بن يقظان تثير عند القارئ - من جملة ما تثير - مشكلة الكتابة الفلسفية، وكأن ابن طفيل نفسه يقول لنا إن ما سيكتبه سيكون مشكلا ولابد من النظر إليه ونظرا خاصا. فإذا كان الفارابي يعتقد أن أفلاطون اشتهر بكتابة الرموز والأساطير، وأنه عندما يذكر الحقيقة واضحة يظنها القارئ رمزا وليس حقيقة، وعندما علم ذلك واستبين أنه قد شهر بذلك، وعرف الناس أجمع عنه ذلك، ربما عمد إلى الشيء الذي يريد ان يتكلم فيصرح به تصريحا ظاهرا، فيظن القارئ والسامع لكلامه أن في ذلك رمزا، وأنه يريد به خلاف ما صرد به(60). أفلا يمكن أيضا بهذه الجهة أن تنظر إلى نص ابن طفيل على انه مخادع ؟ وأن علينا أن ننتبه إلى الحالات القليلة التي يقال فيها الشيء في النص والذي يخالف الطبيعة التامة للكتاب، غذ أن الأمور المهمة تقال عادة في بعض الأحيان وخاصة عند فلاسفة يدركون خطورة القول الفلسفي ؟ ولعل هذا مصدر شعورنا في أننا نجد دائما أكثر صدقا وعمقا ما نظن أننا وجدناه من خلال النص رغم مؤلفه(61). وما يؤكد هذا الأمر هو تثمين ابن طفيل لطريقة الغزالي في الكتابة والتي أسسها على التمييز بين الآراء أو المذاهب في آخر كتابه ميزان العمل، والتي تثوي وراء هذا التناقض الذي يخترق نصوصه، والتي لا تفتأ يلمسها كل متعامل مع التراث الغزالي.
    ثم قسم صغير، ختم به رسالته وقد جاء على شكل اعتذار. وهو قسم غني بالمعطيات التي تربط القصة بفضائها السوسيو - ثقافي. واعتذارا ابن طفيل في آخر النص، وإن كان من أجل توضيح أن ما قدمه في الرسالة لا يراد منه مخالفة طريق السلف الصالح - وإنما على العكس من ذلك، الإفصاح عما ظن به السلف من معرفة من جهة، والرد على منكري الشرائع من جهة أخرى، فاحتمى ابن طفيل بالسلف الصالح، وصرح بمقاصده من الكتابة الفلسفية، خفية ان ترشقه نبال المكفرين(62) - فإنه أيضا اعتذار عن عجزه الطبيعي عن التعبير الواضح عن موضوعات تلح على الفكر البشري إلحاحا كبيرا، وتند عن التعبير الواضح وتنفلت منه، واللجوء إلى التعبير عنها، يفقدها حقيقتها ويحيلها إلى شيء آخر.وبين هذين القسمين، جاء القسم الأكبر من الرسالة كوحدة روائية متسعة، قسمها ابن طفيل إلى جملتين كبيرتين؛ جملة تشكل الجزء النظري من الرسالة، وجملة تشكل الجزء العملي منها، وتبتدئ هذه الجملة بظهور اسم الجنيد، وحضور مفهوم المشاهدة الذي سيحدث انقلابا في المشهد الميتافيزيقي للرسالة.
    وتكمن أهمية الرسالة الفلسفية لابن طفيل، في أنها تقذف بقارئها في أعماق الفلسفة الإسلامية بتياراتها المختلفة، وبخاصة مع الفلاسفة الكبار، ليعيش معها في قالب تعليمي أخاذ، حيث تعرض الرسالة في شكل أدبي أهم الإشكالات التي أرقت فلاسفتنا سواء كانت تلك الإشكالات ذات طبيعة ميتافيزقية أو ذات طبيعة فلسفية - علمية، أو ذات طبيعة لغوية مرتبطة بالشكل الذي صيغة به تلك الإشكالات والقضايا الفلسفية. وإن وقوفا عند مقدمة الرسالة من جهة، وقراءة الرسالة على ضوئها ينير لنا معرفة كثيرة من الروافد التي شكلت النسيج العام للرسالة. وبخاصة لابد وأن يمر خاصة بفهم الكتب المتأخرة الفلسفية الباجية والغزالية، والكتاب السينوية ذات النفس المشرقي. باعتبار أنها تشكل أسس بناء فلسفته.
    وتكمن أهمية التأثير الباجي في قرب العهد بين الفيلسوفين أولا، ثم ثانيا، لأن ابن اعتبر ابن باجة أول فيلسوف في المغرب، - ولا غرو أنه أول فيلسوف يأتي مباشرة بعد هجمات الغزالي على الفلسفة - وأفراد له حيزا مهما في مقدمته بحيث تكرر اسمه فيها كثيرا بشكل يلفت النظر، وفي هذه المقدمة حرص فيلسوفنا خاصة على المقارنة بين تجربته الفلسفية وتجربة أبي بكر بن الصائغ، ثم أخيرا وليس آخرا لأننا نلمس في مفهوم المتوحد الذي استعاره فيلسوفنا من ابن باجة الهيكل العام الذي بنى عليه ابن طفيل رسالته.
    أما التأثير السينوي قيبرز من خلال هذه المواضع التي تعتبر من أسرار هذه الحكمة المشرقية السينوية المفترضة التي استلهمها ابن طفيل. ويبدو أن ابن سينا لم يكتب سفرا خاصا بالفلسفة المشرقية، إذ أن هذه الفلسفة - انطلاقا من إحالات ابن طفيل - منبثة في أكثر من كتاب سينوي. ومما يؤكد ذلك ان بعض الدارسين ذهبوا إلى أن نصوصا من الفلسفة المشرقية توجد في الإشارات وهو ما تدعمه جواشون(63)، وإلى ذهب د. الجابري(64)، وفي حواشي ابن سينا على كتاب الربوبية المنسوب إلى أرسطو، يلاحظ كوربان أن من أصل ستة مواضع يستشهد يها ابن سينا بفلسفته المشرقية، هناك خمسة مواضع تتعلق بالوجود بعد الموت، مما جعله يؤكد أن الفلسفة المشرقية هي مذهب الحياة الآخرى(65). ومن هنا ضرورة الأصل السينوي في فهم رسالة ابن طفيل. فقد صرح ابن طفيل أن حضور ابن سينا بفلسفته المشرقية في الرسالة حضور استلهام وليس حضور عرض محايد فقط. وقد استعار فيلسوفنا من هذا المتن السينوي على الأقل خمس عناصر مشرقية : عنصر التولد الذاتي - عنصر قداسة الأجرام السماوية - عنصر جوهرية النفس - وعنصر المجاهدة - عنصر الحياة بعد الموت. وهي العناصر التي تخترق نسيج رسالة ابن طفيل الفلسفية.
    أما التأثير الغزالي فنلمسه خاصة من خلال هذا التأثير العميق الذي خلفه الكتاب الفلسفي مشكاة الأنوار للغزالي على رسالة ابن طفيل؛ إن التأملات الغزالية ليست غريبة عن تأملات حي بن يقظان، وإن النص الذي أثر في البنية السطحية والعميقة لنص ابن طفيل، لنفسه الفلسفي - الإشراقي، هو نص مشكاة الأنوار، سواء من خلال انفعال ابن طفيل بتعابيره الغزالية، ويمكن القيام بمقارنة بسيطة بين أسلوبي الكتابين لملامسة هذا الأثر الكبير لرسالة الغزالي على رسالة ابن طفيل. أو من خلال بنيته الأولية للدلالة المكونة من الزوج نور/ظلمة والتي ترجمها ابن طفيل من خلال الزوج علم/جهل من خلال ستة مستويات كل مستوى علمي ينقلنا إلى مستوى علمي أعلى حتى نصل إلى المستوى الأخير مستوى المعرفة المطلقة، وفي كل مستوى يتم التحرر من جهل أساسه الارتباط بما هو جسماني إلى التعلق بمعرفة أساسها الارتباط بما هو معقول. وهذه المستويات يمكن النظر إليها باعتبارها محطات، لأننا أمام رحلة استعارية ينتقل فيها البطل حي من محطة إلى محطة، وكل محطة تؤدي إلى الأخرى حتى ينتهي به المطاف إلى المحطة الأخيرة. ويمكن إحصاء ستة من هذه المحطات : محطة الموت ومحطة الصور ومحطة الفاعل ومحطة الذات العارفة ومحطة الفناء وفيها يتم الاستغراق في النور الأعلى وطرح كل ما يتعلق بالبدن وبخاصة اللغة والعقل النظري، وأخيرا محطة المجتمع.
    لقد أبرز ابن طفيل نسقه الفلسفي في قصة حي بن يقظان انطلاقا من تجربة تجمع بين هم التوحد الباجي المؤسس على فعل النظر، وبين هم المجاهدة السينوية - الغزالية المؤسسة على فعل الذوق؛ تجربة منفتحة على الممكن، مغايرة للمألوف، وباعثة على التأمل. وقد حرص ابن طفيل على أن يؤطر تجربته هذه ضمن الفلسفة المشرقية السينوية التي كان كلفا بها، ويجعل فلسفته تعبيرا عن بعض أحوالها، ويعمل ما وسعه ذلك على التعبير عنها لأنها الحق المطلق الذي ينبغي الحرص على طلبه في تقديره. كما حرص ابن طفيل، دون أن يمنعه استلهامه الفلسفة الباجوية، على أن يضرب في عمق التجربة الفلسفية الغزالية من خلال ارتياضه العميق في كتبه المختلفة وبخاصة كتاب مشكاة الأنوار، يقيم بذلك كله الأسس الفلسفية لتجربته، حيث نجد فيلسوفنا من خلال ذلك يقدم لنا ابن باجة في إهاب سينوي - غزالي، كما سيقدم لنا ابن سينا في ثوب غزالي، ليجمع في تركيب غريب بين فلاسفة لا يكاد يجد أحدهم ذاته عن غيره؛ فابن باجة انتقد الغزالي وسكت عن ابن سينا، والغزالي كفر ابن سينا وأجهز على كثير من آرائه، ويأتي ابن طفيل وكأنه يريد أن يلم شملا تفرق، ويجمع بناء تصدع. وقد طرح هذا الأمر مسألة أساسية حول وضعية هذه رسالة ابن طفيل هل هي قصة فلسفية أم أنها قصة تنتمي إلى الأدب الصوفي ؟
    يلاحظ الدارس للنص الفلسفي أن ابن طفيل وإن انفتح على التصوف انفتاحا كبيرا، فإن نصه ظل نصه ظل نصا فلسفيا في العمق، يعتبر ان التجارب الفلسفية لا يمكن أن تثبت من غير طريق الفلاسفة من أهل النظر، ويعتبر أن النظر والتأمل وأدواته المعرفية لا يمكن أن يتجاوزه إلا الشاذ النادر، وأن الطريق النظري طريق أساسي في المعرفة الفلسفية. ومن هنا أهمية الطب والرياضيات في قصة ابن طفيل. فقد شهد ابن طفيل - في مقدمته الفلسفية - على أن طرفا من النخبة المثقفى في الغرب الإسلامي قطعت أعمارها في الاشتغال بهذه العلوم، بل إن ابن طفيل نفسه اشتغل بهذه العلوم، وخص علم الهيئة بأثير عنايته في رسالته الفلسفية،ويعتبر البعد الفلكي في الشخصية العلمية لابن طفيل، من الأبعاد التي لا يزال يكتنفها الغموض، لكن هناك قرائن كثيرة تكشف عن إلمام ابن طفيل بعلم الهيئة وتجويده فيه. أما الشخصية الطبية لابن طفيل فتبرز في الرسالة في المواضع التي قدم فيها ابن طفيل وصفا بديعا للأعضاء الداخلية لحي بن يقظان أثناء تخلقه من الطينة المتخمرة، وأثناء تشريحه للظبية.
    إن التجربة اللسفية لابن طفيل كما عرضها في رسالته لا تنفصل عن أساسها العلمي رغم نهايتها الغنية بالاستعارات والموغلة في التخييل. ولا غرو، فلقد ظلت الفلسفية عند ابن طفيل تتغذى بالعلم وتقوم عليه. وإن فهم شخصية فيلسوفنا الطبية، بظلالها الموحية، وفهم شخصيته الفلكية، من المفاتيح الأساسية لفهم خطابه الفلسفي - الميتافيزيقي. ومن هنا هذا التنوع في الكتابة عند ابن طفيل في نصه الفلسفي؛ أسلوب أقرب إلى الوضوح حين يتعلق الأمر بحكي العلم و الفلسفة، وأسلوب يتوغل في الغموض وتكاد تنتصر فيه الحكاية على الفلسفة، حين يتعلق الأمر بعرض المشاهدات وتقريب الأذواق. وهو في كل هذا أسلوب غمره صاحبه في فضاء من الغرابة والتعجيب؛ يضفي على النص سحر الإيحاء وبلاغة المجاز، ويشرع الباب أمام تأويلات الخطاب، وهو أفق آخر من آفاق البحث الذي يفتحه هذا النص الفلسفي - العجيب!م لدارسه ! هنا فهم هذا الغني في الكتابة عند ابن طفيل، فجاءت المقدمة الفلسفية تحمل بصمات الفيلسوف الأكاديمي الصارم، وجاءت الوحدة الروائية تحمل في جزئها الأول حرص العالم ودقته، وتحمل في جزئها الأخير انطلاق الأديب - الفيلسوف. فإذا كان الجزء النظر يستجيب في موضوعه للرصد والملاحظة، وفي تثبيته للأمانة والموضوعية، فإن ابن طفيل يتعبر - في الجزء العلمي من الرسالة - أن الحقائق الروحية الباطنية هي أس الحقائق وملاكها، مما يجعل فعل الكتابة - باعتباره فعلا يقدر به المرء على التعبير عن حقائق بعيدة الإدراك، والرصد والملاحظة - فعلا صعب المنال؛ لأن هذه الحقائق تتعلق بتجارب شخصية فردية لا تقبل التعميم، بل إن نقلها هو خيانة لها. ولذلك تصبح اللغة عند ابن طفيل في هذا السياق قاصرة وغنية في نفس الوقت؛ قاصرة من حيث طبيعتها الحسية العاجزة عن نقل هذه الحقائق المتعالية، وغنية من حيث تعويضها هذا القصور باللجوء إلى تقنيات البلاغة من استعارة ومجاز، لإخراج الأفكار صورا، وبعث الحقائق مشاهد ناطقة. فيتأرجح ابن طفيل بين أسلوبين مختلفين في التعبير لاختلاف الموضوعات وتباين المخاطبين، فيصبح هذا النص الفلسفي وكأن هاجسه الأول هو لفت الانتباه إلى طبيعة السبل التي ينبغي سلوكها من أجل تصريف التجربة الميتافيزيقية وإيصالها إلى الغير، هل يوصلها له بلغة البرهان أن بلغة الشعر والخطابة ؟.
    لقد كان ابن طفيل على وعي كبير بأهمية الكتابة الفلسفية ودورها في فهم النصوص الفلسفية من جهة كما نجد في موقفه من ابن باجة عندما اشتكى من قلق العبارة لدية، وفي موقفه من ابن رشد عندما التمس منه رسميا بأن يقوم بمراجعة المتن الأرسطي ليرفع عنه قلق العبارة أيضا، والخطر الذي تمثله هذه الكتابة في تثبيت التجارب الفلسفية إن هي لم تدرك حدودها كما نجد في موقفه من بعض المتصوفة ومن أبي حامد بخاصة من جهة أخرى، وكما نجد في حرصه على تقديم نص فلسفي في حلة أدبية رائقة.
    وهكذا فإن الحديث عن الكتابة الفلسفية عند ابن طفيل هو حديث عن هاجس من الهواجس التي أرقته، وأرقته، وقد بذل ابن طفيل لأجل ذلك جهدا فلسفيا وفنيا في كتاب نصه الفلسفي، مستلهما أشكالا من التعبير من الفضاء الثقافي - الفلسفي الذي كان يتنفس فيه؛ فعالج إشكال الكتابة ضمن تجربة في الكتابة تتوخى في الآن نفسه التقريب للوضوح، والرمز للتعمية، مما أضفى على هذه الكتابة طابعا من قلق وإغماض.ولقد جهد ابن طفيل في إنتاج نص فلسفي - أدبي قريب أيضا من التداول الإسلامي شكلا ومضمونا، وعانى كثيرا في إنشاء هذا النص الفلسفي إلى الحد الذي أصبحت فيه حجب الغموض تتكاثف على النص وتتكاثف وتضطر القارئ إلى كثير من التأويل والاعتبار. وقد استفاد في كتابة نصه هذا من تجربتي ابن حزم في التقريب لحد المنطق، والبطليوسي في الحدائق كذلك.
    لقد حاول ابن طفيل في رسالته حي بن يقظان أن يتقصى على طريقته خطى ابن حزم وابن سيد في تقريب الفلسفة. فقد عاش ابن طفيل مثله مثل ابن حزم وابن سيد في مجتمع ينبو ذوقة عن التفلسف، وكان من جملة أسباب رفض الفلسفة طبيعة اللغة الفلسفية باعتبارها تهويلا وزخرفة، وشخصية الفيلسوف باعتبار أخلاقياته وسلوكه، وطبيعة الفلسفة وما تؤدي إليه - بزعمهم - إلى الإلحاد والكفر. وقد حاول ابن طفيل في رسالته هذه أن يرد بشكل ضمني وصريح على هذه الدعاوي المناهضة للفلسفة؛ فأنشأ نصا بلغة عربية فصيحة تمتح من تقنيات البيان العربي؛ لغة أبعد عن التهويل والزخرفة. كما أنشأ نصا حرص فيه على تقريب الفلسفة - على غرار ما فعل سابقاه - من المقتضى التداولي الإسلامي. وفضلا عن كل ذلك، فإن الذي أنشأ هذا النص هو فيلسوف أبعد ما يكون عن الأوصاف التي دمغ بها الفلاسفة كحجة على رفضها من طرف خصوم الفلسفة، فقد كان ابن طفيل يعتبر من حسنات الزمان الموحدي؛ بل وليا فوق كل تهمة أو ريبة في شخصه أو دينه، بل إن مكانته العلمية والسياسية لم تكن محل نزاع في أي وقت، وعلاقته بأبي يعقوب يوسف، وحضور الخليفة جنازته أكبر دليل على الإجماع الذي تم حول شخصية الفيلسوف، مما يجعل لانتصاره لفعل التفلسف أبلغ الأثر في نفوس الخصوم. وهذا الانتصار رافقه الانتصار أيضا للشريعة من خلال الدفاع خاصة عن أهمية النبوة في الحياة الاجتماعية بعامة وحياة الفيلسوف بخاصة؛
    يستعير ابن طفيل من التراث السينوي شخصيتين يلج بهما عالما أوشكت الفلسفة المشرقية أن تجعله فضلا وهو عالم النبوة(67). وقد لاحظ كثير من الدارسين أن رسالة ابن طفيل تستبطن فكرة أن الإنسان الفائق الفطرة مستغن عن النبوة بما وهب من العقل(68)، وأن « الفيلسوف في غنى عن الشرع(69)، بل إن ابن طفيل في ذلك النص الذي انتزعه من الإشارات والتنبيهات في مقدمة رسالته لذو دلالة كبرى في هذا السياق، ففيه تحل الرياضة العقلية محل العبادة الشرعية.
    لكل إذا كان ابن طفيل قد أخضع جزءا كبيرا من رسالته لهذا المنطق المشرقي، وفي الوقت الذي تبدو فيه الرسالة وكأنها انتهت، يستأنف ابن طفيل الحديث في أفق غزالي يؤسس للنبوة ويبين اضطرار كافة الخلق إليها بمستويات مختلفة(70)، فبعدما أعلن ابن طفيل في بداية رسالته عن تصوره الفلسفي لتكون شخصية النبي وتم له تأسيسها، فهو يعلن في أخرها عن ضرورة تقليد هذه الشخصية، ليؤكد ما أقره في معرض اعتذاره لإخوانه، من ان رسالته تدخل في إطار الدعوة إلى بيان أهمية النبوة في حياة الإنسان. ومن هنا فإن درس المنقذ من الضلال حاضر في نهاية رسالة ابن طفيل، فالغزالي برهن في هذا الكتيب على أصل النبوة وبين حاجة الخلق جميعهم إليها، بل إن أبا حامد ينتقد الإختبار السينوي الذي يعتبر النبوة راجعة إلى الحكمة والمصلحة، وأن المقصود من تعبداتها ضبط عوام الخلق … وأن الحكماء ليسوا من العوام الجهال حتى يدخلوا في حجر التكليف فهم متبعون للحكمة يبصرون بها، ويستغنون فيها عن التقليد(71)، في حين يؤكد الغزالي أنه كما أن أدوية البدن تؤثر في كسب الصحة بخاصية فيها، لا يدركها العقلاء ببضاعة العقل، بل يجب فيها تقليد الأطباء … فكذلك بان لي على لضرورة - يقول الغزالي - بأن أدوية العبادات … لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعةالعقل، بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور النبوة لا ببضاعة العقل(72). إن الدعوة إلى تقليد الأنبياء هذه هي من المهام التي أعلن ابن طفيل اضطلاعه بها من وراء كتابة رسالته الفلسفية، وهو شعار ابن طفيل من جهة لإتمام الاختيارالمشرقي السينوي بالاختيار الغزالي، ومن جهة أخرى لمحاربة التيارات الباطنية التيتريد أن تنال من وحدة الأمة الثقافية، وخاصة تلك التي أشاعت بالأندلس كما يقول ابن طفيل آراء فاسدة … نبغت بها … وصرحت بها، حتى انتشرت في البلدان، وعم ضررها [فخشي ابن طفيل] على الضعفاء الذين اطرحوا تقليد الأنبياء صلوات الله عليهم، وأرادوا تقليد السفاء والأغبياء أن يظنوا أن تلك الآراء هي الأسرار المضنون بها على غير أهلها، فيزيد بذلك حبهم فيها وولعهم بها، فقد عرفت الأندلس إذن هذه التيارات الصوفية التي تقول كما أنبأ بذلك فيلسوفنا برفع التكليف الشرعي، حيث زعموا - كما سجل ذلك عياض - قبله - في الشفاء(73) أن ظواهر الشرع وأكثر ماجاءت به الرسل من الأخبار عما كان ويكون من أمر الآخرة، والحشر، والقيامة، والجنة، والنار، ليس فيها شيء على مقتضى لفظها ومفهوم خطابها، وإنما خاطبوا بها الخلق على جهة المصلحة لهم، إذ لم يمكنهم التصريح لقصور أفهامهم وهكذا أبطل هؤلاء الشرائع، ودعوا إلى ترك تقليد الأنبياء لأن ذلك التقليد ديدن العوام، وتحدثوا عن أسرار مضنون بها تكتشف الحقيقة للخواص. فأراد ابن طفيل رسالته الفلسفية، حي بن يقظان؛ بيانا لتهافت متفلسفة العصر هؤلاء، بأن عرض فيها ما يعتبره الحقيقة التي تحفظ للشريعة وظيفتها وتفتح للفلسفة أفقها، ولا تضحي بأحدها في سبيل الآخر. إنه موقف يريد للشريعة أن تؤدي وظيفتها في لم شمل المجتمع وإصلاح الجمهور. موقف يحافظ على الشريعة من أن يداخلها تغيير، ومنفتح أيضا على الفلسفة والعلم ويرى فيهما طريق الكمال والسعادة. إن حرص ابن طفيل على إنقاذ الحكمة ممن يهددونها في وجودها، وحرصه على إنقاذ النبوة ممن يرون إمكان الاستغناء عنها، كان من جملة الأسباب التي حدث به إلى كتابة هذا الأثر الفلسفي الخالد.
    * * * * * * * * * *
    إن نص ابن طفيل لا يمكن فهمه إلا إذا نظرنا إليه باعتباره نصا متعدد القيم بعبارة تودوروف(74)، بمعنى أن أصواتا كثيرة تسكنه. إنه نص لا يمكن أن يدرك إلا في علاقته بالإرث الثقافي السابق عليه؛ فهو كعمل فني لا يمكن إدراكه إلا في علاقته بالأعمال الفنية الأخرى، وكنص فلسفي لا يمكن غدراكه إلا في علاقته بالعمال الفلسفية الأخرى. وقد رأينا أن رسالة حي بن يقظان لا يمكن فهمها إلا في تعارضها واختلافها مع نصوص الفلاسفة المشار إليهم. إذ من الوهم أن نعتقد ان عمل ابن طفيل ذو وجود مستقل؛ إنه يظهر مندمجا داخل مجال أدبي وفلسفي ممتلئ بالأعمال السابقة. ونضيف ها هنا أن مؤشرات وجود مفهوم التناص في رسالة ابن طفيل كثيرة، فهذا المفهوم يكشف لنا أن عملية إنتاج النص تمت من خلال تفاعله وتحاوره مع نصوص أخرى سبقته فشكلت ذاكرته كنصوص المسعودي والجنيد وابن سينا والغزالي وابن حزم وابن سيد وغيرهم، وأخرى عاصرته فتأثر بها معارضا لها ومنتقدا لها كنصوص ابن باجة خاصة(75)، فمن هنا يمكن النظر إلى رسالة ابن طفيل باعتبارها فضاء سيميائيا تتلاقح فيه وتتصارع جملة من الأشكال والخطابات بحثا عن شكل أدبي - فلسفي متميز ينفي عنه صفة التقليد والمحاكاة ليجعل منه نصا إبداعيا يمتص النصوص والكتابات ويهدمها قبل أن يعيد توزيعها بشكل منظم داخل بنيته الخاصة. فنص ابن طفيل يتخذ طابعا جدليا وحواريا من حيث الشكل والدلالة - كما رأينا - مع نصوص ابن سينا والغزالي خاصة، بحيث يمكن النظر إلى ابن طفيل باعتباره قارئا جيدا لأعمال هؤلاء الفلاسفة. وأهم نوع من التناص نجده في رسالة حي بن يقظان ما سماه جيرار جينيت بـالميتا نص، ويعني العلاقة التي تربط بين نص وآخر يمثل موضوعه دون أن يسميه، أي أنه يشير إليه بطريقة ضمنية غير معلنة وتكون مهمة القارئ هو الذي يكتشف ذلك(76). وإنه يمكن اعتبار نص مشكاة الأنوار موضوعا مفترضا بامتياز لرسالة ابن طفيل دون إلغاء أهمية النصوص الأخرى كالتدبير والإشارات والمنقذ وميزان العمل وربما التوهم والوصايا للمحاسبي ونصوص ابن شرف الأدبية وغيرها من النصوص. إن رسالة لبن طفيل هي نسيج من أصوات آتية من الأدب والفلسفة والتصوف والقرآن والحديث والسيرة ومن الحياة اليومية ولغة الاتصال الاجتماعي أيضا؛ إنها بهذا المعنى فسيفساء من النصوص تتجاور فيما بينها وتتبادل التأثير لتؤدي وظيفة التقريب والتشويق والترغيب في دخول الطريق التي أرادها ابن طفيل لرسالته.
    وأخيرا فإن هذه الرسالة الفلسفية بإعلائها من شأن الذات وتأكيدها على استقلاليتها في المعرفة، وجمعها بين محبة العقلانية والشغف بالخيال حين تلتقي الفلسفة والسرد عند ابن طفيل لإعطاء معنى للكون. والرسالة برجوعها إلى الينابيع العميقة للتاريخ الإنساني والنفس الإنسانية وكأنها تدعونا إلى القيام برحلة استعارية إلى هذه الأغوار، والرسالة الفلسفية كذلك باعتبارها تجربة روحية لوعي مبدع(77) … كل أولئك، وغيرها من الأمور التي تجععل من ابن طفيل معاصرا لنا، تجعل من هذا الأثر الفلسفي - الأدبي تراثا فلسفيا نشأ ولم ينته بعد من استوائه. إن رسالة ابن طفيل تعلمنا درسا أساسيا حول انفتاح الفلسفة على حقول متنوعة من المعرفة، وعلى أشكال مختلفة من الكتابة. إنها تعلمنا أن الفلسفة إيقاعات متنوعة وليست إيقاعا واحدا نمطيا يسهل استنساخه او الكشف عن دلالته ومعناه؛ والرسالة الفلسفية بهذا التفرد والتنوع تضع أمام قارئها أكثر من تحد في الفهم والمقاربة. فهل سيستطيع أحد يوما أن يكشف عن المقاصد الحقيقية لهذا العمل الفلسفي اليتيم هذا، أم أن الرسالة قدر لها أن تظل موضع تأويلات لا متناهية، يشكو منها البعض، ويقر لها البعض الآخر ؟!.
يعمل...
X