مفهوم المصلحة وموقف ابن رشد الحفيد من المصلحة المرسلة - إبراهيم عبد الله-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • إبراهيم عبد الله
    أديب وكاتب
    • 06-11-2008
    • 280

    مفهوم المصلحة وموقف ابن رشد الحفيد من المصلحة المرسلة - إبراهيم عبد الله-



    تأملات في مفهوم المصلحة
    وموقف ابن رشد من المصلحة المرسلة




    يشرفني أن أقدم بين يديكم عرضا فقهيا يتضمن قسمين صغيرين:
    قسم أفردته لقول عام في مفهوم المصلحة من خلال مقدمة وملاحظتين.
    وقسم آخر أفردته لقول خاص عن موقف ابن رشد من المصلحة من خلال كتابه في الفقه العالي "بداية المجتهد".

    القسم الأول

    وفيه مقدمة وملاحظتان :
    المقدمة تتعلق بالجانب الدلالي للمفهوم.
    الملاحظة الأولى تتعلق بارتباط المصلحة بالفطرة
    لملاحظة الثانية تتعلق بارتباط المصلحة بالنسق.

    المقدمة :
    عندما نبحث عن تعريف للمصلحة لا نجد لها تعريفا جامعا مانعا أو تعريفا منطقيا بالحد والفصل، فالذين عرفوا المصلحة عرفوها من خلال حقل دلالي ينتمي إلى المنفعة والمضرة واللذة مما يجعل تعريفها تقريبيا ولعل مرد ذلك يرجع إلى أن حقل المصلحة هو حقل الفطرة المتسعة الأكناف وليس حقل العقل الضيق الحدود، فمصالح الناس أوسع من منطق العقول وهو ما سيقودنا إلى الملاحظات التالية :


    الملاحظة الأولى : المصلحة والفطرة.


    إذا كان ديكارت قد اعتبر العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس بحيث يذهب إلى أن البشر قد قسمت بينهم العقول قسمة متساوية لا يكاد يختلف أحد عن الآخر، مُرجعا سبب اختلاف مراتب الناس في العقول إلى التربية والمنهج، فإننا نحن المسلمين يمكن أن نقول إن الفطرة هي أعدل الأشياء قسمة بين الناس بالتساوي، فكل مولود يولد على الفطرة والانحراف عن الفطرة يأتي من التربية والمنهج كذلك.
    قد يقال ما القصد من هذا القول هاهنا؟
    أبادر إلى القول بأن هذا التمييز بين العقل والفطرة من هذا الجانب الحضاري هو من أجل بيان أربعة مواقف أساسية مرتبطة بالمصلحة كما يتصورها المسلمون :

    الأول : أن الذي خلق الإنسان خلق له أحكاما وجعل لها "غايات هي حكم ومصالح راجعة إلينا " كما قال إبراهيم النخعي وكان العراقيون يعتبرون أحكام الشرع معقولة المعنى مشتملة على مصالح راجعة إلى الأمة. ففطرة النشأة الأولى توحي بتوافق فطرة الخلق بفطرة الشرع.

    الثاني : أن العقل كثيرا ما طلب المصلحة فأخطأها لمخالفتها للفطرة فقد كان أهل الفترة يرون المصلحة في وأد البنات، وحرمان الإناث من الإرث وذهب الانجليز إلى استقلال الابن الأكبر بالتركة، ولا يزال القانون الأمريكي يرى المصلحة في إطلاق حرية الموصي..وغير ذلك كثير. لذا ارتبطت المصلحة بمقاصد الشرع الذي يعرف مصالح الخلق بالحقيقة.

    الثالث : إن المصلحة التي يبحث عنها الفقيه وينشدها ليست مصلحة مجردة يراها العقل وإنما مصلحة يستدل عليها بموافقتها للنصوص الشرعية الناطقة بالفطرة، بل إن ما سمي بالضرورات الخمس لا يمكن فهم الحرص عليها إلا من خلال سعي الفطرة إلى الحفاظ على المصلحة الإنسانية العليا التي لا يمكن أن تقوم إلا بحفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل.

    الرابعة : أننا نجد كثيرا من العقلاء رفضوا القول بالمصلحة في حين أن دليل الفطرة يقول بها. ألا نجد كثيرا من الفقهاء يهجمون نظريا على المصلحة ويعتبرونها شرعا زائدا في حين أن نصوصهم الفقهية تنطق بها؛ فهذا الشافعي لا يقول بالاستحسان الذي ليس سوى التفات إلى المصلحة والذي كان أبو حنيفة من أبطاله لأن الشافعي يعتبر الاستحسان لا ضابط له، بل إنه كتب كتابا في إبطال الاستحسان، والشافعي لا يعمل بالمصالح المرسلة، وهي المصالح التي لم يشهد لها الشرع بالاعتبار أو بالإلغاء وهي المصالح التي توسع فيها المالكيون. لكن الشافعية يوظفون المصلحة، إنها الفطرة التي تقاد إلى ما ارتبط في جبلتها الأولى من معاني عميقة مرتبطة بمصالح الخلق وهي تسعى لذلك سعيا لا شعوريا إن أمكن قول ذلك لأن المصلحة من مقاصد الحياة وأسرارها وغاياتها الكبرى. وهكذا يبدو أن التفكير في المصلحة يلغيها وينفيها أما العمل بها فيثبتها ويقويها.

    لكن عن أي مصلحة نتحدث؟

    يقودنا هذا التساؤل إلى الملاحظة الثانية وهي ارتباط المصلحة بالنسق.

    الملاحظة الثانية: المصلحة والنسق.

    بماذا ترتبط المصلحة؟ هل هي تحديد فردي أم تحديد موضوعي؟
    تسعى المصلحة إلى أن تفي بحاجات الجماعة وتحقق لها مصالحها التي لا تقوم إلا بها، فالمصلحة لا ترتبط في أصلها بالآحاد إذ لو جعلنا المصلحة شأنا فرديا لتضاربت المصالح بتضارب الأهواء الشخصية ومن هنا يصبح للمصلحة شأنا موضوعيا فهي مرتبطة بالنسق الموضوعي لأي مجتمع، النسق السياسي والاجتماعي والثقافي وغير ذلك من الأنسقة التي تحدد طبيعة المجتمع، وقد اعتبر الغزالي المصلحة هي المحافظة على مقاصد الشرع ولو خالفت مقاصد الناس، فعندما يعبر الفقيه عن مصلحة ما فهو لا يعبر عن حاجات فردية وإنما يترجم حاجات المجتمع إلى هذا الضرب من المصلحة فالفقيه يعبر عن العقل الكلي للمجتمع على ضوء مقاصد الشرع الحنيف ويبدو ذلك أكبر فيما يسمى بالذوق الفقهي أو الحدس الصناعي عند الفقهاء؛ ورغم الاختلاف العقلي الواقع في هذا الذوق الفقهي فإن الفطرة تقتضيه إذ لا يستبعد أن يعبر الفقيه المجتهد المتشبع بهموم مجتمعه عن رأي فقهي ليس له سند شرعي واضح ولكنه يقدم فروضا هامة يحقق بها مصالح معتبرة في الشرع ومعروفة، نسبة إلى المعروف؛ بمعنى ما عرف نفعه وتعين نفعه على حياة الإنسان ..فقد تم تثبيت الأعراف واللجوء إليها من أجل التيسير ورفع الحرج عن الناس في حياتهم الاجتماعية، فمقاصد المصلحة كلية لمصلحة الخلق وليس لمصلحة الآحاد، ولعل في إجماع الصحابة على ترك الحيل وتحريمها هو من أجل هذا المعنى لأن الحيلة مصلحة شخصية يلجأ إليها الفرد المسلم موظفا منطق الشريعة لنيل مآرب شخصية وهذا عمر ابن الخطاب يورث المبتوتة في مرض الموت لمعاملة الزوج بنقيض مقصوده ..فمقصد المكلف ينبغي أن يكون مقصدا موضوعيا وذلك بأن يكون موافقا لقصد الشارع أولا ثم لمصلحة الناس ثانيا وإلا لم يعتبر. ولعل هذا من أسباب ذهاب بعض الفقهاء إلى ربط المصلحة بعالم القطعيات لنفي الذاتيات الموهمة للتحيزات، ونفي كل ذاتية عن الاستحسان حيث يعرفه المالكية بأنه العمل بأقوى الدليلين أو هو الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي كالقرض عند الحاجة والجمع للمطر محددين المفهوم حتى يخرجوا عن معارضات الشافعية الذين جعلوا الاستحسان مجرد تلذذ وقول بالتشهي.
    لكن كيف عالج ابن رشد المصلحة المرسلة في كتابه بداية المجتهد ؟

    القسم الثاني

    وفيه نعالج موقف ابن رشد من المصلحة المرسلة.

    يمكن القول ابتداء إن نزوع ابن رشد إلى القول بالمصلحة هو من أجل ضرورة الفطرة الداعية إلى المصلحة الأولى للبشر على ظهر هذه البسيطة وهي مصلحة العدل ونبذ الظلم. فلولا الاهتمام بمصلحة الجماعة والضرورات التي تفرضها الأحكام العادلة ما التُفت إلى المصلحة ولا اهتُم بها إطلاقا. ولعلنا نلمس في موقف ابن رشد هاهنا بعض موجهات تفكيره السياسي الذي فصل القول فيه في كتابه "جوامع سياسة أفلاطون" والذي نشر بتحقيق الأستاذ أحمد شحلان تحت اسم الضروري في السياسة.

    فكيف نجد المصلحة في الدرس الرشدي؟
    لا نجد عند ابن رشد حديثا مستقلا عن المصلحة، لكن بين ثنايا كتابه "بداية المجتهد" نجد وقوفا عند هذا المفهوم من خلال حقل دلالي يؤسس له ويقول به ويدعو له.
    فكيف يعرف ابن رشد المصلحة؟
    وكيف يؤسس القول فيها؟
    وكيف يطرح إشكال علاقتها بالأصول؟
    وسنقف عند بعضا من هذه الجمل لتلمس موقف ابن رشد من المصلحة.

    1- في التعريفات

    يتحدث ابن رشد عن المصلحة من خلال مفاهيم مختلفة فهو تارة يسميه النظر المصلحي، وتارة يسميه القياس المرسل وتارة ينظر إلى هذا المفهوم من خلال الحديث عن الاستحسان : فابن رشد يعرف القياس المرسل بأنه النظر بحسب الأصلح في الشرع، وهو نظر في المصلحة العامة. أما الاستحسان الذي يرد كثيرا عند ابن رشد فهو عنده الالتفات إلى المصلحة والعدل.

    لكن كيف يؤسس ابن رشد للقول بالمصلحة؟

    2- التأسيس للقول بالمصلحة.
    يؤكد ابن رشد في أكثر من موضع من كتابه بداية المجتهد على الخلاف في القول بالمصلحة بين الفقهاء، فمثلا عند حديثه عن حكم المفقودين وبعد أن يورد مواقف مالكية في ذلك يقول :"وهذه الأقاويل كلها مبناها على تجويز النظر بحسب الأصلح في الشرع وهو الذي يعرف بالقياس المرسل، وبين العلماء فيه اختلاف، أعني بين القائلين به" [ج4 ص 307]. وإذا كان ابن رشد لا يني يتحدث عن القياس المرسل ويعتبره قياسا لا يستند إلى أصل مخصوص وليس له أصل معين يستند إليه، فإني ذلك قد يوحي بنقد خفي له وعذرا لمن أنكره من الفقهاء، يقول ابن رشد وهو يتحدث عن حكم النكاح : "...وهذا النوع من القياس هو الذي يسمى المرسل وهو الذي ليس له أصل معين يستند إليه وقد أنكره كثير من الفقهاء والظاهر من مذهب مالك القول به" [ج4ص 198]. ويقول في نكاح المريض : "ورد زواج النكاح بإدخال وارث قياسٌ مصلحي لا يحوز عند أكثر الفقهاء وكونه يوجب مصالح لم يعتبرها الشرع إلا في جنس بعيد من الجنس الذي يرام إثبات الحكم بالمصلحة حتى إن قوما رأوا أن القول بهذا النوع شرع زائد وإعمال هذا القياس يوهن ما في الشرع من التوقيف وأنه لا تجوز الزيادة فيه كما لا يجوز النقصان.." [ج4 ص 293ٍ].

    لكن النظر المستقصي يبرز أن ابن رشد يقول بالمصلحة وينتصر لها ويؤسس لها من خلال بيان :
    – علاقة المصلحة بالمسكوت عنه في الشرع،
    - ارتباط النظر المصلحي بالفقه الجاري على المعاني،
    - بيان أن القول بالمصلحة هو التفات إلى العدل ونبذ للظلم.

    المصلحة والمسكوت عنه :
    إذا كان ابن رشد قد خصص كتابه في الفقه العالي إلى المنطوق به في الشرع وهو ما نطق به الكتاب العزيز والسنة النبوية وتم عليه الاتفاق بين فقهاء الأمصار، فإنه قد ظلت في الشريعة أشياء مسكوت عنها لم ينطق الشارع بها. والنظر المصلحي عند ابن رشد له علاقة وثيقة بهذا الصنف من الأحكام من مثل : هل يمسح على الخف الذي فيه خرق؟ هل يرث القاتل؟ هل يقتل المشارك في القتل؟ هل ترث المرأة المطلقة في مرض الموت؟ هل تستقبل القبلة بالذبيحة؟ وغيرها من المسائل التي سكت عنها الشارع وكانت مادة للنظر المصلحي.

    المصلحة والفقه الجاري على المعاني :

    لكن النظر المصلحي يدخل جميعه في الفقه الجاري على المعاني، وهو الفقه الذي يرى الأحكام الشرعية أحكاما معقولة، ويعتبر ابن رشد أن جميع الأحكام الشرعية هي أحكام معللة بل إن الفقيه عنده لا يلجأ إلى أن يقول عبادة إلا ضاق عليه المسلك مع الخصم كما يقول [ج1 ص 85] إن أحكام الشرع عند ابن رشد هي معقولة المعنى لأن أكثرها من باب محاسن الأخلاق أو من باب المصالح كما يقول فقيهنا وهذه في الأكثر هي من المندوب إليها [ج2-ص63] يقول ابن رشد : "والمصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسبابا للعبادات المفروضة، حتى يكون الشرع لاحظ فيها معنيين : معنى مصلحيا ومعنى عباديا وأعني بالمصلحي ما رجع إلى الأمور المحسوسة و بالعبادي ما رجع إلى زكاة النفس" [ج1 ص 343]. وهذا الأمر يرجع أيضا إلى أن أصول الشرع تشهد للمبادرة إلى الخير. من هنا يصبح القول بالمصالح من باب الضرورات الحياتية.

    المصلحة والعدل :
    حقا لقد انفرد مالك بالقول بالمصلحة وتوسع فيها ويعتبر ابن رشد ذلك كالضروري في بعض الأشياء ودرءا للتطرق للظلم يقول ابن رشد: "..والتوقف ...عن اعتبار المصالح تطرق للناس أن يتسرعوا – لعدم السنن في ذلك الجنس- إلى الظلم، فنفوض أمثال هذه المصالح بحكمة الشرائع إلى العلماء الفضلاء الذين لا يتهمون بالحكم بها وبخاصة إذا فهم من أهل ذلك الزمان أن الاشتغال بظواهر الشرع تطرقا إلى الظلم" [ج4 ص 293]
    ففي هذه النص ينبهنا ابن رشد على أن القضايا المسكوت عنها في الشرع إذا لم نلتفت فيها إلى المصلحة أوقع ذلك الناس في الظلم بسبب الوقوف عند ظواهر النصوص وظواهر الوقائع، لكن يجب أن يتصف واضعو السنن المصلحية هؤلاء بمعرفة أسرار الشريعة ومقاصدها وهو ما عبر عنه ابن رشد ب"حكمة الشرائع".

    لكن هل المصلحة هي أصل شرعي مستقل أم لا؟

    3 – إشكال علاقة المصلحة بالأصول
    في نقده الخفي للمصلحة يكاد يوهمنا ابن رشد بشيء من هذا القبيل حيث نجده يقول عن القياس المصلحي أنه :" يوجب مصالح لم يعتبرها الشرع إلا في جنس بعيد من الجنس الذي يرام فيه إثبات الحكم بالمصلحة حتى إن القول بهذا القول شرع زائد.."، وعند حديثه عن الاستحسان الذي يدخل في الحقل الدلالي لمفهوم المصلحة نجد ابن رشد يعرفه بأنه التفات إلى المصلحة وأنه يبنى على غير أصول، وهو ما يوقفنا عند حدود النظر المصلحي ويبرز إشكال علاقة المصلحة بالأصول الشرعية. فهل المصلحة أصل مستقل عن أصول الشريعة؟
    يذهب الطوفي مذهبا قصيا في ذلك ويزعم أن المصلحة هي دليل مستقل من أصول التشريع بل يجعله حاكما على النص وعلى الإجماع فيتزعم بذلك ما يمكن أن نسميه ب "اليسار المصلحي" وهو موقف يوهن النص والإجماع كأصلين مهمين لصالح المصالح لدعاوى بسطها الطوفي في شرحه على الحديث النبوي " لا ضرر ولا ضرار" من الأربعين النووية، ونحن لن مقوم هاهنا بعرض موقف الطوفي ولا مواقف المعترضين بل نرجع إلى ابن رشد لنرى كيف أبرز هذا الإشكال وكيف يمكن أن نحله من خلال أقاويله المبثوثة في البداية.

    تقديم المصلحة على النص :
    في إحدى مواقفه الفقهية يوقفنا ابن رشد عند تخوم النظر الشرعي والنظر المصلحي ؛ ففي مسألة هل يرث القاتل؟ يبين ابن رشد أن النظر المصلحي يقتضي ألا يرث لئلا يتذرع الناس من المواريث إلى القتل أما اتباع الظاهر والتعبد فيوجب ألا يلتفت إلى ذلك إذ لو كان ذلك مما قصد لالتفت إليه كما الشرع وما كان ربك نسيا، ففي هذه المسألة يصبح النظر المصلحي حاكما على النص وموجها له وكذا في مسألة تضمين الصناع التي لا دليل عليها إلا النظر في المصلحة وسد الذريعة كما يقول ابن رشد ج 5 ص 153.

    تقديم المصلحة على القياس
    هذا عن علاقة المصلحة بالنص أما عن علاقتها بالقياس، فكثير ما قدمت المصلحة على القياس كما نجد في مسألة هلاك المصنوع وسقوط الضمان فهل تجب الأجرة للصناع؟ حيث قال ابن القاسم لا أجرة لهم وقال ابن المواز بالأجرة ويذهب ابن رشد إلى أن قول ابن المواز أقيس أما ابن القاسم فأكثر نظر في المصلحة لأنه رأى أن يشتركوا في المصيبة. [ج5 ص 154].
    أما في مسألة استقبال القبلة بالذبيحة فهي عند ابن رشد مسألة مسكوت عنها في الشرع والأصل فيها الإباحة إلا أن يدل الدليل على اشتراط ذلك وليس في الشرع كما يقول ابن رشد شيء يصلح أن يكون أصلا تقاس عليه هذه المسألة إلا أن يسمى قياس مرسل وهو الذي لا يستند إلى أصل مخصوص عند من أجازه فكأننا نجد هنا المصلحة هي أصل مستقل عن الشرع!
    والمتصفح لبداية المجتهد يلاحظ كثيرا من المسائل الفقهية التي تكون فيها المصلحة والاستحسان وسد الذريعة سيدة الموقف. فهل يعني هذا أن ابن رشد يذهب مذهب الطوفي أو أنه قريب منه؟
    أما أنه يمكن أن نجد بذور موقف الطوفي في البداية فشيء محتمل جدا أما أن يكون ابن رشد "طوفيا" فهو أمر بعيد جدا أيضا.
    حقيق أن ابن رشد يرى المصلحة المرسلة في التخوم الشرعية وتبدو أنها تطرح عنده إشكالية كمال الشريعة ولكنه لا يفصلها عن نظره الكلي إلى الشريعة، فالمنطق الرشدي في النظر هو منطق الكليات وليس منطق الجزئيات ولذا نجده كلما تحدث عن علاقة المصلحة المرسلة بالأصل تحدث عن أصل مخصوص، لذا نجده يرد القول في المصلح المرسلة إلى كليات ثلاث :
    - أولها أن أصول الشرع جميعها تشهد على المبادرة إلى الخير.
    - ثانيها أن اصول الشرع ترجع إلى محاسن الأخلاق وتدعو لها.
    - ثالثها أن الشرع ندب إلى المصالح في كثير من أحكامه المنصوصة.
    و لولا خوف الإطالة لفصلنا في هذه الأمور هنا أكثر لنبين كيف أرجع ابن رشد إلى هذه الأصول كثيرا من الأحكام الفقهية المبثوثة في البداية. حيث نجد ابن رشد ينتصر للفقه الجاري على المعاني والقول بالمصالح التي فيها التفات للعدل وبعد عن الظلم. وهو الأمر الذي يبين لنا أن دليل الفطرة حاضر هاهنا وأنه هو الذي يقتضي القول بالمصالح الكلية ولو خالفت القياس الذي هو رمز للعقل الفقهي، وأن قصد المصلحة يدخل في سياق يرتبط بنفع الجماعة بتحقيق العدل خيفة التطرق إلى الظلم الذي قد توحي به أحيانا بعض ظواهر النصوص.


    خاتمة
    وأخيرا، لم يصرح مالك رحمه الله فإنه كان يحتج بالمصالح المرسلة وأنه يأخذ بالاستحسان وسد الذرائع ولا أنه كان يمنع الحيل، بل صنع ذلك كله يقوده في ذلك دليل الفطرة الخالص الذي يعرف ما يطلب من خير للناس فيما يعرض لهم من حادث. ولعل هذا ما يفسر طغيان النظر المصلحي عند الإمام مالك حتى أصبح فقهه يعرف ب"فقه المصالح".
    هذا من جهة ومن جهة أخرى لا بد من الإشارة إلى أن القول بالمصالح هو قول في كليات الشرع ومقاصده الكبرى حيث وجد الفقهاء أن المصلحة التي يقول بها مالك وإن كان لا يشهد لها أصل معين بالاعتبار فإن النصوص تشهد لجنسها وهو ما حاول أن يبينه حسين حامد حسان في كتابه الهام "نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي" حيث أبرز أن المصلحة المرسلة أصل كلي عام استفيد من استقراء نصوص الشريعة ولا يرجع إلى أصل معين، وهكذا فالمصلحة المرسلة مرتبطة بالأصول الكلية المستفادة من البيان الاستقرائي وهذا ما يؤكد الملاحظة الثانية التي انطلقنا منها وهو ارتباط المصلحة بالنسق، فالمصلحة بكليتها ترجع إلى أصل كلي عام وترتبط بمصلحة عامة وليست مصلحة شخصية كما يؤكد ذلك أبو زهرة بقوله: "إن المعتبر في كون الشيء نافعا أو ضارا هو مصلحة العدد الأعظم"، ومن هنا يكون النظر المصلحي نظرا شرعيا تقوده الفطرة ويقصد مصلحة الجماعة ليشهد للشريعة الإسلامية بالغنى والمرونة واستخراج الإمكانيات الهائلة الثاوية فيها بالقوة.....
يعمل...
X