صرخة قلب
روايــة
عمـاد يوسـف
رواية صـرخة قلـب
تأليف عمـاد يوسـف
ص.ب 36134 دبــي . أ.ع.م
emad.ibrahim@rta.ae
مراجعة الاستاذة / نسـرين عبـدالله النـعيمي
تصميم الغلاف الفنان / جمـال يوسـف محمد
رقم المطبوع 16043/100122/1
19/7/2007
المجلس الوطنى للإعلام ـ ابوظبي
مطابع بن عمير للنشر والتوزيع
هاتف 0097167437773فاكس7437773 009716
صرخة قلب
روايــة
مقـدمـة
قرأت ، كقارئ نهم ، العديد جداً من الروايات .. وذلك علي مدي ستة عقودٍ من الزمان .. هي عمرى بالتقريب حتى الان .
صادفت في حياتي شتى انواع الروايات فهنالك الرواية الغثة والرديئة وهي التى لا تكاد تبدأ في قراءتها حتى تصدمك ركاكة اسلوبها وفجاجة احداثها فتلقى بها بعيداً في سلة المهملات ..غير مأسوفٍ عليها .. وهنالك الروايات الجّيدة والممتازة والشيّقة والعالمية والاخيرة هى التى تبقي فى ذهن القارئ لفترة طويلة من الزمن .
تعلق في ذهنى روايات كثر .. مثل البؤساء لفكتور هوجو ، وعرس الزين للطيب صالح .. وثلاثية نجيب محفوظ.. وقصة مدينتين لشارلس ديكنز ..وغيرها .. وغيرها .
الرواية الشيّقة هى التى تجبرك علي معايشة أحداثها .. ومتابعة قراءتها بشغفٍ شديد ولن تتخلى عنها حتى تصل الى نهايتها فى وقت وجيز مهما كان طولها !!
رواية صرخة قلب رواية شيّقة فى تقديرى ، وإذا كانت هى باكورة إنتاج عماد يوسف فبلاشك نحن أمام روائى موهوب ... نتوقع منه المزيد من إلانتاج والإبداع باذن الله .
د. حسن محمد احمد الحاج
استاذ جامـعى
الخرطوم 14/ اكتوبر 2007
مجـرد كـلمـــــة
كانت لدي رغبة ملحة في الكتابة ....
إحساسي بان اقول شيئا للمجتمع هو الذي دفعني إلي الكتابة ولا شيء آخر.
وبدأت أبحث عن القصة... ولم يدم البحث كثيراً..
لأن فى حياة كل منا عشرات القصص ..
فقط عليك أن تنتقى...
وعليك أن تنسج وتتخيل..
وعليك أن تبدع.. وتكتب
وامتزج الخيال بالواقع..
وجاءت قصة صرخة قلب وليدة ذلك .
عمـاد يوسـف
دبـــي يونيو 2007
اهداء :
الى روح ابو ضراع الطاهرة ...
أشرقت الشمس وتزاحمت العصافير بأشكالها المختلفة مرحبة بتغريدها لفجر يوم جديد وملأت الفضاء بأنغام رائعة المسمع وبدأت تنتقل من فرع لآخر كأنها تطارد بعضها البعض في لهو ومرح.
وتسللت أشعة الشمس الذهبية من بين فروع أشجار النيم والنخيل معلنة مولد يوم جديد وضجيج المدينة بدا يزداد رويدا رويدا وحركة السيارات تنهب الأرض ذهابا وإيابا واخذ الهدوء العام في التلاشي منهزما أمام تلك الضوضاء فهي معركة يكسبها عند نهاية كل نهار ويخسرها عند بداية كل صباح.
جاء عم موسى بائع الحليب ممتطيا حماره كالعادة ، وهو يلف حول جسده بطانية حمراء داكنة اللون ممزقة الأطراف تتوسطها ثقوب كبيرة بالكاد تقي من أمواج رياح الصباح الباردة ، واقترب من منزل احمد الواقع في امتداد بري والمطل مباشرة على معرض الخرطوم الدولي... وأشجار السنط تكاد تخفى شاطىء النيل الأزرق على الناظرين اليه ... الحي جميل المباني تحفه أشجار النخيل والنيم والصفصاف من الشمال حيث نهر النيل الأزرق اضفى نضرة وجمالا على ذلك الامتداد... والمنزل واسع المساحة.. جميل الطراز طليت جدرانه بالاسمنت الملون "الطرطشة" ذات اللون الرمادي... به حديقة رائعة زرعت فيها أشجار الليمون وهنالك في إحد أطراف الحديقة زرعت شجرتا جوافة.. وقد رحل الخريف قبل اشهر قليلة تاركا خلفه بصمات من الخضرة .
فالخضرة احساس من الحياة يدغدغ فى العمق العاشر .
نزل عم موسى هكذا ينادونه دائما أهل الحى ، نزل من حماره وامسك بيده عصى طويلة غليظة طرق بها الباب عدة طرقات وبيده الأخرى امسك لجام حماره.. واستيقظت بدرية من نومها وهي تغالب النعاس.. واتجهت مباشرة إلى المطبخ بحركة آلية تناولت وعاء الحليب وجرجرت أقدامها حتى وصلت عند باب السور الخارجي ، وهي تعلم أن الطارق هو عم موسى بائع الحليب وفتحت الباب فتحة صغيرة وأمالت بجسمها للداخل وراء الباب وأخرجت رأسها فقط ومدت يدها وهي تحمل الوعاء وقالت :
أهلا يا عم موسى اليوم عايزيين رطلين ونصف.. ورد لها التحية من دون أن يرفع نظره ويطالعها وامسك بالعبار وادخله داخل القدرة وبعد أن ملأه أفرغه في وعاء الحليب حتى أكمل الرطلين والنصف.. وقفز على ظهر حماره بحركة سريعة اعتاد عليها على مر السنين، واتجه نحو جيرانهم واتجهت هي نحو الداخل بعد أن قفلت الباب بهدوء.
وألقت نظرة حانية على زوجها ووحيدها وحيد النائمين في داخل هذه الدار.. نشأ وحيد الابن الوحيد لوالديه احمد وبدرية فلقد اتفقا على أن ينجبا طفلا واحد ويسمياه وحيد.. وبمرور الزمن تحقق لهما ذلك وأولياه كل العناية والاهتمام وكرسا له كل سبل السعادة لذلك كانت طفولة وحيد طفولة مدللة آمنة وسعيدة ... كل شيء أمامه غير مستحيل وكل رغبة له مستجابة.. لا يعصى له أمر وهما سعيدان به.
ِولكن في الاوانه الأخيرة تغيرت طباع احمد تجاه زوجته وأبدل الحب كراهية والسعادة إلى تعاسة دون أن تعرف بدرية سببا لذلك.
أضحى وحيد في الرابعة والعشرين من عمره شاب هادى يميل للوحدة ويتخذ الصمت ملجأ وسيم الملامح والطلعة طويل القامة ذو بشرة سمراء لا يعر شعر رأسه اهتماما من التمشيط ، عيونه واسعة شديدة السواد يظن الكثيرين انه يضع كحلا بعينيه وفوق كل ذلك يتسم بإحساس مرهف للغاية. يحاول وحيد دائما أن يشق طريقه في الحياة معتمدا على نفسه وأكمل مراحل دراسته حتى توجها ببكالوريوس إدارة أعمال وهو تخصص لم يكن يرغب به فقد كان حلمه أن يكون صحفيا وكاتبا له باع طويل وشهرة في عالم الكتابة او فناناً تشكيلياً .
كان وحيد هو الأخر قد استيقظ من نومه على اثر سماعه صوت طرقات عم موسى بائع الحليب ولكنه لم ينهض من فراشه وظل يتقلب يمينا وشمالا ولم يجد وحيد بدا من مواصله النوم بعد أن تسللت خيوط من أشعة الشمس عبر نافذة غرفته.
فكلما تتفتح عينيه على الدنيا في صباح جديد يداهمه التفكير ويجره إلى داخل بيته فقد كثرت المشاجرات بين والديه إلى حد أثار تحسره ودهشته وحزنه..
غريبة حياة الأسر تبدأ بأحلام وضحكات وأمال وسعادة وما ان تتعرض لامتحانات قسوة الحياة حتي تتعرض للصراعات وتتخللها الرتابة والملل وتتصدع ومن ثم تنهار !!! الأسس غير متينة ؟؟؟ أم ماذا ؟؟
فجأة سمع صوت والدته بدرية والتي قطعت عليه شروده تحثه على الذهاب إلى العمل لان الوقت قد حان بل الوقت مضى دون أن يدرى هو ذلك ولكنه ظل معتكفا بسريره ولم يكلف نفسه حتى بالنظر تجاه مصدر الصوت.
لا زال مشغولا ويفكر بالنقاش الذي دار بين والديه ليلة أمس الأول فقد اهتزت أركان البيت الذي كان في يوما مثال للبيت السعيد، ونهض من سريره كأنه يغالب نعاس سنين !! ولم تمض دقائق حتى وجد نفسه قد أبدل ملابسه وخرج مسرعا قاصدا مكان عمله.
وصل إلى مكتبه وقد ارتمى بجسده على المقعد صامتا لا يقوى على شيء انه يعانى من إرهاق وتكبد مشاق الوصول إلى المكتب عليه أن يزاحم في صفوف الناس ليجد له مكانا في احد مقاعد الحافلات وان يتحمل أمواج الازدحام ودفع الآخرين له ويركض مثلهم وألا سوف يقف ساعات طويلة بانتظار جلاء ساعات الذروة.
انه يعمل ضابط أدارى بتنظيم المجالس الشعبية ـ محافظة الخرطوم ، تراكمت الملفات في طاولته وهو يحاول تنظيمها لأداء الأعمال حسب الأولوية والأهمية وما أن بدأ في ذلك حتى دخل عليه احد المواطنين طالبا التصديق له بفتح كشك في السوق الشعبي فرد عليه بان التصديقات أوقفت بقرار من محافظ الخرطوم !!! ..ولكن...
لم ينته من حديثه بعد حتى أدرك أن هنالك أوراق تتطاير في السماء وتتساقط ورقة تلو الورقة على رأسه وعلى مكتبه وان الرجل قد أدار ظهره وخرج مسرعا من دون أن يتفوه بكلمة !! فكل ما صدر منه أن قذف بالأوراق تجاه أعلى وخرج مسرعا.
وبعد ساعة من االزمن عاد ذات الرجل وفى يده مظروف ابيض صغير ودسه بين طيات الاوراق الادارية ووضع كل الاوراق بملف طلبه مرة اخرى فى طاولة وحيد بعد ان اعاد طباعتها ..
نظر اليه وحيد بدهشة وساله قائلا :
- ليه استعجلت وخرجت ؟؟والمظروف ده ايه ؟؟
- دى حاجة بسيطة لزوم دخان السجاير !!
- خذ حاجاتك دى واخرج بره قبل ما انادى ليك الشرطة ، انتوا ليه فاكرين كل المواضيع بتمشى بالرشاوى .
- يا استاذ الموظفين عودونا على كدة !!
- لا يااستاذ انتم عودتوهم على كدة امثالكم البيتسببوا فى فساد الذمم .
- نحن غلبانين والله وعلى العموم انا آسف جدا والله يكثر من امثالك .
- املأ هذا النموذج وادفع رسوم التقديم وراجع عندما يتصلوا بيك .
عاد وحيد الى البيت بعد انتهاء الدوام وما ان دخل الى البيت حتى وجد والدته مضرجة بالدماء على وجهها ، جرح بسيط اعلى جبينها ، غمرته الدهشة والتساؤولات ولكنها ما لبثت أن أمسكت بيديه بهدوء وجذبته ليجلس في مكانه .. وبعد برهة خرجت الكلمات من فمها متثاقلة المسمع ووقعت بمسمع كالهمس البعيد بالنسبة له.. تكلمت قائلة والدموع تنحدر من خديها وتستقر على الوسادة التي ترقد عليها وبكلمات متقطعة كأنها لم تعرف مثيلا لها من قبل قالت:
- تغيرت حياة احمد والدك بل تغيرت تماما ومنذ أن تمت ترقيته الي مدير للمؤسسة التي يعمل بها لقد صار أدنى شيء يثيره ويثير اهتمامه لم يعد احمد ذلك الزوج المثالي الوفي لزوجته.. صار يخلق الأعذار الكثيرة للخروج من المنزل فكثرت اجتماعاته وكثر غيابه
- امى هذة الاجتماعات مرغم عليها .
- لكن يا وحيد هي اجتماعات مزيفة.. انا عرفت احمد بعشرة سنين.. لكنه تغير اليوم عمري ما تصورت بأنه سيأتي يوم واحد ويسبب لي جرحاً عميقاً في أعماق قلبي وجرحاً آخراً في أعلى عيني .
نهض وحيد وقال مقاطعاً حديث والدته..
حقيقة هذة اشياء تثير حيرتي
ونهض من جلسته وهو يقول. ( أكيد سوف يأتي اليوم الذي اعرف فيه الأسباب ) .
وخرج من غرفتها وعبر الصالة ودخل إلي غرفته وأوى إلى فراشه يفكر في حقيقة ما يدور في البيت. هل يستطيع تغيير مجرى الاحداث ومجرى الأقدار "أنها صورة شبيهة بالإعجاز
لقد بدأت عليه إمارات القلق فلم يكد يرقد على السرير حتى نهض منه واتجه نحو الصالة حيث هنالك مكتبة في الركن الأيسر بها مجموعة من الكتب... وجلس يتصفح بنظره الكتب عله يجد كتاباً يسلى به نفسه ويشغل به أفكاره.. وبعد جولات وبحث وجد كتاباً باسم الذكرى للحبان لمؤلفه حسن احمد وبدأ يقلب صفحات الكتاب بين يديه قبل أن يبدأ بقراءته .. وفجاء وقعت صورة على الارض لامرأة جميلة تبدو فى منتصف العشرينات من عمرها والتقطها بيد ه ووبطء شديد
تأمل تلك الصورة بكل علامات الدهشة والاستغراب وبعد تمعن طويل للصورة قلبها على ظهرها وكانت دهشته الكبيرة بأن وجد توقيعا عليها وان الصورة مهداة إلى والده احمد لكنه لم يستطع ان يقرأ التوقيع فهو توقيع لاسم حروفه الأولى تشير إلى حرف اللام والياء هذا كل ما استطاع ان يعرفه من الإمضاء. وحاول أن يتذكر لعله رأى صاحبة الصورة من قبل !! ولكن باءت كل محاولاته بالفشل فلم ترد على خاطره صورة تحمل ذلك الشبه.
ووجد نفسه في دوامة من الأسئلة .
ما علاقة صاحبة الصورة بوالده ؟؟
هل هي مجرد زميلة له فقط..
هل يعقل أن تكون سبب الخلافات التي تحدث في البيت ؟؟
وأخيرا وضع حدا لتساؤلاته بان وضع الصورة في البوم الصور الذي كان أصلاً فوق المكتبة.. ولم يفكر بأن يضعها في مكانها الأول حيث كانت بين صفحات الكتاب.
وأمسك الكتاب وبدأ يقرأ في قصته.. ولم تمض لحظات حتى وضع الكتاب على صدره وأغمض عينيه محاولاً النوم وبعد جهد جهيد أسلمت جفونه للنوم.
استيقظ وحيد في حوالي السابعة مساء على هرج أصوات غريبة أصوات طبل وأصوات هرج مصدرها أصوات نسائية كانت تنبعث من منزل يقع في الشارع الخلفي لمنزله...
نهض من سريره وبعد أن أبدل ملابسه دلف لغرفة والدته فوجدها تنظف في الغرفة بنشاط وكأن شيئا لم يحدث.. وأحس بأنه يود ان يقول لها بأنه عثر على رأس الخيط الذي يؤدى الى حل اللغز .. ولكن هل صحيح انه الخيط.. فأحيانا يكون الشك أقسى من الواقع لذلك انسحب بهدوء دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، وخرج يتمشى رويدا رويدا في اتجاه الشارع الخلفي لمنزلهم حيث أراد أن يشبع رغبته في معرفة ما يحدث..
كانت هنالك مراسم صاخبة هي ظاهرة اجتماعية متفشية بكثرة في المجتمع السوداني هي ظاهرة تسمى الزار يظن مجتمع النساء انه علاج لبعض الأمراض النفسية وأيماناً لعلاج حالات الشرود الذهنى وطرد للشياطين والجن التى تسكن الجسد ..
عم المكان دخان كثيف به رائحة جميلة هي رائحة البخور الذي يضعونه على جمرات النار في كأس من الحديد وآخر من طين طلى بلون أحمر، بخور مزيج من الصندل واللبان وأمسكت امرأة بدينة بالمبخر وهي تطوف به على النساء وهن جالسات في مجموعة دائرية.. وفي منتصف الدائرة جلست امرأة نحيفة الجسم جعل منها المرض هزيلة الجسد شاردة الذهن كأنها لا تستوعب ما يدور حولها بالرغم من كل هذا الضجيج ، والتفت بملاءة داكنة اللون وهي تتمايل يميناً وشمالاً وقد جثت على ركبتيها ووقفت بالقرب منها امرأة لبست على رأسها طربوشاً أحمر تتدلى منه خيوط من الحرير الأسود وأمسكت بيدها عصاً غليظاً وفي يدها الأخرى سيجارةً وهي تتمشى وتطوف على النساء "ويطلقون عليها اسم الناظرة لإشرافها على النار" حتى اللائي جلسن في دائرة هن الاخريات أجسامهن تتمايل يميناً وشمالاً بحركات سريعة ، يُهمهنّ بكلمات غريبة لا تستطيع ان تفهم منها شيء ويصرخن بجنون ويرقصن بلا وعي ، ورائحة البخور والروائح العطرية تفوح الي اعلى وصوت دقات الطبل يتعالى ويتعالى ويكاد يصم الاذان .
لا احد يكترث للضجيج المتناغم .
وفي هذه اللحظة وآصل وحيد سيره اتجاه شاطيء نهرالنيل الازرق الذي لا يبعد كثيراً من الدار .
جاءت مريم الى مكان الزار لتشارك جارتها المريضة فهي تسكن قريباً من هذا المكان ، جلست وأخذت مكانها بين النساء وجاءت اليها الناظرة ومدت اليها بعلبة الدخان فتناولت سيجارة منه وامسكت بعلبة اعواد الثقاب واشعلت لها سيجارتها وقد احست برهبة وتردد فى بادىء الأمر الا انها تذكرت أن تناول تلك الاشياء انما هو شىء لا يمثل غرابة او شذوذاً وطبيعي ان تدخن المرأة السجائر داخل مراسم الزار ، وبعد برهة عادت الناظرة مرة اخرى وسكبت العطر على ثوب مريم ودارت حولها بالمبخر حتى اوشكت ان تختنق من كثرة الدخان ، كل هذه عبارة عن تكريم وترحيب بالضيفة التى تأتي للمشاركة ، الاصوات تتعالى ، دستور دستور والاجساد تتمايل يميناً وشمالاً .. وتناثرت علب السجائر ( الدخان) الفارغة هنا وهناك ووُضِعت علب اخرى لم تمس بعد على البرش الاحمر المفروش على الارض ..
أمسكت مريم بالسيجارة تدخن منها ، تستنشق تارة وتارة اخرى تكتفى بطرد الدخان من شفتيها وتحول دون وصوله الى أعماق الرئة ، وبالرغم من ذلك تسعل بشدة ، مضت الساعات والكل يهتز دون احساس بالارهاق وكأنهن في حالة أشبه بالغيبوبة ، حالات اللاوعى ، وجاءت الناظرة التى تضع على رأسها الطربوش الاحمر ووقفت في منتصف الدائرة وقد امسكت برأس الخروف الذي طلبت احضاره اليها، وربطت على عنق الخروف شريطاً احمراً وانتزعت العباءة الحمراء التي كانت تلبسها ووضعتها على الخروف ولم يظهر من الخروف اِلا رأسه وأرجله فقط. ثم جاءت بالبخور وبدأت تدور حوله وهي ترد دستور دستور دستور وكلمات اخرى غير مفهومة ولا احد من الحاضرين يستطيع أن يتبين حرفاً او كلمةً انها تراتيل تتماشى وترتفع حدتها مع علو اصوات الطبل .
نظرت مريم الى ساعتها فوجدتها تشير الى الثانية عشر منتصف الليل وذهلت لمضي الوقت، فنهضت مسرعة بعد ان كانت جاثية على ركبتيها طيلة تلك المدة وقد احست بتنميل فى ساقيها ودلفت من الناظرة وهمست معتذرة لخروجها .. عائدة الى منزلها ...لكنها طلبت منها ان تظل حتى تشاهد ذبح الدجاجات السبع ونثر الدماء فوق المريضة لطرد الجن الساكن بداخلها .. لكنها اعتذرت بشدة وخرجت مسرعة .
وقبل ان تصل الى باب منزلها رأت زوجها خالداً ينتظرها عند الباب وقد ظهرت عليه علامات القلق والعصبية واحست هي برجفة اعترت اوصالها ولكنها تمالكت حتى وصلت بالقرب منه فسألها والدم يكاد يغلي في عروقه وقد تجهم وجهه في صرامة قائلا لها كم الساعة الان ؟؟
فلم تجبه عن الساعة بل قالت له وهي مرتبكة " مشيت لجارتي في الشارع المقابل لينا "
واقتربت اكثر وارادت ان تعبر الباب لتدخل فاشتم رائحة البخور والعطور الممزوجة من الصندل تفوح منها وكذلك رائحة دخان التبغ تنبعث من فمها واجتاص غضبا وكأنه اصيب بمس من الجنون .
لقد كانت مريم في غاية الجمال .. مرحة للغاية مبتسمة دائما جمالها الفائق جعل زوجها يغير عليها ويتربص بها وفرض عليها قيوداً لم تعرفها حتى وهي في بيت ابوها قبل زواجها منه ، احاطها بهالة من الشكوك دوماً كلما ذهبت لمكان ما سألها عشرات الاسئلة عن المكان الذي ارتادته ومع من ؟؟ كانت تعرف تماما ان حياتها استحالت الى جحيم حيال هذا الوضع الذي اضحى مآساه ولكن منت نفسها بمزيد من الصبر من اجل ابنتها شادية البالغة من العمر السابعة عشر وطفلها عادل البالغ من العمر اربع سنوات وطفلتها سلمى البالغة من العمر ست سنوات ..
وبمجرد ان اوصد الباب خلفها صاح خالد هائجاً فيها .. " والله عال !! وصلتي لهذه الدرجة سجائر وبخور وصعلقة كمان " وصعقت مريم بمجرد سماعها كلمة صعلقة ، وادركت انه ماذا يعنى بقوله هذا انه يطعنها في شرفها الى هذه الدرجة وصلت به الاعتقادات والاتهامات والهواجس وتعالت الاصوات لدرجة ان سمعت شادية النقاش الحاد الذي يدور بين والديها وجاءت مسرعة اتجاهما وطلبت من والدها بصوت من الترجي "يا بوى خلى امى تدخل غرفتها بدلا من الجيران يسمعوا فى الكلام ...." وقبل ان تكمل حديثها لم تشعر الآ وبكفه تهوى بشدة على خدها، وتراجعت الى الوراء بخطوات بطيئة للغاية وهي ممسكة مكان الالم وفى ذهول تام وفجأة سمعت والدها يقول لمريم والدتها " انت طالق ....ما عايز اشوفك في البيت ده تاني" وصرخت مريم باعلى صوتها اعطيني فرصة اتكلم انا بريئة .. بريئة لقد ذهبت لمراسم زار حتى اسأل . ..ولكنه لم يعرها اهتماماً ..
واخذت الدموع تنهمر من عينيها بغزارة ووضعت طرف ثوبها على فمها واخذت تعض عليه حتى تمزق ..
ولكن كل شيء كان قد انتهى..
كل شيء قد انهار ..
لقد تم الطلاق .. واغمي على شادية تماما ..وظلت مريم تصرخ فى بنتها ممسكة بوسطها تجاهد فى ايقاظها واعادتها لوعيها حتى استجابت ..
ودخلت مريم وتناولت حقيبتها من فوق الدولاب ووضعتها فوق المقعد بعد ان فتحتها .. وبدأت بتناول اهم قطع لديها من بين ملابسها من فساتين وملابس وثياب ولم تمض لحظات حتى كانت قد انهت كل شيء من اعداد حقيبتها وخالد جالس في الصالة كان الامر لا يعنيه في شيء وبدأ له ان اشفى غليله وانهى حدا لهواجس الشكوك وانه تخلص منها للابد .
خرجت مريم وهي تحمل حقيبتها والساعة جاوزت منتصف الليل واصرت داخل نفسها ان تذهب في مثل هذه الساعة الى منزل اختها بالديوم الشرقية الذي يبعد عن امتداد بري قرابة النصف ساعة بالسيارة ، ووقفت في الشارع الرئيسي قبالة معرض الخرطوم الدولى وبالقرب منها الحقيبة السوداء اللون المنتفخة بملابسها.
وفي تلك اللحظات كان وحيد عائداً الى بيته بعد ان جلس ساعات طويلة على شاطئ نهر النيل الازرق وتحت ضوء احدى مصابيح اعمدة الانارة لمح امرأة واقفة تبكي بكاء متقطعاً اشبة بالانين ، اقترب منها اكثر وتردد في سؤالها عما يبكيها وظن انها قد لاتعرف مأوى في هذه الساعة المتأخرة من الليل وانها آتية من سفر بعيد واخيراً تشجع وسألها ان كانت تريد مساعدة وكفكفت دموعها بطرف ثوبها وشكرته وطلبت منه ان يرافقها حتى تقطع الشارع الاخر وحتى يتسنى لها ان تجد سيارة اجرة تقلها الى الديوم الشرقية واراد ان يحمل الحقيبة ولكنها رفضت ان يحمل هو الحقيبة وبعد الحاح منه سمحت له بحمل الحقيبة وسارا في صمت عميق فكلما هم بسؤالها عن سر بكاءها تعتريه موجة من الاحراج لذلك فضل وآثر الصمت ومرت سيارة اجرة بالقرب منها فاشار الى سائقها بالوقوف فوقف السائق واخبرته مريم بانها تريد الذهاب الى الديوم الشرقية فقال لها " عشرة جنية يا ست موافقة " ؟؟.
فوافقت دون تردد المهم عندها ان تصل باي حال من الاحوال ولاتهم القيمة عندها في هذه اللحظة .. ووضع وحيد الحقيبة في المقعد الخلفي وانهالت عليه مريم بكلمات الشكر والثناء وودعته .. وتحركت سيارة الاجرة في اتجاه الديوم الشرقية وواصل وحيد سيره عائداً نحو منزله وهو في حالة حيرة من تلك المرأة واي جرأة تدفعها للذهاب الى الديوم الشرقية في مثل هذا الوقت لوحدها لكن احياناً المأساة التى نعيش فيها تشغلنا عن أي مخاطر اخرى ولو عظمت وبدأ يسترجع ملامحها ويفكر ان وجها ليس بغريب حتى صوتها !!
وأفاقت شادية من حالة اللا وعى والذهول وبدأت تتفقد حولها الاشياء ووجدت نفسها ملقاة على السرير بالقرب من سرير اختها سلمى واخيها عادل فنهضت بسرعة وبخطوات مترنحة ذهبت الى غرفة والدتها فلم تعثر على امها وادركت ان الحقيبة الخاصة بوالدتها بالملابس اختفت وفتحت الدولاب فوجدته فارغاً من معظم الفساتين والثياب التى تخص والدتها وايقنت ان مريم رحلت ولكن الى اين لا تدري . وجلست على طرف السرير وهي تبكي بلا وعي ولم تعد تشعر بالاحساس بمن حولها وبدأ لها ان كل شيء جامد بلا حراك حتى اعماقها جامدة بلا حراك ، من كثرة الالم فقدت الاحساس بالالم في داخلها بالرغم من احساسها بالصداع الحاد الذي يعتريها وقضت ليلة قاسية في حياتها . فلم تذق للنوم طعماً طوال الليلة ... استيقظت سلمى الصغيرة من نومها .. ولكنها لم تجد والدتها بالقرب منها لم تات لها بالحليب، لم توقظها من نومها كما جرت العادة عند صباح كل يوم وبكلمات بريئة سألت سلمى اختها شادية قائلة ..
ماما وين ؟؟؟.. التفتت اليها وهي تناولها الحليب .. وقالت لها ماما ذهبت السوق علشان تشترى ليك فستان العيد الجديد !!
ولكن هذا الغياب طال ... مر اسبوع بكامله وشادية لم تستطع الذهاب الى المدرسة فهى تقرأ فى مدرسة الخرطوم الثانوية العليا وستسجل للامتحان هذا العام لدخول الجامعة ، وكان عليها ان تكرس جل وقتها وكل جهدها للاستعداد لامتحان الشهادة ولكن بعد طلاق والدتها لم تعد هنالك احلام او مذاكرة !!عليها ان تتفرغ لطهى الطعام وتنظيف وترتيب المنزل يوميا ورعاية اخوتها.
كيف يتسنى لها العودة الى داخلية المدرسة لمتابعة السنة الدراسية اتترك سلمى وعادل ولمن ؟؟ لوالدهما الذي يحضر يوميا فى الساعات الاخيرة من الليل وبعد ان ينام الاطفال !!وحتى عند حضورة غالباً ما يكون ثملاً .
لقد بدت الامور امامها متشابكة كغابات خط الاستواء حالكة الظلام واسعة الادغال كثيفة الاشجار وتحتها تزحف الزواحف وتسير الوحوش الهائلة .. اتضحى بترك الدراسة وقد امضت فيها اثنا عشر عاما ؟لقد كانت تمنى نفسها بدراسة القانون لتغدو فى يوم من الايام وكيلة نيابة !!
انها تفكر فى حل اخر بأمكانها مواصلة الدراسة من دون ان تمكث فى الداخلية ولكن ماذا عن المواصلات خاصة ان المدرسة بعيدة من مسكنها وماذا عن الفترة الصباحية لسلمى وعادل ؟؟
واخيرا توصلت الى قرار ان تمتحن من المنزل عليها فقط ان تحصل على رقم الجلوس الخاص بأمتحان الشهادة هكذا ارتضت ، مجبرة على ذلك وما كان بوسعها ان تفعل ؟؟ هموم كثيرة تجسدت على اكتافها وانقسامات نفسية حادة ظلت تعانى منها وزميلتها وصديقتها ناهد لم تبخل عليها بشىء فهى تأتى كل يوم لتخبرها عن المقرارات الدراسية وتنيرها بكل جديد يطرح خلال اليوم الدراسى .
كانت شادية تشعر كأنها طالبة منتظمة صباحيا لم تغب ناهد يوما واحدا عنها تشعر دائما نحوها بالامتنان وبعمق المأساة التى طرأت عليها .
وانتشر خبر طلاق مريم فى الحى ولم تكن هنالك مناسبة او احتفال بمولود جديد او زفاف ما تجمعن فيه النساء الا وتداولن الحديث عن طلاق مريم كأنها اول امرأة تطلق فى العالم وكأنه حدث غريب فريد .
هذا هو المجتمع هؤلاء هم الناس لا يحلو لهم التحدث الا عن الاخرين عادة مستأصلة يصعب اجتثاثها هم فقط ضعفاء النفوس يجدون متعة فى التحدث عن سيرة الاخرين وترويج الشائعات والقيل والقال ظنا منهم انهم يصلحون المجتمع ..ولكن كيف يصلحون المجتمع وهم أحوج الناس الى الإصلاح والتقويم ...
مريم تطلقت لانها جاءت اخر الليل تترنح يميناً وشمالاً من تناولها المشروبات الكحولية ..مريم تطلقت لانها شوهدت تدخن التبغ مع سائق سيارة الاجرة اخر ساعات الليل !! مريم تطلقت لانها ...ولانها .. عشرات الشائعات انطلقت وكلها تدور حول مريم كأنه طلاق كارولين اميرة موناكو من زوجها فليب .
ولم ينل كل ذلك شىء من شادية لانها تدرك تماما ان كل ذلك ليس بغريب على مجتمع الحى وقابلت تلك الشائعات بثبات بالرغم من ان ذلك يؤلمها احيانا رغما عنها فمريم التى يدور حولها الحديث هى امها فى نهاية الامر هى جزء من لحمها ودمها ، كانت مريم قمة فى المثالية عند ناس الحى احبوها بأفراط ولكن كيف تبدلت الاحوال فجأة .. فى لحظة فقط تنهار كل المثل والقيم والهالة التى احاطوها بها من القيم والمحبة يستبدلونها بهالة من الاكاذيب والشائعات والانحطاط ويضعونها فى احقر موضع عند نفوسهم الطاهرة .. اى طهر فى تلك النفوس ؟؟ .
ويأتي خالد كعادته اخر الليل ويجد شادية هى الوحيدة المستيقظة تقرأ فى كتابها المدرسى ويقذف لها وريقات من فئة الجنيه هى مصروف اليوم التالى دون ان يتفوه بكلمة ويواصل مسيره حتى يدخل الى غرفته ويوصد الباب عليه بالمفتاح ويفتح زجاجات الخمر التى احضرها معه ويظل يحتسى حتى يتجرع اخر كأس من الزجاجة ومن ثم يقذف بها تحت السرير ثم يتمدد بحذائه وملابسه على السرير ويسب ويلعن ويشتم فى مريم وبكلمات اخرى هو نفسه لا يفهم كنهها وبعد ذلك يغط فى نوم عميق تسمع له شخيرا ... هكذا خالد يوميا .
لقد دفع بنفسه الى طريق لايعرف كيف وجد نفسه فيه ويظن ان الخمور التى يتناولها ويتجرعها كل يوم تنسيه مشاكله تنسيه مأساة الطلاق والشائعات التى صاحبت كل ذلك ، ليس هذا فحسب فقد أضحى شرسا فى معاملته لأولاده شادية وسلمى وعادل صار لا يحب الجلوس معهم دائما يصبو الى الوحدة عند دخوله الغرفة لا احد يتجرأ ان يقطع عليه خلوته لا يريد لاحدٍ ان يزعجه وهو يحتسى الخمر وحتى اذا جلس بينهم خيم على الجو توتر وصمت بل صمت ممزوج بالخوف .. وطبع فى نفوس اطفاله سلمى وعادل الرهبة والتردد والانقسامات النفسية فلم تعد لهم طلبات او هوايات او حتى ضحكات وصدر حنين يضمهم كمثل مريم امهم .
ينكر خالد بشدة انه المسؤول عن كل الاحداث التى مرت بهذا البيت وبالعاصفة الهوجاء التى هبت عليه وحطمت اركان بيته وينكر ويتنكر انه المسؤول عن كل هذة المآسى التى حدثت واطفاله فى امس الحاجة للاستقرار والامان والراحة والرعاية والاهتمام والتربية الرشيدة فى مثل سنهما هذة وشادية هى الاخرى احوج ماتكون تواقة للنجاح وتحقيق الطموح ، ولكن كيف يتحقق ذلك والأمور تزداد تعقيدا كل يوم وخالد يتناسى هذا الزخم من المشاكل بتناوله جرعات الخمور وحقيقة الامر ان هذا لا يحل مشكلة ولا ينسى واقعاً ولا يؤمن مستقبلا لاطفاله فالحياة اكبر من ان يتصورها واعمق من ان يتخيلها وتلك مأساته ان يحاول طي نفسه ونسيانها بين زجاجات الخمور ولكن هل يستطيع ؟؟
الشىء الوحيد الذي فكر فيه تفكيرا سليما بأن احضر خالد شقيقته فاطمة لتشرف على البيت وحتى يتسنى لشادية الذهاب الى داخلية المدرسة وتواصل دراستها لتنهى السنة الدراسية الأخيرة لها بأي شكل كان .. سواء بالفشل او النجاح المهم عنده هو اتمام السنة حتى لا يكون سببا فى تعطيل دراستها.
وجاءت عمتها فاطمة لتفرج عنها الازمة التى كانت تعيشها آلا وهى ازمة التخلى عن الدراسة وبالرغم من ان عمتها امرأة قاسية فى تعاملها مع الآخرين فهى لم تتزوج وقد جاوزت الخمسين من عمرها وكثيرا ما احتد بينهما النقاش قبل أن تأتى لمنزل شقيقها خالد ، إلا أن شادية رأت ان وجودها ومكوثها بالبيت حل مؤقت ورمضاء تستجير بها من النار .
وفى اليوم التالى كانت شادية تحمل حقيبه ملابسها الصغيرة مع كتب الدراسة وتتجه الى داخلية المدرسة بعد ان ودعت عمتها وأوصتها ان تضاعف اهتمامها بسلمى وعادل والتفتت تجاه سلمى وحضنتها بقوة وغالبت دموعها بذات القوة واتجهت نحو الباب خارجة الا ان سلمى لحقت بها وقالت لها مرة اخرى ...
ماما وين ؟؟ انا عايزة امشى لماما عمتو فاطمة بتضربنى !!
وقالت لها انا ما قلت ليك ماما راحت تجيب ليك فستان العيد ..
ولكن سلمى سئمت من تلك الاجابة المكررة وردت بغضب مشوب بنبرات الحيرة والحزن والخوف ..
اناعايزة ماما ماعايزة فستان العيد ..
وضمتها شادية فى حنان الى صدرها مرة اخرى وقبلتها على خديها مرات عديدة وقفلت الباب بهدوء بعد ان وعدتها ان تحضر لها الحلوى من المدرسة مثل كل مرة ..
وصلت شادية الى داخلية المدرسة عند العصر ووقفت برهة ... وتلفتت يمينا وشمالا تعاين مبانى المدرسة كأنها تشتم رائحة ما عطرة هل هو عطر زميلاتها ام عطر العودة للدراسة وتتنسم شوقا وفرحا وانتتابها احساس بالاطمئنان زمنا طويلا لم يعاودها هذا الاحساس وما لبثت ان دلفت بخطوات هادئة تكاد لا تسمع لها حسا وصوتا الى الغرفة التى تضمها وصديقة عمرها وزميلتها سوزان ووجدتها مضجعة فى السرير وهى ممسكة بكتاب تقرأ فيه سوزان هى الاخرى طالبة فى السنة النهائية للثانوى العالى تبدو صامتة دائما يكتنفها الهدوء .. هى مجموعة مشاعر واحاسيس مرهفة لأبعد الحدود لدرجة انها تخشى على نفسها من نفسها ..جمالها هادىء حالم تراه يمنحك احساسا متفرداً غريباً من الطمأنينة قلّ ما تجده فى بشر، ذكية ولا تعرف لليأس طريقا ... ينسدل على كتفيها شعر اسود طويل ناعم الملمس تبدو مبتسمة دائما فالابتسامة لا تفارق شفتيها ...هى شعلة من نور تضىء لكل من حولها كالقمر أينما وقفت منها تراها جميلة ، تعشق الطفولة اكثر من اى شئ اخر لدرجة ان الصقت صور الاطفال على جميع جدران الغرفة ، انها تحب الأطفال بجنون بالغ .
وبمجرد ان وقع الى مسمع سوزان صوت اقدام تدخل الغرفة أزاحت الكتاب من أمام عينيها فاذا بها ترى شادية تدخل الغرفة وقذفت الكتاب على طرف السرير ونهضت وهى تصرخ من المفاجأة قائلة : شادية !! شادية !! مابصدق عيوني ؟؟ وضمتها وهى تردد وحشتينى وحشتينى !!وتعانقتا مدة طويلة بشوق عميق فقد مرت أكثر من عشرة ايام لم يلتقيا فيها وظنت ان شادية لن تعود الى الدراسة حتى وان عادت لن تعود للداخلية نظرا للظروف التى طرأت على صديقتها .. فقد كانت ناهد زميلتها تسرد لها كل شىء عن اخبار شادية ..
قالت سوزان لشادية وقد جلسا على حافة السرير (طبعا مقدرة ظروفى لعدم حضورى وزيارتي لك فانت تعلمى بأن الخروج من قلعة هذا السجن الداخلية ممنوع!!! ) وردت لها طبعا طبعا عارفة ياسوزان ، وتنهدت بعمق واخفت وجها بكلتا يديها ثم ما لبثت ان تحشرج صوتها وبكت ..
لقد تذكرت طلاق والدتها مريم وظروف حياة سلمى وعادل وقسوة والدها ، الا ان سوزان اخذت تربت بكفها على كتفها محاولة ان تخفف عنها هذا الحمل الثقيل الذي يجثو على صدرها وأبدلت مجرى الحديث متعمدة عدم اثارة كوامن الحزن واحداث طلاق والدتها ، فالجرح لم يمض عليه اسبوعان بعد وما لبثت ان حدثتها عن استعداد المدرسة لاعياد العلم والاحتفالات المزمع اقامتها وقالت لها :
هنالك مفاجأة كبيرة وحلوة فى ليلة احتفال عيد العلم ؟؟!!!
عليك الله ياسوزان المفاجأة شنو ؟؟
لكن اذا كلمتك بيها ما حتكون مفاجاة !!
لكن كدة شوقتينى ليها !!
وبعد الحاح متواصل منها قالت لها :
المفاجأة ياعزيزتى الفاضلة انه الفنان الدكتور الاستاذ عثمان حسين سوف يحيى الحفل واحتمال ثانى ثنائى العاصمة ..
وهتفت بأعلى صوت لها وهى تقفز ياى ياى دى اجمل واسعد ليلية ستكون ان شاء الله ...
وما لبثت ان جلست فى لحظة صمت ثم قالت لها:
تعرفى انا احب اطلق عليه د . عثمان حسين فنان الشجن
وردت لها سوزان :
يابنت انت فى السنة النهائية وحاولى تركزى تفكيرك فى الدراسة وبس .
آه يارب ساعدنى قالتها بتنهيدة عميقة ثم نهضت من السرير وفتحت حقيبة ملابسها وأعادت ترتيبهم داخل الدولاب ووضعت الكتب على المنضدة ، وبعد ان ابدلت ملابسها طلبت من سوزان ان ترافقها لكى تسلم على بقية الزميلات ايمان .. ناهد .. وسلوى وخرجتا من الحجرة وكل واحدة متأبطة ذراع الثانية وتجولتا من غرفة الى غرفة .. كانت فرحة بعودتها للداخلية .. للمدرسة .. ووجدت نفسها بعيدا عن أجواء البيت .
وعند الساعة التاسعة مساءا جلست شادية قبالة سوزان وهى ممسكة بكتاب تقرأ فيه والاثنتان جالستان فى واجهة المنضدة التى اتخذناها مكتبا للمذاكرة وفجأة وجدت شادية نفسها شاردة بفكرها خارج الكتاب الذي أمامها ولاحظت سوزان ذلك .. وضربتها ضربة خفيفة على خدها ورفعت شادية نظرها اليها وقالت لها ماقادرة اقرأ صدقينى !! ووضعت الكتاب على المنضدة واتجهت نحو السرير ورقدت بعد ان اتجهت بوجها على الجدران .. ولم تمض لحظات حتى شعرت سوزان بالكسل يسرى فى اوصالها والنعاس يطبق على جفونها فأطفأت المصباح وأسلمت نفسها للنوم هى الأخرى ..
وبعد مرور ايام عديدة حان يوم احتفالات عيد العلم حيث المعارض بالمدارس وليال الغناء والأناشيد التى يؤديها طلبة المدراس أنفسهم ومشاهير الفنانين . وتذكر وحيد انه على موعد مع صديقه ياسر حسن وفتح دولاب ملابسه وانتقى بنطال الجينز وقميصه ذي اللون السماوي وبعد ان بّدل ملابسه خرج مسرعا والتقى ياسر وذهبا معا الى المدرسة الثانوية للبنات والكائنة فى طرف امتداد العمارات .. زينت اسوار المدرسة بمصابيح الزينة المتعددة الألوان وعلقت لوحات الترحيب فى اماكن عالية يسهل رؤيتها للقادمين من الحضور ، واكتظت السيارات فى الميادين المواجهة للمدرسة وكثر ازدحام الجمهور بصورة يتعذر فيها على المرء الدخول من الباب بسهولة ويسر خاصة بعد ان علم الجميع أن الفنان عثمان حسين سيغنى هنا واستطاعا ان يشقا طريقيهما وسط الزحام بصعوبة حيث أن اكثر الحضور من الإناث ، وحصلا بعد جهود مضنية على تذاكر الدخول.
ورأى وحيد النظام الدقيق للمعارض المتعددة ولروعة الطريقة التى عرضت بها الاشياء من لوحات وأعمال محلية من صنع الطالبات والصور الجميلة التى اخرجت بها ..وبدت الطالبات فى ازياء رائعة يعكسن قمة أناقتهن .
وحيد وياسر يتجولان داخل أقسام المعرض وكان أول قسم يدخلانه هو قسم الفنون الجميلة لوحات زيتية واخرى بألوان مائية رائعة كلها تمثل البيئة السودانية من وحى التراث بشتى الافكار تقليدية واخرى غريبة الاطوار هذا هو الفن . لوحات رسمنها الطالبات أعضاء جمعية الفنون الجميلة بالمدرسة ، وانبهر وحيد لكل ذلك وشدت انتابه اكثر لوحة تمثل ظاهرة الزار رسمت بصورة جميلة واقترب اكثر وأكثر من اللوحة يحدق فيها وتساءل داخل نفسه "وجه المرأة التى باللوحة ليس بغريب عليه انه قابلها وشاهدها من قبل" !!ووضعت تلك اللوحة فى مؤخرة اللوحات وبحركة لا شعورية اقترب وحيد اكثر وتمعن اللوحة مدققا نظره بها عشرات المرات وايقن انها تحمل شبه المرأة التى قابلته منتصف الليل والتى اوقفت سيارة اجرة واتجهت بها الى الديوم الشرقية .
هل تكون هذة صدفة ؟ هكذا تساءل ؟ واندفع نحو اللوحة وامسكها بيده وتقدم بخطوات للوراء حيث كان يقف وتحت دهشة الطالبة شادية المسؤولة عن معرض الفنون الجميلة وضع اللوحة فى مقدمة اللوحات ؟
تقدمت شادية بخطى راجفة نحو اللوحة وعيناها تحملقان فى وحيد وكانت نظراتها تحمل فى مضمونها معنى اكبر من اللوحة ولم يدر وحيد ان اللوحة رسمتها هى وان ملامح المرأة التى فى اللوحة هى والدتها مريم وان اللوحة تمثل فى مضمونها البراءة من التهم والشائعات التى الصقت فى مريم والدتها وتساءلت شادية لماذا اثارت هذة اللوحة انتباهه دون اللوحات الاخرى علما ان هنالك لوحات أجمل من هذة اللوحة بعشرات المرات .
وعندما شعر وحيد ان نظراتها تلاحقه تقدم نحوها معتذرا وحاول اعادة اللوحة الى مكانها ظنا منه بأن تغيير موضع اللوحة سبب لها ازعاجا وأثار حفيظتها وهى بصفتها رئيسة معرض الفنون ..
بعدها دلف خارجا من جناح الفنون وما ان خطى الخطوة الاولى حتى سمع صوتا يناديه "لو سمحت يا استاذ " والتفت نحوها متقدما بخطواته فقالت له " ليه وضعت اللوحة بهذة الطريقة ؟ فرد عليها قائلا " لاحساس عميق نحو اعجابى بهذة اللوحة وهى تعنى لى شئيا ما داخل نفسى عذرا لا اريد الافصاح عنه حاليا وربما "
وتوقف ولم يكمل ما اراد ان يقوله ونظرا لاعجابه بهذة اللوحة امسكت شادية بها واعطته اياها كهدية من جناح الفنون وتقديرا لاعجابه باللوحة ، وتقبلها ولسانه يلهج بالشكر والثناء وواصل جولته فى اجنحة المعرض وهو يتأبط اللوحة برفقة صديقه ياسر .
المعرض يزداد ازدحاما بالرواد والكل يريد ان يحظى بأكبر قدر من مشاهدة الاجنحة والالعاب المسلية خاصة وان اجنحة المعرض تشجع على ذلك .
فجأة وقع نظره على ابنة عمته الطالبة سوزان وبخطوات سريعة تلقائية تقدم وحيد للقائها بشوق وقد ارتسمت بسمات على شفاه سوزان اضفت لمسة من الجمال على جمالها وزاد من جمال ابتسامتها الطبيعية ، وبعد ان تبادلا التحية كانت الدهشة تعلو هامات كل منهما دهشة وحيد تكمن ان زمنا طويلا قد مر دون ان يلتقيا ودهشة سوزان تتجسد فى صدفة لقائها به وهو يحمل اللوحة وقد ادركت انها من رسم صديقتها وزميلتها شادية وان اللوحة لم تكن للبيع !!!
برهه من الصمت وكل منهما يتمعن فى الاخر .. التفت وحيد نحو صديقه ياسر وعرفه بقريبته سوزان وتبادلا التحية وهى الاخرى نادت على شادية ولكن لم تسمعها فقد كان هنالك ضجيجا واصوات الاخرين تعلو وصوت الموسيقى بالاذاعة الداخلية كل ذلك جعل صوتها ضعيفا لا يصل الى شادية ولكنها لم تيأس الى ان أوصلت صوتها بعد مشقة واقبلت عليها وقبل ان تصل اليهم سألها وحيد ؟؟
- هل هى صديقتك ؟
- انها صديقتى وزميلتى فى الفصل ونسكن فى غرفة واحدة .
وشعر وحيد براحة وطيف من السعادة يغمره لمجرد انهما صديقتان ، وعندما وصلت اليهم حاولت ان تعرفهما ببعض فأوقفها ضاحكا ومشيرا بيده "حصل شرف المعرفة مسبقا " وضحكوا جميعا ثم وجه وحيد دعوة للجميع لتناول مشروبات باردة من الكافتريا وكل تناول زجاجة بيبسى مثلجة فلقد كان الطقس حارا والغبار علا الجو بسبب الازدحام الكثير وجلسوا على مقاعد حصلوا عليها بصعوبة وبعد ان كانت متناثرة فى حديقة المدرسة جلسوا يستنشقون هواءا نقيا مبتعدين عن ذلك الغبار الكثيف .. لحظات كانت سعيدة تبادلوا فيها اطراف الحديث وذكريات الطفولة .. منذ زمن طويل لم يتذوق وحيد طعم هذا الاحساس لحظات السعادة تبدو له لحظات قصيرة دائما بقدر ما هى خالدة فى نفسه كل ما تعمق وازداد عمقا فى هذة الحياة وجد نفسه على حافة الشقاء .. ذات الاحساس التى كانت تحس به شادية هنالك حوارات متشابكة تدور فى الاعماق دون ان يعلم بها الآخرين ونبدو للعيان اننا اقوياء سعداء متشبثين بلحظات السعادة لا يعلم الاخرون شئيا عن سبر اغوار الاعماق .
تمنى وحيد فى نفسه ان تمتد هذة الجلسة لاطول مدة .. وسادت لحظة صمت طويلة وبعد برهة انقشع ذلك الصمت بأن قال وحيد موجها حديثه الى سوزان فترة طويلة جدا مرت وانت لم تزورينا مش كدة ؟؟
- والله صدقنى امتحانات السنة النهائية على الابواب اضافة الى ذلك نظم الداخلية لا تسمح لينا بالخروج الا فى الاجازات فقط !!
- تعالى فى عطلة الجمعة القادمة
- تأكد سوف اسجل ليكم زيارة قريبا .
واقترح عليها ان تترك السكن بالداخلية وتقطن معهم فى المنزل لان كل سبل و مقومات الراحة متوفرة من دون مقارنة بنظم الداخلية حيث تناول الطعام بمواعيد محددة .. اطفاء الاضاءة للصالات والممرات بمواعيد محددة الخ ..
ونظرت هى الى اعلى محدقة بشجرة النيم الضخمة التى يجلسون تحتها ثم نظرت تجاه وحيد فوجدته محدقا بها وينتظر منها اجابة تحمل فى معانيها املا ولكن ردت قائلة :
" وجود المذاكرة الجماعية والمنتظمة افضل بالنسبة لى هنا فى الداخلية اضافة الى ذلك بعد المدرسة عن امتداد بري
ونظرت تجاه شادية وقالت مواصلة حديثها ومن الصعب ترك شادية لوحدها فى الداخلية .
وهنا تدخلت شادية فى الحديث قائلة لوحيد :
- معقول ساكن امتداد برى ؟؟
- ايوه و فى مواجهة معرض الخرطوم الدولى مباشرة "
- غريبة انا برضو ساكنة فى نفس المنطقة .. صدفة غريبة !!
فجأة صوت مكرفون الاذاعة الداخلية للمدرسة قطع عليهم الحديث فقد اعلنت المذيعة عن بدء العرض المسرحى والغنائى وعلى السادة الزوار ان يتجهوا الى دار المسرح لاخذ اماكنهم على مقاعد المسرح .. وازدادت الضوضاء واستاذنت كل من سوزان وشادية ووحيد يتابع بنظره خطواتهما وقد لفت نظره تطاير خصلات شعر سوزان فى الهواء حتى اختفيا وسط الازدحام .
الجميع ماعدا القليل جدا جلسوا على مقاعد المسرح ذات اللون الاخضر وجلس وحيد وياسر فى المقدمة ولم تمض دقائق الا وقد ازيحت ستارة المسرح وظهرت لوحة خلفية كبيرة لمنظر طبيعى ديكورا للمسرح وسوزان تقف خلف الميكرفون تلقى كلمة المدرسة نيابة عن زميلاتها الطالبات وتلت كلمة طويلة تحدثت فيها عن مناسبة عيد العلم وما تحقق من انجازات وتخلل تلك الكلمة عرض برامج الحفل وما ان ذكرت فقرة الغناء التى يقدمها الفنان عثمان حسين حتى دوت كل القاعة بالتصفيق الحار ولفترة طويلة جاهدت عبثا سوزان لاخضاع الصمت والهدوء وانهت كلمتها ونزلت مسرعة ومرة اخرى صفق لها الحاضرون اعجابا بكلمتها التى تلتها عليهم وامتد تصفيق وحيد حتى بعد انتهاء تصفيق الحاضرين ... لقد جذبته شخصيتها ولا يدرى كيف وجد نفسه مدفوعا ان يصفق لها بشدة وغمره احساسا اشبه ما يكون بالنشوة التى تسرى فى الجسد !!
شعر ياسر الذي كان يجلس بالقرب منه بأن هنالك شيئا ما يثير كوامن صديقه لم يكن كعادته فذلك الشىء خلق بواعث السعادة فى قلبه ... ترى هل تكون لحظات عابرة ؟؟
لكنه منذ فترة طويلة يبحث عن ذلك الشىء ظل يبحث عن بداية لطريق يؤدى الى السعادة .. يتلمس فى ظلمة لعله يجد وميضا من ضوء الاحساس بالرفقة والمشاركة .
بعد قليل وصلت سوزان وهى ممسكة بيد شادية وجلستا بالقرب من وحيد وياسر وبدا الحفل الغنائى بأطلالة الفنان الكبير عثمان حسين على الجمهور وتعالت صيحات الاعجاب وازداد التصفيق بشدة ودوت اصوات صفير الشباب الذين يجلسون فى الصفوف الخلفية وانتظمت الصفقات وصارت كأنها صفقة واحدة !!!كأن جدران المسرح تهتز الكل قد وقف والفنان عثمان حسين يلوح لهم بيده ويده الاخرى ممسكة بالعود ومن خلفه الاوركسترا الموسيقية فرقته المعهودة وقف شامخا وهو يرتدى بدلة بيضاء اللون وربطة عنق جميلة انيقة دالة على انه فنان ايضا يحسن الاختيار فى التأنق والاناقة كمثل اختياره للالحان والكلمات.
وبدأت الاوركسترا تعزف فى لحن اغنية " بعد الصبر " وعم الحضور الصمت وغنى الفنان عثمان حسين من اعماقه كان رائعا ومبدعا كعادته وامتع الجمهور غاية المتعة ... ودغدغ مشاعرهم واطرب اعماقهم المتعطشة وغنى اغنية "ان تريدى ياليالى تسعدينا ".. غنى " اوراق الخريف "...وغنى ريدتنا ومحبتنا .. واللقاء الاول ...ناس لالا .. يحاول وحيد ان يختلس نظرات نحو سوزان قوة ما تدفعه لذلك وينجح واحيانا يغمره الحرج يخشى ان تلتقى نظراتهما ويضبط متلبساً ، وقد وقع ما كان يخشاه فقد التقت نظراتهما ، لاحظت سوزان نظرات وحيد المتكررة الحائرة تجاها.
وجاءت اغنية الختام اغنية " وين درب السعادة " والبنات يرددن معه بتبادل رائع وامتد فاصل الفنان عثمان حسين حتى الساعة الواحدة صباحا ونزل من المسرح ومرة اخرى دوت اصوات الصفير وصياح المعجبين ينادونه بالعودة لاداء فاصل اخر ولكنه ذهب واحس بان عودته قد تفسد بقية البرامج المعد فهو لا يريد ان يتعّدى على زمن البرامج الاخرى وان يأخذالبرامج فرصته فى التتابع ومرة اخرى اطلت سوزان من المسرح وقامت بتقديم فرقة المدرسة للتمثيل لاداء المسرحية والمسماه " قوة الارادة " ودلفت من المسرح واخذت مكانها ، احست بالارهاق ولكنها لم تبال لذلك بالرغم من زيادة خفقات قلبها وضرباته بشدة ، وامتد الحفل حتى الساعات الاولى من الصباح ...
وحيد وياسر يتبادلان الحديث مع سوزان وشادية فى شتى المواضيع عن الدراسة والامتحنات وتارة عن روائع عثمان حسين كل ذلك وسوزان تحاول ان تخفى الامها المتزايدة .
وقبل نهاية الحفل بعدة دقائق شعرت سوزان بألم حاد يعتصرها لم تعد قادرة على احتماله فى صدرها جهة القلب وحاولت عبثا ان تتمالك ولكن الالم يزداد وتغيرت ملامح وةجهها واحتقن بالدماء وتشنجت عروقها وتصببت عرقا لم يسبق ان ساورها مثل ذلك الالم من قبل ... ونهضت مستأذنة دون ان تخبرهم بما تشعر به من آلام ولكن شادية لاحظت ان شيئا ما يضايق سوزان ، ونهضا سويا وودعا وحيد وسمح لهما بأن يذهبا الى غرفتهما بعد ان قالت له سوزان انها متعبة ومرهقة للغاية وداهمها صداع فجأة ، وتخطت الكراسى المتراصصة بصعوبة وخلفها شادية وفى اثناء الطريق لحجرات الداخلية سألتها شادية قائلة بشفقة واندفاع وكأنها انتظرت شهورا لتبتعد من مجمع الحفل :
- سوزان فى حاجة اكيد بتضايقك ؟؟
- عندى الم فى صدرى وخفقان شديد لقلبى ...
- مجرد ارهاق وماتشغلى نفسك بأوهام ياسوزان مجرد ارهاق للمجهود الذي بذلتيه الليلة فى احتفالات عيد العلم .
- ده واقع والم انا شاعرة بيه وربنا يستر .
- استريحى الان على السرير وتصبحى ذى الفرسة .
كان الحفل قد انتهى وخرج وحيد وصديقه ياسر وركبا السيارة التى يقودها ياسر فهو ملازم فى الشرطة وحدة الامن الداخلى للعاصمة . وصل وحيد لمنزله وعلى الفور استلقى على سريره ودون ان يبدل ملابسه فقط اكتفى بأن نزع حذائه وحاول ان يستسلم ويسلم جفونه للنوم لكنه لم يعد قادرا على ذلك و شريط الحفل المدرسي يمر على خياله ... وجد تفكيره وخياله محصورين فى شخصية سوزان وفى الطيبة والعفوية التى هي من سماتها انها صادقة فى كل شىء فى عيونها... فى خدودها فى شعرها في لباقة حديثها ، أصبحت صورة سوزان تفرض نفسها على تفكيره وتحتل مكانا بارزا فى صدارة شريط الحفل الذي يعيد فيه وهو لا يستطيع طرد تلك الصورة ولان ذلك الاحساس الذي احس به نحوها قد يكون ذلك شعور هو اقوى من كل شىء سال نفسه ولأول مرة هل هل يكون ذلك ما يسمونه الحب "هل هو خيالي أم ماذا ؟؟؟ انه لا يريد ان يكون خياليا اكثر مما يبدو له انه خائف من الليالى ان تصدمه انه وحيد وجد وحيد نفسه فى متاهة" لا يعرف لها بداية او نهاية وكيف وجد نفسه منجذبا اليها بتلك السرعة ولاول مرة يشعر فى حياته بأنه محتاج لانسانه تفهمه تقاسمه همومه سعادته ... شقائه.. تحسه بالحياة بصخبها بضجيجها وبهدوئها ... نعم انه بحاجة الى ذلك ولكن خوفه من الاقدار يجعله متحفظا اكثر واكثر لايعرف مسير الاقدار بالنسبة له ولكن لماذا الخوف ؟؟ لماذا التشاؤم ؟ فهو لم يبدأ بعد ولم يسلك الطريق بعد !!!
بدأ وهج الصباح فى الزحف وبدأت المعركة اليومية بين هدوء الليل وضجيج الصباح ووحيد يحاول ان ينشل نفسه من ذلك التفكير فعواطفه تجبره على التفكير بها الى هذة الدرجة اغرم بها ، واخيرا استسلم للنوم وبعد تفكير مضني غالب نعاسه ...
استيقظ وحيد من نومه متأخرا" جدا" حتى عم موسى بائع الحليب الذي تعود ان يستيقظ على دقات عصاته لم توقظه ابدا
ونهض من السرير ونظر الى ساعته فوجدتها تشير الى التاسعة صباحا ودخل الى الحمام وبعدها احس بموجة من النشاط تسري في جسده وجلس في الصالة وامسك بالكتاب الذي بدأه من قبل وحاول اكمال قصته ولكن لم تكن القصة تشده لان افكاره متناثره صورة سوزان في ركن وعلى الركن الاخر صورة مشاكل بيته والصورتان تتنازعان في احتلال الجزء الاكبر من تفكيره لقد زاد على نفسه هماً وتفكيراً جديدا، ووضع الكتاب جانبا وخرج الى فناء المنزل حيث الحديقة وما لبث ان رجع مرة اخرى وحمل نفس ذلك الكتاب وحمل معه كرسيي وجلس تحت شجرة الجوافه وتظاهر بقراءة الكتاب ولكنه كان في وادي اخر.
لا شيء سوى سقوط الاوراق الجافة الصفراء من شجرة الجوافة على الارض إنها اصوات منتظمة كانها تتساقط بنظام مرسوم لها يديره احد الاداريين أشبه بسقوط قطرات المطر على الارض والشمس ترسل اشعتها الدافئة وهى تتسلل عبر اوراق شجرة الجوافة .
فى اثناء ذلك سمع صوت خطوات تقترب منه يبدو ان صاحبها استحال عليه السير ، واقترب منه والده بخطوات بطيئة ووقف يتأمله كأنه لم يشاهدة من قبل وبقى وحيد ساكناً فى مكانه لا حراك مسموع منه غير انفاسه وهو لا يملك الجرأة التى تجعله يتناقش معه بخصوص احداث البيت ادراكا منه انها مسؤولية والده وحده فليتحمل النتيجة بالرغم من أنّ اثار النتيجة تنعكس عليهم .
سال احمد ابنه قائلا له ؟؟
- كنت وين ليلة البارحة ؟
- كنت فى احتفالات عيد العلم
- محتاج ليك تساعدنى فى تكثيف الدعاية لانى عاوز ارشح نفسى لعضوية مجلس الشعب !!
- لكن يابوى الموضوع ده عايز مجهود كبير جدا من ناحية الدعاية.
- عندى معارف عليهم تأمين قاعدة شعبية فى امتداد برى والمناطق المجاورة مثل امتداد ناصر ومدينة الرياض والجريف .
- والناحية المالية برضو؟؟
- ان شاء الله سوف تتدبر وانا واثق بأنى سأفوز فى الانتخابات والباقى على الانتخابات شهرين .
وواصل مسيره دون ان ينتظر منه كلاما آخر أو أى تعقيب وقال وحيد داخل نفسه " يريد ان يصلح المجتمع ويساعد على بنائه وهو غيرقادر على اصلاح بيته " ولم يكترث كثيرا لما اخبره والده بخصوص الانتخابات لكنه كان يحس برغبة فى كسر جدار الصمت هل يصمت ام ينفجر ويفجر كل شىء ظل مكبوتا داخل نفسه لا .. لا .. لم يحن الوقت بعد قالها وهو يحدث نفسه وعيونه تلاحق طائراًجميلاً يقفز من فرع لفرع فوق شجرة الجوافة .
بعد ان دلف احمد الى داخل الصالة وجد زوجته بدرية واضعة يدها على خدها كأن هنالك شيئاً هاماً سيطر على عقلها وهى جالسة على الكرسى ، وجلس هو الاخر على الكرسى الموجود فى الطرف الآخر تحت النافذة مباشرة والذي تعود ان يجلس دائماً به .. جلس بدون كلمة .. وأمسك بصحيفة الأيام فى يديه وأخذ يتصفحها وعيون بدرية محدقة به تراقب حركاته العصبية التى تصدر منه من آن لآخر وأحياناً تسترق النظر خلسة فتتجه بنظرها من خلال النافذة لتشاهد وحيداً جالساً فى الحديقة هو الاخر غارقا فى افكاره .
اشعل احمد ( سيجاره ) وبدأ ينفث الدخان بصورة متلاحقة وأحدث بذلك موجة من الدخان فى أشكال ملتوية كأنها لوحة تشكيلية من رسم بيكاسو.
وأخيراَ نهض أحمد من كرسيه بعد أن قذف بالصحيفة جانبا وقال لبدرية من دون ان ينظر اليها ...
- انا عندى اجتماع وسوف اتأخر حتى منتصف الليل .
- يوم الجمعة ايضا عندكم اجتماعات !! كالعادة اجتماعات الى منتصف الليل
- نعم !! عايزة تمليني برامجي واجتماعاتي .
- حرام عليك .. الى متى لا تطيق البيت .
نظر اليها بنظرة تكاد تخترقها وبصوت عال اشبه بالصراخ قائلا"
انا حر ما عايز محضر تحقيق فاهمة والا لا ؟ !! .
وعلت هامتها اسئلة كثيرة ولكن أين تجد الاجابة ؟ حياتها أصبحت جحيما لا يطاق اليوم يطول والعذاب يزداد والايام تزداد مضياً كأن كل شىء مخطط له وفق نظام معين ، وجمعت شجاعتها وقالت له والغصة تطعن فى حلقها وخرجت كلماتها تحمل فى معناها كل الاسى والترجى وعيناها تترقرق بالدموع :
- يااحمد انا لا زلت احلم وانتظر اليوم الذي ارى فيه ضحكاتك تملأ هذا البيت انتظر كلمة طيبة تصدر منك ساعة زمان من وقتك او رحلة عائلية على شاطىء نهرالنيل ؟؟
- نعم .. نعم .. رحلة عائلية قالت !! انت فاكرة نفسك ايه شابة .. عاشقة ..اذا عندك وقت فراغ انا ماعندى وقت لاحلامك وخيالاتك ورومانسياتك دى ..
أضحى كل شىء اليوم اقرب الى الخيال بل هو الخيال نفسه لم يعد احمد يهتم بها ، وخرج دون أن يرد بكلمة اخرى بعد ان تجهم وجهه واغلق الباب بعنف اهتزت له اركان الصالة كما اهتز له قلب بدرية هلعا ، وامسكت بطرف ثوبها ومسحت به دموعها لقد اصبح الصراخ والبكاء والدموع لاتجدى شيئاً فأحمد لا تثيره دموع زوجته و لايملك احساساً يجعله يستمع لزوجته بعطف وحنية وشفقة لدموعها ولأنه يدرك مسبقا انه لا يجدى له شيئاً .
ورجعت بها الذاكرة الى الماضى .. ذكريات الماضى الجميل لقد وجدت فيه مرتعا خصبا تدفن نفسها فيه من نيران الحاضر وتخاف من لسعات لهيب نار المستقبل ، هكذا يبدو لها لكن لم تعد احداث الماضى واقعية لقد اضحت هى ايضا خيال مجرد خيال لا يفيد بشىء سوى ان ترتاح على محطاته نفسيا ، فرفعت طرف ثوبها المبتل بالدموع عن وجهها فأطل الواقع وتجسد امامها كوحش هائل مخيف كشر عن انيابه انه واقع مرير تتمنى ان تذروه الرياح واى رياح انها رياح التغيير رياح الامانى المجسدة التى تهب بدون مقدمات وتقتحم الابواب الحزينة انها تحلم بذلك وتحلم بعودة السعادة الى أوكارها والى مجراها الطبيعي تتفاءل وفى ذات اللحظة إحساس في أعماقها يدفعها إلى التشاؤم أكثر فأكثر ..
تصرفات زوجها احمد تتزايد يوما بعد يوما وتتزايد على النقيض ولم تعد قادرة على غمض جفونها.. حتى لا تنتابها صراعات نفسية فى داخل اعماقها وتلجأ لذكريات الماضي للاسترخاء .. لايجاد حلول يمكن ان تأخذ الصبر حلا لها ، لقد صبرت بما فيه الكفاية بل صبرت حتى عجز الصبر عن صبرها ..ولكن الاهمال اقسى عذابات الحياة الزوجية ... هل تفكر فى الطلاق قالتها ولكن غير مصدقة ان تصل لهذة الدرجة لدرجة الطلاق فالطلاق يعنى مأساة لكنه أحياناً طوق نجاة و امل بالنسبة لها هنالك اطفالاٌ عصفت بهم رياح الطلاق وأوقعت بهم فى أودية الضياع وأوقعت بهم فى حفرة التخبط ينشأون ونفسياتهم ممزقة مما يؤثر على سلوكياتهم وعلى مستقبلهم وعلى حياتهم ولكنها لا تملك أطفالا صغارا ووحيد شاب يافعٌ بل أضحى رجلا يشق طريقه في الحياة .
ان مآسي الطلاق تتعدد وتتعدد والى ما لا نهاية ان كل عام يأتى تجد فيه حالات الطلاق تزداد فى العالم ، شىء يدعو للحيرة وكل ما ازداد العالم تمدنا وحضارة وتطورا ... غريبة !!!
انتصف الليل وأحمد لم يحضر بعد ، وازداد قلق بدرية عليه انها مع كل ذلك تكن له كل مودة وحب دفين ... تقلق عليه .. تخاف عليه وفاءاً وصبراً لكنها احياناً تعكس له من تصرفات عكس ما تكن له فى اعماقها ، لا تدرى لماذا قد تريده ان يشعر بها انها زوجته ومن حقها ان تعرف اين يذهب ليتأخر الى تلك الساعة كل يوم ليس قيوداً لحرياته بل قلقاً عليه .
بعد قليل سمعت صوت سيارة تقف بالقرب من باب السور الخارجى نظرت الى ساعتها فوجدتها تشير الى الواحدة صباحاً ولحظات وسمعت صوت اقدامه تقترب رويداً رويداً وهى مستلقية على السرير تنتظر لحظة دخوله الغرفة .
امسك احمد بقبضة الباب وادارها بصورة مزعجة لم يراع فيها لشعور زوجته التى تبدو نائمة وليست هى بنائمة ، ووجد مصابيح الانارة مضاءة واتجه بنظراته الى زوجته فوجدها مستيقظة تنظر اليه بوجوم ، لم تبادر بسؤاله بل اكتفت ان قلبت جسدها على الجانب الاخر المواجه لجدران الغرفة والملاصق للسرير ، لم يبال بنظراتها ولم يعرها اهتماماً فهو حر فى تصرفاته لا شىء يقيده حتى ولو نام خارج المنزل دون علم احد من افراد البيت فهو رب الاسرة .
فى اليوم التالى اتصل احمد على بصاحب المطبعة ليرسل له البروفة النهائية للملصقات الدعائية والمنشورات لحملته الدعائية التى سيدعم بها ترشيحه لمقعد مجلس الشعب وبالمنشورات كتب الكثير من الوعود التى سوف ينجزها ويطالب بأنجازها من قبل الحكومة وكان اهمها بناء مشفىًَ كبيراً فى امتداد برى فالمشفى الموجود حاليا مشفى للشرطة وليس لعامة الناس المدنيين كما وعد ببناء ثلاث مدارس ثانوية عليا احداهن للبنات وتحسين وزيادة خدمات المواصلات العامة للمنطقة وتقليل زمن التقاطر وبناء مجمع للخضروات والفاكهة واللحوم وتحسين البئية والمستوى المعيشى للمواطن بالمنطقة ...
وتم ضخ وتوزيع الآف المنشورات بالمنطقة واصبح حديث الناس عن انتخابات مجلس الشعب وعن المرشحين وحديثهم لا يخلو عن احمد على صاحب الرمز الشجرة ووعوده بمطالبة الحكومة انجاز تلك الوعود التى وعدهم بها فى حالة فوزه وكان منافسوه هم الاخرين قد وعدوا بوعود مختلفة واخرى متشابهه وعددوا محاسنهم للناس واعمالهم التى انجزوها سابقا فى سبيل الوصول الى مقعد مجلس الشعب .
وكان من البديهى والطبيعى أن تنقسم فئة الناس الى مؤيد وغير مؤيد مجموعة تميل لمرشح وتلك الى مرشح آخر ، وامتلأت الجدران الخارجية للمنازل بالكتابات بمختلف ألوان الصبغ وبملصقات المرشحين انتخبوا مرشحكم احمد على رمز الشجرة رجل الثورة .. الرجل الصالح .. انتخبوا صلاح ابراهيم رمز الفانوس عن الدائرة 18 الرجل الكفء الذي قدم الى وطنه كذا وكذا انتخبوا سيد الحاج رمز القطية رجل الخير والبطولات الوطنية .. هكذا انتشرت الكلمات التى تمتدحهم وتعدد مآثرهم على سور المنازل مشوه مناظر السور الخارجى لكل منزل لكل مربع لكل حي.
وبدأت عمليات التخطيط لشراء الاصوات الانتخابية سراً وعلانية واحمد على ذهب بنفسه وتقابل مع مدير فريق كرة القدم للمنطقة( فريق النجوم ) ووعدهم بتسوير وانارة الملعب الرياضى وتخصيص مركبة لتنقلات اللاعبين ومنحهم اطقم (فنائل ) ومجموعة كبيرة من الكرات والاحذية الرياضية على ان يحصل على اصوات اعضاء الفريق وجميع مشجعى الفريق وهنا تكمن الاهمية فالمشجعين هم الاكثرية ويحسبوا بالآلاف ...
وتكثفت الدعايات بصورة اكثر وانتشرت السيارات تجوب المناطق بأصوات الميكرفونات وباللوحات القماشية البيضاء للدعاية لمرشحيهم ، واحست الحكومة بتلك الضوضاء الكثيفة بعد ان اشتكى الكثير من الناس من جراء طرق الدعايات المزعجة فاصدر رئيس الجمهورية قراراً يدعو فيه لتنظيم عمليات الدعاية للمرشحين .
ارهقت الانتخابات والدعاية وحيداً وبعد أن أبدل ملابسه بعد حمام بارد خرج فى المساء إلى السوق وبدأ يتمشى فى شارع الجمهورية .. وحركة السيارات واصوات آلات التنبيه للسيارات تسبب صداعا وتجعل المرء يتخلى عن الترويح عن النفس فى ذلك الشارع .. وظهرت ملصقات المرشحين على اعمدة الفرندات وحتى واجهات المحلات لم تنجو وكأنها اعادت اليه ارهاق الانتخابات وبمجرد ان راها اشاح بوجه عنها مجبرا وواصل تجواله دون هدف يذكر كأنه يبحث عن شىء وهو لا يعرف مكانه يلتفت يميناً وشمالاً يدخل محلاً للملبوسات الجاهزة فيجد الكل مشغول بعمليات الشراء الكل يتفحص فى قطعة ما بدأ له ان هؤلا الناس الذين امامه الان يعيشون بدون مشاكل سعداء بل فى غاية السعادة تصور انهم يلبسون ويأكلون ويشربون فقط لا هم لهم هكذا دنياهم !!!
صراخ طفل يمزق صمت المحل يتعلق بلعبة كبيرة وترفض الام الانصياع لرغبة طفلها وتتردد أخيرا تسأل الام صاحب المحل عن سعر اللعبة فيقول لها ( عشرة جنيه ) لم تتفوه فقط حملت الطفل ودلفت خارجة من المحل مرة اخرى خيم الصمت .. ويسمع همس من احد الفتيات لزميلتها " فستان الفرح بثلاثمائة جنيه رخيص مقارنة بالمحل السابق .. فرصة نشتريه " ولم تتردد لحظة وتفتح شنطة يدها لتخرج المبلغ وتدفع ثمن الفستان بدون اى مجادلة او محاولة لتنزيل سعره الاصلى !!
طفل يبكى ويصرخ بهستريا وامه تعجز ان تشترى له اللعبة بجنيه واحد وتؤثر ان تنفق المبلغ على شىء اخر اكثر جدوى فى نظرها .. خبز او رداء يقى من البرد هكذا كان وحيد يتكلم ويحاور نفسه يتجول ويعاين فى البضاعة المعروضة به .. شعر بملل يتسرب الى دواخله خرج وهو لا زال سائرا بدون هدف وحاول ان يعبر الشارع الى الجانب الاخر ولكن لزحمة السيارات فى الشارع لم يستطع العبور بالسهولة المعهودة فى الشوارع الاخرى فشارع الجمهورية يختلف كثيراً عن الشوارع الاخرى فى العاصمة من حيث الازدحام .. ابتعد عدة خطوات الى الوراء من مكانه حيث ضايقته احدى السيارات وكادت ان تلامس اقدامه ووقف عدة دقائق يتلفت يميناً وشمالاً حتى سنحت له الفرصة ، واغتنمها وعبر الشارع مهرولاً وبمجرد ان تأكد انه عبر بسلام الى الجانب الاخر من شارع الجمهورية جال بنظراته واذا بنظره يقع فجأة على سوزان ، هكذا شاءت له الصدفة ان يلتقى بها وهى لم تكن بعد قد لمحته واسرع الخطى نحوها وهى تسير امامه وبحركة خفيفة اراد بها تهويلها واخافتها خطف حقيبة اليد التى كانت تحملها .. وسرت رعشة خوف فى جسدها ارادت ان تردفها بصرخة عالية لكنها تلاشت حالما وقع نظرها على وحيد تبادلا التحايا الحارة وكانت نظراته تحمل معنى اكبر من كلماته التى تتسابق على بعضها البعض كأنه غير مصدق انه التقى سوزان انه يقف امام سوزان التى شغله خيالها ايام عديدة بعد ان قابلها فى الحفل المدرسى وتراءي له بأنه يمتلك سعادة كل العالم فى هذة اللحظة بالذات وياله من قدر رائع جمعهما فى مثل تلك اللحظات ويكاد المرء ينسى فيهما الزمان والمكان لهذة الدرجة كان سعيداً بلقائها.
وعرف انها جاءت لشراء بعض الكتب الدراسية هنالك اشياء انتهت من شرائها وتبقى كتاب واحد فقط لم تشتريه بعد ، وسارا معا يتبادلان أطراف الحديث ومضت لحظات .. ثم دقائق ... ودقائق .. حتى افاقت سوزان للزمن وادركت انها لم تشتر بعد الكتاب ولكن اى كتاب ؟؟ خانتها الذاكرة فى هذة اللحظات واوقفت خطواتها وفتحت الكيس البلاستيكى الذي تحملة لتتبين من الكتب الموجودة بداخلة انها لم تشتر بعد كتاب الأدب الانجليزى !! ودلفا لاقرب مكتبة وقاما بشراء الكتاب وتوقفت خطواتها مرة اخرى لتودعه هذة المرة لكنه رفض وعزم كل العزم ان تتناول معه عصير برتقال فى كافتريا بكاديلى قرب شارع الجمهورية وبعد الحاح شديد وافقت بشرط أن لا تمكث أكثر من نصف ساعة خوفا من مشرفة الداخلية ، وتوجها معا الى الكافتريا وصعدا الى الطابق الاول وجلسا حول طاولة منزوية فى احدى اركانه وازاح وحيد الستار الملاصق للنافذة الزجاجية واطل مبنى وزارة الخارجية بطوابقه العالية واشجار (اللبخ) الضخمة الخضراء تحيط به .
وجاءعامل الكافتريا بعصير البرتقال ووضعه امامهما وكانت الشمس قد بدأت تميل نحو الغروب واللون البرتقالى للمغيب زيّن السماء وبدت الصالة برتقالية اللون انعكس ذلك من خلال زجاج النافذة كلون الثوب الذي ترتديه سوزان مما خلق تناسقا قويا فى الالوان وشاعرية اللقاء وامسكت سوزان بكوب البرتقال وارتشفت منه رشفة عميقة روت ظمأها ورفعت عيناها فى اتجاه بعد ان وضعت كوب البرتقال على الطاولة قائلة له :
- وحيد قبل أن أنسى تتذكر عندما تقابلنا فى الحفل المدرسى .. كنت تحمل لوحة فنية تمثل الزار ؟؟
- ايوه اتذكر جيد جداً اهدتنى اياها شادية
- لكن اللوحة كانت للعرض فقط وهى من رسم شادية نفسها و اللوحة دى ليها قصة طويلة انا فقط اعرفها
وقاطعها قائلا :
- واحدة من النساء الجالسات فى اللوحة بتحمل شبهاً كبيراً جداً لواحدة قابلتها منذ فترة وكانت شايلة ليها حقيبة ملابس .. وكانت تبكى والوقت متاخر جداً واضطريت ان اوقف ليها سيارة اجرة وطلبت من السواق توصيلها الى الديوم الشرقية وبتذكر وانا متأكد من وجود الشبه لذلك عايز اعرف القصة لربما وجدت خيطاً وخاصة بعد ان عرفت شادية تسكن فى امتداد برى معانا ..
- ده جزء من نفس القصة ، انها فعلاً والدة شادية بعد ان ذهبت لمناسبة زار وبمجرد ان رجعت طلقها خالد بعد ان اتهمها بأشياء هى بريئة منها كل البراءة باختصار شادية تعيش مأساة طلاق يا وحيد .
وبمجرد ان سمع وحيد تلك العبارة الاخيرة بدت عليه امارات التأثر واضحة جلية فى تقاسيم وجهه ، وتعجبت هى للشفافية التى يتمتع بها احساسه وواصلت تشرب فى عصير البرتقال وقد نظرت الى ساعتها ووجدتها تشير الى السادسة والنصف مساءاً ونهضت فورا مذعورة من مضى الوقت لتلحق بمواعيد الداخلية فعليها ان تكون هنالك قبل السابعة امتثالاً للقوانين الصارمة .
ولكنه امسك بيدها وجذبها للجلوس واحست هى بكفة يده وقد اقشعرت لتلك القبضة ، انه يريد ان يجلس معها اكبر وقت ممكن ، يريد ان يعرف المزيد عن اخبارها .. طموحها .. ويريد ان يعرف المزيد عن والد شادية الشكوك القاسى القلب ... لقد حاول ان يخفى مدى اهتمامه بهذة المأساة التى تعيشها شادية كأنه يخاف ان يحدث لوالدته كما حدث لوالدة شادية .
قالت له وقد سحبت يدها بهدوء من تحت " لكن مواعيد قفل ابواب الداخلية اقتربت وان شاء الله احضر فى إجازة نصف العام الدراسى على الاقل ازور ناس خالي احمد "
وتقبل كلامها على مضض ونزلا للشارع لايقاف سيارة اجرة وركبا معاً وعند باب الداخلية ودعها وواصل هو مسيره الى منزله .
دخلت سوزان فى مسكن الداخلية ووجدت شادية تصبغ فى شعرها بالصبغة السوداء ولأن شعرها قد تعود استعمال الصبغة الكيمائية مرتين فى الشهر على الاقل .
ورفعت شادية بوجهها الى اعلى ونظرت الى سوزان .. وعّدلت من جلستها بعد ان كانت جالسة على حافة السرير وهى لا زالت تفرك فى شعرها المنفوش وقالت لها :
- شايفك مبسوطة جدا مشيتى المكتبة والا مشيتى الجنة ؟؟
- ايوه انا كنت فى الجنة من قبل لحظات تصدقى او لا تصدقى قابلت وحيد
- وحيد مين يابنت الحلال ؟؟
- نسيتى وحيد ابن خالى ؟؟ كان فى احتفالات عيد العلم وانت اعطتيه اللوحة .!!!
- آه آه تذكرت تذكرت بالله هو كيف وصاحبه ياسر ؟؟
- قلت ليك ياطروش قابلت وحيد لوحده .
- وفرحانه كدة ليه ده كلو عشان قابلتى ابن خالك .. وفيها ايه كلنا بنقابل اولاد أاخوالنا وأعمامنا ام الحكاية فيها ... فيها .. حب ومقابلات..
وادركت سوزان ان شادية وضعتها فى مواجهة حقيقية مع حقيقة افكارها وجسدتها امامها وها هى تقول لها ان الحكاية فيها حب ..لا تدرى بماذا تسميه وهل هو شعور بالحب تجاه ما تشعر به نحو وحيد ام انه تقارب قوى ربط بينهما لا تعرف كنهه ؟؟ ونهضت محاولة ان تشغل نفسها وتضع حدا للتساؤلات فلم يحن بعد التفكير فى مثل هذة المسائل ، وأامسكت بكتاب وقذفت بآخر لشادية وقالت لها " اقرأى واتركى الكلام فى السياسة "!!
وعند الصباح استيقظت شادية بصعوبة .. لم يكن النعاس قد فارق عيونها بعد كأنها لم تعرف طعماً للنوم منذ شهور بدت بائسة الوجه شاحبة اللون ونادرا ما تكترس بجمالها وحينما تهتم بجمالها تبدو قمرا اكمل اربعة عشر يوماً هكذا اجبرتها ظروفها ونهضت متثاقلة وايقظت سوزان معها وعند بداية الحصة واليوم الدراسى .. جاءت المعلمة وهى تحمل كراسة التحضير وفى اليد الاخرى مؤشر .. كانت المعلمة بدينة تتنقل وسط الفصل ببطء وطالبات الفصل يطلقن عليها لقب العيار الثقيل لضخامتها وقسوتها معهن ، بدأت المعلمة فى تدريس مادة التاريخ وجميع الطالبات مشدوهات عدا شادية التى كانت سارحة شاردة بنظرها خارج فصل الدراسة لا تدرى فى اى صفحة او فى اى موضوع مرت لحظات وهى فى هذا السرحان والشرود والنظر عبر نافذة حجرة الدراسة
انتبهت لها المعلمة ولكنها عمدت أن لا تسألها وفضلت مراقبتها وتمادت شادية فى شرود افكارها وطفح الكيل .. وتضايقت المعلمة من ذلك وصاحت فيها قائلة :
شادية .. يابنت ياشادية ؟؟ وين ان شاء الله ؟؟؟
لم تدر شادية ما جرى حولها وهبت مذعورة كأن قطاَ هجم عليها فوق ظهرها وكل طالبات الفصل ضججن بالضحك وتعالت ضحكاتهن إلا سوزان اخذت تنظر اليهن بوجوم وعتاب وتجسدت كل معانى العتاب فى تلك النظرات وهى لا تكاد تصدق مايحدث ويجرى فى الفصل .
بعضهن لاحظن نظرات سوزان فوجمن صامتات فقالت المعلمة بلهجه سخرية موجهه حديثها لشادية :
- ايه حكاية السرحان ده ؟؟ عاشقة وغرقانة فى الحب خلاص !!!
- ياليت يا استاذة لو كانت قصة حب لكانت اهون واقل وطأة !!
- بعد نهاية الحصة تعالى عندى فى المكتب وألان اجلسي وانتبهي .
وواصلت المعلمة تدريس مادة الدرس وبين الاوانة والاخرى تسترق النظر وتنظر الى شادية لتتأكد ان كانت حاضرة بذهنها للدرس وشادية تضع يدها على جبهتها ومتكئية على الدرج لا تدرى المعلمة هل هى تعاين فى الكتاب ام تخفى شىء ما ؟؟.
وفجأة شق صوت بكاء صمت المكان وانفجرت شادية باكية ، عم صمت رهيب بعد ان كانت هنالك نمنمة من الاصوات والهمس وبعد ان كانت قبل قليل ضحكات تبدلت تلك الضحكات الى حيرة ارتسمت على وجه كل منهن .
ووضعت المعلمة (الطبشيرة) من يدها وتقدمت بخطى هادئة نحوها ووجدتها قد وضعت رأسها بين يديها على الطاولة ( الدرج ) وطلبت منها ان تنهض وتذهب لغسيل وجهها المبتل بالدموع .وقبل ان تخرج من باب الفصل نادتها مرة اخرى وقالت لها " خذى كتبك واذهبى واستريحى فى حجرتك بالداخلية " وبعد نهاية الحصة خرجت المعلمة بأتجاه المكتب وبسرعة لحقت بها سوزان وابلغتها ان شادية تمر هذة الايام بحالة وظرف صعب نظرا لطلاق والدتها قبل ايام ..
تأثرت المعلمة لسماع ذلك واتجهت الى حجرة شادية بالداخلية واطمئنت على شادية واعتذرت لها عن قسوتها معها فى الفصل وانها لم تكن تدرى شىء ..
بعد نهاية كل اسبوع دراسى تعودت شادية ان تنطلق مساء يوم الخميس الى البيت وتعود مساء الجمعة الى الداخلية ، وكانت قد استأذنت من مشرفة الداخلية على ان تبكر قليلا فى الخروج وتتأخر غدا" .. تمنت فى تلك اللحظة ان تغمض جفونها وتجد نفسها فى البيت منزوية على سرير شعرت بأنها مرهقة للغاية حتى افكارها مرهقة غير منتظمة يبدو على وجهها البؤس واخيرا وصلت الى البيت ولاحظت وجود كتابات بالجير الابيـض والصـبغ الاحمر على سور المنزل دعاية للمرشح احمد على الرمز الشجرة ثم التفتت تجاه المنازل الاخرى فوجدت ذات الكتابات لمرشحين اخرين وهزت برأسها وقالت داخل نفسها " ينادون بجمال المدينة وفى ذات الوقت يشوهونها !! اى وطنية هذة ؟؟.
وفى لحظة دخولها الباب رأت عادل وسلمى فى عراك مع بعضهما البعض وهما فى اشتباك بالأيدى يتشاجران حول مركب من ورق صنعته لهما عمتهما وتمزقت المركب بين أيديهما المتشابكة فصاحت فيهما .. سلمى... عادل وما ان رأت سلمى اختها شادية حتى ركضت تجاها ونست تماماً انها فى شجار مع اخيها عادل الذي يصغرها سناً ، واحتضنتها بروح مشبعة بالبراءة والحنان والخوف من الأيام والمجهول وجاء عادل ووقف ينتظر دوره وقد امسك بمركبه الممزق وضمتهما شادية معاً وهى جاثية على ركبتيها على الارض ولم تكن بعد تحركت من امام الباب الخارجى واقتادتهما وذهبت بهما الى داخل الغرفة وجلست تسألهما عن احوالهما وهما يجيبانها فى براءة ان عمتو فاطمة تضربهما كل يوم !!! بعد قليل دخلت غرفة عمتها ووجدتها مشغولة بتصفيف شعرها وزينة نفسها لا هم لها ولا شغل لها بما يدور فى البيت.
وأمدت يدها تحييها ولكن بادلتها بتحية جامدة .. جافة يقشعر لها المرء ولم تدر ما السبب في ذلك ، لقد طلب منها أخيها ان ترعى أبناءه الى حين بدء العطلة المدرسية ، ولكن اين هى الرعاية، ها هما يتشاجران امام الباب وهى مشغولة عنهما بتسريح شعرها منصرفة عنهما بشؤونها الخاصة ، هكذا كتب القدر حياة شادية ، انها تخاف المستقبل المجهول عليها ان تعوضهما حنان امهما . ولكن كيف ذلك ؟؟؟ ان الواقع الذي تكابده وتقاسيه لهو اكبر من ان تتحداه يخامرها إحساس بأنها تريد ان تصرخ من اعماقها .
تريد ان تنفجر كالبركان
تريد ان تثبت للعالم براءة امها ..
تريد ان تعَبر..
تريد وتريد !!!
ولكن من يسمع ومن يفهم ومن يتفهم ؟؟
شادية لم تعد قادرة ، أصبحت كالسجينة التى تتمنى الافراج عند كل لحظة ضجيج لصوت مفتاح الزنزانة ...
اصبحت كالعصفور المقصوص الاجنحة ..
كالغريق المتشبث بعود هش ضعيف..
كمن تريد ان تصرخ وتقول للمجتمع شيئا ما لكن الحياة قاسية عليها ، الظروف تحطم كل شىء حتى الامل احيانا يتحطم ، هكذا يبدو لها .
بعد ان انهت عمتها فاطمة تصفيف شعرها جاءتها ووجدتها جالسة على السرير فقالت لها بنبرات جافة :
- مالك شايلة هموم الدنيا فى وجهك !!
- يعنى انتِ عاجباك الحالة النكد دى !!
- دى عمايل امك وذنبها على جنبها .
- امى عملت ايه !! حتى انتم !! حرام عليكم كفاية .. كفاية كفاية ظلم ليها كفاية ..
- يابنت خلى عندك ادب فاهمة واللا لا يامقصوفة الرقبة داهية تغمك وتغم امك معاك ... وانتظرى حتى ابوك يحضر ..
نظرت لها شادية نظرات كلها أسى ، عجزت أن تعبر عنها بلسانها ونهضت ودخلت إلى غرفتها وأقفلتها بالمفتاح ..
البيت الذي تمنت ان تغمض عيونها لتجد نفسها فيه وترتاح قليلا وجدته جحيماً لايطاق ، عمتها ذات الكتفين العريضين ذات اللسان السليط هى الأخرى تشن حملة على امها ... ألم يكفيهم والدها والمجتمع ؟؟ وأمسكت بالكتاب لعل وعسى تستطيع ان تقرأ ولكنها لم تعد قادرة على متابعة الصفحة والدرس الذي بها ، ونهضت من سريرها بعد ان ازداد قلقها واصيبت بتوتر بليغ .
نادت على اشقاءها وذهبت بهما الى الحمام وبعد ذلك أبدلت ملابسهما بملابس نظيفة جميلة انيقة ، احس عادل بسعادة بدت واضحة فى ملامح وجهه وتلك اثارت انتباه شادية ومسحت بيدها على شعره الناعم فى حنان دافىء وضمته وزرفت عيناها بالدموع .
خرج الطفلان يلهوان خارج المنزل مع اطفال الجيران سعيدان لأنهما لا يدريان بما يحيط بهما من ازمات لا يدريان أين أمهما ؟؟ كل ما يعلمانه انها ذهبت الى السوق لتعود لهما بملابس العيد الجديدة والحلوى والألعاب ..
جلست شادية وقد احست بنوع من الارتياح وهدوء نفسى هى فى امس الحاجة اليه وأمسكت بكتابها مرة أخرى محاولة ان تقرأ..
ومرت لحظات لم تكن طويلة
لحظات لم تكن طويلة سمعت بعدها صوت عادل يصرخ ولكنها تجاهلت ذلك الصوت عمدا لعله سرعان ما ان يلبث ويلوذ بالصمت ، الا ان صرخاته لم تتوقف بل ازدادت علواً ، وهنا انتفضت من رقدتها على السرير بعد ان قذفت بالكتاب جانبا واسرعت نحو الباب الخارجى للمنزل حيث مصدر الصوت وجدت عمتها قد سبقتها إلى هنالك واقفة امام الباب بجسمها المتين الا ان شادية وقفت خلفها محاولة مرارا ان تتخطاها وعندما فشلت لجأت الى ان تتخطاها بنظرها لتعرف ماذا حدث لأخيها ...
وبمجرد وصول عادل والدموع قد سالت على خديه وتمزق جزء من لبسته التى تباهى بها امام شقيقته ، امسكت به عمته وانهالت عليه ضربا مبرحا دون رحمة او هوادة ودون شفقة كأنه لا يمت لها بصلة قرابة ، وازداد صراخه من الألم ، وازداد تهديدها له واخيرا صمت خوفا ، وتبدل صراخه أنينا ، لقد كتم بداخلة الالم خوفا من أن تزيده عمته ضربا .
واندهشت شادية لذلك الموقف وتساءلت فى داخلها كيف تضربه كل ذلك الضرب دون ان تعرف سببا لصراخه ؟؟؟. وامسكت بأخيها تواريه عن عمتها ، واطلت برأسها من خلال الباب فوجدت ابن الجيران والذي هو فى عمر عادل هو الاخر قد تمزقت ملابسه وايقنت على الفور انهما تشاجرا مع بعضهما البعض وطلبت منهما ان لا يتشاجرا مرة اخرى ودلفت الى داخل غرفتها .
بدأت تفكر جديا فى ترك الدراسة لكى تتفرغ لتربية اخوتها لعل وعسى تعوضهما بعضاً مما افتقداه من حنان امهما فوالدهم يأتى دوما آخر الليل وكأنه لا يملك اسرة وِاطفالا .. ولكن هل تضيع اثنى عشر عاما هباءا وهى على ابواب امتحانات الشهادة الثانوية للجامعة !!! عمتها التى ظنت انها طوق نجاة لكل ذلك وجدتها عاصفة هوجاء مدمرة قاسية والاقسي من كل ذلك يظن والدها ان اخته تقوم برعاية الاطفال على اكمل وجه وتؤدى واجبها على نحو يرضى الجميع ..
واسدل الظلام سكونه وجاءت سلمى ممسكة بيد عادل فقد كفا عن اللعب فى ساحة الشارع وحانت مواعيد تناولهما العشاء لكن لم يجدا احدا عمتهما انتهزت فرصة وجود شادية فى البيت وذهبت الى منزلها دون علم شادية والتى كانت بدورها منطوية داخل غرفتها تحاول وتجبر نفسها على القراءة
مضت ساعات واطل خالد وفى يده كيس يصدر من داخلة صوت اصطدام زجاجات الخمر مع بعضها البعض..اطل مبكرا علي غير عادته ووجد سلمى وعادل نائمين بالقرب من بعضهما البعض وسلمى ممسكة بصحن فارغ نظيف يبدو انها حاولت ان تعمل العشاء لها ولاخيها ولكنها لم تفلح فى ذلك .
واحست شادية بقدوم والدها من الضوضاء والجلبة التى احدثها وفتحت الباب واطلت منه وهى لا زالت ممسكة بالكتاب والتفت اليها موجها حديثه بصوت عال وقد اشار بيده على اطفاله :
- عاجبك كده نائمين بدون عشاء ؟؟.
- انا كنت مفتكرة عمتى موجودة ودخلت الغرفة اقرأ .
- قر ينفخك ان شاء الله وعمتك راحت وين ؟؟.
- انا ما عارفاها وهى ما كلمتنى انها ماشة لاى مكان .
انسحبت بهدوء ورجعت الى داخل غرفتها واوت الى الفراش وتنهدت بعمق انها تؤمن بشىء واحد انها تؤمن بارادة الله كل شىء اراده الله بلغ ذاته ومع كل ذلك سألت نفسها فى صمت كيف يكون الغد القريب ؟؟ قد نكون على علم بما نود ان نفعله غدا لكن ربما القدر يبدل مجراه الجميع يدورون ويدرون ولكن ارادة الله هى المركز ومهما حدث فانهم لن يبتعدوا عن محيط هذة الدائرة دائرة الارادة .
وجمع خالد حاجياته مرة اخرى ودخل الى غرفته واغلقها بالمفتاح كمثل كل مرة وفتح زجاجة الخمر وبدا يتجرع الكؤوس محاولا نسيان ما يحيط به من كلام الاخرين حول علاقات زوجته المشبوهة وما صاحب ذلك من الطلاق الذي حدث .. كل من فى المنزل يحاول ان يغلق غرفته عليه كانه يغلق فى وجهها رياح الاقدار .
شادية طيلة عمرها لم تتصور ان هنالك لحظة تاتى وتجد نفسها سجينة اعماقها حياتها تسير عكس ما تتمنى والايام تجعل من قلبها عنصرا شديد الشفافية وكلما تزداد الايام كلما تكتشف شيئا جديدا اكتشفت اهمال عمتها لأخوتها اكتشفت المعاملة القاسية منها ، اكتشفت ادمان والدها للخمر اكتشفت المجتمع على حقيقته ، حقارته واى شائعات اثاروها عن امها !!!.
أغرب شىء أن تشعر بسعادة فى الحزن أكثر من مما تكون فى اللحظات السعيدة لانها تدرك أنها لن تطول وقد يكون طابع الحزن الذي لازمها كثيرا أثر على كيانها ..وغلبتها دموعها وانهمرت وسالت منحدرة على الوسادة وفاجأها صداع عنيف لم يسبق له مثيل لديها كأن آلة حادة انغرست فى رأسها .
وتقلبت يمينا وشمالا تتأوه ألماَ وهى تخنق صوتها وتكتمه ولكن الألم يزداد ولم تعد تتمسك بالصبر ولم تعد تتحمل فنهضت من سريرها ووجها شاحب مصفر كأنها صعقت بتيار كهربائى وبخطوات مترنحة استطاعت أن تصل الى مكان الأدوية وتناولت مجموعة من أقراص البندول تجاوز العدد الثلاث حبات وهى تعلم ان ذلك يتنافى تماما مع عدد الجرعات الصحيحة الا ان الالم الذي اكتنفها دعاها الى محاولة التخلص منه وعادت الى سريرها تتوق الى المعافاة .. مرت الدقائق والألم يتضاعف وصارت تصرخ وتارة تئن ألما ووضعت اطراف الملاءة بفمها حتى لا يسمعها الاخرين ولكن من يسمعها ؟؟ والدها غريق فى بحور الخمر .. لاتدرى أين ذهبت عمتها ؟؟ والطفلان نائمان !! لا أحد يقدم لها يد العون لا أحد يناولها كوب ماء ... واعتصرت آلامها واشتد بها السهر لساعات طويلة حتى ساعات الصباح الاولى حتى سماع صوت الآذان وبعدها نامت .
استيقظت على صوت سلمى انها تريد الحليب وانها جائعة ونظرت الى الساعة ووجدتها تشير الى التاسعة صباحا ونهضت من سريرها مرهقة متعبة وكشجرة هزيلة ضربتها عاصفة وتركتها بدون اوراق ، وتساءلت اى صداع هذا فلقد كانت فى السابق مجرد نوبات ألم خفيفة لمجرد انها لم تتناول الشاى او امراً ما شغل تفكيرها ولكن هذة المرة كغير سابقاتها غريبة وغريب هذا الالم .
الكل تناول وجبة الفطور وحاولت أن تعود مرة اخرى الى غرفتها لمتابعة المذاكرة ولكن تذكرت ان اليوم جمعة وعليها الذهاب الى داخلية المدرسة فى الخامسة مساءا لذا جمعت ملابسها وملابس اخوتها وجلست تغسل وبعد ان انهت الغسيل دخلت مرة اخرى الى المطبخ لاعداد وجبة الغداء وفى اثناء ذلك كانت الملابس قد جفت وجمعتها ولم تتناول قسطا من الراحة والا كانت قد انهت مكوآة جميع الملابس لا وقت للقراءة ولا وقت للمذاكرة او حتى للراحة .
اقتربت الساعة من الخامسة مساءا وحملت حقيبة ملابسها الصغيرة وودعت عمتها التى كانت قد وصلت قبل قليل فهى تعلم الوقت الذي تخرج فيه شادية الى داخلية المدرسة ، وتعمدت هذة المرة ان لا ترى اخوتها وان لا تودعهما خشية التعلق بها .
كانت تسير فى الشارع بخطوات مثقلة بهموم سنين وهى تناجى وتقول اماه اماه .. اين انتِ يا اماه ؟؟؟
لم تعد شادية تطيق البيت والذي كان ملاذا لها لقد كرهت المنزل ووجدت ان الداخلية اخف وطأة من البيت ان اى فرصة تسنح لها بترك المنزل تستغلها لا تستطيع ان تدع تلك الفرص تضيع منها ومابال ان تقضى اسبوعا بأكمله فى الداخلية ولكن دائما هنالك شىء يشدها بقوة تجد نفسها مجبورة وعليها ان تضحي بوجودها فى البيت من اجل سلمى وعادل لا من اجل شىء اخر .
حتى حنينها الى والدها قد اندثر وتحطم وتشتت ويمزقها شعور فى داخلها بالكراهية وهى ترفض تسميته شعور بالكراهية نحو والدها وترفض تقبل ذلك الاحساس انه صراع عنيف وهل يصل هذا الاحساس بها لمجرد انه ارتكب كارثة فى نظرها وبانه كان سببا فى تشتت الاسرة وبأنه يعاقر الخمر وبدأت فى غاية القناعة انه شعور بالجنون ... جنون حتى ولو قتل امها لما شعرت نحو اباها بالبغضاء .
وصلت شادية الى داخلية المدرسة ووضعت حاجياتها ولم تكد تجلس على السرير حتى تناهى الى مسامعها صيحات بعض البنات يلعبن فى ميدان كرة السلة الواقع خلف حجرات الداخلية واتجهت نحوهن فقد اشتاقت الى لحظات مرح وتسلية .
وما ان شاهدن شادية حتى صحن بصوت واحد ممزوج بالتصفيق والتهليل عايزين شادية عايزين شادية ... عايزين شادية ووجاءت سوزان تركض نحوها وامسكت بيدها وجذبتها الى داخل الملعب لكى تشاركهن المباراة فلقد كانت المبارة شديدة الحماس تمثل الحجرات الشمالية ضد الحجرات الجنوبية
- سوزان انا تعبانه أعفوني من هذة المباراة ؟؟
- لا وستين لا لن نتخلّ عنك .. انتظرنا جيتك من الصبح وبفارغ الصبر وانت املنا فى النصر .
- تعالى انتو فاكرين انا مين ؟؟ وليم اندريا !!
- شادية ما تكسفينا عليك الله شوفي البنات كلهن منتظرات دخولك الملعب وانت احسن واحدة فينا .
- النتيجة لصالح منو ؟؟
- لصالح الحجرات الجنوبية يعنى نحن حتى الآن مهزومين بعشر نقاط
- حاضر .. حاضر وأمري لله .
ركضت شادية نحو الغرفة وارتدت بنطلون الرياضة وشدت على صدرها قميصها حتى وثبت نهديها كبرتقالتين ولم تنس ان تربط أطرافه على خصرها ونزلت الميدان تحت تصفيق طالبات الحجرات الشمالية وتعالت الصيحات أسرعي يا ناهد .. مرري لسلوى . سجلى يا شادية فى السلة .. وهكذا أحرزت شادية عدة أهداف أبدلت الهزيمة الى نصر ساحق حتى عم وجوم كامل لطالبات الحجرات الجنوبية وساد جو من السعادة والمرح كل طالبات الحجرات الشمالية وزاد ذلك من حماسهن ونسيت شادية كل ما كان يدور من حوار حاد داخل أعماقها نسيت فى لحظة كل أحداث البيت واندمجت تجرى هنا وهنالك وسوزان هى الأخرى تلهث وقد أرهقت نفسها بشدة والعرق يتصبب منها وهى لا زالت متحمسة لمزيد من النصر ولمزيد من الهزيمة للفريق الاخر ومرت الدقائق والأهداف تتوالى لصالح الفريق الحجرات الشمالية فريق سوزان وشادية طالبات المدرسة يعرفن جيدا أن شادية أحرف لاعبة كرة سلة ليس على مستوى المدرسة وحسب بل على مستوى مدارس العاصمة الخرطوم لذلك يخشينها كثيرا فى الملعب ويحبونها كثيرا لمرونتها فى الحركة وتهديفها فى السلة .
امسكت سوزان بالكرة وهى فى غاية الإرهاق وحاولت ان تعدو تجاه سلة الفريق الخصم لكن فجأة تقع على الارض مغشيا عليها !!!
وصرخن اللاعبات وكلهن جرين تجاهها وكانت أولهن شادية وجثت على ركبتيها فى أرضية الميدان وامسكت برأس سوزان ورفعته برفق ثم وضعته على ركبتيها وبدأت تناديها سوزان ـ سوزان ، ففتحت عينيها ببطء شديد ولم يتبين لها شئ سوى إنها ترى اناس بالكاد تستطيع ان تتبين ملامحهم تبللت عرقا ولم تخلو مساحة من قميصها المحذق على خصرها والا وقد ابتل تماما .. تتنفس بصعوبة بالغة .
لقد انتابتها نوبة الم حادة لا تعلم كنهها وحملنها واتجهن بها الى غرفتها فى موكب حزين شىء يدعو للتساؤل والشفقة ولحظات حرجة تمر بهما معا وسوزان ملقاة على السرير وهى تئن الما وصدرها يعلو ويهبط والتفتت شادية نحو ناهد الجالسة على حافة الطرف الاخر من السرير وطلبت منها ان تذهب الى مشرفة الداخلية وتبلغها بحالة سوزان وبأنهما تريدان الذهاب الى المشفى .
ولكن سوزان رفضت ذلك رفضا باتا وان لا يذهبن الى مشرفة الداخلية فليس هنالك داع للذهاب الى المشفى ..
ومضت اكثر من ساعة وتسللت الطالبات الواحدة تلو الاخرى حتى اصبحت الغرفة خالية ماعدا سوزان وشادية كل شىء بالغرفة صامت ما عدا صفير نفسها وصدرها الذي يرتفع تارة ويهبط مسرعا تارة وبعض السعال المتقطع
عيون شادية تبدوان واسعتان وتحيطهما علامات الخوف على رفيقتها تراقبها وتراقب كل حركة بها .
الليل انتصف ولم يغمض جفن لسوزان تتقلب يميناً وشمالاً ترقد على احد جنبتيها ولا تمر دقائق بسيطة حتى تشعر بملل وقلق وتعود الى رقدتها الاولى لا تعرف شيئاً ولا سبباً لذلك غير ان هنالك آلام حقيقية فى صدرها و ان هنالك صرخة فى قلبها ، لكن اكل هذا يصل بها الى هذة الدرجة من القلق ؟؟؟ شردت بنظرها الى اعلى فلم تر شيئا يستحق التأمل كل ما هنالك سقف قديم من الزنكى وعليه بعض خيوط العنكبوت .. واتجهت بنظرها نحو سرير شادية فوجدتها راقدة بأتجاها وعينيها مفتوحتين تنظران اليها بشفقة بالغة وبصمت .
وقالت لها :
- معقول ياشادية صاحية حتى الان ؟
ورفعت رأسها وانقلبت بجسدها نحو بطنها ورفعت صدرها قليلا بعد ان وضعت تحته الوسادة وقالت لها :
- كيف اقدر انام وانتِ بالحالة دى ؟
- انا بخير والحمد لله
- بس لازم تمشى تعملى كشوفات لانو الحصل ليك ده شىء ما ساهل ولاول مرة ؟؟
- اطمئنى انا بخير نامى ياشادية وصباح الله بخير
وشعرت ان هنالك هدوءاً نسبيا وتحسن طرأ على حالتها وطلبت مكررة على شادية ان تنام مطمئنة لحالتها ولا شىء يثير القلق ، وحاولت كل واحدة ان تظهر للثانية بأنها نامت لكن عكس ما حدث فقد ظلتا مستيقظتين مدة طويلة حتى غلبهما النعاس ونامتا .
وتوالت الايام كأمواج البحر الهائج تطوى بعضها البعض وصحة سوزان تسؤ من يوم الى يوم ويبدو ظاهراً للعيان ومثيراً للشفقة والاهتمام لكل من يراها ، فقدت شهيتها للاكل ولم تعد قادرة على تناول وجبة مقدار الذي يأكله طفل فى الخامسة من عمره هزل قوامها وضعف خصرها وامست شاحبة اللون ومواصلة الحصص الدروسية بات يشكل لها عبئاً ثقيلا وكثر غيابها عن الحصص وكثيرا ما تظل نائمة فى غرفتها بالداخلية وتأتى شادية وتشرح لها ما فاتها من الدروس .
انها لا تسطيع ان تنام تتقلب يميناً وشمالاً حتى ساعات الصباح الاولى ، واذا نهضت وامسكت كتاباً تذاكر فيه احست بالاعياء يزحف نحوها كسيل جارف بمقدورنا ان نجلس ونفكر .. ونكره .. ونحب .. ونبكى .. ونصمت .. ونسافر .. ولكن ليس بمقدورنا ان نحيا العمر الذي نريده وان تشملنا العافية الابدية ويتخطانا المرض فهذه أقدار وخطوط لا نستطيع ان نتخطاها .هنالك اشياء كثيرة فى الحياة تحدث أمامنا تجبرنا أمام الأمر الواقع .. تجبرنا على الخضوع شئنا ام أبينا انه قدرنا .
وسوزان لا تعرف الى اين يسوقها الألم ؟ الى اين يسوقها المرض ؟ الى اين يسوقها قدرها ؟؟ انها تسأل السلامة فى كل شىء ،انها تكره المشفيات انها تكره ان ترى حتى الشوارع التى تؤدى الى المشفيات وما بال ان تذهب الى هنالك ، تخاف ان تذهب وتصدمها حقيقة ما !! تخاف ان تكتشف حقيقته ويظل هاجساً لها طوال عمرها وشادية تصر كل الاصرار عليها بالذهاب الى اى عيادة طبية متخصصة بالصدر والقلب وتحت إلحاح الأخريات ناهد وسلوى وايمان رضخت اخيرا لهن .
وجاءت عطلة منتصف العام الدراسي وحملت سوزان حقيبة ملابسها وخرجت من فناء المدرسة وهى تتأبط ذراع شادية وركبا الحافلة المتجهة الى امتداد برى وعند محطة معرض الخرطوم الدولى نزلت سوزان بعد ان أشارت بيدها تجاه بيت خالها احمد على وهى توصفه لشادية وطلبت منها ان تقوم بزيارتها خاصة وان البيت لا يبعد كثيرا عن بيت شادية .
وقفت سوزان تطرق فى الباب وتارة الجرس الكهربائى وظلت واقفة دقائق دون مجىء احد ما وبدت لها ان هذة الدقائق هى ساعات طويلة وجلست فوق حقيبتها وقبل ان تكمل جلوسها سمعت صوت اقدام تقترب من الباب واذا ببدرية تفتح الباب وتضم سوزان وتحييها بكل الشوق والعطف والاحترام ودلفتا الى داخل الصالة بعد ان امسكت منها الحقيبة ووضعتها جانباً ، وجلست تتبادل معها أطراف الحديث عن الاستعدادات لامتحان الشهادة الجامعية وقد لا حظت ان صحتها ساءت للغاية وتدهورت بشكل ملحوظ وعندما لاحظت انها تحدق بها وتساؤلات تدور فى ذهنها فهمت سوزان كل ذلك فاجابتها انها تعانى من الآم فى صدرها منذ مدة طويلة تصل قرابة الثلاث شهور والنصف تقريباً ونهضت بدرية من قربها ودخلت المطبخ تعد لها كوب من عصير البرتقال .
وتمنت سوزان فى قرارة نفسها ان تجد وحيداً بالبيت وبين الحين والاخر تتلفت لعلها تلمحه من خلال احد النوافذ وهو يتجول فى فناء البيت ولكنه كان نائماً فى غرفته .
وجاءت بدرية بكوب العصير وعليه تطفو قطعاً من الثلج إلا أن سوزان طلبت ملعقة لكى تتمكن من اخراج قطع الثلج فهى تخاف من اصابات التهاب اللوز ا .
استيقظ وحيد من نومه فى الخامسة مساءاً فتعود ان ينام بعد الغداء مباشرة وسمع صوت سوزان وهى تتحدث مع والدته وخفق قلبه لهذا الصوت ونهض مسرعا واصلح من هندامه واتجه الى الصالة ، وبمجرد ان تخطى باب الصالة ووقع نظره الى سوزان كاد ان يتسمر فى مكانه وفغر فاه وهو يكاد لايصدق ان التى امامه هى سوزان وبادلها التحية وجلس على طرف حافة مقعد الجلوس ولاحظت هى انه يتفحصها من رأسها حتى قدميها راسماً إمارات الحيرة لتدهور صحتها .. صرخات داويه صامته داخل أعماقه وتساؤلات كثيرة دون حصر.
وقال لها وقد جلس فى المقعد المقابل لها :
- ايه الحكاية حصل ايه من غير المعقول ان تكون صحتك ذابت بسبب المذاكرة ؟
- لا أبدا عندي آلام فى الصدر تجينى من وقت لاخر وبالذات إذا تعبت لاقل مجهود .
- طيب مشيتي للمستشفى ؟
- لا لكن عاوزة أمشي في خلال اليومين ديل .
- خلال يومين ؟؟؟ وليه خلال يومين ؟؟ .
- انتِ ليه معطى الموضوع كل هذة الاهمية الامور ان شاء الله بتكون بخير .
- ما اختلفنا لكن اليوم المساء إن شاء الله نمشى للعيادة .
وسرح وحيد بنظره فى الاتجاه الآخر بعد ان كان غائصا فى عيونها ومرت لحظة صمت ونهضت بدرية وحملت الصينية التى بها كوب العصير الفارغ وعادت به الى المطبخ ، ولا زال الصمت يعم المكان .. وشقت سوزان ذلك الصمت ونادته بأن يكف عن الثرثرة داخل أعماقه وطلبت منه ان لا يذكرها بأنها مريضة فهى تكره المرض وتريد ان تنسى بأنها مريضة وسعلت سعالاً خفيفاً وضعت على الفور المنديل على فمها تحاول ان تكتم سعالها .
وبعد دقائق نهض وحيد وطلب منها ان تنهض وخرجا سويا الى حديقة المنزل كان هنالك نسيما بارداً يهب من اتجاه النيل الازرق والوقت يقارب مغيب الشمس وقطرات من الندى كست الحشائش التى انتشرت على مسطح ارضية الحديقة وجلس وجذبها من يدها وجلست هى الاخرى تحت شجرة الليمون ونظراته لا تفارق وجهها الجميل وشعرها الناعم يتدلى على كتفها وقد تحرر من اى ضفيرة وانسدل فى موجات وقال لها :
- انا دائماً احب الشعر المتحرر المسترسل على الظهر .
- وأنا عندي فكرة بالمناسبة عايز أقصه ليكون قصير اصلوا الموضة الأيام دى كده .
- ارجوك لا واذا قصيتيه ما حاشوفك الا لمن يرجع لطوله تانى .
قال لها ذلك وهو يحاول ان يتعمد ان يظهر لها مدى إحساسه واهتمامه بجمالها وقاطعته قائلة والسعادة ملأ صدرها والابتسامة ملأ شدقيها :
- خلاص اطمئن ياعزيزى عشان خاطرك بس .
- كده أنتي في القمة .
ساوره احساس بأنها تبادله الاهتمام الاعجاب الحب ووجد ذلك دافعاً وحماساً لان يقول لها وقد بدا مترداداً
- سوزان عايز اعترف لك بشيء ظل يراودني منذ فترة طويلة ولقد كتمت ذلك الشيء حتى هذه اللحظة .
ووقف عن متابعة حديثه ومرت لحظة صمت ونظر تجاها فوجدها محدقة بنظرها على الارض واصابعها تداعب فى الحشائش ( النجيلة ) وقد اختلعت بعض جزئياتها وشعرت هى بصمته ورفعت نظرها وقالت بكل مشاعر الجدية
- كنت عايز تقول ايه ؟؟
- كنت عايز اقول الانسان دوما محتاج للآخر ليشاركه حياته الخاصة والعامة .. همومه .. سعادته .. شقائه .. افراحه .. ايامه .. وانا بصراحة وجدت فيك تلك الشخصية ... سوزان حسيت انو قلبى بيميل ليك .
ازدادت خفقات قلبها لقد اعترف لها بحبه صدق احساسها انها لا تكاد تصدق انها تحلق فى عالم اخر غير كوكب الارض كوكب سامى خالى من الحقد والكراهية والحروب والجهل والمرض والفقر كوكب مثالى ملىء بالحب والخير والصحة والعافية والتعايش السلمى والوعى والادارك ..
كانت تدرك وتتوقع ان تسمع يوما ما اعترافه ساورها ذلك منذ ان التقت به فى اعياد العلم وغمرتهما سعادة بليغة وتعاهدا على ان يسيرا معاً جنباً الى جنب فى طريق واحد متحدين اى صعاب قد تعترضهما سواء كان ذلك الطريق مفروشاً بالورد او بالشوك فهما سوف يسيران فيه معاً ..
ونهض وامسك بيدها وجذبها الى اعلى وسارا يمشيان فى الحديقة وهما يضحكان فرحين من الاعماق .
فجأة داهمتها تلك الشكة التى تعتصرها فى صدرها فلحظات السعادة دائماً قصيرة بقدر ماهى خالدة عرفت انها ذات الالام توشك ان تلم بها واخفت المها عن وحيد لكى لا تعكر ذلك الصفا والمرح الذي يعيشان فيه فضحكت كثيراً وفرحت عميقاً ولم تفكر إطلاقاً بأنها مريضة وعليها ان تعمل حذرها ولكن اخيرا انهزمت امام الألم فصدرت منها صرخة قلب تئن عن ذلك الالم وتبدلت ملامحها فى خلال ثوان وتبدل ذلك الوجه المفرهد إلى وجه ذابل كوردة عباد الشمس التى بدأت تغيب عنها الشمس وتتواري نحو المغرب .
فطن وحيد لذلك وظهرت امارات القلق على وجهه جلية وقد اسندت سوزان بجسمها على كتف وحيد وامسك بها حتى وصلا الى الصالة ومن ثم الغرفة حيث رقدت على السرير وقد خارت قواها واحضر وحيد وسادتين ووضعها تحت ظهرها والاخرى تحت رأسها وقد بدأ صدرها عالياً و بصعوبة تستنشق فى الهواء .
شاهدت بدرية ذلك المشهد واسرعت لتطمئن عليها ولكن ما لبثت وان خرجت .
وعند السابعة مساءاً طلب وحيد من سوزان محاولة النهوض واستبدال ملابسها ليتسنى لهما الذهاب الى عيادة د .محى الدين اخصائى الصدر والقلب ولكنها رفضت كمثل كل مرة الا ان وحيد لم يمتثل لكلامها بل كرر لها ضرورة الذهاب وبعد جدال من المناقشة وافقت ..
وعند وصولهما الى العيادة فى شارع القصر جنوب مقابل فندق مريديان وجدا ان العيادة مكتظة ومزدحمة بالمرضى الا انه لم يكترث لذلك فقد كانت اهم همومه مقابلة الطبيب على وجه السرعة وطلب من سوزان الجلوس على احد المقاعد الخالية وتوجه مباشرة نحو كاتب السجل وشرح له حالة سوزان وبضرورة ان يجد لها استثناء مهما كلف الامر .
التفت الكاتب تجاه سوزان وشاهد ان حالتها تستدعى الدخول فورا للطبيب نظرا لما تعانيه من صعوبة فى التنفس واشار له بالدخول مباشرة بعد خروج المريض الذي داخل غرفة الكشف مع الطبيب .
لم تمض لحظات كثيرة حتى دخلت الى الطبيب ... وجدته جالسا على كرسيه وقد غطى الشيب شعر رأسه دليلا على خبرات طويلة فى اعماق الطب متخصصاً فى الصدرية ..
وضع نظارة سميكة على عينيه وطلب منها الجلوس على الكرسى القريب من مكتبه وسألها وقد رفع عينيه من فوق النظارة ينظر لها
- اسمك ايه يا شابة
- سوزان محمد خيرالحاج
- تشتكي من إيه بالضبط يا سوزان ؟؟
وسردت له الآلام التى تنتابها وضيق التنفس وانها تتألم فى صدرها الجانب الايسر لاقل مجهود تبذله .
طلب الطبيب منها النهوض الى سرير الكشف خلف الستارة ونهضت من كرسيها واتجهت نحو الستارة تكاد تتعثر فى خطواتها وازداد ارتباكها وازدات نبضات قلبها فى انتظار مجىء الطبيب الذي سرعان ما جاء وامسك بيدها يجس نبضها ولاحظ توترها فطلب منها مرة اخرى ان تحاول ان تكون اكثر هدوء وامسك هذة المرة بسماعته ووضعها على صدرها مرات عديدة طالبا منها ان تأخذ نفساً عميقاً عدة مرات متتالية ثم رجع الى مكتبه وجلس يكتب لها .
ونهضت سوزان من السرير خلف الستارة واعدلت من لبس ثوبها وجاءت وجلست فى مكانها على الكرسى وهى صامتة والطبيب عاكف على الكتابة تود ان تسأله ولكنها مترددة لحظات حرجة بالنسبة لها كمثل متهم ينتظر النطق بالحكم عليه فى قضية خطيرة ـ اعدام ـ مؤبد ـ حكم مخفف ام براءة .
وبعد ان انهى الكتابة على الورقة ناولها لها وطلب منها ان تعمل صورة بالاشعة للصدر وتحاليل للدم وتعود اليه بعد ذلك .
وعادت بعد ساعة ودخلت مباشرة الى الطبيب وهى ممسكة بصور الاشعة وتحاليل الدم ، امسك د. محى الدين بصورة الاشعة التى صورت صدرها بوضوح ورفعها تجاه لوحة الاضاءة اللاصقة بالجدران وبدا يتمعن بالصورة لثوانى عديدة واطال بنظره مرات اخرى ودقق كثيراً مكرراً التمعن وقد ادخل ذلك الرعب فى سوزان وايقنت ان هنالك شيئاً لفت انتباه وهو ذلك الشىء المجهول الذي خافت منه فكأن نفسها تحدثها بأن فى قلبها علة ما ، تخاف ان تذهب الى المستشفى وتكتشفها انها كانت تفضل الغموض تفضل الغموض على الاصطدام بها .
وخفق قبلها وازدادت ضرباته بالرغم من العلة التى فيه .
واخيرا قال لها وهو يمد لها الوصفة الطبية التى كتب عليها الادوية :
- فى أهلكم فى واحد مريض بالقلب ؟؟
- لا ابدا يادكتور ..
- انتوا من وين اصلا ؟؟
- من منطقة حجر العسل !!
- بلدكم فيها عسل كثير ؟؟
- ما فى علاقة للعسل بالاسم يادكتور .
- حقيقة ياسوزان انتى عندك روماتيزم بالقلب وده فى الغالب كان نتيجة لالتهابات سابقة مزمنة باللوز فالصديد الناتج منه له تأثير سلبى على القلب .
- روماتزيم فى القلب ؟؟؟
- نعم ..
- والعلاج يا دكتور ؟؟
- كتبت لك حقنة بندول مرة واحدة فى الشهر مع فاتمينات وأدوية أخرى ولكن الاهم من الأدوية المحافظة على صحتك وعدم إرهاق نفسك بأي شئ .
كانت النتيجة بمثابة الصدمة لها كأنها صعقت بتيار كهربائى وتمنت لو لم تحضر الى العيادة فقد كانت تعلم تماما ان الشفاء من هذا المرض اللعين مستحيل تماما ، تلك اللحظة التى كانت تخاف منها ها هى تطل عليها كواقع أليم مرير .. ولا مفر من ذلك عليها ان تستعد لمعركة كبيرة مع المرض مع الحياة والتشبث بها واخذت الكلمات تتردد وترن فى مسمعها فى اذنها
كالصدى روماتيزم فى القلب .. روماتيزم فى القلب.. روماتيزم فى القلب.عشرات المرات كأنها تطاردها وتصر على البقاء فى طبلة الاذن وفى الاعماق .
ووضع الطبيب أمامها برنامجاً صعب التحقيق، أن لا تسهر .. أن لا تغضب.. وان لا تفرح بشدة.. وان لا تأكل أكلة دسمة .. وان لا ترهق نفسها كثيراً .. وان تبعد بنفسها عن اى انفعالات .. وان لا تعرض نفسها لتيارات الهواء المتقلبة .. والتيارات الباردة . كثيرة هي اللاءات .
كانت تتمنى ان تجرى وان تلهو ان تغضب وتنفعل وتفرح وتبكى ولكن أصبحت مقيدة الان مكبلة بقيود صنعت مادتها من روماتيزم القلب صنعت من المرض ومن الخوف ومن التشبث بالحياة والافتقار الى العافية .
أمسكت بالوصفة الطبية وهمت بالخروج ولكن صاح بها الطبيب ( لا بد ان تعودى بعدما تنتهى من الأدوية وعليك بالراحة التامة لمدة أسبوعين على الأقل وأردف قائلا لها (ان تحضر له عسل فى المرة القادمة ) كأنه يريد ان يخرجها من هذا التوتر .
ضحكت وخرجت من غرفة الطبيب وهى تجرجر في أقدامها كأنها تسير فوق السحاب احتارت هل تخبر وحيد بتشخيص مرضها ام تخفى عنه حقيقة مرضها ولماذا تكذب عليه انها تريد ان تكون معه صريحة فى كل شىء ، صادقة مهما يكن ، وهذا اول محك وهل يغير المرض حقيقة عواطفه نحوها ؟؟؟ وهل يتخلى عنها لمجرد انها مريضة بالقلب ؟؟ اذا هو ذلك فالاجدر ان تخبره من الان لانه لا يستحقها ، وقبل ان تمتد بينهما الايام وقبل ان يتعمق ويتعلق بها ..وقبل .. وقبل
حوار حاد كان يدور فى ذهنها يدور داخل نفسها بينها وبين ذاتها ، فى صمت مصحوب بالتوتر والقلق وبالأمل تحاول ان تقنع ذاتها بأن وحيداً لن يتخلى عنها لان حبهما اقوى واكبر من الدنيا واطول من سنينها ، كان ذلك الإحساس بصيص من الأمل يطل عليها وهى فى ظلمة حالكة غامقة ولكنها تخاف عليه من وقع الصدمة ..
واخيراً أقنعت نفسها بأنه لا بد ان يعلم لا بد ان تخبره حتى لو سبّب له ذلك ألماً وصدمة ..ولكنها اخف من أن تكون فيما بعد صدمتين يصدم لانها خدعته واخفت عنه حقيقة مرضها ويصدم لأنه اكتشف حقيقة مرضها .
وجلست على المقعد بجانبه لترتاح قليلاً ومن ثم يذهبا الى الصيدلية لشراء الأدوية وهو لم يمنحها فرصة للاعتدال فى جلستها فبادرها متسائلاً :
- طمئنيني قال ايه الدكتور فى تشخيصه ؟؟
- تصور قال لى عندك روماتيزم فى القلب !!
- الله .. تتكلمي جد يا سوزان ؟؟
- ذى ما قلت لك دى الحقيقة .
- ان شاء الله تشفى من هذا المرض وخليك قوية ياسوزان .
- طالما أنت معاى يا وحيد حاكون قوية .
- ياليت لو المرض بينقسم كنت قسمته معك لنكون سوياً فى كل شئ واخفف عنك الكثير .
- وحيد ما تقول كدة .. كفايه امرض أنا بعد الشر عليك..
- علينا ان نتحدى المرض ونتغلب عليه بأذن الله تعالى أبداً لا تستسلمي ولا تيأسى ولو للحظات بسيطة وخلى روحك المعنوية مرتفعة دائماً.
والتفت إليها ممسكا بيدها وطلب منها النهوض للذهاب إلى الصيدلية فرأت الدموع في مقلتيه وغلبها الحديث وتوقفت عن الكلام وكأن لسانها أصابه شلل لقد هزتها دموعه وعند وصولهما الصيدلية وضع الصيدلي أمامها اكثر من خمسة أنواع للأدوية والأقراص والسفوف والحقن فعليها ان تأخذ حقنة بندول بعد كل ثلاثين يوما .
كان وحيد يود ان يدعوها لتناول العشاء في مطعم بيكادلى الا انه راع إرهاقها وتوجها مباشرة الى البيت . اتجهت سوزان الى اقرب سرير وارتمت بجسدها وهى في غاية الإرهاق ووضعت بالقرب منها على المنضدة الأدوية والأقراص واحتفظت بالحقن داخل الثلاجة .
وجاءت بدرية إليها وسألتها عن أحوالها مكّفرة ومكفهرة لما أصابها بعد أن علمت بحقيقة مرضها وسألتها عن نوعية العشاء الذي تريده الا ان سوزان لم تكن لديها اية شهية للأكل فمنذ ان مرضت لم تعد تجد اى شهية للأكل فأحياناً كثيرة تجبر نفسها لتأكل مقداراً بسيطاً .
وظلت ساهرة طول الليل عيونها مغمضتان والأسئلة تتوالى بداخلها لماذا كل ذلك العذاب ؟؟ ماذا فعلت فى هذة الحياة حتى تكافأ بمثل ذلك المرض اللعين ؟؟ هل الحياة بالنسبة لها شىء تافه لا تستحق ان تعيشها ؟؟ الى اين يسير بها المرض ؟؟ واى قدر ساقها الى ذلك ؟؟ .
وفى الصباح رفع وحيد سماعة الهاتف واتصل بصديقه وزميله زين العابدين ليكمل له إجراءات الإجازة السنوية التي كان قد طلبها منذ مدة ليست بالقليلة وطلب ان يحضر اليه غدا لموافاته بالموافقة ووضع سماعة الهاتف .
ازداد تعلق وحيد بسوزان وزاد من اهتمامه بها لا شعوريا دون ان يدرى انه اغدق عليها كثيرا من الحنان والعطف والإفراط في حبه لها ...
وكان من البديهي والطبيعي ان تلاحظ بدرية تعلق ابنها بسوزان لاحظت مدى اهتمامه وبالحب الذي يكنه لها وقد استاءت من ذلك فلم تكن تريد ان يرتبط ابنها بسوزان ، لا تريده ان يرتبط باى علاقة ما تؤدى فى النهاية الى الزواج منها .
انعكس ذلك جليا فى معاملتها لها تعكس لها عدم رضائها عن تلك العلاقة المميزة ، تشعرها بأنها ضد ارتباطها بأبنها . وشعرت سوزان بذلك لم تكن بحاجة الى دلائل وتقبلت سوزان كل ذلك ولم تخبر وحيداً بأي شئ وتكتمت على كل شئ يضايقها وقررت أن ترحل غداً وتسافر الى حجر العسل لتقضى بقية الإجازة هنالك حيث والديها وبيتها فبدرية ترفض علاقة وحيد بها لمجرد أنها مريضة بالقلب . أنها تريد له فتاة معافاة تماماً، أنانيتها صورت لها عدة خيالات ، فأرتباطه بها يعنى إفلاسه فكل فلوسه قد يصرفها في الأدوية والمستشفيات هكذا تصورت دون مراعاة لكونها إنساناً جديراً بالعلاج ولو كلف علاجها ملايين الجنيهات ...
فالعافية ليس لها ثمن إطلاقاً .. نست مقدرة الله تماماً فقد يمن عليها بالشـفاء فى يوم من الأيام .
ووصل بها تفكيرها وأنانيتها الى أن شفاؤها مستحيل وأن الموت حليفها الوحيد ،ولا تريد اطفالاً يتامى الأم ، لذلك كانت تقف ضد اية علاقه بها وضد ارتباط بها ...
أيقنت سوزان بأنه لاجدوى من مكوثها بالبيت طالما أحست بالضيق من تعامل بدرية معها ولكنها الفطرة ، إحساس غرائزي تجاه ابنها وحيد وهى لا تلومها على ذلك فهى أم والأم تخاف على اولادها مهما كانت نظرتها للتضحيات .
ودخلت الغرفة وأمسكت بحقيبتها الصغيرة ترتب ملابسها لتسافر الى حجر العسل ، وفى أثناء ذلك جاء وحيد داخلاً الغرفة فوجدها قد إنتهت من ترتيب ملابسها ، فأستنكر ذلك وقال لها :
- حصل أيه مش اتفقنا بانك سوف تقضي الأجازة معنا ؟!!
وحاولت أن تهرب من الاجابة الحقيقية ، واخفت عنه السبب الحقيقى لمغادرتها وقالت له مجيبة وقد جلست على حافة السرير .
- وحيد كان لازم أزور أهلي خلال الايام دى ...
- لكن أنتي ما كملتي بعد أسبوع واحد ولازم تكملي معنا أسبوع واحد ثانى ، على الأقل ترتاحى على حسب وصية الدكتور .
كان وحيد قد طلب أجازته السنوية خصيصاً لملاحقة وتنفيذ فكرة انتقاله الى الشركة الأهلية للنقل التى يعمل بها والده مديراً اضافة الى تفرغه للانتخابات التى تجري الان ..
وجاءته فكرة أن يذهب الى الشركة هذة اللحظة بالذات ويتناقش مع والده في إجراءات تعيينه بالشركة فلقد سئم وظيفته الحكومية وأن مرتبه بسيط لا يكاد يكفى مصروفاته الشخصية فمن أين له بتوفير مبلغ معين من راتبه .
وتردد فى قرارة نفسه فهل ينتظر عودته للبيت ليفاتحه بموضوع تعيينه أم يذهب اليه فى الشركة , لقد سبق وأن تناقش معه قبل أن يصبح مديراً ورفض له أمر انتقاله الى موقع الشركة بحجة أن المدير فى ذلك الوقت قد أوقف أى تعيينات جديدة لعدم وجود بنود فى الميزانية تسمح لذلك ، واليوم أصبح والده مديرا للشركة ، فلم تعد هنالك حجج .
وأخيراً رجح كفة الذهاب الى الشركة واوقف سيارة اجرة وأتجه الى المنطقة الصناعية حيث موقع الشركة ، وبعد قليل وصل الى الشركة المكونة من طابقين .
حاول أن يدخل من البوابة الا ان الحارس منعه من الدخول بحجة ان الزيارات ممنوعة ما لم تكن تحمل تصريحاً او زيارة للأعمال الرسمية ، وابلغه بانه ذاهب الى المدير لأن المدير والده ...
واقترب الحارس منه أكثر وحياه باحترام شديد ، وسمح له بالدخول وهو يتمتم ما شاء الله .. ما شاء الله فلم يكن يعلم أى فرد بالشركة بأن للمدير أبنا بهذا العمر ولم ينس بأن وصف له مكان مكتب والده فى الطابق الأعلى .
وبخطوات مسرعة طلع درجات السلم الأول وعند طلوعه درجات السلم الثاني ولم يكمل طلوعه بعد فجأة شاهد امرأة فى الخامسة والعشرين من عمرها تقريباً ممشوقة القوام على يديها حناء رسمت بحذر شديد وفى شكل خطوط متشابكة ونجوم ، بدت أنيقه للغاية كل شئ فيها مفتعل حتى مشيتها ونزولها من السلم كأنها تسير على درجات سلم من الزجاج ، جميلة الملامح من نوع الجمال الذي يجذبك اليه من أول وهلة ...
ووقف وحيد فى وسط السلم وقد فغر فاه وشخصت عيناه وهو ينظر إليها منبهراً من هذا الجمال الملائكي ، وقد كانت تحمل فى يدها الأخرى أوراقاُ كثيرة وحاول أن يسترجع ذاكرته وتضاربت افكاره .. أين ياترى شاهدها ؟؟ أنه متأكد من مشاهدتها من قبل .. وأخيراُ ضرب بكف يده على جبهته وقال لنفسه .( آه افتكرت تلك صاحبة الصورة التى وجدتها فى وسط كتاب قصة الذكرى للحبان ) .
المرأة كانت قد اختفت تماماُ ولم تلحظ بأن وحيداُ وقف ينظراليها ، ولم تعره اهتماما ظناً منها بانه لايعدو ان يكون شاباُ من الشباب المشاغبين فى هذا الزمن وقف ليتغزل بها .
وهو لم يصدق عينيه .. وجرفته الظنون .. أيعقل أن تكون لهذه المرأة علاقة ما بوالده ، هل هى سر تدهور البيت الذي كان مثالاُ للبيت السعيد فى يوم من الأيام " وواصل طلوعه لدرجات السلم فى بطء شديد وقد أمسك بيده حافة السلم الممتدة . وخطواته تكاد تتعثر من الأرتباك الذي سيطر عليه .. ومرة اخرى وقف وهو لم يكمل طلوع ثلاثة درجات ، وقد وصل درجة الغليان فى التفكير إنها تضع حنة على يديها وخاتم ذهبى على أصبعها وهذه مؤشرات تشير الى أنها متزوجة ، ولم يكن هذا سبباً لتخفيف وطء الصدمة عليه بل زاد من تعقيدهـا ، فى لحظة الانسان يندفع بكل ظنونه يريد بكل الطرق والسبل ن يجسد التهمة فى محور واحد وفى طرف واحد ، وشئ واحد ، فقد عثر على رأس الخيط الذي ظل يبحث عنه مدة طويلة ولم يفكر مرة واحدة قد تكون مجرد زميلة فى العمل أو صاحبة عمل لها مراجعات واعمال مرتبطة بالشركة ، ولكن كان عقله يعمل بسرعة ، ووصل مكتب والده وفتح باب المكتب ولكنه تفاجأ بعدم وجود والده وحمد الله على ذلك ، فلقد كان المكتب خالياُ تماماُ من أى فرد لا ضجيج فيه سوى صوت رنين الهاتف .. وقفل الباب مرة أخرى وخرج مسرعاُ ونزل درجات السلم ليلحق بتلك المرأة التى أثارت حفيظته .. ولكن ماذا يقول لها ، وأى مناسبة تجمعه بها واى سبب يجعله أن يستوقفها وبأى حـق ؟؟ لم يفكر فى كل ذلك بل وجد نفسه مدفوعاُ للبحث عنها ..
وبحث عنها بين ردهات المكاتب ولم يجد لها أثراُ وتمشى فى ردهات المكاتب وكان ينظر الى داخل كل مكتب كالمجنون .. ولكنها كنت قد اختفت تماماُ ...
وأيقن بأنها لم تكن موظفة فى هذه الشركة ، وخرج من خلال بوابة الشركة وتلفت يميناُ وشمالاُ فلم يرى شبحاُ لها ونظر اتجاه الحارس فوجده جالساُ على كرسيه وقد رفع أقدامه على حافة الكرسى وتوسد ركبتّيه وأغمض عينيه بعد أن ضم يديه حول ركبته .
وأصر أن يسأل الحارس يبدو له أنه رجل طيب القلب وقد يساعده خاصة وقد عرف أنه أبن مدير الشركة .
وأقترب منه وصاح يناديه ..
- ياعم ... ياعم ..
ونهض الحارس والذي تجاوز عمره الستين من جلسته وقال :
- نعم ياولدي أى خدمة ؟؟
- شفت ليك موظفة خرجت من هنا قبل شويه وشايلة ليها أوراق وشنطة يد زرقاء .
- لابسة شنو ؟؟
- لابسة ثوب ابيض عليه خطوط من الاطراف لونها أزرق وفى يديها حنة وجسمها مليان شوية .
- آه آه لقد عرفتها أنك تعني مدام ليلى مندوبة شركة التأمينات ودى ياولدى بتحضر كل يوم سبت لعمل الإجراءات بخصوص التأمين الشامل لشاحنات الشركة .
- اى شركة ؟؟
- والله أنا ما بأعرف اقرأ ياولدي لكن كل يوم السائق ينتظرها بسيارة شركة التأمين فى المكان ده وأسم الشركة مكتوب على باب السيارة .
وشكره ومضى فى سيره عائداُ الى منزله ، وعشرات الأفكار تداعب عقله وكان إصراره وحماسه على معرفة سر مدام ليلى دفعه إلى أن يتصل بهاتف زين العابدين فى المكتب .. وطلب منه المجيء فور الانتهاء من الدوام الى منزله ووضع السماعة ودخل الى غرفته وأوى الى فراشه منهك القوى ، وعند الثالثة ظـهراُ جاءه زين العابدين فوجده نائماً فأيقظه من نومه ، وبعد أن تناولا الغداء ، أخبره وحيد بكل تفاصيل القصة من أولها الى آخرها .. وطلب منه أن يساعده فى كشف ذلك اللغز والوصول الى الحقيقة ، يريد أن يعرف حقيقة مدام ليلى وأعلمه أنها تأتي كل يوم سبت ولم يتمكن من معرفة شركة التأمين التي تنتمي إليها مدام ليلي..
حاول زين العابدين ان يقنع صديقه بإزالة تلك الهواجس والظنون من أفكاره إلا إن وحيد كان متوتر الأعصاب رافضاُ كل مبادرات واقتراحات تثنيه عن المضي قدماُ لكشف الحقائق .
وبعد مغيب الشمس مباشرةًُ اتجها سويا الى منزل صديقهما ياسر حيث وجدا معه صديقاُ آخر يدعى عبد الرحمن ، رباعيتهم ركبوا سيارته واتجهوا نحو شاطئ النيل الأبيض حتى وصلوا أطراف الغابة وهنالك دلفوا من السيارة وهم فى غاية السعادة للتعليقات الساخرة والمضحكة التى يطلقها أحدهم من وقت لاخر ، النسمات الباردة تساعد في إضفاء المزيد من الإحساس بالسعادة
الا وحيداً فقد كان صامتا معظم الوقت ، جلس على حافة الشاطىء بعد ان كفكف اطراف بنطلونه ووضع رجلاه فى مياه النهر يتلذذ ببرودة المياه وبمنظر الاضاءة المنعكسة على صفحات المياه والصادرة من اضاءة الجسر الذي يربط امدرمان بالخرطوم .
وهبت نسمة باردة كأنها تربت عليه وتخفف من همومه وهو يمسك بقبضة من الطين ويرمى بها الأمواج الهادئة وهي تصطدم بشفة الشاطئ كأنها تتحداه بالرغم من قبضة الطين التي يقذفها بها ، وسمع عبد الرحمن يناديه ، لم يأبه بصوت المنادي يريد أن يجلس أكبر وقت في هذا الجو الشاعرى وقدماه تلامس مياه النيل الابيض، ولكنه مرة أخره يسمع الاصوات تناديه ..
صوت زين العابدين وتارة صوت عبد الرحمن وياسر ، لا احد يريد ان يتركه فى حاله ونهض من جلسته ومن صمته هنالك صمت له معني هل يسميه انطواء .. ولماذا يجد نفسه ميالا للوحدة ، أنه يبذل جهدًََا لإصدار ضحكة من أعماقه ، ولكن ضحكاته تأتي باهته من السطح وليس من الأعماق ، أعصابه كانت تعبانه مرهقه ظامئة للهدؤ النفسي ، وعندما اقترب شاهد بريق زجاجات انها زجاجات خمر (عرقى ) في منتصف الدائرة التي يجلسون عليها ولمعت عيناه وكانه يريد أن يتراجع للوراء ووقف صامتا ينظر لهم في ذهول ، ودعاه عبد الرحمن لتناول كأسٌا ولكنه رفض وكأنه يريد أن يصرخ أنه ينادي بالمبادئ والمثالية ، وكل سنوات عمرة لم يتذوق جرعة واحدة ، ولايريد أن يضعف في يوم من الآيام امام نفسه ، ولا يريد أن يضعف امام نزواته ..ولا يريد للمثالية التى هى من سماته ان تندثر ، والتي ينادي بها ويدعو لها وجلس بينهم ولكنه رفض أن يتناول جرعه واحدة ولم يسلم من سماع سخريات أصدقائه ، وضحكهم عليه ، ومع كل ذلك لم يتراجع عن قرارة الذي اتخذه بعدم تناول جرعه واحده
وتعالت الضحكات، وكان يضحك معهم ويشاركهم أحاديثهم التي تدور حول السياسة وآخر تطورات انتخابات مجلس الشعب والقاعدة الشعبية لوالد وحيد
وما اذا كان سوف ينجح ام لا ؟؟ ومن اين له بالاصوات هل سيشترى ذمم الاخرين كما يفعل البعض ؟؟ ام له قاعدة شعبية كبيرة وتتعالى الاصوات وتختلط تكلموا عن السياسة حتى مـلوا منها ويتقلب الحديث الى الرياضة ومباراة الهلال والمريخ ومشاهير اللاعيبين فى الماضى ، صفوة لن تتكرر مثال على قاقرين ـ جكسا ـ فوزى المرضى ـ حمورى ـ وعزالدين الدحيش بالرغم من التصرف الغريب بأن سجل لفريـق المريخ خصمه التقليدى ، ولم تخلوا أحاديثهم من النكات ، ومن حين لآخر تنطلق الضحكات وحيد يضحك او لا يضحك لا يدرى ويتكلم آلـيا في مواضيع يشعر بانها لاتعدو أن تكون مواضيع لملء الفراغ وتصلح ان تكون مواضيع مناسبه لمثل جلسه كهذه التي يجلسونها الآن ، لا هدف منها سوى تقضيه الوقت .
ومضى الوقت ولم يشعر أحد بمضي الوقت وكم من الزمن مضى سوى وحيد فهو الوحيد الذي كان واعيا ويدرك ويشعر يثقل الجلسه بالإحساس بالملل الذي اعتراه وهو لا يريد أن ينهض ويعكر تلك الجلسة بالنسبة لأصدقائه فالخمر لها سلطان قوى فلا المفيق يـدري بسلطانها ولا السكير يدري بعارها
بعد أن فـرغت الزجاجات الكل بدأ يتثاوب بما فيهم وحيد ونهض عبدالرحمن وهو يترنح يميناً وشمالاً كشجرة البان الباسقة فى مهب الريح وكذا حال البقية زين العابدين وياسر ، وقرر وحيد بأن لا يسمح لعبد الرحمن بقيادة سيارته ، وانتزع منه مفتاح السيارة وقادها بأمان واوصل كل واحد الى منزله وكان اخرهم عبد الرحمن واقفل ابواب السيارة بعد اوقفها ومن ثم اعطى المفتاح له ورجع عائدا الى منزله بأحد سيارات الاجرة .
عند دخوله المنزل بعد منتصف الليل وجد مصباح الصالة مضاءة وهو شئ لم يعتاده فاراد ان يطفئ النور الا انه تفاجأ بوجود سوزان جالسة على أحد المقاعد تذاكر فى دروسها واندهش لذلك وبعد ان بادلها التحية قال لها :
- إيه ياسوزان مش قلنا بلاش سهر
- الامتحانات يا باشا ثم ثانيا كنت وين انت ؟؟
- مع أصدقائي .
- تطلب منى اقعد أسبوعا وتسهر خارج البيت ؟؟.
- آسف حقيقة آسف جداً ..
- وحيد انا محتاجة لوقوفك معاى فاهمنى انت ؟؟ .
- طبعا ياحبيبتى .. اخذتى الادوية بتاعتك ؟؟
- قلت ايه ؟؟
- اخذتى الادوية بتاعتك ؟؟؟
- لا ..لا .. لم اقصد سؤالك الأخير اقصد طبعا ايه ؟
- طبعاً ياحبيبتى ؟
انها تسمعه لاول مرة يناديها بحبيبتي لدرجة ان أنساها السؤال الذي أعقب ذلك ، ونظر اليها بنظرة تنطق حباً وعاطفة ومسح بيده على شعر رأسها المسترسل وقال لها " تصبحين على خير " وواصل سيره الى غرفته من دون ان ينتظر منها تعقيباً ورمى بجسده على السرير وغط فى نوم عميق .
وعند الصـباح وقبل أن يذهب أحمد الى عمله جاءه وحيد واخبره بأنه يريد أن يتعين في الشركة التي يعمل بها هو لأنه سئم العمل في الدوائر الحكومية لقلــة رواتبها وعدة أسباب سلبية أخرى ومرة اخرى يرفض وكان الرفض بمثابة المفاجأة له هذة المرة بحجه أنه ليس هنالك وظيفة شــاغرة في الوقت الحـالي عدا وظيفة سكرتيرة .
تسـاءل وحيد لماذا يرفض والده انتقاله الى الشركة وتلك الاسباب التي ذكرها كلها أسباب واهيه .. لقد زاد من شكوكه ... وإصراره على كشف حقـيقه مدام ليلى أنه لا يريد دخوله العمل في مجال الشركة لاكتشاف تلك الحـقيقة ، هكــذا كان يحدث نفســـه .
وجاءت ايام الإدلاء بالأصوات للانتخابات وأنهمك وحيد في تكثيف الدعاية ، يشعر بأنه أمر للقتال في الحرب ولكنه غير مؤمن بتلك المعركة ، مجرد واجب يؤديه وهو غير مقتنع سلفـٌٌا بتأهيل والده ليجلس على مقعد في مجلـس الشعب ، وأقيمت مراكز التصويت في عدة أحياء بالمنطقة كلها ، وبدأت وفود الناس تتوافد على مراكز التصويت للإدلاء بأصواتها ، وسخّر كل مرشح عدة سيارات خاصة لنقل مؤيديه كماصرف كل مرشح الآلاف من الجنيهات إن لم تكن الملايين في سبيل الدعاية واقامة الندوات السياسـية وطرح البرامج والوعود البراقة ، محاولة لجذب الناس وهم يعلمون سلفا انها مجرد وسائل خدع ، مجرد أحلام لايمكن تطبيقها على أرض الواقع ولكن على المنتخب ان يتجمل وعلى الناخب ان يصدق ويؤمن بها وماذا بوسعه أن يفعل أنفق أحمد ما يقـارب المليون وهي نسـبه ضئيلة جدا بالنسـبه لما صرفه المرشحون الآخـرون ..
تحالفات وائتلافات فى الباطن والظاهر بين الأحزاب وأخرى بين الأفراد ، المرشح صلاح ابراهيم ـ المرشح سيد الحاج وأعوانه وتكتلاتهم ضد المرشح الدرملي ممثل حزب الاخوان المسلمين اكثر الدوائر سخونة بأمتداد الصحافة واكبر وأكثر المناطق شعبية وكثافة ، بؤرة استأثرت اهتمام كل السياسين فى السودان بل فى العالم العربى .
عاشت العاصمة المثلثة الخرطوم وضواحيها حالة غليان ، نُصبت الخيم والصيوانات فى الأحياء ، ذبائح نُحرت ، ندوات سياسية وخُطب رنانة ، معارك وعراك فى العلن واخرى فى السر ، واهدر الكثير من الاموال ، ومن المحروقات البترولية . إنها لعبة السياسة كل شىء فيها متاح لا احد يعترف بتفوق الاخر ..
انتهت أيام الاقتراع ، وتبقت النتيجة وسيعلن عنها في خلال الآسبوع القادم ، ولا أحد يعلم من هو الاوفر حظاً ؟.
وأخيراً نامت الخرطوم هادئة ساكنة ... كان الكل يعيش على أعصابه وأحمد تداعبه الأحلام باعتلاء كرسي مجلـس الشعب وهو يخطط .. ويحذف .. ويضيف .. وكأنه قد ضمن فوزه في الانتخابات .
وجاءت شادية الى منزل أحمد لزيارة سـوزان ووجدتها تقرأ في كتابها وجلست بالقرب منها وبعد أن تبادلت معها التحيات الحارة والسؤال في شؤونها ، وتبادلتا معرفه الاحوال أبلغتها شادية بأن مريم والدتها جاءتهم زيارة في البيت في غياب والدها وكانت تريد أن تصحب سلمى وعادل الا أنها اقترحت عليها بأن ذلك سيوسع من المشاكل بين أهلها وأهل والدها خالد وأن الأطفال في الظرف الحالي سيكونون عبئا عليها في المعيشه فلابد من أن تجد لها عمل اولاً وخاصة وهي الآن تدرس في معهد لتعليم الكمبيوتر , وطلبت منها أن توصى وحيد بأن يخبر والده لإيجاد عمل لوالدتها مريم من أجل أن تضمن رعاية أطفالها , ولكـن سـوزان اقترحت عليها ان تخبره بنفسها .
وفى أثناء ذلك أطل وحيد وتبادل التحيات معهما وجلس بينهما يتبادل أطراف الحديث وكانت شادية تود ان تفاتحه فى موضوع شغل والدتها ولكن التردد لا زال يكتنفها ، وتذكرت اخوتها ... قسوة عمتها فاطمة الامتحانات ... سلمى وعادل ..
شريط سريع مر على مخيلتها مما كان له الأثر بتشجيعها على التحدث والطلب من وحيد بالبحث عن وظيفة لوالدتها فهى تجيد الطباعة على الكمبيوتر وأسس السكرتاريه ، تذكر وحيد بأن الشركة بحاجة الى وظيفة سكرتيرة ..
ولحسن حظ شادية وصل احمد على وبادلهم جميعا التحية واتجه تحديداً نحو سوزان سائلا عن أحوالها الصحية ، وانتهز وحيد وجود والده احمد وشادية فى آن واحد وابلغه بحوجة مريم والدة شادية لعمل فى وظيفة هى شاغرة بالشركة تتمثل فى وظيفة سكرتيرة ، ودون تردد أو تفكير بالأمر طلب حضورها يوم السبت القادم لأجراء المعاينة والاختبارات اللازمة للوظيفة .
الجميع انصرف إلآ سوزان نهضت من مكانها واحضرت الكتب الدراسية وظلت تقرأ حتى انهت عدة دروس متتالية وحاولت المزيد ولكن الاعياء يحاصرها ويجبرها على اراحة جسدها رغماً عنها ، ماذا بمقدورها ان تفعل فالمرض يشتد عليها مع مرور الايام وهى تحاول ان تتجاهله وان تنسى بأنها مريضة بالقلب ، يسوقها التفكير بأن النجاح لن يكون حليفها هذه السنة ، لأنها أصبحت مجرد تمثال لاتعى ولا تستوعب الدروس هكذا خيل لها ، وتلك مأساة بحد ذاتها .
فى صباح يوم السبت توجه زين العابدين الى مقر الشركة الأهلية للنقل لينفذ ما طلبه منه وحيد ألا وهو التأكد من شركة التأمين التى تنتمى اليها مدام ليلى ، وجلس فى موقع إستراتيجي يمكنه من رؤية جميع السيارات وجميع القادمين للشركة ، مضت دقائق ثقيلة بطئيه من دون اية متغيرات ومجموعة من السيارات تأتي وتذهب دون أن تظهر له السيارة المنشودة او تنزل منها المرأة ذات الأوصاف التى يحملها فى مخيلته ،جاء بائع الصحف المتجول واشترى منه صحيفة ( الأيام ) فهو يعشق فيها افتتاحية الكاتب الصحفى محى الدين تيتاوى ، وظل يقرأ فيها وكلما سمع صوت سيارة قادمة يكف عن القراءة ويرفع نظره ليطالع أصحابها
وصلت سيارة أجرة ونزلت منها مريم بثوبها الأبيض وحقيبة يدها الزرقاء وكان من المصادفة ان لبست ثوباً مقارباً للثوب الذي ترتديه ليلى وحملت حقيبة يد بلون ازرق !!
وطلعت مريم الطابق الثانى حيث مكتب المدير أحمد ولكن لم تجده وجلست قبالة مكتبه تنتظر وصوله .
وأيقن زين العابدين أن ليلى جاءت اليوم بسيارة اجرة وخالجه احساس بالاحباط وهَّم بالعودة لعدم جدوى انتظاره ولأنه لم يتمكن من معرفة شركة التأمينات التى تنتمي إليها ليلى ، لكن مالبث أن تبدد ذلك الاحباط فقد ظهرت سيارة طابقت المواصفات التى لديه ووقفت امام بوابة الشركة مباشرة ونزلت منها ليلى بعد أن حملت أوراقها ودخلت مبنى الشركة مباشرة .
ازدادت حيرة زين العابدين واختلط عليه الأمر فقال فى نفسه " من تكون تلك اذن " لم يضع اجابه لسؤاله بل اقترب أكثر وأكثر من السيارة وقرأ اسم الشركة المكتوب على باب السيارة " شركة النصر للتامينات العامة " ومن ثم ابتعد بهدؤ دون اثارة شكوك سائقها والذي تربع بيديه على عجلة القيادة وقد اغمض عينيه ومحاولاً عدم الاستسلام كاملاً للنوم انتظاراً لمجىء ليلى والعودة الى مقر شركة النصر للتأمينات العامة .
وجلست مدام ليلى في الكرسي المقابل لمريم فسالتها مريم متى يحضر المدير أحمد على فأجابتها لا تعلم شيئا عن حضوره . وقد جاءت لبعض الآعمال كما تعودت أن تأتي كل يوم سبت وقد ظنت أنها موظفه بنفس الشركه وساد صمت طويل بينهما وكانت مريم تسترق النظر من حين لآخر وتتأمل الآنأقه المبالغ فيها والزينه التي تتمتع بها المرأة الجالسه أمامها وذلك الحذاء ذو الكعب العالي الغالي الثمن والعطر الفواح الذي عطرت به جسدها . وشنطة يدها الانيقة المتناسقه ألالوان مع ثوبها ولون الحذاء الكعب العالي , كل شئ فيها مفتعل كل شىء مبالغ فيه , ملفت للنظر .. وكانت مدام ليلى تعبث بالأوراق التي تحملها كأنها لا تـحس بوجودها..
وأطل المدير أحمد وأقبل يحييهم . وهنا سمعته مريم ينادي تلك المرأة الجالسه قبالتها بمدأم ليلى ونهضت مدام ليلي من مكانها وجلست في الكرسي بالقرب من طاولته وأمسك المدير بالقلم وقام بإمضاء الأوراق , وضغط على الجرس وجاء الساعي ، فطلب منه احضار ثلاثه أكواب ليمون ، وواصل الكتابه على الأوراق وتبادل الحديث معهما عن خط سير الاجراءات للتأمين الشامل للشاحنات وأنشغلت مريم بتناولها لكوب الليمون ولم تفهم شيئا من حديثهما الذي كان يدور عن نسبه الخسائر . والتصليحات للحوادث التي حدثت لبعض الشاحنات العاملة في الشـركة والديون المترتبة على الشـركة لصـالح شركة التأمينات العامـة وبعد أن أنهت أعمالها جمعت أوراقها وخرجت من المـكتب كانها تختال في مشيتها .
وهنا التفت نحو مريم وقال لها أي خدمه يا ست ، فلم يكن يعرفها ولم يسبق
أن شاهدها من قبل :
فقالت له وقد اعتدلت في جلسته :
أنا مريم عثمان والدة شادية طلبت مقابلتي اليوم للاختبار في وظيفه سكرتيرة عندكم هنا .
فتذكر على الفور ، وبدأ يقلب في المفكرة التي أمامة حتى عثر على أسمها ... مريم عثمان , وكان وحيد قد أخبره بأنها مطلقه وفي أشد الحوجه للعمل لتؤمن أحتياجاتها المعيشية وما لبث ان خضعها لامتحان بسيط لتحديد السرعة كطابعة ، فنجحت ببراعه ، وأجابت بلباقة على جميع الاسئلة وكيفية ردها على الهاتف واستفسارات الجمهور والعملاء وسّره ذلك النجاح الباهر وطلب منها على الفور طباعه خطاب تعيينها ابتدأ من أول الشهر القادم ..
وأخيرا تستطيع أن تؤمن مصروفاتها , وأن تضم اليها سلمى وعادل . لايوجد هنالك سبب يمنعها من أن تحضن أطفالها , وستطالب بهم حتى اذا أدى الأمر الى رفع قضيه ضد زوجها السابق خالد ، فوالدهم مشغول عنهم كل الاوقات حتى بخل عليهم بالمصاريف ، فقد طالبته شادية مراراً برسوم الامتحانات ولكنه يسوق الأعذار يوماً بعد يوم وبالرغم من ذلك يصل البيت وهو مطبق في يديه عدة زجاجات للخمر جّل اهتمامه معاقرة الخمر ..
وقطع أحمد أفكار مريم بأن طلب منها الحضور في أول الشهر وشكرته شكرٌا بالغــا وخرجت ولا تكاد الفرحـــة تسعها ..
وكان زين العابدين قد رجع الى منزله , فوجد وحيد في أنتظاره وأخبره باسم الشركة ولم ينس بأن يبلغه بالألتباس الذي وقع فيه ورؤيته لامرأة أخرى تحمل شبها لأوصاف مدام ليلى وعرف وحيد بأنها مريم وقد ذهبت حسب الموعد ..
وحاول زين العابدين أن يقنع وحيد بأن يعدل عن شكوكه ويُرجع الثـقة في والــده ولكنه رفض كل أحاديثة وآرائه كما رفضها من قبـل .
وكان مصمماً على المضي قدما في البحث عن الحقيقــــة ، ولأنه لم يعد يؤمن بشي اسمه الثقة فالثقة شئ لم يعد يؤمن بها في نظره ، حاول أن يقنع نفسه عدة مرات بالثقة ولكنه فشل فشلأ ذريعا في زرع الثقة داخل نفسه وهو لا يدري لماذا وجد نفسه مدفوعا بكل ذلك الحماس لمعرفه الحقيقـــة فهو يخاف أن يقع زلزال قي منزله لا يريد أن يتكرر الزلزال الذي وقع في منزل أسرة شادية .
وجلس يفكر في الخطوة التأليه التي يمكن أن يخطوها وفكر أن مريم قد تساعده في الخطوة التالية بعد أن يتم تعيينها في الشركة ولكنه لم يتشرف برؤيتها بعد ، فكيف يتسنى له أن يطلب منها من أول وهلة بأن تسّد له خدمة كهذه أليس هو الذي ساعدها في أيجاد العمل لها ولكــن هل تقــبل مريم بأن تتجسس لصالحه ؟؟ وتتجسس على مديرها وعلى والده .. ؟؟ أنها خطوة في غاية الخطورة كيف يسمح لنفسه بذلك , ولكن ليس من حل آخر وقد تأتمن أسراره . ونهض مودعا صديقه زين العابدين وعاد إلي منزله دون أن يصل الي نتيجة نهائية بأفكاره ..
وجلس على أحدى الكراسي في الصاله .. والتفكير يسيطر عليه ولم يشأ إبلاغ سوزان بما يجول في خاطره ربما لا يريد أن يشغلها بشئ جديد عن مذاكرتها ، يكفي الألم الذي تكابده سوزان . وتعايشه ، وتعاني منه.
وفي أثناء جلوسه سمع صوت سعالٍ حاد ، تبين له أنه صوت سوزان ونهض من جلسته واتجه الى مكان جلوسها في الغرفه الأولى ، فوجدها تسعل وهى تحاول وضع المنديل على فمها لتكتم به السعال ، ولاحظ بعض قطرت الدم على المنديل ، وشعر بأن الأرض تدور حوله ولا تكاد أقدامه تحمله ، وجثي علي ركبتيه في الأرض أمامها يسألها وهى تجيبه بصوت منخفض أشبه بالهمس :
- وين الادوية بتاعتك ؟
- انتهت قبل يومين .
- إنتِ مجنونة عايزة تموتى نفسك طيب ليه ما كلمتينى ؟
- ماعايزة امشى تانى للدكتور كرهت الادوية والحقن والحبوب والمستشفيات . .
- ده كلام غير منطقي هسع تقومي تبدلي ملابسك عشان نمشى للدكتور
ولم تمض لحظات حتى أبدلت ملابسها .. ولاحظ هو وجود سيارة والده واقفه أمام السور الخارجي ولكن والده غير موجود . وبدأ يبحث عن مكان المفتاح الى أن وجده ، وبعد أن ركبت سوزان أدار محركها واتجها الى العيادة في شارع القصر جنوب ، لم تكن العيادة مزدحمه كالعادة بل أخف وطأة من أي يوم مضى ، وجلس وحيد ينتظرها في قاعة الانتظار بينما دخلت هي غرفه الكشف لمقابلة الدكتــور.. وتعرف عليها الدكتور بمجرد أن رفع عينيه من فوق نظارته الطبية وطلب منها الجلوس وقد لاحظ أن صحتها ساءت للغاية شئ يدعو للقلق وبعد أن كشف عليها بالسماعة في صدرها وجس نبضها طلب منها أن تخضع لصورة أشعه حالأ ، وخرجت من غرفه الطبيب وأبلغت وحيد بأن عليها أن تأخذ صورة أشعه وسارت نحو غرفه الأشعة ولم تمض دقائق كثيرة حتى عادت وهي تحمل مظروف الصورة ودخلت مرة أخرى لمقابلة الطبيب ..
وأمسك دكتور محي الدين بالصورة ووضعها في أتجاه الضوء وأبدل نظارته بنظارة أخرى ودقق النظر ، ومرت دقيقة كاملة وهو يتفحص الصورة ، مما أثار ارتباكها وحيرتها ولأحظ الطبيب أن الروماتيزم قد تسبب في ضيق لأحد صمامات القلب ، وجاء وجلس على كرسيه ووضع نظارتة العادية . واحتار هل يخبرها بالحقيقة أم لايكشف لها ذلك وأن العلاج بالحقن والأقراص لا يجدى فليس هنالك سبيل سوى اجراء عملية جراحيه لتوسيع الصمام .
أيقن بانها لابد أن تكون عالمة بحقيقه مرضها على الأقل تحافظ على صحتها بحذر ولا ترهق نفسها ، واستجمع شجاعتة وقال لها وقد تعود أن يجمعها لمثل تلك المواقف المتكررة لديــه ..
ـ رماتيزم القلب تسبب ليك في ضيق بالصمام
ـ يعنى ايه الكلام ده يادكتور ؟
ـ يعنى لابد من عملية جراحية لتوسيع الصمامات
ـ دكتور ما فيش علاج الا بالجراحة ؟؟
ـ لأ يوجد علاج لتلك الحالة الا باجراء جراحة لتوسيع الصمام ..
وكان حديثه كتيار كهربائي يسرى فيها . ولم تعد ترى شيئا أمامها سوى سحابه سوداء داكنة في عينيها . وهي ترتجف من الداخل . خيالها أصغر من أن يتسع لتخيل عمليه جراحيه في قلبها ، لقد أصبحت أمام أمر واقع أشد قسوة من اجراء عمليه خطرة .
خطر على حياتها قد تؤدي العمليه بحياتها وتفقد وحيد الذي ملأ دنياها أملأ.
خرجت من غرفه الدكتور بعد أن حملت روشته الأدويه ..
وسألها وحيد بعد أن لأحظ شحوبها واصفرار وجهـها وشفتيها ترتجفان ولكنها لم تجب بشئ ، وكرر لها عدة أسئله .. وأخيرا نطقت قائله بكلمات يائسه باهته :
- إمّا عمليه ناجحه وإما قبر يضمني في ذلك الثرى .
وصرخ فيها قائلا :
_ لبه التشاؤم ؟ ألف مرة قلت ليك لازم نتحدى المرض خلي روحك المعنويه مرتفعه
_ لكن الروماتيزم عمل ضيق فى الصمام ..
وأدرك وحيد بأن ما تعانيه أشـد قسوة. ولـم تسم ذلك تشاؤما بـل حقائـق واقعيه أمّر قسوةً ، وذبل وجهه كأنما صب عليه ماءُ بارد تقلصت له جلدته من البرودة .
ووصلت البيت .. وفي اليوم التالي كان عليها أن تذهب الى المدرسه لأن العطله انتهت ، وعند وصولها الداخليه وجدت رفيقتها شادية تصبغ فى شعرها الاشقر بصبغة سوداء ،هى دائما تحافظ على سواده بتلك الصبغة وجلست قبالتها تحكى لها عن الايام التى قضتها مع ابن خالها وحيد ، وعن ايام مرضها ، وسردت لها بأنها شعرت بأنها مكروهه من بدرية ولا تدرى سبباً لذلك ولكنها لم تعر الامر اهمية كبيرة حبهما اكبر واقوى من اى تيارات مهما كان مصدرها .
وبدأت الهواجس والخيالات المخيفة تسيطر على سوزان كمثل ان تحس بأن ايامها معدودة وانها فى فسحة محدودة من الزمن لاقتراب أجلها ، هل تجرؤ على اجراء العملية ؟ هل امكانيات المشفيات هنا كفيلة بنجاح العملية انها لا تشك فى مقدرة الاطباء ولكن شكوكها فى مقدرة الامكانيات الفنية الطبية فهى لا تمت للتطور بصلة ، وبينما شادية تسرح وتصفف فى شعرها وتفرك فيه بالصبغة رفعت رأسها وقالت لها :
- ايه رأيك ننتهى من مادة حساب المثلثات اليوم ؟؟
- يا شادية اقرأ لمين ؟؟ الدخول للقبور ما محتاج لشهادات !!!
- وبعدين معاك ، حرام عليك والله تضعى نفسك فى أوهام .
انه لشىء بشع ان نخاف الموت ، وندرك اننا فى يوم من الايام سوف نموت ومهما طال العمر ، من منا يستطيع ان يعيش الاحساس الحقيقى تجاه الموت فالموت اكبر من ان يقاس بالإحساس اكبر من ان نفكر به مجرد فكرة ، يبدو للبعض مجرد التفكير فيه هو مجرد فكرة عابره مرّت بالأذهان .. ظلمة .. مجهول ، نفق طويل طويل ، فقط عندما يموت أو يغَيب الموت عزيز علينا فقط وقتئذ نشعر بفداحة الموت ، نشعر ونلتمس هول الموت.
سمعت سوزان صرخات بعض البنات تتعالى فى ميدان كرة السلة ، أطلت برأسها من خلال النافذة لترى ماذا يحدث ؟؟ فاذا بها تشاهد مجموعة منهن يلعبن فى كرة السلة وهن سعيدات يضحكن ويجرين هنا وهنالك ، وعادت بها الذكريات الى الوراء الى أيام كانت متعافية فيها ، تشاركهن اللعب والمرح والجرى ، مع سلوى عثمان ..ايمان عبدالله .. ناهد زكريا .. وشادية ولكن ألان أصبحت مقيدة .. مكبلة .. سجينة لا تستطيع ان تخطو ثلاث خطوات ركضاً ، انها مأساة بالنسبة لها .
لقد فرضت عليها الاقدار قيوداً جعلتها كعصفورة مقصوصة الأجنحة ، حزّ ذلك المشهد فى نفسها ولم تحاول ان تكبت الدموع التى ترقرقت فى عينيها ، أطلقت العنان لهما وأمسكت بالسياج الذي يحيط بالنافذة ، أغمضت عينيها فسال الدمع على خدودها وبالرغم من ذلك ظلت واقفة تحلم انها تطارد فراشة زاهية الألوان تطير من زهرة الى زهرة ، تركض خلفها دون إعياء وإرهاق ومن خلفها يركض وحيد ليلحق بها هو الأخر .
الأحلام الجميلة ملجأ دافىء بالنسبة لها تحلم وهى فى عز الواقع هذا دليللً على رفض الواقع الذي تعيشه وهروب منه ، انه تخدير مؤقت مجرد ان نفيق منه حتى نبحث عن حلم اخر ، فجأة أمسكت بأصابع يديها الفراشة الجميلة ولكن ألوانها الزاهية تفسخت وتشبثت بأصابعها وتحطم ذلك الجناح الرقيق الناعم وتكسر بين قبضة أناملها .. استيقظت من غفوتها .. من حلمها ...وارتمت بجسدها إلي اقرب سرير تنشد الراحة والنوم بالرغم من انها لم ترهق نفسها طوال اليوم بأى شىء ولكنه الإعياء والمرض ..
مالت الشمس للغروب وكانت كل طالبة قد استعدت للمذاكرة الا هى لم تعد تر هنالك دافعاً يدفعها للمذاكرة لم تعد قادرة امساك كتاب لساعات طويلة تذاكر فيه ، وتمنت ان يمر هذا العام الدراسى بأى وسيلة ما ، نجاح او فشل .. ضياع او امل .. ولو امل بسيط فى الحصول على شهادة نجاح فقط ، وباتت تكره الدراسة حتى الذهاب الى حجرة الدراسة لاستيعاب الحصص باتت تكرهه ولكن شادية وسلوى وناهد لم يبخلن عليها بشىء من المساعدة والكتابة والشرح ورفع الروح المعنوية لها ، وكانت تدرك ان هذة الاشياء فوق طاقتها .
وعند نهاية الاسبوع ذهبت شادية الى بيتها ولكن لم تجد والدها بالبيت وابلغت عمتها انها تنوى زيارة والدتها بالديوم الشرقية ومعها اخوتها الصغار على ان تعود قبل مغيب الشمس فالاطفال متعطشين لرؤية والدتهما .. وافقت عمتهم دون ابداء سخط او تذمر ، كأنها تفعل ذلك شفقة منها ولكن حقيقة الامر كرهت الركض خلف الاطفال وكرهت المراقبة والالحاح المتكرر منهما بأنهما يرغبان برؤية امهما .. ارادت ان ترتاح ولو لساعات قليلة .
وعندما علمت سلمى بأنها ستذهب لامها ركضت مسرعة تجاه عادل وجاءت به ممسكة بيده وبكل براءة سأل شادية عن حقيقة الخبر ، الا ان شادية لم ترد عليه بل ابدلت لهما الملابس بعد ان اغتسلا ولم يحاول ان يكرر سؤاله مرة اخرى فقد علمه والده خالداً ان التحدث فى مثل ذلك الامر عيباً من العيوب كبح عواطف اطفاله بكل قسوة تجاه امهما لدرجة أنه احياناً كان يضربهما فى قسوة واضحة ، لقد ترك فى نفوسهما شيئا اشبه بالعقدة النفسية ، يريد ان ينشأهم على وتيرة معينة من السلوك والرغبات التى يريدها هو دون مراعاة لعواقب تلك النتائج السلبية .
وعندما وصلوا الى الديوم الشرقية التقوا بمريم فى لقاء حار وعناق طويل واشواق عميقة كأرض متعطشة لسنوات طويلة واقبل المطر عليها .
لاحظت مريم ان صحة اطفالها متدهورة ، عندما تركتهما لم يكونا بهذا الحال وبهذا الهزال والضعف .
ابلغت مريم ابنتها شادية بأنها نجحت فى المعاينة وبدءا من اول هذا الشهر سوف تستلم عملها الجديد ، ودخلت الى الغرفة واحضرت خاتماً ذهبياً يقدر سعره بنحو خمسون جنيها وناولته لابنتها لتصرفه عند اقرب صائغ وتدفع رسوم الامتحانات وتشترى بعض المواد الغذائية والملابس لسلمى وعادل ولكن دون علم خالد ، فاذا علم بوجود ذلك المبلغ قد لا يتركه لها .
وبعد جلسة طويلة امتدت لساعات ودعت شادية والدتها وتمنت لها السعادة فى عملها الجديد وهمت بالخروج بعد ان طلبت من سلمى وعادل اللحاق بها الا ان عادل رفض الخروج وفضل المكوث مع والدته .. شادية تحاول اثناءه عن ذلك ولكنه يزداد اصراراً وتمسكاً بوالدته ، وذّكرته شادية بأن والده سيعاقبه ويضربه بالسوط فى حالة عدم العودة للبيت ، تذكر عادل قسوة الضرب وخرج معهما ، وفى طريقها للبيت دلفت الى محل صائغ وابدلت الخاتم باوراق مالية ومن ثم عرجت الى بقالة المواد الغذائية واشترت كل حاجاتها وواصلت مسيرها للبيت ولم يكن والدها قد حضر بعد .
استلمت مريم عملها الجديد وهى سعيدة كل السعادة لاتكاد تصدق ما هى فيه لقد وجدت عملاً ترتزق منه بعد ان باعت كل ما لديها من ذهب لتعيش مرفوعة الرأس والكرامة ، كانت كل حوائجها تشتريها دون اللجؤ الى احد ليعطيها مالاً ، واخر ماتبقى لها من ذهب باعته لتشترى به ثياب وفساتين تلائم العمل وتوفر مصروفات المواصلات من والى الشركة ، كانت تريد ان تعيش شريفة معززة .. مكرمه .. وظلت شريفة لا يهمها ما تسمعه من كلام الناس لقد كان الناس يتساءلون من اين تاتى بتلك الثياب والعطور والفساتين ؟؟اى مطلقة فى العالم لا بد ان تكون محور حديث الناس ان يثيروا حولها النميمة والظنون يطاردونها بألسنتهم أينما ذهبت ، وأينما مكثت هكذا حال كل مطلقة يزيدون من تعاستها تعاسة وآلامها الماً .
وكان مكتبها بالقرب من مكتب المدير احمد ، يفصل فقط بينهما باب صغير ورن جرس الهاتف المباشر فى مكتب المدير الا ان احداً لم يكن موجوداً لهذا اسرعت مريم نحو سماعة الهاتف ورفعت السماعة وكان المتحدث على الطرف الاخر وحيد وهى لم تتعرف به من قبل وعَرفها بأنه وحيد ابن احمد على وصاحت مندهشة " معقول ؟؟ " واغدقت عليه بالشكر والثناء لانه ساعدها بايجاد تلك الوظيفة وتنمت ان تسنح لها فرصة برد هذا الجميل وهنا انتبه وحيد لكلمة رد الجميل وتذكر على الفور بأنه فى امس الحوجة لاداء خدمة له ، لمساعدته فى كشف لغز ليلى ، لكنه لم يكن يملك الشجاعة الكافية فى تلك اللحظة حتى يوحى لها بكل شىء الا انه ابلغها بنيته زيارة الشركة للتعرف عليها اكثر ورحبت هى بذلك وتمنت ان تكون فى اقرب وقت ممكن وهى تواقة للتعرف عليه .. ووضعت السماعة بعد ان علم منها ان والده غير موجود بالمكتب .
امسكت مريم مرة اخرى بسماعة الهاتف محاولة الاتصال بطليقها خالد وتهيات للمحادث فهذة اول مرة تتصل به عن طريق الهاتف منذ انفصالهما .
- الو .. الو .. خالد ؟؟
- انا مريم يوسف
صمت لبرهة .. لم يكن يتوقع ان يسمع هذا الصوت وان تتصل به مريم فى يوم من الايام ولو لاحلك الظروف ، كاد هذا الصوت ان يؤجج بداخله كوامن الشوق الا ان تذكر سبب الفراق وعاد الى وتيرة كبرياءه وامواج غضبه واستعاد رباط جاشه واجابها قائلا :
- نعم عايزة ايه ؟
- عايزة اطفالى ياخالد .. الاولاد صحتهم متدهورة .. بيدفعوا ضريبة لا ذنب لهم فيها !!
- بالبساطة دى وعلشان حصلتى ليك على وظيفة ...انسى الموضوع ده خالص .
- خالد انت ما فاضى ليهم .
- فاطمة عمتهم موجودة ثم ثانيا انا حاتزوج واحدة قريب جدا حتكون معاهم فى البيت.
- انت حر تتزوج بواحدة بعشرة دى امور بتهمك انت وعموما انا بعرف كيف اضم الاولاد بالطرق القانونية .
ووضعت السماعة دون ان تنتظر منه تعليق او اجابة .
وساقها تفكيرها هل سيتزوج بامراة اخرى ؟؟ هل يعنى ذلك نهاية الامل بعودتهما ثانيا للحياة الزوجية معاً ؟؟ وماذا يهمها فى ذلك ، وجدت نفسها منساقة فى تفكير دون ارادتها ولا بد ان تضع نهاية لمثل تلك الافكار ، لا تود العودة له ولا تحلم بذلك فليرحل خالد من حياتها نهائياً وتنسى انه كان زوجاً لها فى يوم من الايام ويتوجب غداً ان تذهب الى المحكمة الشرعية وتطالب بحضانة الاطفال ، هى تعلم ان من حقها حضانتهم فى مثل هذا العمر ، لا تحتاج الى محامى ليدافع ويرافع ويؤجل ويطالب بمبالغ هى فى امس الحوجة لها وقررت رفع الدعوى غداً ..
كانت متحمسة جداً .. فى اليوم التالى استاذنت من المدير وخرجت صوب المحكمة الشرعية وما ان وصلت حتى تهافت عليها الكتبة الذين يمتهنون مهنة كتابة العرايض والدعاوى وهم يجلسون فى مقاعد متفرقة خارج مبنى المحكمة كل منهم اتخذ طاولة صغيرة امامه بالكاد تسع لمساحة ورقة واحدة .
واختارت من يكبرهم سناً وقد وضع عمامة كبيرة على راسه ووضع نظارة احدى عدساتها به شق تحسبه خيطاً فى وسط العدسة ، سردت له باختصار ما تود ان تقوله ، كتب وسطر حروف منسقة منظمة ولم ينس ان وضع فى طرف الدعوى طابع (دمغة ) .
سلمت الدعوى لكاتب العدل وحدد لها تاريخ اول جلسة فى الرابع والعشرين من اغسطس القادم .
عادت الى الشركة وهى تحلم وتحمل املاً كبيراً تتمنى تحقيقه وحلماً يراودها بحضانة اطفالها ورعايتهم رعاية كاملة بعيدا عن قسوة خالد واخته .
لم تجلس فى المكتب كثيراً حتى اطل وحيد من مدخل المكتب وبمجرد ان رفعت نظرها لترى من الداخل اذا بها تفاجأ بشخص سبق لها ان شاهدته وكادت عيونها ان تقفز من مكانها ، عَرف وحيد نفسه لها الا انها ازدات دهشة وهى تحملق غير مصدقة ما تراه امامها ، طلبت منه الجلوس ولكنه استأذنها خمس دقائق ليدخل على والده ثم يعود لها .
فى اثناء غيابه كانت تراجع ذاكرتها .. انها قابلته ليلة طلاقها فلقد ساعدها فى ايجاد سيارة اجرة ليلة ذهابها الى الديوم الشرقية .. اى قدر جمعها به مرة ثانية .. واى قدر ساقها لكى تلتقى به هنا .
وعندما عاد وحيد وجد كوب عصير ليمون فى انتظاره ، جلس يرتشف فى صمت وهى تريد ان تبدأ بالحديث لكنها تفضل وتؤثر الصمت ، عليه ان يبدأ هو ...
بادرها بالسؤال عن احوال شادية وعن دراستها ولكنها منذ فترة طويلة قاربت الاسبوعين لم تراها وبالرغم من ذلك قالت له " الحمد لله كويسة جداً جدا " وادركت انه لا يعلم بقصة طلاقها وانها لا تعيش معهم بالبيت وحمدت الله على ذلك ، لكنه كان يعلم كل شىء هى فقط لا تدرى ذلك ناسية ان شادية صديقة مقربه لسوزان ، امتد الحديث بينهما عن العمل وشؤون النقل وازمات الوقود والخبز والمواصلات العامة ومشاكل الحياة اليومية .
اثناء ذلك دخلت ليلى تحمل اوراقها الخاصة بالتأمينات بعد ان القت عليهما بالتحية وخصت مريم بتحية خاصة، ولاحظ وحيد العلاقة التى نشأت بينهما فمجىء ليلى كل سبت وطد المعرفة والصداقة بينهما فكانت تجلس معها قبيل الدخول الى المدير احمد على او عند تاخره فى الوصول الى المكتب وتتبادل الحديث معها فى شتى المواضيع وعن امور الحياة ، هكذا تعمقت صداقتهما وصارت صرحا قويا من المودة والاحترام المتبادل بينهما .
وواصلت ليلى دخولها الى مكتب المدير ، ووجد وحيد أن هذه فرصه سانحه للحديث بشأنها وسألها ما اذا كانت تعرف ليلى قــبل حضورها الى هــنا وأجابت بالنفي وقالت له " انها أمراة طيبه جدا ". وأطرق قليلا ثم جمع شجاعته واعتدل في جلسته بعد أرتشف أخر جرعه من كوب الليمون وقال لها
- عايزك تؤدي لي خدمه بسيطه لو أمكن تساعديني فيها .
- طبعا وأنا متمنيه تطلب مني أي خدمه أؤديها لك .
- بس أخشى أن لاتستطيعي ..
وشرح لها بأختصار المشاكل التي تدور في البيت وأن والده لا يطيق البيت أبدا وقد وجد بمحض الصدفه صورة لليلى عند والده وأنه يريد أن يعرف ان كان هنالك علاقه ما تربطها بوالده ، وعند سماعها ذلك أصابها ذهول ، واندهشت وتعجبت لصراحته وجرأته الى هذا الحد ، لكنه كان مدفوعا بدافع الحفاظ على بيته ، وكانت مهمه صعبه للغاية بالنسبه لها ،واحتارت بماذا تجيب . أصبحت صديقه بالنسبه لها وأحمد على مديرها وهذا الموقف أشبه بالمؤامرة ، وقد تعرض نفسها للفصل من العمل وهى في أمس الحاجة للعمل ووحيد ينظر الى صمتها كأنه صمت سنوات ، وقبل أن تتكلم قال " بأنه يريد أن يمنع حدوث طلاق والدته " وعند سماع هذه النقطه استيقظت كل أحاسيها وأخيرٌا اقتنعت بمساعدته ، ولقد عرف هو كيف يضرب على الوتر الحساس نقطه ضعفها الطلاق وأنها مطلقة وتعرف مرارة الطلاق بالنسبة لأفراد الأسرة .
وأستاذن منها وخرج وتركها في دوامه كبيرة من التفكير ، كانت تتساءل في نفسها هل من المعقول أن تكون هنالك علاقه عاطفيه تربط المدير بليلى ، لا لا مستحيل ليلى انسانه بريئه وكذلك أحمد على ، ولكن ماذا يهمني أنا ؟؟ لا تدري كيف سيطرت تلك الأفكار عليها وأدخلتها في متاهات لا نهائيه ، ورجعت بذاكرتها الى الوراء قليلا لعلها تلاحظ أن حركه ما صدرت من ليلى توحى بوجود علاقة معه ، ولكنها لم تجد شيئا يستحق الأثارة والتامل وتعجبت من تلك الأقدار التي جمعتها بوحيد لا لكي يساعدها بل لتساعده هى هذه المرة ونهضت من كرسيها وتظاهرت بأنها دخلت المكتب لوضع بعض الأوراق التى انتهت من طباعتها ولكن في حقيقة الأمر جاءت لتلتقط أي كلمات جانبيه تدور بعيدا عن محيط العمل ، ولكن وجدتهما منهمكين في الحديث عن الحصص والدفعات القادمة وتجديد الملكيات .. عن الأعمال التأمينيه وهى لا تفهم شيئا عن التأمينات وخرجت بهدؤ بعد أن وضعت الرسائل المطبوعه على طاولته ، وكان عليها أن تنتظر الى يوم السبت القادم ، لعلها تلتقط شىء ، وبعد قليل جاءت ليلى خارجه من المكتب بعد أن أنهت اجراءاتها وهي تحمل في يديها أوراق واقتربت منها كثيرٌا وقالت لها :
- بالمناسبة لابد أن تحضري الأحتفال الذي سيقيمه زوجي الطبيب بمناسبه انتهائه من الحصول على زمالة الجراحين من لندن .
- ولكــن أنـا
وقاطعتها قبل أن تكمل حديثها قائله لها:
- لا انا ولا لنا لن أقبل منك أي عذر يامريم ..
ووصفت لها مكان منزلها ، وخرجت دون أن تقبل لها عذر أوتسمع للحديث بقية .
كانت مريم فرحه ، ولا تدري سبباً لفرحها .. ربما لأن ليلي وجهت لها الدعوة وبالتأكيد ستكون وجهت الدعوة الى أحمدعلى .. بمناسبة احتفال زوجها الدكتور أنها تدعوه للاحتفال الذي يقيمه زوجها .. وهذا مما لا يدع مجالا للشك والريبة في عدم وجود علاقة لها بالمدير أحمد على وكيف وزوجها طبيب ووضعه ميسور في الحياة وله عيادة خاصة ماذا ينقصها ؟ وجاهة المجتمع ؟ بالتأكيد لا والف لا وقررت أن تذهب للاحتفال وتلبية الدعوة مجامله لها بل خصيصاً لرؤية أحمد على وهل سيحضر أم لا ؟؟. وهل يصدق احساسها بأن ليلى ستدعوه ..
وفي يوم تلبيه الدعوة عند الساعه السابعة مساء ذهبت الى منزل ليلى ، وقبل الدخول للمنزل كانت تتلفت يمينٌا وشمالاٌ في اتجاه السيارات الواقفه لعلها تجد سيارة أحمد على متوقفة بينهم وبالفعل لمحتها واقفة في مؤخرة الصفوف ، وأطمئنت لحضوره وعندما دخلت المنزل وجدت الجميع يجلسون في دأئرة كبيرة تضم الأصدقاء والصديقات والزملاء والزميلات ، وعرفتهم ليلى بمريم وأخذت مكانها بينهم . ولم تمض نصف ساعة حتى أستاذنت من ليلى ونهضت خارجة وفي نفس تلك اللحظه نهض أحمد على وأستأذن هو الآخر ، فنادى على مريم وطلب أن يوصلها وهو في طريقه .. وترددت فلقد كانت تعلم تماماً أن ركوبها معه سيثير حفيظة الناس الذين يسكنون بالحى ويدع لهم مجاٌلا للتحدث عنها ولكونها مطلقه وحضرت مع رجل وهم لا يعرفونه ولم يشاهدونه من قبل ..هى ادرى تماماً بالمجتمع ، وركبت معه في المقعد الامامي وطلبت منه أن يوصلها لطرف الشارع فقط ، ولازت بالصمت كان عقلها يحدثها واخيراً مجئ أحمد على أبعد الشكوك , وعلى وحيد ان يدرك ذلك ، وقطع أحمد على ذلك الصمت , وسألها :
- مبسوطة من الشركة..
- جــدٌا جــدٌا كتر االف خيرك الفضل يعود ليك أنت .
- زوجك ما ناوى يرجعك ؟
والتفتت اليه وأعصابها قد بردت وأحست بثقل لسانها ووجدت جهاداً في الحديث..
- معقول أنت عارف انا مطلقة ؟؟
- ايوه أخبرني وحـــيد ..
- وحيد كمان عارف !!!
- أنا آسف اذا سببت ليك أزعاج بسؤالي ده لم أقصد شيئا .
- لا.. لا ابداً مـا فــي أي شــئ ..
ووجدت نفسها مدفوعة بحماس لتسرد له ما حدث .. لير من المخطئ هي أم خالد وأخذت تسرد له باختصار السبب المباشر وبعد أن أنتهت من سرد الاحداث أحست بنوع من الراحه النفسيه ، كأن هنالك ثقلا أنزاح عنها ، فالمشاركه هي ما تحتاج اليه ، انسانيتنا وتبادل الآراء ..الاحساس ان الاخرين يشاركونك احزانك ، وحلل لها الأخطاء ، وخلص لها بنتيجه العدل فقد برأها من ساحه التهمة ووجد نفسه منساقا للحديث عن نفسه عن مشاكله .. وبدأ يتكلم لها . لم تكن له حيله عندما تزوج أمراته بدرية فهي بنت عمه وأجبروه على أن يزوجوه أميه لا تقرأ و لا تكتب شيئاً .. لا تعي شيئاً يخاف أن يظهر بها في المجتمعات ، يساوره الخجل اذا قدمها لوكيل وزارة بوصفها زوجته ، لم تكن بمستوى مجتمعه الجديد .. صار يتفادى حفلات المجتمع لمجرد أنها لم تعد تناسبه كزوجه لمدير شركة ، كزوجة لنائب برلمانى فى مجلس الشعب ، واكتشفت مريم حقيقة اللغز الذي حير وحيدًا أنه ينفر من زوجته لمجرد أنها لم تعد تناسه في مجتمعه الجديد يا للعار !! ياللرزاله .. والخبث .. هكذا دائماً معشر الرجال غدارون.. خونه .. لا يحفظون الجميل يعاملون المرأة كأنها سلعة تبــاع وتشتري وتبدل في منتهى السهــولة ، يعاملون المرأة كقطعه من الأثاث اذا صارت قديمه لا تليق بالعصر سئم منها الرجل ومَـل منها دون مراعاة للمشاعر .. دون مراعاة لسنوات التضحية ولسنوات العمر التى بذلتها فى سبيل تقدّمه ... هكذا بببساطة ..
أحست مريم بأنها تريد أن تصرخ من أعماقها في وجهه ، تريد أن تكلمه أن تنصحه ، بل ان تطلب منه ان يتوقف فى هذة اللحظة وتنزل من سيارته ها هو يدعي الوعي والثقافه ولا يدري بنفسه أنه في الدرك السحيق من الجهل.
احتفظت مريم بحديثها في نفسها، فاذا قالت له الحقيقة قد يتوقف عن الاسترسال فى سرد الحقائق ، وقد يحرمها من الوظيفة وقد يعجل بفصلها من دون أسباب وتساءلت داخل نفسها ، اتبيع رأيها بذلك الثمن ؟؟ وتحتفظ به معلباً كما هو داخل نفسها ؟؟ لم تتفوه له كلمه .. ولم تبد أي تعليق فظلت صامته وهي تستمع له ، جاء منحنى الشارع الذي تسكن به وقبل ان تنزل ادركت انها لا بد ان تقول له كلمة واحدة مهما كان الثمن " وراء كل رجل عظيم امرأة " هكذا قالوا لنا وفتحت باب السيارة ونزلت وحمدت اللُه على وصولــها الشــارع وأنقــذها من أي تعقيب اخر ، دخلت الى منزلها وهى فرحة .. سعيدة .. لأنها عرفت حقيقة أحمد على .
عرفت حقيقته ، صورته الأصليه التي كان يبحث عنها أبنه وحيد ، فاحياناً يعجز الأبن عن معرفة أبيه لوجود الستار السميك من الرسميات والعلاقة الابوية التي يصعب على الابن اختراق جدارها .
ان على مريم ان تبلغ وحيداً بكل شىء ، حتى يطمئن ويضع حداً لهواجسه ولكن هل تسرد له كل التفاصيل ؟؟ ام تخبره بالدعوة التى وجهت اليها من قبل ليلى !! نعم حتما حتما سوف يقتنع واذا رأت انه لا زال متشككاً ستضطر لابلاغه بالتفاصيل الدقيقة ، هكذا كانت تحدث نفسها .
انتهزت مريم فرصة غياب احمد على من المكتب وادارت قرص الهاتف وبعد برهه كان المتحدث على الخط الاخر وحيد ، فلقد منحها رقم هاتف المكتب وابلغها بأنها محظوظة لكونه فى اجازة سنوية فقط جاء بمحض الصدفة لزيارة صديقه زين العابدين فى المكتب الا انه قاطعته ودخلت فى الحديث عن الموضوع مباشرة ، سردت له باختصار قصة الدعوة من قبل ليلى والدلائل التى عثرت عليها والاستنتاجات الى توصلت لها من خلال الحوار الذي دار بينها وبين احمد على .
اخيرا استطاعت ان تنشله من تلك الاوهام والظنون التى اثارها لم تكن صحيحة البتة .
أبلغ وحيد صديقه زين العابدين بكل ماجرى فى المحادثة وبكل ماابلغته به مريم ، ووجد زين العابدين ان تلك فرصة سانحه له بأن يثنيه عن التفكير مرة اخرى فى هذا الموضوع ويجب عليه ان يغلقه للابد ، وانه ليس ثمة ما يثير الشكوك بعد الان .
فى المساء جاءت نتيجة انتخابات مجلس الشعب مغايرة تماما لتوقعات أهل الحي وللناخبين وللسودان اجمع ، كانت ملئية بالتناقضات والمفاجأت ، كثيرا ما تختلط المفاهيم فى هذه الأيام نتيجة الرواسب الفكرية التى تمخضت عنها تطلعات الاجيال المتلاحقة ونتيجة اصطدام هذة الرواسب بالافكار الحديثة التى ولدتها التجارب الى مر بها السودان .
لقد فشل وهُزم أحمد علي في الانتخابات . واندثرت أحلامه باعتلاء كرسي محلس الشعب . وتبدلت أحواله وطبائعه ، بعد أن كان مثالياٌ لمجتمع منطقته يبرز لهم تحمسه لتنفيذ البرامج الانتخابية صار انطوائيا لدرجة ان أنقطع عن الذهاب الى المسجد يوم الجمعه لأدء صلاة الجمعه ، وحتي أذا ذهب المسجد يجلس في الصفوف الخلفـيه بدلا من أن يجلـس في الصفوف الأماميه ، كما كان دائماً يحاول أن يتوارى عن أنظار الناس، كرههم يشعر دائما بأنهم خذلوه ، تخلوا عنه في أيام التصويت ، وفتر حماسه الوطني بل تلاشى تماما ولم يعد يتكلم عن السياسه ، لأنها تذكرة بهزيمته في الأنتخابات وتذكرة بالمبالغ الطائله التي خسرها في الدعايه الانتخابيه .
وكانت بدريه سعيدة غايه السعادة بهزيمة زوجها في الانتخابات فقد جعلته معتكفاٌ بالبيت طيله أوقات فراغه يناقشها بهـِدؤ . يجادلها بهـدؤ .. يبادلها الرأى بصدر رحــب واسع لهذة الدرجه كانت سعيدة بهزيمه زوجها لأن الهزيمة أعادته الى حالته ألاولى ، الى أيامه الاولى ، وكأن الله عاقبه بتلك الهزيمة وأعاده الى رشده ، الى مجتمعه الأصلى المتواضع .
غريبة .. القيادات الختمية تهزم فى كسلا معقل المرغنية !! القيادات الشيوعية تتوارى تحت الأرض كمثل افكارها ، وقيادات الاحزاب التقدمية ومنها الناصرية لم تحرز مقعداً واحداً ، لا أحد يحمل هماً للوحدة العربية والتطبيق الاشتراكي العلمي التقدمي ، ولأن التقدم الانسانى كل لا يتجزأ ، الوحدة والاشتراكية هدفان مترابطان ، يفرضهما الواقع العربى ، ويفرضهما التقدم العربى ، كما تفرضهما المثل الانسانية الرفيعة ،لا أحد يريد أن يفهم أن الاستعمار لا زال موجوداً بالرغم من نيل الاستقلال ، لا احد يريد أن يفهم ويعي أن الاستعمار الغربى لن يسكت ولن يتخل عنا طالما هنالك خيرات وهبات طبيعية لا تنضب ، ولا أحد يريد أن يفهم إن لم تكن هنالك وحدة عربية فسوف يلتهم الاستعمار الغربى الوطن العربى دولة بعد دولة ، فلسطين ، السودان ، ليبيا ، مصر ، العراق ، سوريا ومن ثم دول الخليج ، لا أحد يريد أن يفهم ويستوعب أن الانسان العربى ومنه الانسان السودانى يريد أن يحرر ارادته الاقتصادية والاجتماعية وأن يقيم لنفسه مجتمع الكفاية والعدل والمساوة وهو مبدأ أساسى .
من المؤسف ان لا يتعلم حكامنا من ارث وحكم عبد الناصر ـ الملك فيصل ـ الشيخ زايد رحمهم الله جميعاً وكيف كانوا يدافعون عن قطرة ماء وما بال الحكام الان لا يدافعون عن قطرات الدماء التى تسال فى فلسطين والعراق والصومال ؟؟
نشرت القوائم الفائزة ، كوادر الحكومة الوطنية اكثرهم الفائزون فى انتخابات مجلس الشعب وجوه متكررة سبق لها معايشة التجارب البرلمانية بدون ان تقدم انجازات ، تتكرر الأن للأسف منذ الخمسينات كأنه لا توجد كوادر وطنية غيرها وجوه معينة محددة كتب لنا القدر أن تتحكم فينا .
تلك مشكلة السودان ، فساد الذمم والاخلاق والمحسوبية .
غريبة نعلم اين تكمن المشكلة وأين العلة ونجهل العلاج !!!.
وفي يوم أنعقاد المحكمه أستأذنت مريم من مديرها أحمد علي وتوجهت الى المحكمه ، وجدت في أنتظارها ابنتها شادية ودخلت بصحبة والدتها الى قاعة المحكمة ، وأخذتا مكاناً لهما ، وبعد قليل أطل خالد بملابس رثه واهمال صريح لحالته وحاله شعره المتجعد وقد غطى الغبار نعله بحيث من الصعوبة التعرف على لونه الاصلى .. لاحظت مريم الفوضى التي ارتسمت على خالد ، ولكن لم تأبه له كثيرا و لم يثر شفقتها أو عطفها بل زاد من اشمئزازها منه ..
ونظر القاضي في أوراق القضية الموضوعه أمامه ، وهو يقلب بيديه صفحاتها ، وبعد لحظات نادى على مريم ... وبخطوات هادئه اتجهت نحوه ووقفت قبالته في سكون تام ونظرات تحمل الترجي بحضانة أطفالها وانقاذهم من الفوضى والاهمال والقسوه ..
وسألــها القاضي قــائلا
- كــم عمر أطفالك وأسمائــهم .
- سلمى وعمرها ست سنوات وعادل وعمره أربعه سنوات .
- كيف ستعيشيهم والنـفقة قد لا تتجاوز عشــرة جنيهات ؟؟
- أنا أعمل موظفه في الشركة الاهليه للنقليات .
- عندك مستندات تثـبت كلامك دا.
- نعـم حضرة القاضى لــدي ما يثبت ذلــك .
وأخرجت من حقيبه يدها شهادة مختومه بختم الشركة تثبت بأنها موظفة لدى الشركة الأهليه للنقليات .
وأمسك القاضي بالشهادات وتفحصها جيدا وبعد أن انتهى منها ناولها المستشار القانوني الذي يجلس بالقرب منه .. وواصل حديثه قائلا لها :
- عندك أسباب مباشرة عشان تخلى اولادك معاك .
- نعم حضرة القاضى ابوهم دائما يجى اخر الليل وسكران دائما ..
وأستمعت المحكمه الى خالد وطلبت منه الأدلاء بأي أقوال أو أعتراض . فقـال (ليس عندي شىء اقوله لكن المرأة دى كذابه ) .
وأستمعت المحكمه الى شهادة أخت خالد وذكرت أنه بالفعل ياتي في منتصف الليل وهو غير متفرغ لهم وأنها هي التي تقوم برعايتهم ، وأدرك خالد بأنه في موقف حرج وأن أخته تريد بأي وسيله من الوسائل أن تتخلص من أبنائه فلقد سئمت وأرهقت برعايتهم ..
وكانت شادية تجلس صامته والصداع يدور في داخلها حائرة بين الأب والأم الى أيهما تميل وماذا إذا طلب منها الأدلاء بشهادتها ..
هل تشهد ضد والدها ؟؟ قد يضر بها ويكرهها للأبد ، هل تشهد ضد أمها ، وشهادتها ضد والدتها تعني أخفاقها عن قول الحقيقة ، ها هي أخته تقول الحقيقة واكتفى القاضي بشهادة عمتها ولم تعد المحكمه بحاجه لشهادتها ، وجاء حكم المحكمه وقال القاضي " بما أن الأطفال عمرهما لا يتجاوز سن السابعه فان المحكمة تقضي بحضانه الأطفال لأمهم " على أن يدفع الزوج نفقه شهريه قدرها عشرة جنيهات وفي حالة رفضه للدفع تخصم من مرتبه الشهري بواسطة قرار من المحكمه وتسلم للزوجه وبواسطة هذه المحكمة أيضاٌ .ورفعت الجلسه بأنتهاء القضيه " .
وحاولت شادية أن تنهض بعد انتهاء المحكمة ولكن قواها خـارت ولم تسطيع قدميها حملها كأنها إصيبت بشلل تام ، وفجأة نزفت دماٌ من أنفها وعبر فمها ، وارتمت على الكرسي بعدما فقدت الرؤية وأغشي عليها تماماٌ .
وإنتبهت مريم لبنتها وصرخت بأعلى صوتها تناديها بعـد أن كانت تهم بالخروج من المحكمة وهي فرحة ، وجاء خالد مسرعا وحملها بين يديه وأسـرع في خطواته خارج القاعه ومن خلفه تسير مريم وقد انهالت دموعها على خديها وكانها في حلم .
ونظر القاضي لكاتب العدل الــذي يجلس بقربه وقــال هامساٌ " تفرقهم قضيه وتجمعهم قضيه هكــذا الحــياة ".
ونست مريم أنها مطلقه من خالد وأنها جاءت لتوها من قضيه ضده ، كأن ما يشغلها في تلك اللحظات ابنتها شادية وهي في غيبوبه كاملة والدماء تنزف منها ولم تمض لحظات حتى كانوا جميعاٌ داخل سيارة متجهين نحو مشفى الحوادث وطلبت فاطمة أخت خالد من السائق أن يسرع في سيره وفي دقائق معدودة وصلوا الى المستشفى ، ولازال النزيف مستمراٌ . وأدخلها الطبيب غرفة الكشف وأمر باجراء صورٍ بالأشعه السينية وأخذ عينات من دمـها ، إلآ ان النزيف لم يتوقف وادخلت غرفة العمليات لمنحها دماً تعويضاً لما فقدته
وقف خالد خارج غرفه العمليات يتطلع بنظره تجاه باب غرفة العمليات ، ومريم جالسه في مكان آخر بعيداً عنه وهي الأخرى تتطلع الى غرفة العمليات ووقفت بالقرب منها أخت زوجها .. تحاول في كل مرة أن تدخل الطمأنينه في قلبها وتشجعها ، ومضت ساعة ونصف على ذلك الموقف ..
وجاءت نتائج صور الأشعه ، وجاءت المأساة ، وجاءت الأقدار تحمل في طياتها مأساة جديدة لقد دلت النتائج على وجود ورم خبيث بالرأس .. أدى الى نزيف حاد .
طلب الطبيب من الممرض الذي بقربه بايجاد سرير لها في قسم مستشفى العلاج بالذرة وخرج من غرفه العمليات ، ورأى مريم وخالد وواقفين كل على حده في مكانين متباعدين واتجه بخطوات هادئه نحو خالد كأنه يمشي في موكب لتشيع جثمان ، لاحظت مريم أن الطبيب يتجه صوب خالد وجاءت مسرعة وهى متلهفه للأطمئنان على شادية .
وقال لهما بصوت هادىء ( سوف نحجز بنتكم بالمشفى لخطورة حالتها فى الوقت الحالي ) . وكان يعلم الطبيب أن درجة أصابتها بالسرطان خطيرة ولاأمل لها في الشفاء بعد ان اكتشف من التحاليل مدى انتشار السرطان ولكنة حاول فقط أن يطمئن والديها فقال له خالد وقد أحس بالطمأنينه من كلام الطبيب.
- غير معقول يادكتور تحجزوها بالمستشفى عشان نزيف وغشاوة نظر بسيطة عموما اذا عاودها النزيف مرة تانية حنصب ليها ماء بارد فى راسها .
وأدرك الطبيب بأن خالد لا يعلم ابداً عمق مرض ابنته فكان لا بد ان يصارحه بحقيقة مرض شادية
- بنتكم سوف نحَولها لمستشفى العلاج بالذرة لاصابتها بسرطان في الرأس عند دكتور كمال الصادق .
وصرخت مريم بأعلى صوتها وقد فقدت رباط جأشها " مستحيل .. مستحيل بنتي الكبيرة فائقه مستحيل ". وأحست بأن الأرض تحت قدميها تهتز في زلزال مدمر عنيف وتقذف بها تلك الهزات في هاوية سحيقة عميقة داكنه الظلام ويتعالى بكاءها وتتعالى صرخاتها ولكن لم تجُدِ صرخاتها بشئ وخالد وأخته يكفكفان دموعهما محاولين التجلد والصبر وتقبل الواقع ، وجاءت نحوها فاطمة وأخذت تربت عليها في حنان تواسيها وتخفف عنها هول المفاجأة والصدمة وهى الاخرى احوج الى المواساة ، وتقول لها "هذة هي مشيئه الله وحكم الله ولنرضى بما قسمة لنا ، فالمرض أمتحان لنا يامريم" . ولكن مريم لم تستمع لكلمه وأحدة مما تقوله كأن الصدمه أصابتها بالصمم .
وكشفت التحاليل بأن سبب أصابتها بالسرطان يرجع الى أستعمالها المتكرر والكثير لصبغة الشعر السوداء الحجرية التي كانت تصبغ بها شعرها وبما أن تلك المادة بها مكونات كيمائية فقد أدت تفاعلاتها وكثرة أستعمالها الى اصابتها بالسرطان والذي بدأ يظهر لها أولأ في نوبات صداع عــادي وبالاضافة الى القلق الــدائم والانقسامات النفسيه التي أثرت على أعصاب مخها وكل ذلك قد تكون مجرد تكهنات وليست نتائج صحيحة تم التوصل اليها من خلال المختبرات .
ونقلت الى قسم العلاج بالذرة . وشادية لا تفهم ما هي حقيقة مرضها ؟. ولماذا نقلوها الى ذلك القسم ؟ قسم العلاج بالذرة هل لأنهم يريدون أن يلحموا لها الجيوب الأنفية لعدم تكرر تدفق نزيف الدم ؟؟ أم معالجه الصداع الذي كان ينتابها دائماٌ ويصاحبه ذلك النزيف أم لمعالجة حالة فقدان البصر التى اصابتها ولكن بصرها عاد اليها بعد دقائق ، لم تفكر أبدا بأنها ستصاب بسرطان الرأس
تقرر لها جرعات كيمائية جلسة كل اسبوع .. وبدأ يتساقط شعر رأسها من جراء الجرعات الكيمائية ، وهزل جسمها ولكن دون تحسن يطرأ عليها بالرغم من تلقيها عدد ست جلسات من اصل عشرين !!!
ويقرر الطبيب وقف العلاج ، فقد استشرى المرض الخبيث فى اجزاء من مخها واصيبت بشلل فى نصفها الاسفل وتلعثم بلسانها ولم تعد قادرة على نطق الكلمات ولم تعد قادرة على تحريك أقدامها .. باتت اشبه بالجثة الهامدة عدا تنفسها ، وتتنقل بنظرها فى صمت أخرس وتنظر لزائريها من الناس .
خالد يرفض وقف العلاج لابنته ، العاطفة التى بداخلة ترفض الاستسلام إلا انه لا يملك حججا او أدلة علمية بأن هنالك تحسن وتقدم فى العلاج ، طبيبها المعالج د.كمال يستند على الفحوصات المختبرية ولا يريد لها ان تتعذب دون جدوى من العلاج .
جاءت سوزان الى مستشفى العلاج بالذرة بعد ان علمت بمرض شادية ، وما أن أطلت على غرفتها حتى وقفت برهة ، هالها ما رأته من حال شادية وقد تملكها وجوم كامل ، وامسكت بيد شادية تقبل فيها وقد انهارت دموعها ولم تعد تستطيع أن تتماسك فجلست على حافة السرير وهى تحاول ان تكفكف دموعها وشادية تنظر اليها وبكلمات متقطعة لم يتضح منها سوى بعض الحروف القليلة ادركت انها تعنى كلمة سوزان ،حاولت ان تقول الكثير ولكن سوزان طلبت منها الكف عن التكلم لان الحديث يرهقها ، ولكن كيف تخبرها ولم يترك المرض اللعين حواسا لها .
امسكت بالملعقة تسقيها عصير البرتقال وبين الحين والاخر تطل مريم وتلقى نظرة على بنتها فهى لم تفارق ابنتها ليل نهار ، احساس يساورها بأنها وخالد تسببا فى مرض ابنتهما وهذا الشعور كان يؤلمها غاية الألم وبقى لها هاجس فى منامها وصحوتها ، يعذب ضميرها ويمزق روحها .
ضجيج خارج العنبر ، نسوة جلسن تحت اشجار النيم الظليلة وقد افترشن سجادة كبيرة وتناثرت اعمدة الاكل وحفاظات المياه بالاطراف وطفل صغير يعبث بها الا ان والدته تأبى أن يلامس الحفاظة وتنطلق صرخاته عالية رافضاً هذا الحظر والممنوع .
والرجال هم الآخرون جلسوا فى مجموعات وأخرون فضلوا الوقوف والاتكاء على الجدران ويتوسطهم خالد يتشاورون فى جدية خروج شادية واخضاعها الى العلاج بالقران الكريم مع تناول العسل والى اى شيخ يذهبون ؟؟؟ العيلفون ام المسلمية ام النوبة ...
كان الطبيب يعلم بأنها ايام معدودة تبقت لشادية لترحل من هذة الحياة الى عالم الشهادة ولكنه لم يتوقف عن العلاج نهائيا لانه لم يكن كيمائيا هذة المرة بل مهدئات ومسكنات للالم وكان يتألم لعذابها ويتمنى ان لا يطول بها العذاب.
عادت سوزان الى المدرسة ، وغدت وحيدة فى غرفتها ، شادية ترقد فى المستشفى تكابد الألم وتصارعه وهى تتحمل كل ذلك فى تحدى وصمت ، وجاءت ناهد زكريا زميلتها وذكرتها " بأن الحزن والاكتئاب قد يعجل لها بأزمة قلبية ، الا ان سوزان لم تكترث لما تقوله ناهد ، ولم تمسك بكتابٍ لتذاكر فيه ولم يتبق للامتحانات سوى القليل من الايام و أحداث الأيام والاقدار قد شغلتها عن مذاكرتها .
كان وحيد قلق جداً على صحة سوزان وقرر ان يذهب الى المدرسة للاطئنان على احوالها .. صحتها.. مذاكرتها.. فقد كان يعلم ان شادية ستؤثر حتما عليها خاصة وسوزان مريضة بالقلب ، تردد كثيراً قبل ان يطرق باب السور الحديدى للمدرسة ، لأول مرة يزور فيها داخلية لطالبات وهذة اول مرة يزور فيها سوزان بعد احتفالات عيد العلم التى مضى عليها اكثر من نصف عام ، ايعود ادراجه ام يطرق الباب ؟؟ ايعود ويأتى يوماً اخر !! الا ان قلبه لم يتحمل خطوات تسوقه الى الوراء ، وطرق الباب بشدة ووقف يسترق السمع ، ولم تمض برهه حتى سمع صوت وقع خطوات تقترب وتعبث بسلسلة طويلة احكمت قفل الباب بشدة .
فتحت الباب امرأة جاوزت السبعين من عمرها وقد بدت متعبة موسوم على خدودها شلوخ قبيلة الشايقية ، وتفتخر دوماً ان جدتها " مهيرة بنت عبود " تلبس فستان طويل يلامس الارض وقد غطت رأسها بطرحة بيضاء بها بقع داكنة من اثار زيت الخروع الذي دهنت به شعر راسها ، تحكى تجاعيد وجهها معاناة الأيام وعراك الحياة وارهاق السنوات .
- اهلا ياولدى
- لو سمحتى ياحاجة عايز اقابل طالبة اسمها سوزان محمد خير الحاج
- سوزان تعبانة شوية ياولدى والمشوار بعيد للحجرات الشمالية
- طيب ممكن ادخل اشوفها ؟؟
- طبعا لا القوانين لا تسمح بدخول اى زوار دى تعليمات مشرفة الداخلية
- كلمى لى مشرفة الداخلية اتصرفى باى طريقة ياحاجة ...
- ياولدى لو كان هنالك طريقة كنت سمحت ليك الامور دى صعبة جداً
ادرك انه لا فائدة من الحديث معها وعاد راجعاً الى منزله وقد غمره احباط شديد ممزوج بحزن دفين .
وابلغت الفراشة سوزان بمجىء وحيد للمدرسة وسؤاله عنها ، ولا شعوريا نهضت من سريرها تود ان تقابله بالبوابة الا انها ابلغتها بانه ذهب وقد افهمته بأستحالة الزيارة والمقابلة امتثالاً لقوانين المدرسة ، وامتثلت سوزان لامرها ولم تعلق بشىء بل نهضت من سريرها واتجهت صوب النافذة واطلت على ملعب كرة السلة وخيل اليها انها تجرى وتلعب مع شادية هنا فى هذا الميدان تعودت ان تسمع صيحات شادية وتسمع البنات يصرخن عايزين شادية عايزين شادية اين هى شادية الان ؟؟ انها طريحة الفراش فى سرير المرض تخاف ان تسمع خبر نعيها فى اى لحظة وترتجف لذلك واين هى ايضاً لم تعد تلعب السلة ولا تكاد تخطو خطوتين ركضاً حتى تلهث وضربات قلبها تتضاعف ويكاد يقفز من صدرها خارجاً .
كيف تبدل هذا الزمن ؟؟ كيف تبدل الفرح الماً ؟؟ والضحكات زفرات لاهثة والمناجاة والجدال والنقاش الى صمت رهيب كيف وكيف ؟؟
التفتت الى سرير شادية الخاوى وقد تبعثرت كتبها فوق الملاءة وهنالك زجاجة بداخلها مادة سوداء تبين لها انها صبغة الشعر وامسكت بها وقذفتها الى خارج الغرفة عبر النافذة فوقعت على الارض وقد تهشمت وتدفقت مادة الصبغة السوداء و ملأت حيزاً من الأرض بذلك السواد كأنها تعلن الحداد على شادية وهى لم تمت بعد ...
ورمت سوزان بجسدها على السرير وبكت .
بكت بمنتهى الالم .
بكت بدون توقف وقد وضعت الوسادة فوق وجهها محاولة ايقاف نفسها عن البكاء .
فجأة سمعت طرقات على باب الغرفة ، نهضت من سريرها بعد ان اعدلت هندامها ومسحت اثار الدموع على خدودها واخذت نفساً عميقاً محاولة ان تستجمع نفسها واتجهت لتفتح الباب فاذا بها ناهد تمد لها جدول الامتحانات النهائية للشهادة السودانية فقد تم الاعلان عنه هذا المساء بالصحف الرسمية من قبل وزارة التربية والتعليم .
وانتهت ايام الامتحانات وانتهى العام الدراسى وكم هى تمنت ذلك ، تمنت ان تمضى احداث الامتحانات لايهم شىء سوى نجاح او فشل فالظروف التى مرت بها اقوى منها اقوى من ان تجعلها تفكر فى الالتحاق بأحدى الجامعات اقوى من ان تجعلها تطمح فى الحصول على شهادة نجاح فقط ، هكذا وجدت لنفسها اعذاراً لذلك لم تكن الامتحانات تسبب لها قلقاً واوهاماً بقدر ما هو قلقها على شادية ونفسها والمستقبل الغامض ولكن مع كل ذلك فقد جاوبت بصورة جيدة فى جميع اوراق الامتحانات .
حملت حقيبتها وحقيبة شادية وخرجت الى فناء المدرسة وهى تودع اغلى ذكريات قضتها بالمدرسة ، تتلفت يميناً وشمالاً ، تارة اتجاه حديقة المدرسة حيث جلست فيها ومعها وحيد فى ليلة عيد العلم ، وتارة تتلفت اتجاه المسرح حيث غنى الفنان د. عثمان حسين " ان تريدى ياليالى تسعدينا " وتارة تجاه الفصول ومرة اخرى تجاه ملعب كرة السلة كأنها تحاورهم جميعاً كانها تودعهم الوداع الاخير حيث اختتمت دراستها الثانوية بهذة المدرسة ، مدرسة الخرطوم الثانوية العليا الحكومية للبنات
وتاتى اليها كل من سلوى وناهد وايمان يودعنها وتراهن يسألن بعضهن البعض عن مدى صعوبة اسئلة الامتحانات وسهولة بعض المواد الاخرى ، ويسألنها هى الأخرى كيف السؤال رقم ثمانية فى مادة التربية الاسلامية ، وهى لا تجيب بشىء كلهن مشغولات كيف أجبن فى اسئلة الامتحانات ، إلا هى فقد كان فكرها مشغولاً بشادية وكيف هى الان ؟؟ فمنذ أن بدأت الامتحانات لم تسمع عنها أخباراً ولم تستـطع تسجيل زيارة لها فى المشفى للاطمئنان والوقوف على حالتها .
وصلت الى منزل خالها احمد على ولم تجد وحيداً فى المنزل فقد ذهب الى عمله ورقدت فى السرير لاحساسها بارهاق شديد ، ارادت ان ترتاح من ارهاق الامتحانات والدراسة وارهاق الايام واغمضت عينيها وسرعان ما استسلمت للنوم .
أطل وحيد ووجدها نائمة .. ساعات طويلة مرت وهى نائمة فقد كانت مرهقة فعلاً ، انتظر بالبيت ولم يحاول أن يخرج هذا المساء ، اتنظر حتى استيقظت سوزان من النوم وشعرت كأنها نامت سنة بأكملها .
سألها وحيد عن صحتها وعن كيفية أداء الامتحانات ولكنها لم تجب بشىء بل سألته عن أخبار شادية وهل ذهب إليها بالمشفى ؟ فأجابها بأنها خرجت من المشفى وهى بالبيت حالياً وأنها تحسنت كثيراً ، ولكن فى حقيقة الامر خدعها فقد ساءت حالتها ولم يعد العلاج بالجرعات الكيمائية مجدياً .
وهيأت سوزان نفسها على أن تزور شادية غداً بالبيت فهو لا يبعد كثيراً من هنا وطلبت من وحيد ان يذهب معها فوافق على ذلك .
وجاءت نشرة الأخبار بالمذياع عند الساعة الثامنة مساءاً وكانت سوزان تستمع للأخبار بشغف فمنذ فترة طويلة لم تقرأ صحف او تستمع الى اذاعة فداخلية المدرسة أشبه بالجزيرة المنعزلة لامذياع لا أخبار لا صحف لا تلفاز .
وما أن أنهى المذيع نشرة الأخبار الرئيسية حتى انتقل الى الأخبار المحلية والخاصة بالوفيات " ايها السادة توفت الى رحمة الله تعالى شادية خالد عوض الكريم الطالبة بمدرسة الخرطوم الثانوية العليا شقيقة كل من سلمى وعادل ويقام المآتم بأمتداد برى بالقرب من معرض الخرطوم الدولى " .
وصرخت سوزان بأعلى صوتها وتعالت صرخاتها دون وعى واغمى عليها ووقف وحيد فى ذهول تام لا يكاد يصدق ما يجرى امامه ، وجاءت بدرية بالماء البارد وبللت به وجه سوزان حتى أفاقت من اغمائها وتمنت لو كانت فى حلم حلم طويل لا تفيق منه لا تستطيع ان تصدق موت شادية لكنه الواقع بل الواقع الاليم ، دموعها تنهمر بغزارة وهى تردد " غير معقول .. غير معقول شادية تموت !!!" ولكن مافائدة ذلك ؟؟ الدموع لن تعيدها لها لن تعيدها الى الحياة .
وسألت نفسها " ماذا يريد منا القدر ؟ ماذا عملنا فى هذة الحياة حتى نعذب كل هذا العذاب ؟ الأقدار ما زالت تمارس لعبتها معنا لقد بلغت الذروة فى كل شىء .. أين انتِ ياشادية ؟ هل معقول أنك فى ظلام دامس فى هذة اللحظة ؟ "
هذا هو منطق الحياة .. دائما الناس الأعزاء يرحلون فى صمت ، شىء مفزع ومؤلم انها وصلت درجة اللامعقول فى البكاء ولكن امتداد العذاب وأمتداد الآمها يجبرها على ذلك ، صورة شادية أمامها كأنها جالسة على المقعد تحدق بها ، وتذكرت قولها " أننا نخاف الموت مع اننا سنموت فى يوم من الايام ومهما طال عمرنا ، شىء أكبر من أن نقيسه بأحاسيسنا أو يسع تفكيرنا "
ولكن عمرها لم يطل أنها فى ريعان شبابها .. جاء الموت راكضاً وحملها معه دون ان يستئذنها ، رحلت بروجها الطاهرة ولم تترك خلفها سوى المكانة الطيبة والسامية التى أوجدتها وخلدتها فى نفسها ونفوس زميلاتها ناهد وسلوى وايمان .. أنها تناديها ولكن لا تسمعها لقد رحلت وتركتها لوحدها ...
لازالت دموعها تنهمر ، تكاد لا تصدق أمس القريب سجلت اسمها استعدادا للامتحانات ، منحوها رقم الجلوس لاداء الامتحانات ولكن الموت لم يمهلها طويلاً حتى تتوج احلامها وآمالها بالنجاح ، انتصر المرض الخبيث .. اللعين الجبان ، ما تريد ان تقوله شىء قاسٍ .. انها لن تراها الى الابد اندثر الامل بلقائها الى الابد ، لقد طلبت مرة من هذة الحياة بأن تجود لها بالصحة والعافية والسعادة وقالت انه طلب متواضع ولكن الحياة غدرت بها وبخلت عليها بالعافية والصحة والسعادة .
سألت نفسها اى ذنب ارتكبناه حتى نعاقب بمثل ذلك العقاب القاسى ؟؟ وهل هنالك شىء أقسى من الموت ؟ لقد خطف الموت انسانة هى جزءُ لا يتجزأ منها ، وتمنت انها لم تكن موجودة على سطح الارض حتى تشهد رحيل شادية ، رحلت بدون ان تودعها ولماذا الوداع ؟ انها تريد ان تكون معها للابد .
كان وحيد جالساً بالقرب منها يردد لا حول ولا قوة الا بالله ويحاول ان يخفف من احزانها ولكنها لم تهدأ ابداً والتفتت اليه تسأله وين شادية ياوحيد تريدها ان تطل فى هذة اللحظة ولكنها لم تطل لانها ماتت ... كلمة ماتت كلمة قاسية غير جديرة بها شادية ، انها رحلت وستعود قريباً نعم سافرت وستعود قريباً هكذا صاحت وطالت مناداتها لها وهى لاتزال تأمل فى مناجاة شادية لها
ماذا تعلمت شادية من هذة الحياة حتى ترحل عنها ؟
تعلمت معنى العذاب والألم والمكابدة مع المرض الخبيث الذي لا يعرف الا الضعفاء والمثاليين امثال شادية هذا هو منطق الحياة السائد فى هذا الكوكب تعلمت جفوة وقسوة الأب ...
الاحساس بانها لن تراها مرة اخرى ولو لدقائق أو ثوانى هذا الاحساس يدمى قلبها ويكاد يقطعه قطعة قطعة ... وتمتمت فى سرها تستغفر الله وتدعو الله ان يرحم ويغفر لشادية لان الله وحده يعلم كم تعذبت ويعلم المكانة السامية التى خلدتها على الارض ويعلم مدى الطموح الذي كان يملأ صدرها .
وجلست سوزان تستجمع قواها وتستجمع وعيها ومدركة للواقع ، عليها ان تذهب للعزاء ، عليها ان تقابل مريم وتواسيها فى المصاب الجلل وهى نفسها أشد الناس وأحوجهم للمواساة .
جلست سوزان دون ان تتناول اى وجبة طوال اليوم والساعة جاوزت الواحدة صباحاً وهى لا تزال مستقيظة ، احياناً تبكى واحيناً تلوذ بالصمت ولكن كيف تغمض جفونها ؟؟ كيف تنام عيناها هانئة بالراحة وجسد شادية يواريه التراب فى هذة اللحظة !!
وظلت ساهرة حتى أشرقت الشمس ، لم يغمض لها جفن ابداً وحرارة جسدها ارتفعت بشدة والاعياء زحف نحوها وظهر جلياً على وجهها وهى لم تكترث لكل ذلك ، كانت آلامها التى تحس بها من رحيل شادية قد جاوزت كل آلام جسدها وكل نوبات قلبها الضعيف .
وما أن أطلت على الشارع الذي يؤدى الى منزل المرحومة شادية حتى شاهدت صيوان كبير غطى نصف الشارع والنصف الاخر توقفت به السيارات الخاصة ، الكل جاء للعزاء والنساء يأتين فى مجموعات وما ان يدخلن الباب حتى تسمع صراخهن ونحيبهن ، شقت الازدحام بصعوبة وهى تبحث عن مريم ولكن لم تجدها عرفت انها فضلت ان تقيم العزاء فى منزل اختها بالديوم الشرقية لهذا قابلت فاطمة عمة شادية وجلست كالاخريات على الأرض فوق الفراش وأمسكت بمنديل تجفف به دموعها .
ومن وقت لاخر تسمع بعض النسوة يتكلمن عن الثوب الجديد ( عمدة لندن ) وتلك تقول لصاحبتها بصوت عال انها تخطط للسفر الى دبي لتجلب بضاعة من الثياب والملابس الجاهزة للاستثمار وفى ركن اخر نشب خلاف بين امرأتين سبب ذلك الخلاف ان وصفت الاخرى بعدم الالمام بالطبيخ لانها اكثرت من الملح فى الطعام وهى تلتمس العذر والحجج والمبرارات لانها لم تتعود على الطبيخ بكميات كبيرة لمناسبة كهذة !! وتلك تضحك لمجرد ان واحدة لبست الثوب مقلوباً !!غريبة بالرغم من انهنّ جميعا فى عزاء ... كأنهن نسين الهدف من حضورهن .
أدركت سوزان أن الحياة مستمرة وأن الحياة لا تتوقف بموت احد بدليل ما يحدث امامها من مناظر مختلفة من ضحكات .. وونسة .. وخلافات .. وتعليقات . وبكاء وعويل .. نهضت من جلستها وودعت الحضور وخرجت بهدوء وعشرات الأسئلة تدور فى أعماقها ماذا حدث للعالم ؟ غريب هو الموت انه يتفاوت فى حجم احساسه من شخص لآخر بغض النظر عن الطريقة التى يموت بها الميت .
كرهت التساؤلات .. كرهت الحوار بينها وبين نفسها .. كيف سارت خطوات الاقدار الى هذة النهاية المريرة تبدو لها الحياة كصحراء ممتدة حتى الأفق القاصى ، صحراء جافة قاحلة بها زمجرة أعاصير ، الرياح تلفح وجهها برمالها الحارة ، رياح هوجاء تهدم كل شىء امامها .
تدهورت صحتها وهزل جسدها وضعف قلبها كل شىء فيها يصرخ ويتأوه ويتألم قبلها يصرخ حرارة جسدها تصرخ .. دمها يصرخ .. قوامها يصرخ وصدرها يصرخ .
أصر وحيد أن تذهب إلى العيادة ولكنها ترفض كالعادة ، لقد كرهت المشفيات وكرهت الحقن والاقراص والسفوف ، وكان اصرار وحيد اقوى من اصرارها وذهب بها الى مشفى الحوادث ، وبعد ان كشف عليها الطبيب قرر ان تلزم سرير المشفى ، الا ان سوزان رفضت ان ترقد بالمشفى ، وحيد والطبيب معا وضحا لها خطورة حالتها ولكن بالرغم من ذلك رفضت ، تفضل ان تحمل الادوية وتعود الى البيت .
وجاء الطبيب بورقة وطلب من سوزان ان توقع عليها بعدم تحمل المستشفى اى مسؤلية تجاه عدم التزامها بتعليمات الطبيب واصرارها بعدم الدخول للمشفى .
وتأثر وحيد واكفهر وجهه وحاول مرة اخرى مناقشتها ..
اخيراً رضخت ووافقت ، ولكن اشترطت ان يتم تحويلها الى مشفى اكثر عناية وتخصص فى امراض القلب واكثر نظافة ، ووعدها الطبيب بتحويلها الى مشفى سوبا ، وجاءت الممرضة وحملت اوراق الفحوصات الخاصة بها واقتادت سوزان الجالسة على كرسى العجل المتحرك حتى اوصلتها الى سريرها فى الغرفة رقم ثمانية بالطابق الثانى ووضعت الاوراق فى المكان المخصص لها فى طرف السرير .
جلس وحيد بالقرب منها على حافة السرير ووضع يده على جبهتها يجس حرارتها ولكن يبدو ان حالتها تحسنت نوعاً ما ، وجاءت الممرضة وامسكت بيدها متفحصة وباحثة عن احد الاوردة وما لبثت ان غرست فيه الابرة الممتدة من انبوب الدرب ، وبدأت قطرات الجلكوز الممزوج بالدواء تنساب الى داخل جسدها وقد اغمضت عينيها فى هدوء محاولة أن ترتاح قليلاً .
نهض وحيد من سريرها وصار يتمشى فى البلكونة وتذكر انه لم يبلغ افراد البيت بدخول سوزان المستشفى ، واتجه الى غرفة البدالة ، وبعد ان استأذن من عامل البدالة أدار قرص الهاتف وأبلغ والدته بدرية بمجريات الامور ووضع السماعة وشكر عامل البدالة ومرة اخرى ظل يتمشى فى البلكونة .
بعد برهة قليلة رأى دكتور محى الدين اخصائى القلب بمعطفه الابيض يدخل غرفة سوزان ، ووقف مكانه ينتظر خروجه .
أمسك دكتور محى الدين بيدها وجس نبضها وكشف على صدرها وتمعن كثيرا بصور الاشعة ، أدرك الطبيب بعلمه وبخبرته الطويلة ان حالتها خطيرة وستكون اكثر خطورة مالم تخضع لعملية لتوسيع الصمامات .. حالتها لا تستحمل الانتظار لاكثر من شهرين لاجراء العملية ، ابلغها بأنها تحتاج لاجراء عملية جراحية فى القلب لتوسيع الصمام ، ولكنها رفضت رفضاً باتاً بحجة انها سوف تجريها فى الخارج ، وحاول الدكتور ان يقنعها وتجادل معها كثيرا بان مثل تلك العمليات مكلفة للغاية لانها من نوع عمليات القلب المفتوح ، ولكنها لم تقبل حرفاً واحداً مما قاله الطبيب ، وادرك الطبيب بانه فقط يريد ابداء نصيحة وعلى المريض أن يقرر .
وبمجرد أن خرج الطبيب من غرفة سوزان وجد وحيداً أمامه وأبلغه بضرورة خضوع سوزان لعملية توسيع صمام فى غضون شهرين ، ولم ينتظر منه تعليقاً بل أدار ظهره ومضى فى سبيله .
كان وحيد هو الاخر يخاف من اجراء العملية ولكنه لم يكن يبث خوفه لسوزان بل يحاول أن يطمأنها بسهولة ويسر العملية ، ودخل الغرفة ووجدها صامته شاردة بنظرها .. جلس على حافة السرير وقد وضع يده برفق على كفة يدها وظل يحكى لها عن العمليات التى أجريت لبعض الناس الذين يعرفهم والذين سمع عنهم ولا يعرفهم ، وحكى قصص من وحى خياله واختلاقه ، حاول بقدر الامكان أن يزرع الثقة والطمأنينة فى نفسها ، وان يقرب لها مدى سهولة اجراء العملية بالرغم من وجود خوف يسكن بداخله .
- سوزان ليه رافضة اجراء العملية ؟؟
- وحيد انا مستحيل اعمل العملية هنا فى هذة المشفى ، الامكانيات الفنية ضعيفة هنا لكن لا اشك فى مقدرة الاطباء .
- بلاش حجج انت خائفة !!!
- الخوف من الموت غريزة موجودة فى كل انسان ياوحيد ، ثانيا أنا سوف أجري العملية من اجلك انت فقط ، واذا مت فانا شهيدة فى حبك
- كنت اتمنى ان يكون للانسان قلبين ذى ما بيملك رئتين وكليتين علشان اتبرع بقلب واحد ليك ونعيش متعافين مع بعض .
مرت الايام .. وكلما مر يوم ازدادت فيه حالتها الصحية الى الاسوأ ولم تعد تجدى العلاجات بالأدوية وبات من المؤكد ان تخضع للعملية الجراحية ولكن خوفها يزداد كل يوم وسألت الطبيب قائلة :
- دكتور مافى بديل للعملية ؟؟
- لا يوجد بديل .. العملية او عليك بالصبر فقط
- بل قول لى اما العملية او الموت
- بلاش تشاؤم ويجب ان تتمسكى بمقدرة الله على الشفاء .
وصمتت برهة تفكر .. لحظات صمت طويلة مرت وهى جالسة دون ان تتفوه بكلمة واحدة ، كانت هنالك اشياء كثيرة تمر بخيالها .. صورة وحيد وهو بالقرب منها يمد يده لها يمسك بها يعدوان معاً يسابقان الريح وهى فى قمة العافية والسعادة .. تركض هنا وهنالك خلف الفراشة التى حلمت بها مرات عديدة ، عشرات الخواطر تهز اعماقها .. وصورة شبح الفشل تسيطر عليها فهى لا تستطيع أن تتصور اجراء عملية هنا ، لابد ان من اجرائها فى الخارج بمصر او الاردن ولكن لا بد من اجراء العملية ، انها كرهت الحنان الزائد الذي اغدق عليها ، عطف يذكرها دوماً بمرضها بتعليمات الاطباء ، لا تأكلى دسماً ، لا تسهرى .. لا تفرحى كثيراً ، لا تحزنى كثيرة ًهى النصائح و آلاف التحذيرات رسمت امامها ، وعليها ان تتفاداها ، كل شىء ممنوع بالنسبة لها فليس هنالك علاج جذرى ، حقائق تحمل ماّساة ...
واغمضت عينيها وظلت تبكى بمرارة وكرهت ميلادها فى هذا الكوكب لا لشىء الا لانها ترى صديقاتها يحضرن الحفلات ويذهبن الى الحدائق العامة وشواطىء النيل ويسهرن لمشاهدة الافلام حتى الساعات الاولى من الصباح الا هى عليها ان تخضع الى البرامج الصحية وان ترمى بجسدها على السرير من التاسعة مساءا وعليها ان لا تسير مشياً على الاقدام الى اقرب الاماكن هذة هى حياتها ...
وقالت للطبيب " مستحيل اعمل العملية هنا ، ساسافر الى القاهرة بأذن الله " ووافق الطبيب على حديثها وطلب ان تحضر اليه قبل السفر بثلاثة ايام ليتسنى له تحضير اسماء الاطباء اختصاصى جراحة القلب بالقاهرة ومن ثم تسليمها لها .
اطل وحيد بصحبة آمنه والده سوزان لقد جاءت من حجر العسل بمجرد ان سمعت بمرض ابنتها ، وما ان دخلت عليها فى غرفتها حتى حضنتها بشدة وبكت وزرفت دموعها لهول ما رأته من تدهور صحة ابنتها ، لقد اضحت هزيلة شاحبة اللون جافة الشفاه ، وجلست بالقرب منها تكاد تجزم بأن هذة ليست ابنتها ، لقد فارقتها ابنتها قبل ستة شهور وجاءت للدراسة هنا ، فارقتها وهى ممتلئة الجسم ، جميلة القوام .. رنين ضحكاتها يأتى من الاعماق .. الصحة والعافية والسعادة كانت عنوان ابنتها .. واليوم هزيلة ... نحيفة مسجية على الفراش كانها تحتضر ، لقد اخذ المرض منها ما اخذ ..
امسكت والدتها آمنه بقطعة برتقال وقشرتها ومن ثم اعطتها لها الا ان سوزان رفضت امساكها بحجة عدم وجود شهية لها ، لقد فقدت الشهية تماماً لم تعد تاكل ادنى ما يتوجب الحفاظ به على الحياة .
موعد الزيارة اوشك على الانتهاء ونهض وحيد الا ان آمنه فضلت المكوث مع ابنتها مخالفة قوانين وقواعد المشفى التى تمنع مرافقة المرضى ، ورجع وحيد لوحده الى المنزل وهو يعلم مسبقاً ان سوزان سوف تخرج غداً من المستشفى الى البيت .
وعند وصوله الى البيت وجد بعض اقربائه ووالدته يتحدثون عن مدى اهتمام وحيد بسوزان وانشغاله طيلة الفترة السابقة بها وهذا الشىء صار يؤرقهم وينال من تفكيرهم وانتباهم لا يريدون لهذة العلاقة ان تتم وان تتوج بالزواج لا يريدون للحب ان يسمو ولا يريدون للحب ان يسود ، كل منهم اراد ان يثنيه عن علاقته وارتباطه بها ، خالاته واخواله حتى اجداده الاحياء منهم ، وكم هو تعجب لذلك الامر !!! عادات اسرته وتقاليدها تحَرم الحب ، ليس هذا فحسب بل يسيؤون فهم كلمة الحب والقليل جداً يفهمونه ويزاولونه فى الحياة والذي لا يجد الحب فى نفسه من الصعب ان يصدقه فى مكان اخر .
نشبت معارضة شديدة طرفها الاخر مجتمع اسرته بالرغم من والده احمد على وقف محايداً لانه كان يدرك تماماً ان هذا الامر يخص ابنه وحده وابنة اخته سوزان لا على الاخرين التدخل فى حياة الاخرين واملاء شروطهم فى كيفية العيش وبمن يرتبطون ويتزوجون .
وكان مايزيد حيرة وحيد سؤال طرحه على نفسه لماذا يقفون ضد ارتباطه بسوزان ؟ لماذا الوشايا والاقاويل ؟ لماذا التحريف بالحقائق ؟
ولكن بدرية كانت قد صرحت له علناً بأن يتخل عن سوزان ولماذا ؟ لانها مريضة بالقلب ، فتاة مصيرها الموت ، بل قالوا له (عايز تيتم اطفالك ) ؟؟؟
نسوا أن كل شىء بقضاء الله .. الاعمار بيد الله .. الشفاء بيد الله نسوا وتناسوا أن كل وخزة ألم هى أجر فى الاخرة .. نسوا بأن كل شىء قسمة ونصيب ..نسوا وتناسوا ان لا معجزات مع الله .
وحيد رفض التخلى عنها .. لقد فقد الثقة فى كل مقرب له ، فى كل صديق له لقد زاد من تحديه وضاعف من اهتمامه وحبه لسوزان .. كيف يتخلى عنها لمجرد انها مريضة بالقلب ؟ كيف يتخلى عنها فى هذة الظروف الراهنة بالذات كيف يتخلى عنها وهى فى امس الحاجة لشىء تستند عليه خاصة وشادية قد رحلت عنها ، مجتمع غريب فريد من نوعه ، حتى بعض اصدقائه حاولوا ان يثنوه عن ذلك الطريق الذي يسير عليه ، من يحب فى هذه الحياة بصدق عليه ان يتنكر لكل شىء ، التضحية والكرامة والمال حتى العمر لا يساوى شيئاً امام الحب الحقيقى .
اهتزت الثقة لديه ، لقد فقد الثقة فى اقرب المقربين لديه ، اضحت الصداقة فى حياته محتاجة الى صيانة عامة ، ولا بد له ان يقوم بتلك الصيانة ، لانه يشعر بأن هنالك خدوش وشقوق كثيرة مست جدران الصداقة الصداقة فى نظره ان تطرق باب صديقٍ فى الثالثة صباحاً وتسأله عن حبة بندول او اسبرين !!! من دون ان يتذمر او يتضايق او يلعنك لانك ايقظته فى الثالثة صباحاً .
الصداقة فى حياته مبنية على شريعة دستورها الصدق والوضوح والتضحية والمساندة ، هذا شعاره فى حياة الصداقة ... وإن أشد ما يؤلم الانسان ان يحس بفقدان الثقة فى اشخاص كان يعتبرهم كل شىء بالنسبة له فى حياته ، لم يكن يدرى أن الإنسان يمكن أن يصاب بخيبة أمل فى أشخاص كان يعتز بهم ولكن الأيام لقنته درساً لن ينساه البته .
غريبة أن تجهض اى علاقة حب قبل ان تحبل !!! فى هذا المجتمع .
وجاءت سوزان برفقة والدتها الحاجة آمنه الا انهما لقيا استقبال بارد من قبل بدرية وبالرغم من ذلك لم يعيرا الامر اهتماماً ، لانهما يدركان بأن مكوثهما لن يستغرق اكثر من نصف ساعة ، هى فترة جمع اشياء سوزان ومن ثم التوجه الى البلد ، الى حجر العسل .
سوزان حمدت الله لانها وجدت وحيد بالبيت وما ان سنحت لها فرصة بالتحدث معه حتى قالت له :
- وحيد حاول ان تجى فى ايام العيد لحجر العسل
- وين ؟
- حجر العسل طبعاً .. لانو فى امر هام عايزك تعرفه
- انا اصلاً مخطط للعيد فى حجر العسل لكن شنو الامر المهم؟
- لمن تجى البلد
- يعنى بعد عشرة ايام تقريباً .
- حتمشى معانا موقف حافلات البلد ؟؟
- بالتأكيد.
عند وصولهم موقف حافلات حجر العسل بالخرطوم بحرى قابل الكثير من اهله والذين يقطنون البلد ، تعرفوا به الا انه لم يعرف إلا القليل جداً منهم، فهو نادراً ما يذهب الى حجر العسل ، فقط فى المناسبات كمثل الافراح او العزاءات او الاعياد وحتى اذا ذهب لا يجد الوقت المتسع لزيارة كل البيوت ذات الشوارع الملتوية والازقة الضيقة ، حتى انه من الصعب ان تتجول بالبلدة لوحدك من دون مرافق يدلك على الطرق الضيقة .
وتحت اشجار النيم وظلال جدران بقالات ( اولاد الكروته ) تجد الركاب ينتظرون جلوسا على جوالات الدقيق واخرين على كراسى صغيرة ( بنابر ) نسجت من حبل ، واخرين جلسوا حول بائعة الشاى يحتسون القهوة التى مزجت بالزنجبيل والتى بأمكانك أن تشتم رائحتها من على بعد عشرات الامتار واخرين فضلوا الجلوس قرفصاء بأنتظار ان ينادى عليهم كمسارى الحافلة الذي لا زال يتسلق السلم الخلفى للحافلة صعوداً ونزولاً ، وليتمكن من وضع اكياس الدقيق وصفائح الزيوت وصناديق البيبسى كولا والانواع الاخرى من المياه الغازية وربط كل ذلك بحبل متين بأطراف حافتى السقف الخارجى للحافلة ..
لا احد يعلم متى يكتمل عدد الركاب لتغادر الحافلة ، فتحرك الحافلة منوط باكتمال العدد ولا يهم لدى السائق عامل الزمن او كم من الوقت يستغرق كل ذلك .
لم يشعر وحيد بالسأم أو الضجر بل كان مستمتعاً بوجوده قرب سوزان يتحدثان عن استعدادات السفر للقاهرة يخططان للغد لذلك لم يدرك أن أكثر من ثلاث ساعات مرت على تواجده بموقف الحافلات ، ووجوده وسط أهل البلد يغمره بشعور جميل فهو تبهره شلوخ الشايقية او الجعلية على خدود النساء والرجال على حد السواء ، وتجذبه اللكنة العامية التى يتبادلون بها طريقة الحديث ، والصراحة والتعامل بدون تكَلف انه مجتمع البلد مجتمع القرى ..
عاد وحيد الى مكتب عمله بعد مغادرة الحافلة .
وفى اليوم التالى طالعته الصحف اليومية بإعلان نتائج الشهادة الثانوية وظهورها فى المدارس ليس هذا بل سوف تذاع النتائج بأذاعة ام درمان الساعة االثامنة والنصف مساءاً نظراً لعدم وصول الصحف لبعض المدن والقرى .
وتردد وحيد هل ينتظر سماع الاذاعة فى المساء ام يذهب الى المدرسة ولكنه نهض متلهفا لرؤية النتيجة ... وهنالك بمدرسة الخرطوم الثانوية بنات وجد وحيد طالبات كثيرات ازدحمن ووقفن يطالعن فى لوحة الاعلانات ... منهن من تقفز فرحة مهللة بنجاحها ، وأخرى تجد نفسها راسبة وتنسحب بهدؤ تام وملامح وجهها يعبر عن النتيجة ، وهذة مترددة غاية التردد لرؤية اسمها بنفسها فتدفع بزميلتها لكى ترى لها اسماً فى اللوحة ، دموع حزن وأسى وألم للفشل ... وأخريات تتعالى الكلمات والصيحات عندهن ، مبروك وألف مبروك يا سلوى ... مبروك ياناهد ... مبروك ايمان عبداللة ... معليش ولا يهمك ياسناء تعيدى السنة الجاية وتنجحى ان شاء الله ..
ووحيد ظل يشهد كل ذلك فى صمت وترقب منتظراً انفراج الازدحام قليلاً حول لوحة الاعلانات ، وفى اثناء توقفه لفض الازدحام سمع واحدة تصرخ بأعلى صوتها سوزان نجحت ... ياسلام ..
وصاح هو الاخر بأعلى صوته واقترب اكثر " صحيح سوزان نجحت ؟ " والتفتت الطالبة تجاه واومأت له بالتأكيد ، وانتابته لحظات سعادة لم يشعر بها حتى فى لحظات سماع نبأ نجاحه ، اقترب اكثر وقد اخرج ورقة صغيرة من جيبه وكتب تفاصيل درجات المواد وعاد راجعاً الى مكتبه .
كان وحيد يشعر ببطء دوران الايام وثقلها ... يفكر فى قدوم العيد يفكر فى سفر سوزان الى القاهرة .. يفكر فى نجاح العملية الجراحية ويفكر فى الزواج والارتباط بها .. كثيرة هى الافكار التى تشغله وكثيرة هى الاحلام التى تداعبه.
عيد الأضحى على الأبواب ..
مجموعات من غنم الضان تجوب الشوارع مع أصحابها المنتمين الى عرب البادية ، هدفهم البيع والوصول الى المشترين فى أماكنهم .. فى منازلهم ، كل مجموعة يتجاوز عدد خرافها العشرين ، عيد الأضحى يقترب أكثر وأكثر ، وتزداد الاستعدادات ، وتزداد حركة الأسواق ، وتنشط مبيعات البهارات .. والبلح .. لغايات عمل( الشربوت ) اضافة الى الملابس والاقمشة .
كل ذلك لا يمثل اهمية لوحيد بقدر ما كان يذَكره ذلك بدنو أيام العيد ويخلق فى أعماقه شعورأً جميلاً سلساً ، شعور بقرب سفره الى البلد .
وأطل يوم عرفة ، ووصل الازدحام أوج الذروة وبدأت حركة السفر العكسية من قلب العاصة الخرطوم الى القرى والاقاليم الى مدنى ... الابيض .. شندى ..القطينة .. الدويم ..المسلمية .. كل واحد يمنى نفسه بقضاء العيد مع أهله وأقاربه ... مع والديه ومع زوجته واولاده .. وحيد كان واحداً من هؤلاء يريد أن يستمتع بأيام العيد مع أجداده وأقربائه ومحبوبته سوزان فى حجر العسل ولأن العيد فى القرى له طابع خاص يختلف تماماً عن العيد فى المدن والحضر بالرغم من قرب المسافة بين حجر العسل والخرطوم والتى لا تتعدى المائة كيلومتر .
كان عليه أن يحضر مبكراً إلى موقف حافلات حجر العسل بالخرطوم بحرى ليتسنى له ايجاد مقعدٍ وحظي بما أراد ، جلس بمطعم ( هافانا ) يرتشف كوباً من الشاى بأنتظار قيام الحافلة ، ونظراً لكثرة الركاب لم تَطُل جلسته كثيراً فقد سمع محرك الحافلة يدور مستفزاً لغبار الأرض .
جلس بمقعد مجاور للنافذة ... والباعة المتجولون يمرون بجواره .. مناديل الورق ... وآخر يعرض حلويات مختلفة .. وآخر يحمل بسكويتأً .. واخر يحمل رغيفاً .. وهذا يعرض ملابس رجالية ( قميص وسروال ) ... لم يتبق إلا الأثاث ليعرضوه .. انه سوق متحرك يأتى اليك وانت جالس بمقعدك داخل الحافلة ، وتحركت الحافلة وصوت ثانئى العاصمة يصدح من جهاز التسجيل انهما يغنيان للعيد ولفرحة العيد ..
وبلكنة أهل البلد سأله الرجل الذي يجلس يمين مقعده وقد اكتسى الشيب لحيته ملتفا بالثوب الأبيض حول كتفيه :
· ها جنا دحين انت ما ولد احمد على ؟؟
· نعم ياعمى
· الله عالم الشبه ظاهر
· ماشى تعَيد مع اهلك ناس محمد خير الحاج وجدك محجوب ابولكيلك
· نعم عمي
· تخلى السينمات وموية الثلاجات تجى للبلد الحارة دي ؟
· لا ياعمى البلد حلوة بأهلها الطيبين وبالهواء النقي والزراعة الجميلة .
توقفت الحافلة بعد مضى ساعة وربع تقريباً بمطعم ( البوكش) ومنظر الجبال لوحة خلفية رائعة صخور سوداء ممتدة على مدى البصر ، سلسلة طويلة من الجبال بأتجاه الغرب كانها تحتضن سر ما .. فى طياتها على مر السنون انها شهدت غزوات وحروب وسلام وتوالد اجيال وهجرات وزحف نحو المجهول ، انها تخبىء وراءها نهر النيل وتراقب جريانه وفيضانه.
وتقترب الحافلة وتطل من بعيد قرى حجر العسل ، حلة كجينة .. حلة عمر . المصلحة وتظهر مبانى السوق القديمة و المكونة من الدكاكين ذات العمدان العريضة من الطين انها كتل من الطين تشم فيها رائحة الاجداد والاسلاف قبل مئات السنين حنين غريب يداعب ويدغدغ مشاعره لمجرد أن يكحل عينيه برؤية هذا البلد الذي ينام كعروس فى احضان نهر النيل .
جمع من الناس جلس تحت ظل تلك الأعمدة الضخمة يفترشون الأرض واخرون جلسوا على (عنقريب) اهترت حباله القديمة وآخر يرسم بعصاه على الأرض افكاره الشاردة وقد نثر حوليه ربطات البرسيم يأمل فى بيعها قبل تلاشى فترة الظهيرة .. الكل رفع عينيه تجاه الحافلة التى توقفت لنزول بعض الافراد .
تذكر أن اليوم هو الخميس يوم السوق عشرات الناس تأتى إلى السوق فى هذا اليوم لتعرض بضائعها ، مجموعة تبيع وأخرى تشترى وأخرى تتفرج فقط وتلتقى بالاخرين .
أطفال صغار انصاف عراة يجرون خلف الحافلة عند تحركها لا هدف لهم سوى اللهو واللعب ، وتعبر الحافلة وادى ابو قيدوم بصعوبة وما ان تنجح فى العبور حتى تجد نفسها فى احضان حلة المريوه وحلة الديوماب وابو طليح .
يتذكر وحيد أن عليه أن ينزل هنا بالقرب من دكان (عبدالعزيز) وهويعرف ان بيت جده يقبع فى هذا الحى وسوزان تقطن فيه أيضا ولن يتوه كثيراً ولأن الجميع هنا اكثرهم اقرباء بعض .. البلد صغيرة
ومرة اخرى تتوقف الحافلة ويجمع حاجاته وينزل .
فجاة وجد شخصاً غريباً يمسك بيده ويسلم عليه بحرارة ، حافى القدمين يلبس اكثر من جلباب فوق بعضهم البعض ، ضحكاته تبرز سنونه التى علاها الاصفرار انه رجل اقرب الى أن يكون درويشاً من الدراويش ، علم لاحقاً انه يدعى عبد الرحمن ويلقبونه بأبو ضراع لانه يساعد جميع الناس خاصة فى مناسبات الأعراس فهو يجلب المياه من نهر النيل ويكَسر الحطب ، يقال انه لم يغتسل ( يستحم ) ابداً طوال حياته وبالرغم من ذلك تصدر منه رائحة طيبة من جسده ويقال ايضاً انه لا ينام ابداً ويظل ساهرا طوال الليل يتجول بالشوارع والأزقة لا يخشى الظلام أو المطر او الرياح ، انه رجل صالح فيه بركة ، تلدغة العقارب ولا يتأذى منها ، اذا أغضبه احد ما او أطلق عليه الشتائم حضر له فى منامه وهدده وسخَر له تماسيح تهاجمه فى المنام وما أن تطلع الشمس حتى يأتى له ذلك الشخص مهرولاً خائفا ومعتذراً له يطلب عفوه وبركاته !! ..
وحمل له حقيبته وتقدم على وحيد بخطوات كثيرة وتوجه نحو منزل جده محجوب ابولكيلك ، غريبة كيف ادرك ابوضراع أن وحيداً له صلة قرابة بمنزل جده محجوب ابولكيلك ؟؟ وكيف علم انه سوف يتوجه لهذا البيت !! اسئلة حَيرت وحيد وجعلته يؤمن تماماً بكرامات هذا الرجل البركة ، وما أن وصل بئر أبولكيلك قرب الباب حتى ناوله جنيهات امسك بها وقد فرح بها فرحة كبيرة مبتسماً وقد ظهرت أسنانه الصفراء جميعها وطلب أن يدعو له بالتوفيق وظل أبوضراع يدعو بدعوات طيبة كما دعى له بنجاح عملية القلب من دون أن يتفوه باسم سوزان ، ازدادت غرابة وحيد من هذة الدعوة ومن أبلغه بذلك ؟ وهو فى غمرة هذة الدهشة والتساؤلات أطل جده محجوب ابولكيلك بعصاه الغليظة التى لا تفارقه إلا عند منامه واحتضنه وسلم عليه بحرارة اهل البلد
- يازول كيف ناس البندر كافة وأبوك خاصة ؟
- بخير جميعهم .
- سمعنا انو نزل انتخابات الحكومة لكن ما توفق صحيح الكلام ده ؟
- صحيح ياجدى .
- ابوك ده مغفل ما عندو شغله ساكت ؟
- ليه ياجدى ؟
- أبوك قدر ناس المهدى والا قدر ناس الترابي والا قدر ناس سيدى الميرغني !!
- اهى محاولة ياجدى .
- ادخل سَلم على حبوباتك وجيب الغداء فى الخلوة انت ذاتك مغفل ذى ابوك .
ومجرد دخوله الخلوة وجد جمعاً من أهل الحلة يفترشون الأرض ويتبادلون أطراف الحديث وأغلبهم كبارُ فى السن تجاوز عمرهم السبعين عاماً وما ان وضع صينية الغداء حتى بدأ يسلم على كل واحد منهم حاج ادريس ـ الدفيس ـ احمد ود الحاج ـ عبد الحفيظ ابولكيلك ـ جرنوس ـ الرحيمة ـ قسم الله ـ يوسف ود العطش ـ عنان عمر ثم اشار اليه جده محجوب بالجلوس بعد أن ابلغه ان كل هؤلاء يعتبرون جميعاً أهلُ له رافعاً عصاة تجاه البيوت والقطاطى ( ديل بيوت اهلك الحاجاب وديل بيوت اهلك الحداحيد وديل بيوت اهلك المكياب وهنالك الصالحاب وديل بيوت .) وقطع عليه وحيد حديثه متسائلا .
- جدى ليه الكهرباء للان مادخلت البلد ؟؟
- ياولدى قامت حروب اهلية في جنوب البلاد وفى دارفور وفى الشرق مناطق تبعد آلاف الكيلومترات من العاصمة محتجين لعدم التوزيع العادل للثروات ونقص الخدمات ! ناس غير منطقية ياولدى خليهم يجوا يشوفوا حال حجر العسل وهى قريبة من العاصمة بثمانين كيلومتر فقط ، التخطيط موجود والحكومة شغالة فى التنمية الناس تصبر بس ياولدى السودان ده بلد واسع .
غابت الشمس وأسدل الظلام ستاره وبدأت عودة المزراعين الى الحلة وهم يحملون جوالين الحليب ، ومنهم من يحمل البرسيم عشاء اغنامه ومنهم من يحمل عيش الريف ( الذرة ) وقد ملأ به الخرج .
مااجمل الليل فى الريف تظهر لك النجوم جليةً فى الفضاء تتلألأ كعقد جواهر تناثرت حبيباته هنا وهنالك .
سكون دفين يلف الحلة لا ضجيج ولا أصوات تسمع إلاّ من أصوات صفير الجنادب الآتية من بعض الأكواخ المهجورة والتشققات بجدران المنازل الطينية والقطاطى المسقوفة من القش الجاف.
تعَود أهل الحلة النوم مبكراً فلا هموم تطرد النوم ولا أحلام تؤرق بالهم أحلامهم محدودة أن ينجح موسم زراعة الفول المصرى وأمنيات أن يبعد الله عنهم شر السوسة منه وأن يرتفع سعر البصل بالسوق حتى تدر عليهم ربحاً يغطى تكاليف مياه بابور صالح ودعمر وإيجار أرض الشاويش ود الحاج .
ظل الجميع مستيقظا هذة الليلة بالذات من دون غيرها ، غداً العيد وعلي ربات البيوت أن ينظفن الغرف ويزلن الغبار من الأثاث واعداد عجين الكسرة ليصبح مرًا حتى تسهل عواستها ولم ينسين تجهيز شربوت البلح بالرغم من كل تلك المشاغل يظل غسيل الملابس والمكواه هو الهاجس الأهم
لأول مرة ينام فى الهواء الطلق .. يشاهد فى النجوم مباشرة لا سقف ولا اجهزة تكييف ولا مصابيح اضاءة ..وشرد فكره فى كيفية لقاء سوزان غداً لقد عرف وحيد ان حياته بها ومعها وانه لن تولد السعادة الا بعد مرور فترات عصيبة من الألم ولأن الألم وحده الذي يولد الاحساس بالوجود والامل وتمنىّ أن تكون خفقات قلبيهما مملؤة بالارادة فالارادة مع الخفقان يكونان اعظم ما فى الوجود وهما ألد أعداء الزمن والمرض ، فما أروع الحب مع الارادة ، وما أجمل الارادة مع الفهم السليم للمعانى الحقيقة للحياة .
استيقظ على صوت الاذآن لصلاة الصبح انه الصوت الجميل لحاج محمد على ولم تمض ساعة حتى بدأت تكبيرات صلاة العيد .
الله اكبر .. الله اكبر
لا اله الا الله
الله اكبر.. الله اكبر ولله الحمد
تأتى الناس افواجاً للجامع احداهما تحمل اعلاماً خضراء يتقدمها أبوضراع
واخرى يتقدمها الأطفال فى ملابسهم البيضاء الجديدة ..
وفوج يتقدمه الخليفة على حسين ابو شورة .
وأشرقت الشمس وما أن انتهت صلاة العيد حتى نهض الجميع وتبادلوا السلام والعفو والأمنيات و أسرعوا الخطى الى ديارهم لذبح الخراف .
اقترب وحيد من منزل سوزان وخفق قلبه وتأججت أشواقه لرؤية اهل هذا البيت الذي يسكنون فى اعماقه هم يعنون الكثير له حاجة آمنة وحاج محمد خير والاخرين ...
وجلس معها دقائق طويلة واطمئن عليها ودردش معها وودعها وهو سعيد كل السعادة بالرغم من الجهد الذي بذله فى لقاؤها والعذاب الذي يعيشه بعد كل لقاء ، انه لم يذق للسعادة طعماً سوى هذا اليوم ، لقد تمنى أن يتوقف الزمن حتى يكون أبداً معها ، أن تمتزج روحيهما روحاً واحدة الى الابد ، انه يعشق كل ذرة منها ويهيم بكل شىء فيها ، شعرها الاسود الناعم الطويل و عيونها الواسعة كالدهر وابتسامتها كطمأنينة الأيام والقدر ... وصمودها كالصخر الأبيض ، إنها قدره وآمن به ولكم كان يخشى ان يزيدها هذا المرض وهناً على وهن بل أشّد ما يخشاه من الزمن ان يبعدها عنه ولو لومضات .. انه يكره فصل الشتاء لمجرد انه يتسبب فى معاناة وآلام عند البشرية المصابة بروماتزيم فى القلب ، ويخاف على سوزان من كل شىء حتى النسمة الرقيقة عندما تمر يخاف ان تخدشها ...
وقبل ان يودعها ابلغها بأنه سوف يعمل على انجاز اجراءات السفر بالحجز على طيران الخطوط الجوية السودانية للسفر الى القاهرة ، ووافقت له بذلك على ان يحجز مقعدين لها ولوالدها .
ولم تمض أيام بسيطة حتى كانت سوزان بصحبة والدها فى مطار الخرطوم متوجهين للقاهرة لاجراء عملية جراحية لتوسيع الصمام بعد ان فشلت كل السبل عن طريق العلاج بالادوية والحقن والاقراص ، وجاء وحيد مودعاً لهما، لم يستطع مقاومة دموعه .. رقرقت عيونه وكابد الكثير ليتماسك وليبدو قوياً وتمنى من الله أن تعود بالسلامة .. متعافية كلياً من ذلك المرض الذي أرهقها وأخذ ضحكاتها .. وحيويتها وصحتها ولكن هنالك شىء لم يستطع المرض أن ياخذه منها ، الوفاء الصادق والطيبة والعفاف والتفاؤل الذي بدأ يملأ صدرها .
كان يتحدث معها على أن تجعل معنوياتها عالية ويطلب منها أن تتذكر أنه ينتظرها هنا فى الوطن بشغف ولهفة ، كان يشجعها بأن تعود منتصرة على المرض وأن لا تخاف ابداً وأن تزرع الثقة فى اعماقها ولكنه هو نفسه كان قلقاً والخوف يسكن فى اعماقه ولكنه لم يظهر ذلك لانه يدرك مدى صعوبة أن يجرى الانسان عملية قلب مفتوح .
وفجاة سمع صوت المذيعة الداخلية للمطار تقول " تعلن الخطوط الجوية السودانية عن اقلاع رحلتها رقم 887 والمتجهه للقاهرة وعلى السادة المسافرين التوجه الى صالة المسافرين لانهاء اجراءات السفر وشكراً " .
وجاءت لحظات الوداع ... لحظات العذاب .. واقترب منها وضمها اليه بقوة.. ثم مد يده مودعاً دون ان يستطيع التفوه بكلمة وكانت نظراتهما كفيلة بالتعبير عن اى كلمة ، ومدت يدها المرتجفة تودعه واختفت بعد ذلك داخل ردهات مبنى المطار .
بعد قليل اقلعت الطائرة وظهرت فى السماء ووحيد يتابع الطائرة بنظراته حتى اصبحت مثل نجمة صغيرة فى السماء ثم تلاشت فى الفضاء الواسع .
وبدأ القلق يساوره ويسيطر عليه والطائرة لم تصل بعد الى القاهرة ، لايعرف كيف ينقضى اليوم وكيف ستمر الايام القادمة ؟؟ .
وجاء الليل ولكنه لم ينم ، قلق للغاية ، دموعه لم تتوقف حتى ساعات الصباح الاولى ، كان دائماً يعيش فى خيالات رهيبة وتساؤلات كثيرة وتفاؤلات جميلة ، كل ذلك وليله الطويل لا تريد ظلمته ان ترحل وتمنى ان لا ترحل ليفكر ويتفاءل ويسال ويدبر لعل وعسى يتنفس قليلاً ، لا يعرف كيف هما فى هذة اللحظة ايّ فندقٍ نزلا ؟ وكيف كانت الرحلة ؟ كان يريد أن يكون هنالك فى القاهرة يتابع كل شىء دقيقة بدقيقة لكن قَدر له ذلك ان يبقى هنا بعيداً آلاف الكيلومترات منهما ، يعيش على أعصابه وينهش منها ويأكل أوتار أحاسيسه ، الدموع لا تجدى .. الصبر لايجدى ... القلق لا يجدى .. ولكن ماذا عليه أن يعمل ؟؟ .
مرت عدة ايام ولم تأتِ اى اخبارٍ من القاهرة مما زاد قلقه وأكثر من همومه ودفع نفسه فى متاهات لا يعرف كيف دفع نفسه اليها ، تلك المتاهات هى بمثابة خيالات مخيفة وأوهام مرعبة تكاد تمزق روحه ، ماذا لو فشلت العملية ؟ ماذا يعنى ذلك هل ستموت ؟؟ ولكن العملية ستنجح وستعود سوزان متعافية ، القلق والخوف والملل وتلك الخيالات عندما تجتمع جميعها فى لحظة واحدة وتحاصره تجعل منه ارجوحة فى مهب الريح .
بدأ يكثر من الدخول للسينما لكى يشغل نفسه بقضاء لحظات فى فيلم وأياً كانت قصته جميلة رائعة أو جامدة باردة أو مثيرة المهم عنده انها قصة فيلم ويحاول أن يسيطر على تفكيره ويحاول أن يحلل ويبدى تساؤلات واجابات ويبدى الكثير من التعليقات ويدخن السجائر وأكبر كميه منه ويدفع نفسه فى مجتمع أصدقائه وشلته يدردش ويضحك معهم دون قلب دون عقل ..ولكن يجد نفسه لا شعورياً يلجأ الى الصمت إلى الوحدة إلى الإنطواء ويتقوقع مرة أخرى ، لا يدرى كيف يقَيّم تلك الايام العصبية والعصيبة .
ينسج الاحلام حوله وتداعبه مجرد مداعبه ، يحلم بسوزان وقد أجرت وخضعت للعملية ونجحت وها هى تركض دون خوف ينتابها من ألم ، لقد بات ينسج الأحلام والتصورات فى طراز جميل محلى بالحب ، وتعَجب وتساءل ماذا لو فرضت الاحلام نفسها فى الواقع وترجمت تلك التصورات والخيالات الى واقع ملموس ؟؟
مرة ثانية صار وحيد يهرب من الناس ، من المجتمع يميل الى الوحدة التى بات يعشقها الوحدة مرتع جميل هادىء لنفسه ان يكون مع نفسه يعاتب ويحاسب ويفكر ويحلم ، ولكن الى متى سيظل فى تلك الدائرة المفرغة ورغبته فى شىء واحد فى هذة الحياة ان يستمع لخبر من القاهرة فى محتواه نجاح العملية خبر يروى ظمأ المتعطش للطمأنينة .
نزلت مريم الى عملها وهى اشد حزناً من الماضى فالحياة اضحت لها جحيماً بعد رحيل ابنتها شادية ، وجلست على الكرسى كئيبة حزينة تلبس ثوباً ابيضاً وفستاناً اسود دليلا على الحداد ، فلقد بدأت حدادها على الحياة منذ انفصالها عن اطفالها وطلاقها من زوجها خالد وبدأت حدادها على نفسها منذ وفاة ابنتها شادية .
ولاحظ أحمد الحزن الذى تلف به مريم نفسها واقترب من الطاولة التى تجلس عليها مريم وطلب منها ان تتخلى عن الحداد وتبدأ حياة مشرقة مليئة بالأمل ولترضى بمشيئة الله ، ظلت صامته لم تتفوه بأى كلمات وبعد انتهاء العمل اليومى استاجرت سيارة وتوجهت نحو امتداد برى حيث منزل زوجها السابق وحيث أطفالها سلمى وعادل ، وكم تمنت أن لاتجد خالد بالبيت ... وقد كان لها ماتمنت ، لم تجده بل وجدت شقيقته ولكنها لم تعرها اهتماماً ، وما ان رأت سلمى والدتها حتى ركضت نحوها وارتمت فى حضنها وضمتها بحرارة وفى حنان وظلت تقبلها مرات عديدة وكذلك الحال لعادل .
وكانت أول شىء تعمله ان ابدلت لهما ملابسهما ووضعت بقية الملابس فى حقيبة صغيرة وهى على عجلة من امرها خشية من حدوث مفاجاةغير متوقعة بعودة خالد .
وجاءت شقيقة طليقها ويكاد الشرر ينبثق من عيونها:
- اسمعى انت انتظرى خالد لمن يجى
- انتظر لمنتصف الليل ؟؟ آسفة .. بس قولى ليه بأمكانك تزور اطفالك فى اى وقت ؟؟
وسارعت الخطى نحو الشارع وتبدو السعادة والفرحة والبهجة واضحة المعالم على وجوه طفليها ، ورفع عادل راسه بتجاه والدته وقال لها فى ترجى :
- ياماما عايزين كمان شادية تجى معانا .
واثرت هذة الكلمات تاثيراً بالغاً فى نفسية مريم مما اثار دموعها ولم تستطع ان ترد عليه بكلمة بل واصلت مسيرها حتى وجدت سيارة أجرة اقلتها الى الديوم الشرقية .
وجاء خالد كعادته فى منتصف الليل سكيراً يترنح يميناً وشمالاً متعثر الخطوات ، وكان من عادته أن يلقى نظره على أطفاله وهم نيام ولكن هذة المرة لم يجدهما .. وغمرته الدهشة وجن جنونه وافاقت سكرته منه وعاد اليه الوعى ، ذلك الوعى المختل ونادى على اخته صائحاً هائجاً :
- وين سلمى وعادل ؟
- جاءت مريم هنا واخدتهم معاها.
- وليه ما انتظرت ياغبية
- تنتظرك حتى الساعة دى ؟
لم يرد بكلمة بل دخل غرفته ونام ...
وأمسى البيت خالياً من صراخ اى طفل ومن بهجة اى طفل ، حتى شادية رحلت بلا عودة .
ولاول مرة ينتابه شعور بالوحدة .. بالندم والتساؤلات وبالخطأ الفادح الذي ارتكبه فى حق زوجته ولأول مرة يردد داخل نفسه انه تسرع فى الحكم بالطلاق ولأول مرة يراجع نفسه !! اصبح البيت خالياً .. خالياً من شادية التى رحلت الى مثواها الاخير وخالياً من زوجته التى طلقها وخالياً من عادل وسلمى بعد ان ذهبا مع والدتهما .
زمن طويل غافل عن الايام ، يدفن نفسه فى كؤوس الخمر ولا يدرى بما يجرى حوله ...ولكن كل هذا لم يجد بشىء بل زاده الماً على الم وضياعاً على ضياع وندماً على ندم .. واخيراً قرر وليته قرر منذ زمن طويل لقد قرر ان يتوب الى الله ، ان يستغفر الله ، ان يترك الخمر الى الابد وهو قرار يتوجب عليه ان يكون قوى الارادة قوى الايمان ، يتوب ويعود الى رشده ، وقرر ان تعود زوجته مريم الى بيتها ، وقرر ان يذهب اليوم قبل الغد الى مريم بمكان عملها وليس بمنزل اختها !!
وعند وصوله الى مقر الشركة سال عن مكتبها ودلوه عليه ، وعند باب المكتب وقف برهه قبل ان يفتح الباب ماذا يقول لها ؟؟ ماذا يطلب منها ؟؟ هل يترجاها لعودة الاطفال البيت ؟؟ لا انه يريدها هى وطفليها ... لم يتعود ان يقدم تنازلات لامرأة وان كانت تلك المرأة زوجته ، لم يتعود ان يظهر بمظهر الضعف حتى ولو كانت تلك الزوجة زوجته ولكن يجب ان يبدل اسلوب حياته حتى يكتب لها النجاح والسعادة ... يكفى ما مضى يريد ان يكون له بيت سعيد .
واخيراً دخل المكتب ليفاجأ به خالياً ، وجلس على احدى كراسى الجلوس المعدة لاستقبال الضيوف منتظراً مجيئها .
ومرت لحظات عصيبة بالنسبه له ... وجاءت مريم وبمجرد دخولها المكتب رأته جالساً منكباً على تصفح احد المجلات ، وفغرت فاها مندهشة غير مصدقة وجوده هنا ، وتداركت شتات نفسها وظنت انه جاء يطلب عودة اطفاله وقالت له :
- اهلا وسهلاً .. ايه عايز سلمى وعادل الموضوع ده انتهى والمحكمة حكمت بأن يكونوا تحت رعايتى وحضانتى
- لا ابداً بل أهم من ذلك واكبر بس فقط اسمعينى
- اولاً هذا مكتب وليس بيتاً ثانياً ما عندى شىء يربطنى بيك الأطفال وعندى تانى فى ايه ؟؟
- مريم أرجوك كلامى ما طويل فقط اسمعينى
- عايز تقول ايه ؟؟
- مريم أنا عايز اطلب منك الرجوع للبيت وخلينا نبدأ حياة جديدة وانو..
وقاطعته وقد ارتسمت علامات الدهشة جلية فى ملامح وجهها ولم يكن يخطر على بالها ابداً أن يطلب منها العودة وقالت له :
- مستحيل عارف يعنى ايه مستحيل .. كفاية عذاب ومهازل تسببت فى ضياع شادية للأبد وضيعتنى معاها واتهمتنى بأتهامات انا بريئة منها ودمرت البيت ودمرت نفسك وفى الأخير جاى تطلب منى الرجوع ليك !!
وحاول خالد مقاطعتها ولكن اشارت بيدها فقالت :
- اصبر اصبر خلينى اكمل حديثى.
- طيب واصلى
- دنيا غريبة ياخالد لقد طلبت منك ليلة طلاقى أن تسمعنى علشان اوضح ليك الكثير ورفضت ورميت الطلاق والان تتركنى اكمل !! سبحان الله عموماً لا تحاول ولا تحلم .
ونظر اليها دون أن يتفوه بكلمة واحدة ونهض من كرسيه واتجه نحو الباب خارجاً وهو يجرجر فى أقدامه كانه يجرجر ذيول خيبته ، وقبل أن يخرج سمع مريم تناديه واعترته موجة من التفاؤل وظن ان مريم غيرت رأيها ورثت لحاله واتجه نحوها بخطوات سريعة وفى شفتيه ابتسامة أمل وقالت له
- مرتبى يكفينى ويكفى اطفالى وما عندى مانع اذا وقفت النفقة ومع السلامة وربنا يوفقك فى اختيار زوجة مخلصة وشريفة وعفيفة .
- مريم أنا ظلمتك فى لحظة شيطانية وانتِ انسانة شريفة وعفيفة وطاهرة ..وو...
- اليوم فقط عرفت .. الحمد لله عرفت اننى شريفة .
وخرج مثقلاً بالهموم والانكسار والهواجس ، الاحساس بمرارة الندم والخطأ الفادح واليأس والحزن والألم قد يدفع الانسان الى هاوية الانتحار ان لم يكن قوياً فى ايمانه .
وفى اثناء عودة خالد الى بيته عرج إلى أحد الفنادق الصغيرة واشترى ثلاث زجاجات من الخمر وحملها وذهب هائماً على وجهه .
نسى أنه سيسلك طرق التوبة والرشد والمثالية ... نسى انه قرر ان يبدأ من جديد وبناء بيت سعيد ، لحظة يأس حطمت فيه كل الامال والاحلام وتراجعت قواه التى لم تبدأ بعد .
وما أن دخل البيت حتى أقفل غرفته عليه كالعادة وفتح احدى زجاجات الخمر وتجرع جرعة كبيرة قبل ان يجلس على المقعد أو يبدل ملابسه .. الى هذة الدرجة كانت هنالك مرارة فى قلبه كمثل طعم مرارة الجرعة التى يتجرعها الآن ...ما يحس به لهو اقسى مرارة من ان يحتمله وهو واع ، مرارة الشعور بالندم وبالخطأ الذي ارتكبه فى طلاق مريم والشعور بالذنب تجاه موت شادية والاهمال تجاه كل الاسرة ..
وجاء الليل يزحف ثقيلاً بهمومه وتناثرت زجاجات الخمر الخالية هنا وهنالك فى أركان الغرفة التى عمتها الفوضى والتى لم تنَظم منذ زمن طويل ورائحة الخمر الكريهه تفوح منها .
الاحساس بمرارة الندم وضعف الايمان والمسؤولية عن الاخطاء الفادحة واليأس والحزن والألم كل ذلك قد يدفع الانسان لهاوية الانتحار ، لم يعد يجديه الندم على حظه التعيس فى الحياة الزوجية فهو الذي تسبب فى كل شىء وهدم كل شىء ودمر كل شىء وأمسك بزجاجة الاقراص المنومة وقرر أن يفرغها جميعها فى معدته وهو فى غمرة سكرته ، أن يذهب ويسافر من هذة الحياة ، ان ينتقل الى عالم اخر قد يكون اخف وطأة من الحياة على هذا الكوكب وقد تناسى انه بفعلته هذة قد يكون مصيره جهنم ..
قرار اتخذة لم يكن يفكر فيه من قبل بل هو قرار وليد ساعة ولحظة من الزمن الطائش وبعد ان تجرع كل ما تبقى من الخمر نهض من مكان جلوسه واحضر ورقة وامسك بالقلم وكتب رسالة الى طليقته مريم قال فيها :
عزيزتى مريم ..اعترف اننى اخطأت فى حقك واعلمى بأننى نويت العودة اليك بقلب واع مدرك لاخطاء الماضى ونويت التوبة ولكنك رفضتى العودة ، شادية رحلت ولم يتبق لى الا انتِ وسلمى وعادل ولكنك ترفضين العودة ، ترفضين تصحيح المسار ، ترفضين تقبل الأعذار ، ترفضين الحياة لذلك فضلت الموت على الحياة بدونكم .
سامحينى فقد ظلمتك كثيراً .
خالد عوض الكريم
وكان يمسك بزجاجة الاقراص المنومة فى يده الأخرى ... ونهض من مكانه مرة اخرى وبخطوات مترنحة والخمر قد يسيطر عليه تماماً من كثرة ما تناوله وبصعوبة بالغة وضع الرسالة على احد ادراج المكتبة وفى اثناء عودته لسريره تعثر فى خطواته ووقع على الأرض فاقد الوعى تماماً وتناثرت الأقراص المنومة من يده على أرضية الغرفة قبل ان يبتلعها فقد كان ينوى أن يبتلعها بمجرد وصوله السرير ... ولكن شاء القدر أن تكتب له الحياة مرة اخرى أن يُمّد فى عمره ، الموت لا يأتِ لمن يرغب به بل يأت لمن يخافه ويحب الحياة بشغف وبنهم ..
منطق الحياة دائماً أن يخطف الموت الفئة المثالية فى هذا الكوكب ، الموت لا يمهلهم طويلاً ، كأنه يخاف عليهم أن يصابوا بلوثة الحقد والكراهية والشقاء .
ومضى الليل بأكمله وخالد فاقد الوعى ، وأطل الصباح وجاءت شقيقته توقظه كمثل كل مرة ولكن ما أن رأته مَمداً على الأرض وبالقرب منه تناثرت الأقراص المنومة حتى صرخت بأعلى صوتها خالد انتحر ... خالد انتحر .. وجثت بركبتيها على الأرض وهى تمسك فى يديه وتارة تجس نبضه وتقلبه يميناً وشمالاً وهى تنادى عليه ، وازداد صراخها وعويلها حتى سمعها الجيران وجاءوا اليها مسرعين ، طلبوا سيارة الاسعاف وفى اثناء انتظارهم لسيارة الاسعاف وجد احدهم الرسالة التى كتبها خالد فهى موضوعة بحيث يستطيع أى شخص ما أن يراها وأدرك الجميع انه حاول الانتحار فعلاً .
وحملوه على أحد السيارات الخاصة بعد ان ازداد قلقهم اثر تأخر سيارة الاسعاف ، وانطلقت السيارة مسرعة تجاه مشفى الحوادث ، وهنالك اجرى له الطبيب غسيل معدة وأفرغ كل محتوياتها بماء الملح وافاق خالد من وعيه ووجد نفسه راقداً على سرير وملاءة بيضاء وبالقرب منه ممرضة جميلة بيضاء البشرة وتلبس فستاناً أبيض اللون وعلى رأسها غطاء ابيض ايضاً وقال لها
- انتِ ملاك ؟
- نعم انا ملاك الرحمة الإنسانية
- يعنى أنا فى الآخرة ؟
- لو أنت فى الاخرة كنت فى جهنم من االسم البتشرب فيه ده !!
- مين قاليك انا بشرب خمر ؟
- عملنا ليك غسيل معدة ووجدنا بطنك مليانة بالحليب !!! ما شاء الله .
بدأ خالد يتذكر بصعوبة فى الحوادث التى مرت به فى الليلة الماضية ، وبصعوبة بالغة تذكر كل ما حدث ، انه لم يبتلع الحبوب لانه تعثر ووقع على الارض ولو لا ذلك لوجد نفسه فى الاخرة بالفعل .
وعاد الى بيته بعد ان مكث فى المستشفى اربعة وعشرين ساعة فقد عولج فقط من حالة الانهيار العصبى التى كان يعانيها ولا زال يعانيها ، وجاءت اخته تقدم له وجبة الغداء ولكنه سبها دون سبب وقذفها بولاعة السجائر ... ولم يكن أمام أخته خيار سوى أن ترحل هى الأخرى عن البيت وتركته وحيداً ... وبدأ يستفيق لوحدته ، الجميع رحل عنه ، مرة اخرى بدأ يراجع فى أحداث ليلة البارحة ووجد الرسالة التى كتبها الى مريم ، لم يصدق انه كتب هذة الرسالة ، لم يصدق عينيه وهى تقرأ كلمات رسالته ، لم يصدق رؤية الحبوب المتناثرة على الأرض تلك الحبوب التى أراد أن ينتحر بها أراد ان ينهى حياته فى لحظة حماقة .. فى لحظة سكر لحظة طيش بعد كل هذا العمر .. عليه أن يتعلم من هذا الدرس .
وانتشر خبر اقدامه على الانتحار وسمع احمد على بكل تفاصيل قصته وأبلغ مريم بما حدث لخالد وبما حوته الرسالة الموجهة لها ، ولكنها لم تأبه لما سمعته كأنها لا يعنيها ذلك فى شىء !! وتعجب احمد على لجسارة مريم وأدرك مدى الظلم الذي سببه لها خالد وجرح كبريائها واساءة سمعتها فى الحى ... ولكن جميع اهل الحى تناقلوا فحوى الرسالة وعرفوا مدى براءة مريم .. ولماذا اقدم خالد على الانتحار .. هل لانه تسبب فى مأسآة بيته فى هدمه .. لشعوره بالذنب واعترافه بالخطأ الذي ارتكبه فى حق مريم ام لشعوره بالذنب فى مرض ابنته الراحله شادية .. المهم فى الامر ان المجتمع عرف حقيقة خالد وبراءة مريم .
وفجأة تغير سلوك خالد بعد أن كان عربيداً سكيراً أصبح رجلاً ورعاً تقياً دائماً يحمل السبحة في يديه لا يترك وقتاً واحداًً من أوقات الصلاة يفوته.. اصبح حريصاً كل الحرص على اداء الصلاة في أوقاتها .. وأطلق العنان للحيته حتى صارت طويلة .. لقد عاد الى رشده .. الى اصله وكان اذا جاء الليل يجلس وحيداً عند السجادة يظل يبكي بكاءً حاراً طالباً من الله أن يغفر له ، يظل يبكي ويسبح ويذكر الله كثيراً حتى مطلع الفجر ..
يشعر انه بدأ حياة جديدة وبقلب ملىء بالايمان وبحب الله ورسوله وبحب الناس .. انه يتصدق كثيراً .. تاب من شرب الخمر واعتدل فى سلوكه وكره حتى الشوارع التى كان يسلكها فى السابق ، لقد غير كل شيء فى حياته او ما يذكَره بماضيه .
وعلمت مريم بكل مراحل تغيير سلوك خالد .. وان مجتمع الحى عرف برءاتها من تلك التهمة التي الصقوها بها في ليلة طلاقها، كانت فرحة لذلك سعيدة غاية السعادة لرد اعتبارها ولمعرفة المجتمع للحقائق ولتغيير سلوك خالد وعودته الى الطريق القويم ، ولكنها لم تفكر البتة في العودة إليه. قد تريده أن يفيق كثيراً.. ً وان يستيقظ اكثر.. ليرى الحياة الزوجية على حقيقتها ويوليها اهتمامه واحترامه فالحياة الزوجية ليست تربص واتهامات وشجار وخناق كل يوم .. فهي غير ذلك.
وبعد ثلاثة اسابيع تلقى خبراً مفاده "العملية نجحت سوزان بخير قادمون بطائرة الثلاثاء" .
قفز وحيد من مكانه فرحا سعيداً ، سعادته أكبر من كل شيء وفرحته عانقت السماء بعد أيام القلق والخوف جاءت اللحظات التي تنهمر فيها دموع الفرحبدلاًمن دموع العذاب حتى الاخرين الذين كانوا مصدر الوشايا والحسد اعترتهم السعادة وداعاً الى الأبد أيها المرض اللعين لقد حانت الساعة لرحيلك سكنت ذلك القلب المسكين الطيب سكنت فيه تعذبه وتألمه دون رحمة دون شفقة الان اترك ذلك القلب يعوَض تلك الدقائق تلك الساعات والأيام تلك الشهور التى عانت منها ويلات الألم ...
الكل ينتظر قدوم سوزان الى الوطن الكل متشوق لرؤيتها الكل يريد مصافحتها وبنجاح العملية تودع سوزان المعاناة والمكابدة التي عانتها ضد ذلك المرض .
كان وحيد يترقب مضي الأيام ويتلهف الى يوم الثلاثاء يوم عودة سوزان إلي ارض الوطن وفي الليلة التي سبقت يوم الثلاثاء لم يستطع أن ينام .. ولأول مرة يتمنى أن ترحل ظلمة الليل حالا وليأت ويقبل الصبح ليتسنى له الذهاب الى المطار لاستقبالها ، ليقابل انسانة عظيمة انسانة ضحت ونذرت عمرها في سبيله وكتب لها الله الصحة والعافية والتي تمناها دوما من الله هاهو الله يستجيب لدعواتهما ، الصحة والعافية تحققت بدلا من أن كانت حلما ينشداه . أمسى واقعا بل أكثر من واقع ملموس وكل ذلك بفضل الله تعالي .
وأطل الصباح وسبق مواعيد وصول الطائرة بأكثر من ثلاث ساعات ، أراد فقط أن يشعر بنفسه داخل مبنى مطار الخرطوم في انتظار قدوم سوزان.
وظهرت الطائرة في السماءكعصفورة صغيرة ، وظلت تقترب رويداً رويداً وكل العيون محدقة بها، تتلهف لرؤيتها، هبطت الطائرة على أرض المطار. ولحظات وهبطت سوزان سلم الطائرة وهي تلوح بيدها لمستقبليها من الأسرة وعندما اقتربت أكثر لوحت بيدها لوحيد الذي كان يقف جانبا لوحده ... ورقرقت عيناه بالدموع دموع الفرح والانتصار على المرض ...
ولم تمض لحظات كثيرة حتى أطلت من صالة الجمارك واحتضنتها أمها الحاجة آمنة وبدأت تقبل فيها وهي تحمد الله على سلامتها ووحيد واقفُ .. يكاد يقفز من مكانه ويتجه إلى السماء مهللا شاكرا لربه .. مضت لحظات وسوزان تعانق في أفراد أسرتها ووحيد كأنه يريد أن يقفز اتجاهها ويبادلها التحايا ويسألها قبل ان تكمل معانقة أفراد أسرتها.. واخيرا جاء دوره عانقها عناقا حاراً ملتهبً دموعهما امتزجت على خدودها.. لحظات خالدة في حياته وستكون محفورة بنور من السعادة والرحمة الإلهية في أعماقه ... وتوجهوا بعد ذلك جميعا إلى حجر العسل مباشرة، وهناك ذبحت الخرفان وأقيمت وليمة كبيرة بمناسبة نجاح العملية وعودتها إلى أرض الوطن متعافية.
واخيراً لن يجد مجتمع اسرته سبباً لمنعه من الزواج منها وأبلغ والده ووالدته ووافقا على ذلك الزواج .. ولم يكن هناك ما يعكر الاجواء أو يثير الضغائن ورفض وحيد التحاق سوزان بأى جامعة أو حتى العمل موظفة فى أي دائرة ما خوفاً من ان تنتابها آلام المرض ، ويعود الصمام الى سالفه.. اقتنعت هي بذلك .. وكانت شديدة الحفاظ على صحتها .. ولازالت تعليمات الاطباء قائمة في محلها .. وكل النصائح والتحذيرات قائمة في محلها .. وبنفس المقدار الذي كانت به سعيدة لتحسن صحتها كانت متضايقة لتلك التحذيرات والممنوعات التي آملاها عليها الاطباء ..الاستمرار وعدم التوقف من حقنة (الماريفاني ) والتى تمنع تجلط الدم وترسب الصفائح الدموية فى الصمام .
ومن وقت لآخر يزرنها صديقاتها بالرغم من شتاتهن فى الجامعات المتباعدة المختلفة ايمان عبدالله التى التحقت بكلية الطب جامعة الخرطوم وناهد زكريا التحقت بكلية الحقوق جامعة النيلين و سلوى عثمان التحقت بكلية التربية جامعة أسيوط بمصر .
ومرت سنة كاملة واقتربت ايام الزفاف .. ولكن هنالك سؤال ظل يطاردها في صحوها وفي منامها هل بالامكان ان تتزوج وهي مريضة بروماتيزم القلب واذا تزوجت هل بالامكان ان تنجب اطفالا ً؟ حبها للأطفال جعل ذلك السؤال الأخير هاجسا لها و لعنت القدر الذي ساقها الى ذلك المرض .. الى تلك الهواجس واخيرا قررت ان تستشير طبيبها المعالج لها ..
مرات كثيرة قررت أن تذهب الي دكتور محي الدين الطبيب المعالج لها ولكنها في اخر اللحظات تتراجع خوفاً من أن تصطدم بقرار يمنعها من الزواج ، ولكن هذه المرة أصرت كل الأصرار أن تذهب للطبيب.. وجمعت شجاعتها وأيقنت أن النتيجة لن تؤثر فيها لطالما هى ستتزوج وحيد حتى لو كلفها ذلك حياتها .. فقد صارعت الموت بأجرائها عملية توسيع صمام من أجل وحيد ... ولكن طالما النتيجة التي سيقولها الدكتور لها لن تهمها فلماذا تذهب اليه اذن ؟! أرادت فقط ان تتأكد بنفسها ولتطمئن كثيرا ولكن كل ذلك لم ينشلها من حالة التردد والخوف اللذين سيطرا عليها .
وذهبت الي العيادة دون أن تخبر وحيداً ، أرادت أن تخفي عنه ذلك وما ان دخلت باب العيادة المطلة على شارع القصر جنوب حتى ازداد ارتجافها . وازداد ارتباكها ، كل المرضي الذين كانوا ينتظرون دورهم في الدخول الى الطبيب لاحظوا ارتباكها وارهاقها والعرق المتصبب من جسدها كانها جاءت من منزلها للعيادة مشياً على الاقدام وليست بسيارة .. حاولت ان تجعل اعصابها هادئة فجلست على الكرسي في انتظار دورها تداعب طفلا ً جميلاً عمره لم يتجاوز السنتين بعد، كان يقف بالقرب من والدته ... ونادته بحكم حبها للأطفال وجاءها الطفل بكل براءة وحملته ووضعته على حجرها وطبعت قبلات متلاحقة على خده وشعر رأسه واندهشت والدة الطفل على الحب المبالغ فيه الذي أولته سوزان لطفلها.
وجاء دور والدة الطفل للدخول للطبيب ونهضت من كرسيها واتجهت اتجاه سوزان حيث طفلها معها وقالت لها بابتسامة عريضة كشفت عن سن الذهب التي بين أسنانها ( عليك الله خليه معاك إلى ان انتهي من مقابلة الطبيب) وازدادت فرحتها لأنه سيقضي معها وقتاً أطول سيبقى معها حتى تخرج أمه وجلست تداعبه وتضحك معه وتحاول إضحاكه ولكن مع كل ذلك لم تستطع طرد الارتباك الذي يوجد بداخلها .. فكل دقيقة تمر بها تنبهها بموعد قرب القرار النهائي ، القرار الحاسم الذي قد يحمل لها كل الأمل والذي قد يحمل لها كل الفشل وتحطيم الآمال واندثار الأحلام ، وجاءت والدة الطفل وجلست بالقرب منها وبعد ان شكرتها قالت لها
- مالك عندك شنو انتِ ؟
- عندي روماتيزم في القلب وبحضر كل فترة للدكتور هنا علشان أعمل فحوصات واخذ حقنة شهرية بعد أن عملت عملية لتوسيع الصمام في مصر .
- يعني نفس حالتي أنا.
- انتِ عندك روماتيزم في القلب ؟؟؟..
- ايوه واجريت عمليتين بدلا من واحدة.
- واتزوجتي وهذا طفلك ؟!
سألتها هذا السؤال بكل اللهفة والدهشة وفي عيونها بريق ولمعان من الامل واجابت لها تلك المرأة ذات السن الذهبية.
- الحمد لله تزوجت وهذا طفلي ولكن وقفت الولادة بعد ان تعبت جدا في ولادته وكنت سأفقد حياتي في غرفة العمليات ولكن!! الله لطف وقدر ...
وفي هذه اللحظات سمعت الممرضة تناديها لتدخل لمقابلة الطبيب ونهضت وسارت بخطوات بطيئة للغاية كانت تتذكر في تلك المرات الأولى عندما قال لها الطبيب انك تعانين من روماتيزم في القلب والمرة الثانية عندما ذهبت اليه وقال لها روماتيزم القلب تسبب لك في ضيق الصمام .. وتساءلت ماذا سيقول لها في هذه المرة الثالثة هل سيهزها بعنف كما هزها مرات عديدة.. سيدفن الأمل الاخير الذي تبقى لها..
دخلت على الطبيب وجلست على الكرسي المقابل له بعد ان بعد بادلته التحايا ورفع الطبيب نظرة من فوق نظارته الطبية وفي الحال عرفها انها مريضته سوزان وقال لها
- ما شاء الله .. كيف الحال والصحة يا سوزان"؟
- الحمد لله بخير ...
- حذار ان تكوني اوقفتِ حقنة الماريفاني واذا اوقفتيها قد تحتاجين لعملية ثانية .
- لا ابدا يا دكتور لم اوقفها وجئتك اليوم ليس لانى مريضة بل لاستشارتك بوصفك طبيبي المعالج وتعرف ما اعانيه تماماً..
وصمتت برهة دون ان تتفوه بكلمة واحدة. لقد توقفت تماما عن الحديث ويكاد ان يتوقف قلبها من اشتداد ضرباته... وقطع الدكتور الصمت وقال لها:
- نعم تكلمي عايزه تقولي ايه ...
- عايزة اتزوج وانجب اطفال فهل تسمح حالتي بالزواج ؟؟؟.
فصمت الدكتور فلأول مرة يشعر بانه يتطلب منه موقفاً شجاعاً قد لا يضارعه موقفا لاجراء عملية قلب بحالها وقال لها:
- بكل الصراحة اقول ليك ولابد ان تتقبلي حديثي هذا كأمر لا مفر منه يا سوزان...
وأيقنت أن في الامر شيئا خطيراً .. وتمنت أن تنهض في هذه اللحظة وتجري هرباً قبل ان تسمع بقية حديثه .. وحدقت فيه بعيونها التي خبا بريقها وبدأت تحرك يديها دون هدف كأنها تريد أن تمد يدها على فمه لتسكته وواصل الطبيب حديثه قائلاً لها:
- اذا عايزة تعيشي ياسوزان بدون ألم يجب أن لا تتزوجى واذا لا بد من الزواج تزوجى ولكن انصحك بعدم الانجاب .
وصعقت بمجرد سماعها ذلك الحديث واعترتها رجفة سيطرت على جسدها وبدأت ترى حولها ظلاماً دامساً حالك السواد ، فصرخت بأعلى صوتها .. (مستحيل يادكتور أنا لازم أتزوج وحيد لازم يادكتور لازم ) أشفق عليها الدكتور ورثى لحالها كأنه ارتكب ذنباً كبيراً فى حقها ..
لقد عاشت سنوات عديدة تكافح وتقاوم المرض وتحافظ على صحتها من أجل أن تتوج آمالها وها هى الآمال تنهار والأحلام تندثر وتصبح فى اقل من لحظة سراب عريض لقد تمزق سياج الأحلام الى أشلاء متناثرة وقال لها الدكتور :
- اذا أنتِ شايفة لابد من الزواج ومصرّة كل الأصرار على الزواج فيجب عليك أن لاتحاولى الإنجاب
فإنجاب الأطفال هو الخطر الحقيقي والمؤكد ولكنها أحبت الطفولة بدرجة حبها للحياة وتشبثها بها ولم تكن الصدمة الأخيرة أخف وطأة من الأولى فكلا الأمريين يتساوى عندها ، ولكن كان عليها أن تختار إما زواجاً بدون طفل وإما طفلا تلده وتهب نفسها لخطر الموت ، وخطر محدق قد يؤدى بحياتها وكان من البديهى أن تختار زواجاً بدون طفل ، وقال لها الطبيب وهى خارجة من باب غرفة العيادة (عليك أن تتحملي نتيجة المخاطرة التى تترتب على قبولك الزواج على العموم كونى حذرة)
رددها مرتين ولكنها ترددت فى مسمعها عشرات المرات وما أن خرجت من غرفة الدكتور حتى تلفتت حولها لعها ترى ذلك الطفل الجميل الذي قضت معه لحظات سعيدة ، لقد تضاعف حبها للأطفال عند تلك اللحظة ، لحظة حرمانها من أنجاب أى طفل ، وكم هو قا سٍِِ ذلك القرار الذي أملاه القدر عليها ... وركبت حافلة امتداد بري متجهة نحو البيت ، وأرتمت داخل الحافلة كأنها جثة هامدة .. كل شىء فيها ميت عدا عقلها الذي يفكر وقلبها الذي ينبض .. كان فكرها مشغولا ، ًكيف ستواجه وحيداً بذلك القرار وكيف يكون وقع الصدمة بالنسبة له حينما يعلم بأن أنجاب طفل يعرضها لخطر حقيقى مؤكد وهى فى غمرة أفكارها وصلت الحافلة الى امتداد برى وتخطت محطة منزل خالها احمد ، أنتبهت فجأة لنفسها ووجدت نفسها فى آخر محطة ونزلت عائدة الى المنزل ... وما أن دخلت الى غرفتها حتى أرتمت على سريرها وأنكفت على بطنها وقد غطت وجهها بيدها وأجهشت بالبكاء وبصوت عالى ... فالبكاء دائماً يريحها ، الدموع تغسل نفسها.. وسمعت أمها بكاء أبنتها وجاءت بكل لهفة وجلست بالقرب منها تربت على ظهرها وتلح عليها بالسكوت والكف عن البكاء... ومرت لحظات ووجدت نفسها مرتاحة قليلاً ولكن والدتها لم تتركها بل سألتها عن سر بكائها .. ولم تجد صعوبة فى أن تسرد لها كل شىء . قرار الطبيب وتحذيراته ... ولكن والدتها لم تندهش ولم تغضب وقالت لها .
- كنت عارفة ذلك يابنتى .. كنت عارفة أن الزواج فى غير صالحك فكرى فى حياتك يابنتى .
قالتها بكل الأشفاق والحنان انها تخاف على بنتها ولكن بنتها صرخت قائلة
- حرام عليك ياأمى حتى أنتى واقفة ضدى مش كفاية المجتمع كله ..
وفى هذه اللحظة سمعت طرقات على باب السور الخارجى ونهضت سوزان من سريرها تجرجر أقدامها كأنها تحمل ثقلاً كبيراً على ظهرها . وبدت شاحبة الوجه ذابلة كأنها وردة عباد الشمس التى غابت عنها الشمس وبدأت تذبل رويداً رويداً وتنكمش حول نفسها ، واتجهت نحو الباب وشعرها متحرر مسترسل بسواده الداكن على كتفها وتطايرت خصلات منه وأرتمت على حاجبها الأيسر ، وفتحت الباب فتحة صغيرة وأمالت بجسمها ووارته خلف الباب وأطلت برأسها فقط من خلال تلك الفتحة فإذا بها تجده وحيداً .
وعلى الفور فتحت الباب كله .. وابتسمت له ابتسامة أحست بأنها لأول مرة تلاقى جهداً فى تلك الابتسامة لأنها تكلفتها وتصنّعتها ، ومدت يدها ومن ثم دعته وصافحته للدخول ، ورفعت بيدها خصلة الشعر المنسدلة على جبينها الأيسر الى أعلى والتى كانت قد حجبتها عن الرؤية ولاحظ وحيد الكآبة المسيطرة على سوزان فقال لها : مالك حزينه كده وشايله هموم الدنيا
ـ لا أبدا ما فى حاجه بس كنت مساهره ليلة البارحه فى حفلة زواج صديقتى ناهد زكريا
ـ تانى عايزه ترجعى لحالتك الأولى .. نسيتى انك ممنوعه من السهر والأرهاق
ـ مره واحده فى السنه ما بتأثر بحاجه .
ـ ده ما كلام يا سوزان أرجوك تحافظى على صحتك واتبعى تعليمات الأطباء .
ـ حاضر ياعزيزى أوعدك أنه دى تكون آخر مره
وجلسوا جميعا يتابدلون الحديث وكانت دائما سوزان تتحاشى الحديث فى موضوع الزواج والذي اقتربت أيامه خائفه أن يعرف وحيد بالحقيقه فى هذة اللحظات تريد أن تخبره على انفراد وبالأسلوب الذي تراه هى ونهضت من مكانها ودخلت الى المطبخ لاحضار كوب من عصير الليمون ... ولكن والدتها انتهزت فرصه غياب بنتها فى المطبخ والتفتت نحو وحيد وقالت له :
ـ سوزان قبل شويه جاءت من الدكتور وقال ليها الزواج ده ما فى صالح صحتك لانو الولادة خطر عليها ياولدى ؟
وارتاب كثيرافى ذلك الأمر وحزّّ فى نفسه وأحزنه ولكن حياة سوزان فوق كل شى . فوق كل رغباته فى طفل ... حياة سوزان وصحتها طفت على كل أحلامه بالطفوله وتقبل ذلك الأمر بصدر رحب واسع مقدرا ظروفها الصحيه فقد أقسم أن يسيرا معا فى طريق واحد سواء مفروش ذلك الطريق بالورود أو بالشوك فأنه لن يتخلى عن ذلك الطريق ...لقد أحبها قبل أن تمرض بالقلب فكيف يتخلى عنها لمجرد أنها مريضه بالقلب كيف!!!! تصور فى مكانه وسؤال فى محله وقال لوالدتها :
ـ عمتي أرجو لاتعيدى لى هذا الكلام مرة أخرى ولاعايز اسمعه فأنا لا ولن أتراجع قيد أنملة .
وجاءت سوزان بالعشاء بدلا من كوب العصير ولاحظت تجهم وجهة وأرتابت فى الأمر .... هو الآخر علم حقيقه ذبولها وتغير حالها ووصولها الى هذه الدرجه من الاكتئاب ولم يستطع تناول الكثير من الطعام فاكتفى بقدر بسيط للغايه وكانت هى الأخرى جالسه تجبر نفسها بالأكل لتجامله مجرد مجامله لا أكثر ولا اقل بالمشاركه فى الطعام .... ونهض وغسل يديه وجاء ليجلس فى نفس مكانه وهى لم تنهض لتغسل يديها بل جلست صامته دون أن تتفوه بكلمه ، شعور غامض دفعها الى الصمت ... وحملت حاجة آمنة صحون الطعام وما تبقى من طعام عليها وذهبت بها لداخل المطبخ ورفع وحيد رأسه لينظر لها فوجدها مشغوله بفرك أصابع يديها التى لازالت عليها آثار الطعام وقال لها بصوت ملىء بالثقه :
ـ عرفت أنك مشيتى للطبيب اليوم وعلشان كده عاملة فى نفسك كدة
ـ منو قاليك يا وحيد ؟
ـ حاجة آمنة... ثم ثانيا ليه ما أخبرتينى علشان أمشى معاك ؟
ـ ماكنت عايزه أشغلك
ـ عموما ما تشغلى نفسك أبدا لذلك القرار فأنا عندما حبيتك نذرت نفسى لك اخلاصا وحبا وعلينا أن نتقبل ذلك الواقع من أجل حياة سعيدة خالية من الألم يكفى ما عشناه من الألم حتى الآن ....
شعرت سوزان بأنها جمعت سعادة كل العالم فى هذه اللحظه فلقد كان حديث وحيد بالنسبه لها أضخم مهرجان فرح وسعادة وأكبر أمل تتلقاه فى حياتها لقد كانت تخاف من وقع الصدمه عليه لكنها وجدته انسانا فريد فى انسانيته فريد فى حبه ... وأدركت مدى عمق الحب الذي يكنه لها وكم هى فخورة بذلك ...
ونهض من جلسته متجها نحو الجانب الاخر من المنزل حيث غرفته ... وسارت خلفه تودعه حتى الباب وقبل أن يمد يده ليفتح الباب التفت خلفه بكل جسمه ووجد نفسه أمامها وجها لوجه وتلامست صدورهما معأ حتى أحست هى بأن نهديها تلامس صدره الواسع ... وتمنت أن يضمها بكل قوة لديه ويحتويها بداخله تريد أن تذوب وتتلاشى فى داخله تريد أن يحميها من الناس .. يحميها من خبايا القدر .... يحميها من الليالى التعيسه .... يحميها من كل المجتمع ... ويحميها من المرض وقسوة الأيام ومن كل شىء يحدق بهما . فقال لها بصوت هادي وقد وضع يديه على كتفيها:
ـ سوزان اذا اتخذتِ قرار الزواج من أجلى أنا فقط ودون مراعاة لحالتك الصحيه فأنا مستعد لقبول الأمر الواقع ومستعد أن نتخلى عن موضوع الزواج ده اذا كان الزواج يعرض حياتك لخطر مؤكد...
فقالت له وقد امتلأت عيونها بالدموع :
ـ لا يا وحيد أرجوك لا تسمعنى مثل هذا الكلام فأنا عايشة من أجلك ... أنت أعطيتنى الأمل والحياة وكل شىء يهون من أجلك ...
ـ لكن أنا لااريدك تتعذبى من أجلى أنا اضافة الى انو ...
ـ ما تخاف ما تخاف ياوحيد على الى هذه الدرجه ...كل شىء بيد الله .
توارى وحيد ودخلت هى غرفتها وارتمت على سريرها تشعر بارتياح فى نفسياتها فمنذ زمن بعيد لم تر نورا يشع داخل صدرها .... وأطبقت عينيها تجتر فى الذكريات وتفكر بوحيد وبحبه الكبير وبمحاولته أثنائها عن قرارها اذا كان من أجله فقط ... حقيقة الأقدار عندما تتدخل فى حياة الناس تأتى دون سابق انذار دون تمييز بينهم .
ومضت الأيام مسرعه ... واقتربت أيام الزفاف وأستعدت الأسرتان لأيام الفرح .. ولكن تلك الاستعدادات لم تخلو من الفتور من جانب أسرة وحيد ... ولكن أمام تحديه وصموده واصراره على الزواج منها جعل بدريه توافق على زواجه من سوزان .
وفى يوم الأحتفال بمراسم الزواج ... أجتمعت الأسرة ...شبابها وعجائزها وأطفالها وبحضورهم الى احتفالات الزواج كأنهم أقروا زواجه ووافقوا عليه
خرجت السيرة فى موكب فرح كبير ووسط الزغاريد التى تتعالى من أفوه النساء واتجه موكب سيارات الزفاف الى حجر العسل حيث منزل العروس هناك استقبلت خير أستقبال ... استقبلت بالزغاريد والعديل والزين والحنه والشموع والأبتهالات والدعاوى بأن يجعله بيت مال وعيال ....
وتم عقد القران بالخلوة ووزعت الحلوى والشربات والبلح ، كان أبوضراع أول المهنئين وأول القادمين وقد ملأ جيبه بالحلوى والبلح والبسكويت والاطفال لا يتركونه لحظة وإلا مازحوه أو رموه بالحجارة محاولين الحصول على الحلوى منه .
وأعتلى وحيد كرسيه فى الكوشه وجلس بالقرب من عروسته سوزان وهما فى غايه السعاده وبدأت وفود الناس تأتى اليهم كل منهم يمد يده يصافحهم مهنئا مباركا لهم .. كأنهم يهنئونه على انتصاره عليهم لانتصاره على كل المجتمع لانتصاره على العزال ... وعلى المرض .. يهنئونه بتتويجه واعتلائه عرش الحب ..عرش السعادة .. فقد انتصر للحب ... ولحظات وجاء الفنان عثمان حسين يغنى ... وكل البنات يرددن معه أغانياته .. وحلبه الرقيص عليها فتاتان جميلتان ترقصان على أغنيه الفنان عثمان حسين وكانت العروس سوزان تنتقل بنظرها فى كل الاتجاهات .. كل اركان الصيوان تحدق فى عيون الناس ومن آن لأخرى تهمس فى أذن العريس تقول له ( البنت اللابسة فستان لبنى الجالسه هناك احب صديقاتى واسمها ناهد زكريا .. والجالسه هناك اللابسة ثوب برتقالى صديقتى سلوى عثمان) كلهن حضرن من الخرطوم... ومن حين لآخر يأتى أحد معارفه ليقول له أبشر بالخير ياعريس .. وتتعالى الزغاريد ... وتنطلق الصيحات ..الريشه ...الريشه ...
وفجأه انتبهت سوزان لأحدى البنات الراقصات وقالت بصوت عالى :
ـ وحيد البنت دى سلمى
ـ سلمى مين يابت الحلال ؟؟
ـ سلمى أخت المرحومه شادية خالد
ـ وحيد انت ما شايف شبه شادية ؟؟ معقول حضروا !!...
وهم فى غمرة الدهشه برؤية سلمى ظهرت مريم وزوجها خالد .. يشقان الزحام فى اتجاهما يباركان لهما الزواج ... وجاءت سلمى تحمل باقه ورود فقدمتها لسوزان .. وجذبتها نحوها وضمتها اليها ورجعوا بعد ذلك واتخذوا مكانا لهم وسط المدعوين وهمست سوزان قائله لوحيد : مريم عادت لزوجها خالد !!!!
هذه هى مفاجأة الحفل .. ظهور مريم وخالد وطفليهما سلمى وعادل فى الحفل معا .. حقيقة مفرحة ..
وحان دور الفنان الشعبى المحلى ابن المنطقة ( مصطفي ودعبيد ) وما ان بدأ يغنى فى اغاني السيرة حتى هرع الكثيرين لداخل الحلبة بالعصي فى حماس شديد يقفزون عالياً من الطرب وقد خلع احدهم جلبابه ورمى به على الارض كاشفاً عن ظهره طالباً من العريس ان يضربه بالسوط الا ان العريس يرفض هذا الاسلوب فى التعبير عن الفرح متجاهلا العادات والتقاليد امسك شخص اخر بالصوت المصنوع من الجلد وانهال على الشخص العارى الظهر .. اكثر من عشرة ضربات وقعت على جسده حتى سالت الدماء بغذارة وزغاريد البنات تعلو وهو ساكن دون حراك لا يغمض له جفن
وانتهت مراسم الأحتفال بالزواج .. وسافر العروسين الى كسلا لقضاء شهر العسل وحجزا بفندق السعادة المطل على نهر القاش ...
وما أن دخلا غرفه النوم حتى وضع وحيد حقيبه الملابس وقبل أن تضع سوزان ثوبها على الدولاب أمسك بخصرها وجذبها نحوه وضمها بقوة اليه محاولا تقبيلها وحاولت هى أن تتخلص من قبضته وقالت له فى تأوة وهمس وهى تحاول أن تبعده بيدها:
ـ وحيد لا.. لا ياوحيد أصبر خلينى ابدل ملابسى ..ونستريح شويه ...
ولكنه لازال يضمها اليه حتى أختلطت أنفاسهما معا وظل يقبل فيها بشفتيه على خدها ويبحث بشفتيه عن شفتيها حتى أطبق عليها فى قبلة حارة ملتهبة أنسته عذاب سنين طوال .
ومرت لحظات وهى فى شبه غيبوبة من غمرة قبلاته والنشوة التى سرت بجسدها .. واستطاعت أن تبعده بيدها ... وأصلحت تسريحة شعرها الذي انسدل على كتفها .. وقالت له بعد ان جمعت أنفاسها :
ـ وحيد وحياتك تركنى أستريح شويه أيام الزفاف اتعبتنى جداً انوم ساعة واحدة بس .
وحملت احدى قمصان نومها ودخلت الحمام وغابت بضعه دقائق وجاءت وجلست قباله المرآة تتعطر من عطر جميل وتزين من نفسها واتجهت نحو وحيد الذي جاء بدوره من الحمام أيضا بعد أن بدل ملابس السفر التى جاء بها وقالت له:
ـ كل أصدقائك جاءوا فى يوم الحفل
ـ كلهم حضروا الا ياسر حسن
ـ ضباط الشرطة لهم وضع خاص تلقيه سافر فجأة الجنوب
ـ أحضرتى معك حبوب منع الحمل ؟
ـ أيوة ومعقول أنساهم
ـ أحرصى على ابتلاعهم بنظام فاهمة
ـ طبعا ياعزيزى وأبتديت فى تناولها قبل أسبوع أيه رأيك
ـ طلعتى مثقفة انتِ كنتِ متزوجة قبل كدة ؟؟..
قالها مازحا واتجهت نحو السرير وتمددت بجسدها بالقرب من زوجها وحيد وأمد وحيد يده وأطفأ نور الغرفه وأبقى فقط على نور صغير يشع من الشمعدانة الموضوعه على المنضدة بالقرب من السرير الذي يرقدان عليه . وبعد مضى أسبوعين قضياها فى شهر العسل بكسلا عادا الى بيتهما الجديد سعيدين كل السعادة كأن الأيام أرادت أن تعَوضهم ما قاسوة من عذاب والم وفراق ....
ولكن لم تمض سنة على زواجهما حتى بدأ الملل يتسرب الى قلب سوزان بدأت تصرفاتها تتبدل شيئا فشيئا ... صارت مكتئبه حزينة طول اليوم ... وأخفت الابتسامة التى كانت لا تفارقها أبدا وكثيرا ما يبكيها ذلك الحزن الذي يوجد داخل نفسها ... واحتار وحيد لما لاحظه من تبدل سلوك زوجته . وأراد مرات عديدة أن يفهم منها شيئا لكنها عودته دائما أن تقول له لاشىء أطلاقا ...وأقلقه ذلك الغموض .. ذلك الحزن والاكتاب وانحدرت حالته هو الآخر الى الأسوء فأصبح يصل متأخر عن مواعيده التى تعودها فى بداية الشهور الأولى لزواجهما ... سوزان بحكم مرضها لا تستطيع أن تلبى كل رغبات زوجها الجنسيه وهو بصحته وشبابه لايقوى على تحمل ذلك الوضع هكذا أعتقدت سوزان وظنت أن ذلك هاجسا يطارد وحيد ويقلقه ... ولكن فى حقيقة الأمر لم يكن ذلك هاجسا له .. لقد كان يحترم زوجتة ويقدرها جل تقدير .. ولكن ذلك لم يكن سببا كافيا لحالة الاكتئاب التى أعترت زوجتة .
وفى احد الايام جاء من عمله وبمجرد وصوله الى منزله دخل الى غرفتة ورقد على سريره وجاءته سوزان تقول له:
ـ وحيد الغداء جاهز على السفره
ـ ما عايز غداء .. ولا اى شىء
ـ مالك ياوحيد شاعر بحاجة ؟
ـ أرجوك سيبينى فى حالى
ـ وحيد أنا زوجتك ومن حقى اعرف أى شىء عنك
ـ لو انتى عارفة كدة سايبانى عايش فى عذاب ليه عاوز أعرف مالك هذه الأيام ؟
ـ وحيد أنا ما عايزه أعذبك معاى بس أنو .....
ـ بالعكس كدة بتعذبينى أكثر وأكثر
ـ طيب يا عزيزى أقوليك كل شىء
وجلست على حافه السرير بالقرب منه وقالت :
ـ فى الحقيه يا وحيد عدم انجابى لأى طفل يملأ علينا البيت بهجه ومرح هو ده المسبب لى العذاب طول اليوم ... وأنت عارف مدى حبى للأطفال هذة هى الحقيقه وحياتك عندى ..
وأعدل من جلسته وأمسك يديها وضغط عليها بشدة وقال لها :
ـ سوزان دى قسمتنا كدة .. ونحن مش أتفقنا أن نرضى بذلك الواقع ونعيش بذلك أوعدينى ياسوزان أنك لا تفكرى فى ذلك الى أن ياتى يوم ان انشاء الله تجدى نفسك قادره على الانجاب ... توعدينى ؟ وبتسمت ابتسامة عريضه وقالت له :
ـ ما عارفة اقوليك ايه لكن ان شاءالله يا وحيد قوم الأن للغداء تلقاه برد ..
ومضت شهور أخرى لاشىء يعكر صفوهما .. ولكن كان كل يوم يمضى يزداد تعلقها بالطفولة.. لاترى أمرأة تحمل طفلها حتى يحّز ذلك المشهد فى اعماقها .. كأنها تحسدها عليه .. لقد بلغ بها حبها للأطفال ما لم تبلغه انسانه من قبل فلقد زيَنت كل حجرات الغرف بصور الاطفال ... وما ان يقع نظرها على صورة طفل جميل فى أحدى المجلات أو الصحف حتى تأتى بالمقص وتقطع صورة الطفل باتقان وتنزعها من المجلة أو الصحيفة ..
ولم تستطع أن تصمد أمام شعور حبها للطفولة وبدأت تفكر فى تلك المرأة ذات السن الذهبية التى قابلتها قبل سنتين عند طبيبها أخصائى القلب .. قالت بأنها تعانى مثل ما تعانيه هى من مرض روماتيزم القلب .. ومع ذلك تزوجت تلك المرأة وصار لها طفلا جميلا لماذا لا تحذو حذوها .. قد يكتب لها الله النجاة مثل ما كتب لتلك المرأة النجاة ...
وتذكرت قولها ايضا " الحمد الله تزوجت وهذا طفلى لكن تانى وقفت الولادة بعد أن تعبت جدا فى الولادة كدت أفقد حياتى فى غرفه العمليات لكن الله لطف وقدر "
وتسألت لماذا لا ألد أنا طفلا وقد يلطف بى الله
هكذا قدر لها أن تتزوج وأن تحب الطفولة ولكن تحرم من الانجاب وأصبح قول تلك المرأة يتردد فى أذنها كل يوم .. عند كل مشرق ومغيب للشمس .. واخير قررت أن تتخلى عن تناول حبوب منع الحمل وأخفت ذلك عن وحيد ولم تخبره أبدا أنها تخلت عن الحبوب انها تريد طفلا بأى ثمن وليكن ما يكن وكثير ما كان يسألها وحيد وينبهها الى تناول حبوب منع الحمل ولكنها كانت تخدعه وتوهمه بأنها منتظمه فى أبتلاعها ... وبعد ثلاثه شهور فقط من توقفها لتناول الحبوب ظهرت بوادر الحمل .. وفرحت لظهور أعرض الحمل .. وكانت سعادتها بذلك الحمل لاتضاهيها سعادة ولم تحاول أن تخبر وحيد فى الوقت الحاضر بالجنين الذي ظهر فى بطنها لأنها كانت تعلم علم اليقين بأنه سيأتى يوما ما وسيعرف وحيد كل شىء سيرى بعينه بطنها الكبيرة المنتفخة ولكنها كانت تخاف ثورته وغضبه .. . وقالت تحدث نفسها (لا ولكنه سيكون لنا طفل آلاعبه وأمرح معه... سأشدة الى صدرى وأقبله مئات القبل على خده سأضمه الى صدرى بحنان سيقول لى ماما ..ماما ... لم أعد أحتمل دون أن ألد طفلا لوحيد حتى لو كلفنى ذلك حياتى .. أريد طفلا ولو يقول ورحمة ماما...) وبدأ ذلك الحمل يكبر رويدا رويدا وصحتها تضعف رويدا رويدا وتسير نحو الأسوأ وأضحت عديمه الشهية للأكل .. مما أثار ذلك حيرة وحيد ولم يكتشف بعد بأن زوجتة حامل .ومايسمونه بالوحم ان تشتهى اكلات معينة من الطعام تطلبها من وحيد وهو لا يرفض لها طلباً وتنفر وتشمئز احيانا من بعض الروائح كل ذلك وحيد لا يعلم سر تلك المتغيرات .
الى ان جاء يوم نهضت فيه سوزان تنظف فى المطبخ بنشاط وهمه وجهد مضاعف لكى تبعد شكوك زوجها لا لشىء آخر ولكن قوتها خانتها .. وأرهقها ذلك الجهد المضاعف وسقطت على الأرض شبه مغشيا عليها تحت ذهول زوجها ودهشته .. وحملها الى أن أفاقت تماما فقال لها:
ـ لاتتحركى ولا خطوه واحدة الا أن يصل الدكتور
ـ وحيد ما فى داعى للدكتور أنا كويسه جدا ..
ولكنه لم ينتظر لكى يسمع او تكمل حديثها فخرج مسرعا الى أقرب دكتور لقد كان يفكر فى أثناء سيره نحو الدكتور ماذا ألم بسوزان هل عادت أزمه القلب لها مرة ثانيه .. وأقلقه وأزعجه ذلك الاعتقاد الأخير ..
وجاء الدكتور ودخل على غرفة سوزان وبقى هو جالسا فى الغرفة الخارجيه يدخن بشراهه لم يطق الجلوس تارة يتمشى فى الغرفة ويدور حول أركانها كأنه الأسد الجائع السجين فى قفصه .. وتارة يجلس على كرسيه ممسكا بسيجارته ... وفجأة جاء الدكتور خارجا من غرفة سوزان ونهض وحيد من كرسيه على عجل واتجه نحو قائلا :
ـ خير يادكتور ان شاء الله
ـ مبروك زوجتك حامل فى الشهر الثالث
وكان ذلك الخبر بمثابه صعقه كهربائية شديدة التأثير عليه .. ولم تعد أقدامه تحملان جسده وخر مرتميا على أقرب كرسى اليه وهو يصرخ :
ـ مستحيل يا دكتور ...مستحيل
واعترت الدكتور دهشه وارتسمت على ملامحه وقال له :
ـ حد يقولوا ليه زوجتك حامل ينهار كده بدلا من أن يفرح ويسعد !!
لكن الدكتور على حق لأنه لايعلم حقيقه مرض سوزان أنه طبيب آخر غير طبيبها الذي تعودت أن تتعالج عنده ...
ولم يشأ وحيد بأن يخبر ذلك الطبيب بأى شىء عن حقيقة انزعاجه وما أن خرج الدكتور حتى اسرع وحيد الى غرفة زوجته ووقف عند الباب ثائرا هائجا محتجا لما ارتكبته من حماقة فى نفسها وقال لها وثورته لم تهدأ بعد
ـ ليه عملتى كدة يا سوزان فى نفسك ؟؟
ـ وحيد حاول تتفهم انو ..
ـ لازم تسقطى الجنين ولازم تعملى عملية اجهاض
وقفل باب الغرفه بكل قوة حتى اهتزت النوافذ الأخرى وخرج من البيت وهو لايعلم الى أى جهه يقصد ولكن قدماه ساقته الى منزل صديقه ياسر حسن
بكت سوزان بحرقه ..
بكت بحرقه شديدة ..
بكت بالرغم من أنها كانت تتوقع ثورته وغضبه وهياجه واحتجاجه وصراخه .. لقد ارتضت المجازفه بحياتها وكيف لاترضى بثورته وغضبه وهياجه كيف وهى التى تحبه حبا عميقا ونذرت نفسها من أجل طفل يقول له بابا . لكنه حتما سيكون سعيدا حتما سيعَوضنا القدر وحتما سأضع طفلى باذن الله هكذا قالت لنفسها ... لقد كانت تحلم منذ سنوات أن يكون لها طفل وتحقق لها ذلك ولكن لاتتدرى عواقب حمله .. وولادته.. تدعو الله أن يوفقها ويلطف ويأخذ بيدها الى طريق النجاة والسلامه
الأيام تمضى وشهر وراء شهر ... السابع .. الثامن .. ويأتى الشهر التاسع ويزداد خوف وقلق وحيد وفى نفس الوقت تداعبه نسمات من السعادة لتفاؤله باستقبال طفله وتحاول تلك النسمات تلطيف عرق ذلك القلق والخوف المتصبب بغذارة من وجههه لتخوفه من خطر وعواقب الولادة بالنسبه لزوجته ..
وأقتربت أيام الوضع وهزل جسدها واهتزت صحتها بشكل اثار مخاوف طبيبها المشرف عليها مما دعاه بحجز سرير لها وطلب منها الدخول للمستشفى قبل أسبوعين من أستكمال فترة الحمل تحسبا لأى مضاعفات قد تحدث ...
بدأ الأسبوع الأخير فى العد التنازلى ولا يمضى يوم واحد إلا وجاء دكتور محى الدين أخصائى القلب ليكشف عليها كشفا دقيقا ويعمل لها رسما للقلب ثم ياتى دكتور النساء والولادة يطمئن عليها هو الآخر .. أولياها عنايه فائقه كأنهما أرادا وتعمدا أن يثبتا لها بأنها لو عملت عمليه توسيع الصمام هنا فى السودان لنالت ضعف ذلك الاهتمام وهم جديرين بذلك الاهتمام . . وكثيرا ما كان دكتور محى الدين يمازحها قائلا لها ستلدى طفل بدون قلب .. فكانت تضحك وتقول له عايزه يحب بأيه يا دكتور..
وأحست بآلام فى بطنها ... أحست بآلآم المخاض فأخبرت طبيبها والذي بدوره أخبر الطبيب محى الدين أخصائى القلب وهرع الطبيب الى غرفة العمليات وهيأ كل شىء أستعدادا لاجراء عملية الولادة ... وأدخلت سوزان غرفة العمليات وسبقها إلى الغرفة ثلاثه أطباء طبيب محى الدين أخصائى القلب وطبيب النساء والولادة وطبيب آخر للتخدير بالاضافه الى الممرضات المساعدات ...وكان قد تدارس الأطباء حالتها وتوصلو الى اجراء عملية ولادة قيصرية لها ... وأقترب طبيب التخدير منها وأمسك بحقنة التخدير فى يديه وأراد أن يغرسها فى شريانها ولكنها أوقفته بحركه من يدها وقالت لدكتور محى الدين :
ـ اذا أقتضت الظروف ولابد من حياة أحد فينا فأبقى على حياة الطفل أرجوك فأريد أن اترك لزوجى طفلا يقول له بابا فقد حرمته سنوات من طفلٍ أوعدنى يا دكتور ... أريد طفلا ولو يقول ورحمة ماما..
ورفع دكتور محى الدين نظره تجاة الطبيب الآخر فى صمت وقد غطى وجهه بالقماش الاخضر وقد هزه ذلك الرجاء .. تلك التضحية والبطوله التى لم يشهد لها مثيلا طوال حياتة العملية وخبرته الطويلة .. ووعدها بأن يبذل كل ما اتاه الله من علم وخبره وليساعده الله فى الابقاء على حياتهما سويا ...
وغرس الطبيب حقنه المخدر فى وريدها ولحظات ثم بدأت تغيب عن الوعى رويداً رويداً وأغمضت عينها واستسلمت لذلك المفعول السحرى الذي سرى فى جسدها وأفقدها الحواس وباتت تسمع الأصوات تأتيها بعيدة حتى غابت عن الوعى تماما... وفى اثناء ذلك خارج غرفة العمليات فى صالة الانتظار لم يعد وحيد يطيق الجلسه .. يتمشى هنا وهناك بأعصاب مشدودة وخوفا يتسرب فى أعماقة ويهزه بعنف وسيجارة على رأس كل خمس دقائق ما تكاد أن تنتطفى تلك حتى يشعل الأخرى .. وجلست بدرية واضعه يدها على خدها فى صمت بليغ بالقرب منها أحمد على .. الذي ترتجفان يديه وشفاهه وهو يحاول عبثا أن يجعل نفسه أكثر تجلدا من الآخرين ..
وبعد قليل جاءت مريم وزوجها خالد للاطمئنان على سوزان ورؤيتها ولكنهما وجداها داخل غرفة العمليات وجلسا صامتين دون أن يتفوها بكلمه كان كل منهما مشغول فى خيالات تصورها له نفسه .. أن تنهض سوزان متعافيه وتعود لبيتها وهى تحمل المولود الجديد .. وجلست والدة سوزان على الارض وهى تتمتم كلمات تدعوالله أن يساعد بنتها على أجتياز تلك العمليه بنجاح ... ومرت ثلاث ساعات كامله .. أحرج ثلاث ساعات فى حياة وحيد حتى هذة اللحظة .. وبعملية قيصرية تمت الولادة بنجاح دون حدوث أى مضاعفات وتعالت صرخات المولود وأفاقت والدته معه ورأت مولودها بعينيها ... لقد جاءت بنت ... تكاد لا تصدق ما تراه عينيها لقد تجسد الحلم الى حقيقه ..وتوجت آمالها واحلامها ... وغمرتها سعادة تكاد تفقدها وعيها مرة أخرى ... وخرج الطبيب من غرفه العمليات وما أن رآه وحيد حتى هرع اليه ... رآه قادما مبتسما سعيدا .. ومد يديه وهنأه بطفلته الجديدة وطمأنه على حاله زوجتة الصحية ..
ولكن تأتى الرياح بما لاتشتهى السفن ... فلم يكمل الطبيب حديثه مع وحيد حتى نادته الممرضة الى غرفة العمليات مرة آخرى ... وهرع الدكتور الى غرفة العمليات فجأة أصيب قلب سوزان بهبوط حاد ... وارتفاع فى درجة الحرارة ونزيف فى الجرح... وبادر على الفور فى علاجها بالحقن والمهدئات ولكن دون تحسن يطرأ وانزعج دكتور محى الدين لذلك الهبوط المفاجىء حتى تصبب العرق منه .. وقرر أن يعطيها دما .. ليعوض النزيف فادوية تسييل الدم التى كانت تتناولها جعلت من الصعب ايقاف النزف للجراحة .
وشهد وحيد بأن حاله هرج وفوضى عمت غرفة العمليات والممرضين يدخلون ويخرجون فى سرعة وهم يحملون فى أيديهم أشياء لا يعلم هو كنهها وأنهارت أعصابه تماما .. ولم تعد أقدامه تحملانه .. وجثى على الارض بركبتيه بالقرب من والدة سوزان الحاجة آمنة يخفف عليها خوفها وهو أحوج الناس لمن يخفف عنه ذلك الاضطراب والقلق وذلك الخوف ..
وفجأه جاءت مدام ليلى .. وما أن رأت كل الأسرة جالسة والتوتر يبدو فى وجوههم حتى اقتربت منهم تستعلم ما الخبر ؟؟
لماذا هم منتظرين هنا خارج غرفة العمليات ؟
وأبلغها أحمد بكل التفاصيل وعلم منها أنها جاءت لتقابل زوجها طبيب القلب الذي اشرف على عمليه الولادة القيصرية لسوزان دكتور محي الدين هو زوج مدام ليلي ..
ولسؤ حظ سوزان لم يجد الاطباء عينة الدم التى تخص سوزان فى بنك الدم فعينة دمها نادرة للغايه وتبرع كل منهم للكشف على عينة من دمه .. حتى مدام ليلى ولكن الطبيب لم يجد عينة دم سوزان الا عند زوجتة ليلى فقط... ولم تتوان ليلى فى لحظه تأخير واحدة .. وعلى الفور تم نقل دم منها وبعد أجراء الفحوصات الطبية تأكد خلو دم ليلى من أي امراض معديه وفوراً تم نقل الدم الذي تبرعت به مدام ليلى إلى سوزان .
وعادت الحيوية إلى سوزان وعاد اليها نبضها العادى ... وانتظمت دقات قلبها وانزاحت درجة الحرارة العالية وعادت الابتسامة تعلو شفتيها .. وعادت الفرحة تعم كل أفراد الأسرة .. مرة اخرى وتساءل وحيد " أى قدر جمعه مرة أخرى مع مدام ليلى تلك المرأة التى اتهمها بالخيانة ودمار بيته وماذا كان سيحصل لو مدام ليلي لم تحضر انه القدر المسَطر من الله لقد استجاب الله لهم وانقذ سوزان ووهب لها حياة جديدة كما وهب لهما طفلة جديدة .
وبعد اسبوع خرجت سوزان من المشفى ونحرت الذبائح ابتهاجاَ بسلامتها وبتسمية طفلتها انتصار
لانها جاءت انتصاراً ضد الألم والمرض
انتصاراً للحب وانتصاراً لصرخة قلب ....