أزمةمنهاج في الفتوىبين السنن الإلهية والفقه الجزئي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد جابري
    أديب وكاتب
    • 30-10-2008
    • 1915

    أزمةمنهاج في الفتوىبين السنن الإلهية والفقه الجزئي

    نقض فتوى لكبار العلماء في رؤية الهلال

    أزمةمنهاج في الفتوى

    بين السنن الإلهية والفقه الجزئي

    التقويم الهجري نموذجا :


    دراسة تحليلية للفتوى الفقهية الصادرة عن لجنة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية:


    ديباجة:
    يقول الفقهاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه ، وبعد:
    فبناء على خطاب معالي رئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء رقم (4680) وتاريخ 23/2/1394هـ المتضمن: أمر جلالة الملك بإحالة خطاب أمين عام هيئة الدعوة والإرشاد في ( سورابايا) بشأن توحيد مواقيت الصلاة والصوم والحج إلى هيئة كبار العلماء، وإشارة لخطاب سعادة وكيل وزارة الخارجية رقم (300/5/6/855/3) في 15/1/1394هـ ومشفوعاته: ما تبلغته سفارة جلالة الملك في الجزائر من وزارة التعليم الأصلي والشئون الدينية من وثائق حول الاعتماد على الحساب الفلكي لتحديد مواقيت العبادات.
    وبناء على المحضر رقم (7) من محاضر الدورة الخامسة لمجلس هيئة كبار العلماء المشتمل على إعداد قرار مدعم بالأدلة يعرض على الهيئة في دورتها السادسة لإقراره.
    وبعد دراسة المجلس للقرارات والتوصيات والفتاوى والآراء المتعلقة بهذا الموضوع وإعادة النظر في البحث الذي سبق أن أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في موضوع توحيد أوائل الشهور القمرية، والاطلاع على القرار الصادر من الهيئة في دورتها الثانية برقم (2) وتاريخ 13/2/1393هـ ومداولة الرأي في ذلك كله – قرر ما يلي:


    القرارات:
    أولاً: أن المراد بالحساب والتنجيم هنا معرفة البروج والمنازل، وتقدير سير كل من الشمس والقمر وتحديد الأوقات بذلك؛ كوقت طلوع الشمس ودلوكها وغروبها، واجتماع الشمس والقمر وافتراقهما، وكسوف كل منهما، وهذا هو ما يعرف ب( حساب التسيير ، وليس المراد بالتنجيم هنا الاستدلال بالأحوال الفلكية على وقوع الحوادث الأرضية، من ولادة عظيم أو موته، ومن شدة وبلاء، أو سعادة ورخاء، وأمثال ذلك مما فيه ربط الأحداث بأحوال الأفلاك علماً بميقاتها، أو تأثيراً في وقوعها من الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله، وبهذا يتحرر موضوع البحث.


    تعقيب:

    من خلال هذا التعقيب على كون حساب التسيير وليس التنجيم، يبدو للخاص والعام بأن اللجنة أبانت رأيها في أقوال العلماء الفلكيين وحساب الشهور شمسية كانت أو قمرية.
    ولولا النيات المبيتة ما كانت هذه اللجنة لتذكر بما هو علم التنجيم ولاقتصرت على التعريف الأول.
    ويشم من روائح هذا المدخل خشية الفقهاء أن يسحب منهم الفتوى وإسنادها للجنة فلكية علمية متخصصة.
    إذا؛ إننا أمام أزمة صراع الإرادات لا أزمة فقه؛ وهذا كاف للتوقف عن هذه الدراسة بما سبرت من انحراف الخط؛ لكننا نمضي معهم سويا لكشف كل ما ساندوا به موقفهم من أدلة شرعية.



    ثانياً: أنه لا عبرة شرعاً بمجرد ولادة القمر في إثبات الشهر القمري بدءاً وانتهاءً بإجماع ما لم تثبت رؤيته شرعاً، وهذا بالنسبة لتوقيت العبادات ومن خالف في ذلك من المعاصرين فمسبوق بإجماع من قبله.
    تعقيب:
    الجملة التي ابتدأ بها القرار رغم كونها تأكيدية: " أنه لا عبرة شرعاً بمجرد ولادة القمر في إثبات الشهر القمري بدءاً وانتهاءً بإجماع ما لم تثبت رؤيته شرعاً "
    ونتساءل المرء عن أي إجماع يتحدثون؟
    والإجماع إن كان مبنيا على نص قطعي الدلالة قطعي الورود، يكون عبارة عن اجتهاد في فهم النص، أما إذا كان الإجماع يعتمد النصوص الحديثية فهي ظنية الورود حتى وإن كانت قطعية الدلالة.
    والإجماع المبني على النصوص الحديثية والتي جاءت لظرف زمني معين لا زالت لم تجد عمر عصرها ليلغي العمل بها، بعد أن تغيرت معالم تلك الأسباب التي دعت لوجودها ؛ جاء في تفسير الجصاص ج3/153 قوله عن ابن سيرين عن ابن عبيدة قال جاء عيينة بن حصين، والأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا: يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تعطيناها؟ فأقطعها إياهما وكتب لهما كتابا فأشهد، وليس في القوم عمر، فانطلقا إلى عمر ليشهد لهما، فلما سمع عمر ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تفل فيه فمحاه!. فتدمرا وقالا مقالة سيئة. فقال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما، والإسلام يومئذ قليل، وإن الله قد أغنى الإسلام؛ اذهبا فأجهدا جهدكما، لا يرعى الله عليكما إن رعيتما....فترك أبو بكر الإنكار عليه."

    فهذا أبو بكر يكتب لهما تأليفا لهما اقتداء برسول الله، ظنا منه أن حكم التأليف باق، فلما بيّن عمر أن التأليف لم يكن إلا لحاجة وهي تكثير سواد المسلمين وتقوية شوكتهم حينما كانوا في قلة وضعف، وقد انتهت هذه الحاجة، وكثر المسلمون، وقويت شوكتهم، فلا داعي إذا إلى تأليف، سلم أبو بكر له ولم ينكر عليه، بل لم ينكر عليه أحد.


    فصار إجماعا على أن الحكم كان دائرا مع علته والغرض منه، فلما انتهى الغرض ترك الحكم. – (تعقيب الشلبي في تعليل الأحكام ص38. على قصة الجصاص)

    وقد يقول قائلهم: " وما استجد هنا في الرؤية والنبي صلى الله عليه وسلم يقول " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرويته"، وحصر ذلك فيها بقوله" " لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه "، وأمر المسلمين إذا كان غيم ليلة الثلاثين أن يكملوا العدة، ولم يأمر بالرجوع إلى علماء النجوم، ولو كان قولهم أصلاً وحده أو أصلاً آخر في إثبات الشهر- لأمر بالرجوع إليهم، فدل ذلك على أنه لا اعتبار شرعاً لما سوى الرؤية، أو إكمال العدة ثلاثين في إثبات الشهر، وأن هذا شرع مستمر إلى يوم القيامة، وما كان ربك نسياً."

    أما الأحاديث النبوية أسوق منها :
    عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال[َ إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ] (رواه البخاري في كتاب الصوم باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لانكتب ولانحسب)

    وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ [إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي تَمَامَ ثَلَاثِينَ وحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَلَمْ يَذْكُرْ لِلشَّهْرِ الثَّانِي ثَلَاثِينَ] (رواه مسلم في كتاب الصيام باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤيته.)

    وتضفي هذه الأدلة دلالة إضافية على اعتماد الحساب اليقيني، ومعلوم أن الحساب اليوم بات مؤكدا ؛ إذ لا نجد فرقا بين حسابات لبريطانيا وفرنسا وأمريكا إلا بدقيقة أو دقيقتين على - أبعد حد- في تحديد زمن ميلاد الهلال.

    ولا حجة لمحتج بالرؤية البصرية المجردة ؛ إذ كان ذلك حلا وسطا وسبيلا في تعذر معرفة الحساب، فضلا عن كون الأحاديث النبوية فيها دلالة وحث على اكتساب هذه العلوم بضوابطها حتى لا نبقى إلى الأبد أمة أمية لرفع فرض العين على الأمة.

    وهكذا جاءت سنن الله لتؤكد بأن الحساب هو أصل، عليه مدار الشمس والقمر.فكيف بنا نعرض عن الأصل ونذهب للحلول الجزئية والتي جاءت لظروف تعذر معها معرفة الحساب.؟

    {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}(الأنعام:96)

    فهل نعرض عن الأصل لنتمسك بالحلول الظرفية لزمان صعب فيه معرفة حساب ولادة الهلال فكانت الرؤية وسيلة للتأكد ولإقامة الحجة على الناس ؟ وهل تأكد لدينا بأن لا شيء يخرج عن نطاق أفعال الله. ؟ وهل بان لنا مدلول قوله تعالى:

    { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}(الأنعام: من الآية38)

    هكذا تحسم السنن الإلهية موطن الخلاف قائلة بلسان حالها:

    ّ{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }[النساء : 59]

    وأقول يا أهلا بالمجتهدين الذين يعتبرون الحديث ولا يلوون على الكتاب:
    والله سبحانه وتعالى سن سننا {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام : 96]

    وتقدير العزيز العليم لا رجعة فيه، ولا شيء يضاهيه ولن تجد لسنة الله تبديلا:
    يقول سبحانه وتعالى :{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس : 5]

    الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [الرحمن : 5]
    فهل بعد هذا الوضوح من تقدير العزيز العليم يتعالم علينا متعالم؟
    أبعد هذا اليقين المطلق يثغر ثغر بفتواه؟

    ثالثاً: أن رؤية الهلال هي المعتبرة وحدها في حالة الصحو ليلة الثلاثين في إثبات بدء الشهور القمرية وانتهائها بالنسبة للعبادات، فإن لم يُر أكملت العدة ثلاثين بإجماع.

    أما إذا كان بالسماء غيم ليلة الثلاثين: فجمهور الفقهاء يرون إكمال العدة ثلاثين؛ عملاً بحديث:" فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" ، وبهذا تفسر الرواية الأخرى الواردة بلفظ: " فاقدروا له ".

    وذهب الإمام أحمد في رواية أخرى عنه، وبعض أهل العلم إلى اعتبار شعبان في حالة الغيم تسعة وعشرين يوماً احتياطاً لرمضان، وفسروا رواية: " فاقدروا له": بضيقوا، أخذاً من قوله تعالى: " ومن قدر عليه رزقه فلينفق مماءاتاه الله" (1)، أي: ضيق عليه رزقه.

    وهذا التفسير مردود بما صرحت به رواية الحديث الأخرى الواردة بلفظ: " فاقدروا له ثلاثين "، وفي رواية أخرى : " فأكملوا عدة شعبان ثلاثين".
    وحكى النووي في شرحه على صحيح مسلم لحديث: " فإن غم عليكم فاقدروا له" عن ابن سريج وجماعة، منهم مطرف بن عبد الله – أي: ابن الشخير- وابن قتيبة وآخرون – اعتبار قول علماء النجوم في إثبات الشهر القمري ابتداءً وانتهاءً، أي: إذا كان في السماء غيم.

    وقال ابن عبد البر: روي عن مطرف بن الشخير، وليس الصحيح عنه، ولو صح ما وجب اتباعه؛ لشذوذه فيه ، ولمخالفة الحجة له ثم حكى عن ابن قتيبة مثله، وقال: ليس هذا من شأن ابن قتيبة، ولا هو ممن يعرج عليه في مثل هذا الباب. ثم حكى عن ابن خويز منداد أنه حكاه عن الشافعي، ثم قال ابن عبد البر: والصحيح عنه في كتبه وعند أصحابه وجمهور العلماء خلافه، انتهى.
    وبهذا يتضح: أن محل الخلاف بين الفقهاء إنما هو في حال الغيم وما في معناه. وهذا كله بالنسبة للعبادات، أما بالنسبة للمعاملات فللناس أن يصطلحوا على ماشاءوا من التوقيت.

    رابعاً: أن المعتبر شرعاً في إثبات الشهر القمري هو رؤية الهلال فقط دون حساب سير الشمس والقمر لما يأتي:
    أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم لرؤية الهلال والإفطار لها في قوله:

    " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرويته"، وحصر ذلك فيها بقوله" " لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه "، وأمر المسلمين إذا كان غيم ليلة الثلاثين أن يكملوا العدة، ولم يأمر بالرجوع إلى علماء النجوم، ولو كان قولهم أصلاً وحده أو أصلاً آخر في إثبات الشهر- لأمر بالرجوع إليهم، فدل ذلك على أنه لا اعتبار شرعاً لما سوى الرؤية، أو إكمال العدة ثلاثين في إثبات الشهر، وأن هذا شرع مستمر إلى يوم القيامة، وما كان ربك نسياً.

    ودعوى أن الرؤية في الحديث يراد بها العلم أو غلبة الظن بوجود الهلال أو إمكان رؤيته لا التعبد بنفس الرؤية- مردودة؛ لأن الرؤية في الحديث متعدية إلى مفعول واحد، فكانت بصرية لا علمية، ولأن الصحابة فهموا أنها رؤية بالعين، وهم أعلم باللغة ومقاصد الشريعة، وجرى العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهدهم على ذلك، ولم يرجعوا إلى علماء النجوم في التوقيت، ولا يصح أيضاً أن يقال: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: " فإن غم عليكم فاقدروا له" أراد أمرنا بتقدير منازل القمر لنعلم بالحساب بدء الشهر ونهايته؛ لأن هذه الرواية فسرتها رواية: " فاقدروا له ثلاثين" وما في معناه، ومع ذلك فالذين يدعون إلى توحيد أوائل الشهور يقولون بالاعتماد على حساب المنازل في الصحو والغيم، والحديث قيد القدر له بحالة الغيم.

    ب- أن تعليق إثبات الشهر القمري بالرؤية يتفق مع مقاصد الشريعة السمحة؛ لأن رؤية الهلال أمرها عام يتيسر لأكثر الناس، بخلاف ما لو علق الحكم بالحساب فإنه يحصل به الحرج ويتنافى مع مقاصد الشريعة ، ودعوى زوال وصف الأمية في علم النجوم عن الأمة لو سلمت لا يغير حكم الشرع في ذلك.
    ج- أن علماء الأمة في صدر الإسلام قد أجمعوا على اعتبار الرؤية في إثبات الشهور القمرية دون الحساب، فلم يعرف أن أحداً منهم رجع إليه في ذلك عند الغيم ونحوه، أما عند الصحو فلم يعرف عن أحد من أهل العلم أنه عدل على الحساب في إثبات الأهلة أو علق الحكم العام به.

    خامساً: تقدير المدة التي يمكن معها رؤية الهلال بعد غروب الشمس لولا المانع من الأمور الاعتبارية الاجتهادية التي تختلف فيها أنظار أهل الحساب، وكذا تقدير المانع، فالاعتماد على ذلك في توقيت العبادات لا يحقق الوحدة المنشودة؛ ولهذا جاء الشرع باعتبار الرؤية فقط دون الحساب.

    سادساً: لا يصح تعيين مطلع دولة أو بلد- كمكة مثلاً- لتعتبر رؤية الهلال منه وحده، فإنه يلزم من ذلك أن لا يجب الصوم على من ثبتت رؤية الهلال عندهم من سكان جهة أخرى، إذا لم ير الهلال في المطلع المعين.

    سابعاً: ضعف أدلة من اعتبر قول علماء النجوم في إثبات الشهر القمري. ويتبين ذلك بذكر أدلتهم ومناقشتها:

    أ- قالوا: إن الله أخبر بأنه أجرى الشمس والقمر بحساب لا يضطرب، وجعلهما آيتين وقدرهما منازل؛ لنعتبر، ولنعلم عدد السنين والحساب، فإذا علم جماعة بالحساب وجود الهلال يقيناً وإن لم تمكن رؤيته بعد غروب شمس التاسع والعشرين أو وجوده مع إمكان الرؤية لولا المانع، وأخبرنا بذلك عدد منهم يبلغ مبلغ التواتر – وجب قبول خبرهم؛ لبنائه على يقين، واستحالة الكذب على المخبرين؛ لبلوغهم حد التواتر ، وعلى تقدير أنهم لم يبلغوا حد التواتر وكانوا عدولاً فخبرهم يفيد غلبة الظن، وهي كافية في بناء أحكام العبادات عليها.
    والجواب: أن يقال: إن كونها آيات للاعتبار بها والتفكير في أحوالها للاستدلال على خالقها ومجريها بنظام دقيق لا خلل فيه ولا اضطراب، وإثبات ما لله من صفات الجلال والكمال- أمر لا ريب فيه.

    أما الاستدلال بحساب سير الشمس والقمر على تقدير أوقات العبادات فغير مسلم؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم – وهو أعلم الخلق بتفسير كتاب الله – لم يعلق دخول الشهر وخروجه بعلم الحساب، وإنما علق ذلك برؤية الهلال أو إكمال العدة في حال الغيم، فوجب الاقتصار على ذلك، وهذا هو الذي بتفق وسماحة الشريعة وسهولتها مع ما فيه من الدقة والضبط، بخلاف تقدير سير الكواكب فإن أمره خفي عقلي لا يدركه إلا النزر اليسير من الناس، ومثل هذا لا تبنى عليه أحكام العبادات.

    ب- وقالوا: إن الفقهاء يرجعون في كثير من شئونهم إلى أهل الخبرة فيرجعون إلى الأطباء في فطر المريض في رمضان، وتقدير مدة التأجيل في العنين والمعترض، وإلى أهل اللغة في تفسير نصوص الكتاب والسنة، إلى غير ذلك من الشئون، فليرجعوا في معرفة بدء الشهور القمرية ونهايتها إلى علماء النجوم.

    والجواب: أن يقال: هذا قياس مع الفارق؛ لأن الشرع إنما جاء بالرجوع إلى أهل الخبرة في اختصاصهم في المسائل التي لا نص فيها. أما إثبات الأهلة فقد ورد فيه النص باعتبار الرؤية فقط، أو إكمال العدة دون الرجوع فيه إلى غير ذلك.

    ج- وقالوا: إن توقيت بدء الشهر القمري ونهايته لا يختلف عن توقيت الصلوات الخمس وبدء صوم كل يوم ونهايته، وقد اعتبر الناس حساب المنازل علمياً في الصلوات والصيام اليومي فليعتبروه في بدء الشهر ونهايته.
    وأجيب: بأن الشرع أناط الحكم في الأوقات بوجودها، قال تعالى: " أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرءان الفجر" (2)، وقال" وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل" (3)، وفصلت السنة ذلك، وأناطت وجوب صوم رمضان برؤية الهلال ولم تعلق الحكم في شيء من ذلك على حساب المنازل، وإنما العبرة بدليل الحكم.

    د- وقالوا: إن الله تعالى قال: " فمن شهد منكم الشهر فليصمه" (4)، إذ المعنى: فمن علم منكم الشهر فليصمه، سواء كان علم ذلك عن طريق رؤية الهلال مطلقاً أو عن طريق علم حساب المنازل.

    والجواب: أن يقال: إن معنى الآية: فمن حضر منكم الشهر فليصمه، بدليل قوله تعالى بعده: "ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر" (5)، وعلى تقدير تفسير الشهود بالعلم، فالمراد: العلم عن طريق رؤية الهلال، بدليل حديث: " لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه".

    هـ - وقالوا: إن علم الحساب مبني على مقدمات يقينية، فكان الاعتماد عليه في إثبات الشهور القمرية أقرب إلى الصواب وتحقيق الوحدة بين المسلمين في نسكهم وأعيادهم. وأجيب:بأن ذلك غير مسلم؛ لأن الحس واليقين في مشاهدة الكواكب لا في حساب سيرها، فإنه أمر عقلي خفي لا يعرفه إلا النزر اليسير من الناس، كما تقدم؛ لحاجته إلى دراسة وعناية، ولوقوع الغلط والاختلاف فيه، كما هو الواقع في اختلاف التقاويم التي تصدر في كثير من البلاد الإسلامية، فلا يعتمد عليه ولا تتحقق به الوحدة بين المسلمين في مواقيت عباداتهم.

    و- وقالوا: إن تعليق الحكم بثبوت الشهر على الأهلة معلل بوصف الأمة بأنها أمية، وقد زال عنها هذا الوصف، فقد كثر علماء النجوم، وبذلك يزول تعليق الحكم بالرؤية أو بخصوص الرؤية، ويعتبر الحساب وحده أصلاً، أو يعتبر أصلاً آخر إلى جانب الرؤية.

    والجواب: أن يقال: إن وصف الأمة بأنها أمية لا يزال قائماً بالنسبة لعلم سير الشمس والقمر وسائر الكواكب، فالعلماء به نزر يسير ، والذي كثر إنما هو آلات الرصد وأجهزته، وهي مما يساعد على رؤية الهلال في وقته، ولا مانع من الاستعانة بها على الرؤية وإثبات الشهر بها، كما يستعان بالآلات على سماع الأصوات، وعلى رؤية المبصرات، ولو فرض زوال وصف الأمية عن الأمة في علم الحساب- لم يجز الاعتماد عليه في إثبات الأهلة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علق الحكم بالرؤية، أو إكمال العدة، ولم يأمر بالرجوع إلى الحساب واستمر عمل المسلمين على ذلك بعده. وصلى الله على نبينا محمد،وآله وصحبه وسلم. حرر في 14/2/1395هـ.
    هيئة كبار العلماء

    أقول كل هذه الاستدلالات قد ردها النص القاطع في اعتماد الحساب لا غير، ويبقى توضيح دلالة شهد هل هي بمعنى حضر أو علم نعم ، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }(البقرة: من الآية185)

    فلفظة " شهد " تأتي بمعنى المشاهدة العينية وبمعنى الرؤية اليقينية بدليل قوله تعالى :

    {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران:18)

    فشهادة أهل العلم هناك تتجلى في علمهم اليقيني، إذ الرؤية البصرية ممنوعة قطعا بدليل قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما :

    [لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمُوتَ ](أخرجه البخاريفي كتاب الجنائز ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة)

    وكما يوحي بذلك قول إخوة يوسف :
    { وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ}(يوسف: من الآية81)

    وما ذهبنا إليه في تعريف لفظ " شهد " يشهد له تعريف الأصفهاني حيث يقول : " والشهادة: قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر." (ألفاظ القرآن)

    وأما قولكم شهد بمعنى حضر ترده كل الاستدلالات السابقة.

    واعتمادا على ما سبق من بيان في رد الرؤية المجردة أقول وبالله التوفيق:
    1-يعتبر الإجماع على الرؤية البصرية للهلال ملغى، لكونه اجنهاد مع وجود النص القطعي دلالة وورودا؛

    2-أن العبرة بما سنه الله جل جلاله من كون تقديره للشمس والقمر حسبانا وهو العزيز العليم؛

    3-اعتماد الرؤية المجردة انتهى العمل بها لكون علماء الفلك موجودين وحساباتهم دقيقة للغاية لدرجة أنك لا تجد أكثر من دقيقة بين مختلف الحاسبين؛

    4-يشترط القرآن الشهادة للصوم وتأكدنا من معناها بكونها علم وتيقن.

    وبهذه الايتنتاجات أقول وعلى الله قصد السبيل بأن اعتماد الحساب هة الأصل، والرؤية كانت فرعا وحلا مؤقتا ختى نستيقن الحساب، وعندئذ لا مجال للكلام عن اعتماد الرؤية. بل نعتمد الخساب اليقيني.

    وبناء على هذا الاستنتاج فقد كان فاتح شوال يوم السبت 19 شتنبر 2009.
    وبه وجب البيان والإيضاح.

    حينما يأتي نور الله تنطفئ الشموع، وحين تبدي السنن الإلهية الفتوى فكل من خالفها يتوارى في الظلام؛ وهذا ما انتهيت إليه بعد دراسة علمية تحليلية لكل ما جاء به أصحاب الفقه الجزئي
    http://www.mhammed-jabri.net/
يعمل...
X