الآداب والمنهجية العلمية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد جابري
    أديب وكاتب
    • 30-10-2008
    • 1915

    الآداب والمنهجية العلمية

    الآداب والمنهجية العلمية


    يخصص سامي سويدان لإسماعيل بن أدهم ثناء جليلا جميلا، ويسترعي انتباهنا فنستقدمه، فما أتى بخالص الرضى، ولا رد الطلب بخالص الغضب، يقبل وكأنه يرفض ويأتي وكأنه يمشي الوراء...وراء...

    تأخذنا عباراته السخية والمجانية، لنستفسر أنفسنا: لو كان إسماعيل حيا أترانا ننطق بهذه الدلالات ؟ ألا ما أصدق شاعرية شاعر حين قال : " كلمة تشجيع واحدة تزيدني ثباتا وتفجر المكبوت من عبقريتي في حياتي خير من ألف بعد وفاتي".

    لنستمع إليه - وهو يرسم منهجيته- سماع الشهود الحضاري لعلنا نستحضرها لحظة تأبين :

    " إن القراءة المنهجية هي التي تصغي إلى ما يقوله النص في كليته دون أي إقحام فيه أو إسقاط عليه، أو انتزاعات منه. والإصغاء هنا إتقان لفك الرموز الجمالية و/ أو الدلالية للنص وإعادة تركيبها للقبض على الخفي والكامن الذي لا يكف ظاهر النص عن الإيماء إليه دون التصريح به ". (جدلية الحوار في الثقافة واللغة).

    لكن سامي ليس ممن يقول ما لا يفعل، فما سطره هنا من منهجية استمات عليها ووظفها بصدق جر له ثناء يهدى له بحق. ونراه في " جدلية الحوار في الثقافة واللغة " وهو يتمحل في وحل إسماعيل بن أدهم ويغوص في أنفاسه ليستخرج منهجيته في النقد.

    " ربما كان مستغربا أن يصدر عن د.أدهم رأي يقول باستحالة تعريف الشعر لأنه [ نفخة علوية تعلو عن التحديد] مع ما يستتبع ذلك من استحالة تعريف الشاعر الذي " يقول الشعر" وخلوص إلى التأكيد التالي : [ أما القواعد التي يرجع إليها في دراسة الشعر فهي تستمد خطوطها من تحليل الشعر، وهي دراسة ذاتية أكثر منها موضوعية، وفنية أكثر منها علمية] ( II-179)، لا لأن مثل هذا القول يلغي أي مقاربة موضوعية للشعر (والأدب) ليلتقي في ذلك مع المعايير الذاتية السائدة في النقد أيامه، أو لأنه يتناقض مع شخصية صاحبه العلمية وحسب، بل لأنه يتناقض مع عمله النقدي ككل في منطلقاته المنهجية كما في إجراءاته العملية.

    إلا أن د. أدهم وهو يؤكد هذا الرأي بصدد الشعر يعلن إمكان [تحليل ماهيته ] (II-179) سبيلا لفهمه، كأن هذا التحليل مستقل عن ذلك التعريف، أو كأنه لا يصل به في النهاية إلى الإحاطة بموضوعه وتحديد ماهيته." (جدلية الحوار في الثقافة والنقد. ص 248 دار الآداب بيروت ط1/1995).

    وينقلنا سامي رويدا رويدا عبر المراحل الزمنية لأدهم ليصل بنا إلى تعريف الشعر عنده :

    لما كان الشعر من حيث هو فيض الشعور والوجدان نتيجة اهتزاز أوتار النفس البشرية أمام الحياة الكامنة في الأشياء، فإنه على قدر الاهتزاز وقوته يكون على مقدار عمق الشاعرية في الشعر ؛ ذلك أن الهزة التي تستولي على نفس الشاعر كلما كانت قوية تكشفت أسرار الحياة ومعانيها لوجدان الشاعر في حقيقتها، فتجعل الشاعر قادرا على النفوذ عن طريق وجدانه إلى ما وراء المظاهر الخارجية للأشياء.

    ومن هنا يمكن أن يقال بأن الطبيعة تلقي جانبا من معانيها الخالدة لنفس الشاعر في اهتزازات أوتار نفسه أمامها. فالشاعر أشبه بآلة موسيقية أمام الطبيعة، والطبيعة كالأنامل التي توقع عليها، والأنغام كالشعر الذي يفيض به وجدان الشاعر" ( II-167).

    ويتفاعل سامي مع هذه النصوص بالنقد البناء الذي وإن جرح فمن أجل أن يقوم الاعوجاج ويُقِيم بناء الصرح الشامخ ؛ لذا ينتقد الفقرة الأخيرة بقوله :

    " ولو بدت الصورة المقربة للمعنى هنا تجعل الشاعر في وضع المتأثر والمنفعل يؤدي دورا سلبيا أكثر منه إيجابيا، فإن التعبير في مجال آخر يبدي عن حقيقة موقع الشاعر ودوره "1

    شكر الله سعيه ؛ إذ مضى يدرأ بالحسنة السيئة ممهدا الأشواط لعرض منهجيته العلمية في نقد النص :

    "فالدكتور أدهم يقيم تمييزا بين الشعر وموضوعه. بالنسبة إليه فإن الشاعرية التي تجتاح الوجدان وتبلغ به إلى رؤى متميزة، والشكل الكلامي الذي تتخذه كي تظهر أو تخرج من العالم المضمر إلى عالم الظاهر، والجوّ الناشئ عن اتساقها في شكل محدد، تكون جميعها بوتقة واحدة في الشعر وهي ككل يقابلها الموضوع الذي تتناوله الشاعرية وتستنزل منه أخيلتها ومجازاتها التعبيرية.

    فموضوع الشعر إذا خارج عن الشعر وإن كان يقابله (II-17)، وينبغي ألا يتخذ الموضوع قاعدة لبحث الشاعرية إلا من ناحية المدى الذي يسمح به للتواردات الشعرية أن تنطلق. فموضوع " الموت " الذي يطلق الذهن إلى ما وراء المنظور، ويربط اللامنظور والغيب بالواقع هو أرحب مدى من موضوع " الكروان" ذي التواردات المحدودة نسبيا (II 171-) إلا أن الشاعرية يمكن أن تلج من الموضوعات المحدودة ظاهريا (II-171) إلى الأبعاد الكلية، فتصل من عنصر الحياة القائم في "الكروان" مثلا إلى الحياة العامة (II-172) ؛ لذلك ينبغي الحذر الكبير " في اتخاذ موضوع الشعر أساسا للنظر في الشاعرية ومداها وقيمتها ؛ ذلك أن الشاعرية تبدو بكل معانيها في القطعة الشعرية، من حيث تصب الشاعرية فيها معانيها المستنزلة من الموضوع الذي تنسحب عليه. وهكذا يتبين معنا كون الشاعرية في انسحاب الشاعر على الحياة ".

    هناك إذا مادة الشعر وشكله من ناحية، وموضوع الشعر من ناحية ثانية " أما المادة في الشعر فهي المخيلة والمعاني والتأملات والصور والعواطف والإحساسات والمشاعر، مما تعمد الشاعرية إلى استنزاله من الموضوع عن طريق غشيانها والانسحاب عليها " ) II- 174).

    والمادة خاضعة لمزاج الشاعر تختلف باختلافه، فهناك من الشعراء من يتعلق بالأشكال أو الألوان أو الخلجات النفسية (II- 175) دون أن يشكل هذا الطرح لخصوصية التعامل مع المادة تناقضا مع ما سبق ذكره أعلاه من كونها ملكا إنسانيا عاما. ولما لم تكن هناك من مادة دون شكل، فإن المادة تتجسد في تعبير خاص مستمد من مقدرة الشاعر التعبيرية (( 175-176-II. كذلك ليس هناك شكل محض "ذلك أن الشكل من حيث هو التعبير، يحتوي ضمنيا على ما يعبر عنه" كما يؤكد أدهم ( II-177) محيلا قارئه على َArnold Mathew في Essays و .Bradley.E.H في Poetry for Poetry وهو يرد المادة أو المعاني " إلى قسمين : معان صماء يقصر الذهن فيها على عدم التنقل والسكون في حالة الوعيية، وذلك نتيجة للخواء المعنوي.

    ومعان متحركة حيث يدعو المعنى فيها معنى آخر" ((170-Iوكل من القسمين يحتاج في ترجمة رموزه إلى ألفاظ يتخذها الوسيلة للظهور، فهنا الألفاظ أشكال للمعاني" ( 1-170).

    وهذه الأشكال بما تدل عليه من معان وصور تثير في الذهن عن طريق التداعي أو صلات التقارب والتشابه اللفظي معاني وأخيلة جديدة تصحبها صور حسية، أو معان صماء جوفاء لا يصحبها غير مشاعر اتجاهية. وفي هذا البيان كما يخلص د. أدهم إلى الاستنتاج، " حل مشكلة المعنى واللفظ التي تلاك بدون إدراك في العالم العربي من أعلام الأدب " (I-171).

    لكن هذه المشكلة لم تكن همّ د.أدهم في تمييزه بين المادة أو المعاني عن الشكل أو الأسلوب، فهذا التمييز يأتي لديه تمهيدا وتوطئة لإرساء منهجه النقدي في دراسة الشعر والأدب.

    في إطار هذا التمييز، إذا صح أنه لا يمكن تصور مادة بلا شكل فإنه يمكن حسب د أدهم " على سبيل المفارقة تصور المادة بلا صورة، لا من ناحية الواقع، ولكن أخذا على جانب التصور" (-I422).

    ودليله على ذلك ما يوجد في تاريخ الأدب والفنون : " كيف أن مادة معينة تلبس صورا مختلفة ؟ وكيف أن الفكرة الواحدة والإحساس الواحد والصورة الخيالية الواحدة تتخذ قوالب تتباين وتتفاضل في دلالتها وقدرتها على أجوائها [ على احتوائها ؟ ] وهذا هو سر التغيير والتبديل في شكل التعبير "عند جملة من المبدعين ((420-II.

    إن مراجعة العبارة وتنقيحها وتبديلها وتغييرها ليست إلا تدقيقا " يراد به الانتهاء إلى أن تكون العبارة انعكاس صحيح[ انعكاسا صحيحا]في الحالة الداخلية المستولية على نفس الشاعر أو الكاتب أو المنشئ أو الأديب"(420-II) فالتنقيح وسيلة للانتهاء إلى الصورة التعبيرية التي تعكس ما في النفس، يسند ذلك´ذوق أدبي خلص بالارتياض إلى كلام البلغاء بسليقة وقعت على الصلات الخفية التي تربط الألفاظ عندهم بما وراءها من المعاني والأحاسيس والأخيلة، وعلى أوجه الموافقة بين الألفاظ، فلا يقع بين أفرادها من الشذوذ على عدم التآلف شيء "(II- 420 )على هذا الأساس تكون غاية التعبير البلوغ بالأسلوب حدّ الإيحاء بالجو الوجداني- الشعري لصاحبه.

    فالشاعرية فيض وجداني يتخذ قالبا أسلوبيا تاما " مبدعا جوا شعريا يتفق مع الجو الذي عليه الحشد في الوجدان " ( ( 178-IIأو أن الجو الشعري " يتخذ الألفاظ التي تخلق بذاتها في عالم الشعر نفس الجو الذي يحس به الشاعر في عالمه الداخلي مجردا. وعن طريق هذا الجو الذي يخلقه الشاعر من الألفاظ في شعره ننتقل إلى الجو الذي كان هو فيه، فنشعر وكأننا فيه معه ونتحرك" ( II- 170)وبقدر ما يتعلق الشكل أو الأسلوب مع مادته يتحقق في الشعر هذا الإيحاء بجوه الوجداني، ويصبح في الإمكان الحديث عن كمال شعري بقدر ما ينجز من تلاؤم أو تناسب في العمل الشعري." ظاهرة التناسب أو ما يسميه البعض الاتزان (أو التعادل equipoise) بين شكل التعبير والمادة التي يحتويها التعبير" (II –420) نجدها عند كبار الشعراء والفنانين والأدباء الذين " تتناسب عندهم الصناعة الفنية مع الروح الفنية، ولما كانت الشاعرية في الشعر هي الروح التي تحل في التعبير الشعري، أو بتعبير أدق، لما كانت هي الحالة النفسية القائمة وراء الجسم المادي للقصيدة، فإن الكمال Perfection في الشعر يقوم على أساس الاتزان بين الروح الشعرية والتعبير الشعري من جهة من جهاته..." (II-420-421).

    ضمن هذا المنظور يصبح مفهوما اعتبار د. أدهم الدراسة الأسلوبية المحض قاصرة وإن كانت ممكنة، ويصبح بالتالي متيسرا تقديم فهم معياري موضوعي للشعر ؛ إذ إن بالإمكان دراسة الأسلوب من حيث دلالته من جهة ولذاته من جهة ثانية. في هذه الجهة الثانية تكون دراسة الأسلوب على أساس تجريده من المعاني والتأملات " قصرا على النظر في تلاؤم نبرات الكلام ونسق الألفاظ وسهولة العبارات ووضوح التعبير، إلى جانب تميز الأسلوب بالدقة والحركة والوحدة. غير أن مثل هذه الدراسة تظل قاصرة حتى يلاحظ المعنى الذي يحمله الأسلوب ؛ لأن المعنى أحيانا يحمّل الأسلوب شكلا خاصا يتفق وجوه الخاص..."( II-177) " وكم من قالب أفسد على المعنى جلاله، وعلى الجو الشعري علويته من حيث تنافره مع جوه الشعري. ومن هنا نرى أن الشعر الصحيح هو ذلك الشعر الذي يتفق قالبه الخارجي مع الجو الذي يحمله المعنى معه، والذي تتماسك فيه المادة مع الشكل " (II-177-178).

    على هذا النحو من البناء المنطقي المتماسك يعرض د. أدهم تصوره الخاص للشعر الذي يشكل قاعدة عمله النقدي. فهو إذ يفصل موضوع الشعر عن الشعر نفسه، ويقصر النظر في هذا الأخير على نصوصه، ويميز في هذه النصوص المادة أو الدلالة أو المعنى عن الشكل أو الأسلوب أو القالب، لا يرى مانعا من قيام دراسات أسلوبية أو بلاغية للشعر، وإنما يراها قاصرة ما لم تكتمل بدراسة المعنى، معينا أهم مقياس نقدي في دراسة الشعر، مقياسا لا يزال راهن الفعالية، وهو الحكم على الشعر الجيد بمقدار تلاؤم أسلوبه ومعناه أ, تماسك مادته وشكله وتمظهر هذا التماسك في بناء العمل الشعري حيث يبرز الدور المتميز للعنصر الموسيقي فيه.

    عجبا لمبدع أهدانا ثمرة عمله، ورحيق جهده، وهو الفنان الذي حد للشعر حدودا ومده بضوابط للنقد الأدبي في تكامل واتساق، وغفل أن ينسج روحه مع ذرات هذا الكون لتستجيب لأمر ربها. ويا ويح شمعة أضاءت ما حولها وحرقت نفسها.!!!
    http://www.mhammed-jabri.net/
يعمل...
X