(1)
هناك نِعم لا تُستشعر قيمتها في النفس - عند كثير من الناس - إلا بفقدها ، وإناستدعاءها بتذكرها بعد ذلك يثير فى النفس الشجن ، ويبعث الشوق من مكامنه ،
من ذلك: نعمة الوطن الذى درج فيه المرء صبيا حتى بلغ أشده .. فإنه متى فارقه إلى غيره ، لا يفتأ يؤم جهته بقلبه شوقا وحنينا ، ذاكرا ما كان له فيه من ذكريات
طوته أيامه هناك ولياليه .. حتى وإن كان قد خرج منه راغما ، أو أُخرِج منه مضطرا ؛ فإن شيئا من ذلك لا يثلم حبه لوطنه ، ولا ينقص من انتمائه لأهله وعشيرته .. كيف
وقد قيل: "إن من علامة الرشد أن تكون النفس الى بلدها تواقة، وإلى مسقط رأسها مشتاقة ".
ان النفس السّويّة بطبعها تألف موطنها الذى فيه ولدت ، وعلى مهده نمت وشبت ،حتى وإن كان هذا الموطن صحراء قاحلة ، أومحِلّة مجدبة..
:
ونستعذب الارض التى لا هوا بها .:. ولا ماؤها عذب ولكنها وطن
وإن النازلة من نوازل الدنيا إذا نزلت بالمرء قد تنقلب هيّنة سهلة متى كان ثاويا فى وطنه ،مقيما فى أهله وعشيرته ... ولا يدرك ذلك إلا من اجتمع عليه حر المصاب وحر الاغتراب ،
وقديما قال الشاعر يشكو حضور الهم فى غياب الأهل والوطن- وهما مما يُتَعزّى به - يقول:
بمَ التّعلل لا أهل ولا وطن..
ولولا مكانة الوطن فى النفس ما تغنّى به الشعراء , وما عُرف بحبه العقلاء .. بل إننا لا نبعد كثيراإذا قلنا أن حب الوطن والارتباط به ، والانتماء إليه فطرة معتدلة ، وجِبِلّة مركوزة في نفوس الأسوياء من البشر؛ بحيث لا يمكن لأحد من الناس - كائنا من كان - أن ينزع هذه الفطرة من نفس صاحبها ، أو يسلبها من قلبه ؛ وذلك لتمكنها منه ، ونفاذها فيه ، ومن ثم - وتفهما لهذه الغريزة - جاءت الشريعة السمحاء متوافقة مع هذا الخلق ،ومتناغمة مع دواعيه ؛ في غير مبالغة ممجوجة أو تساهل مستهتر..
.
وإن خير ما يستدل به على حب الوطن والحنين إليه ، ماقاله النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو مفارق لقريته التى أخرجته : " إنك خير أرض الله ، واحب الارض إلى الله ، ولولا أن اهلك أخرجونى منك ما خرجت" قال ذلك رغم فساد أهلها ، ومعاداتهم له ، ومحاريتهم لدعوته ، وحصارهم لأتباعه وعشيرته
.
ولعل الحب الدافئ العميق ، والحنين الصادق الموصول للدار والأهل والولد هما اللذان ضاعفا من علة أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - حين قدموا المدينة ، ولم يزل جَوّها وخيما موبوءا ، فدعا لهم النبى - صلى الله عليه وسلم - :" اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ، وصححها ، وبارك فى صاعها ومدها ، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة"
والنبى - صلى الله عليه وسلم - نفسه قد اغرورقت عيناه يوما بالدمع حين ذكر بعض اصحابه مكة وهم بالمدينة ، حتى قال :" دع القلوب تقر ".
.......
2)
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم ، والتابعون من بعدهم من الرءوس والعلماء يُنسبون إلى أوطانهم ، وقد يشتهرون بها فلا يُعرفون إلا بنسبتهم إليها فهذا أبو ذر الغفاري .. وأبو موسى الأشعري ، وسلمان الفارسي ، ومن بعدهم الحسن البصري، وأوَيس القرنى ، ثم البخارى والنووي والصنعاني .. وغيرهم وغيرهم.بل كان الكثير منهم يحرصون -إذا شعروا بدنو أجلهم - على الأوبة إلى اوطانهم حتى يختتموا فيها حياتهم ، ويُدفنوا فيها بعد موتهم .. بل النهى كل النهى عن التعصب للوطن أو القوم أوالعشيرةعلى حساب آصرة الإيمان ورابطة الدين ، إذ لا وطن - مهما كان غاليا - أغلى من دين المؤمن والاستمساك بحبل الله المتين.
فالمرء قد يهجر وطنه إلى موطن آخر ، وبصرف النظر عن سبب هجرانه ؛ فإنه سيجد فى الارض مُراغماً كثيرا وسعة.. أما واحة الإيمان فليس ثمة بديل يحوى المرء إذا هجرها الا مجاهل الظلم ومَهامِه الطغيان والكُفران.
لا أريد فى مففتح هذا الحديث ان أقف بحب الوطن أو ما يسمونه بـ(الوطنية) فى مواجهة الاسلامية ، أو بالإسلامية فى مواجهة الوطنية ، لان النظرة الصحيحة المعتدلة تراهما - إذا سلمتا من داء التعصب الانجراف - متناغمتين لا متناقضتين ، ومتجاورتين لا متباعدتين ، وحسبنا ما ذكرنا آنفا من أن الانتماء للاسلام يذكي الانتماء للاوطان ، فلا ينكر الإسلام الوطنية التى هى حب الوطن ، بل يُؤكدها ويغذيها ، ولكن بترشيدٍ كريم وبفهم راق ، وبما يتفق مع منظومة المنهج الإسلامي بمفرداته التى يتكون منها.
إن قضايا المسلم التى يحرص على استيفائها من منهج الله ؛ تجعله دائما - عند مباشرتها - فى راحة اطمئنان، وصحة وصواب ، وإنه متى أنزل هذه القضايا من نفسه منزلتها التى أراد الله ، وأقامها - واقعاً - على الوجه الصحيح ؛ فإن الله يجمع له عندئذٍ من العون عليها ، والقيام بها ، والسداد فيها ، ما قد يتفرق في سعى الكثيرين غيره ، ممن قد أوقفوا حياتهم على واحدة من هذه القضايا بغير هدى من الله وبصيرةٍ من أمره.
لو أخذنا من ذلك قضيّةً واحدة ندلل بها على صدق ما ذكرنا ، ولتكن الوطنية مثلا - باعتبارها موضوع حديثنا - فسنجد أن أهل التدين الحق هم الوطنيون حقا .. وأنّهم -أكثر من غيرهم - الذين يعملون لصالح الوطن حين يقف كثير من مُدّعي الوطنية بالكلام عند حدود هذا الصالح .. فالإيجابية الإيمانية تُجَنّب المسلم الحق عنت الثرثرة ، وتصرفه عن تزويق الكلام وزخارف القول ، فلا يقنع بالتمنى ، ولا يقف عند حده ، بل يُجاوز القول إلى الفعل ، والامنية إلى الواقع ، الاسترخاء والدِّعة إلى النشاط العمل ( وَقُلْ اعْمَلُوا...)
وما نيل المطالب بالتمنى .:. ولكن ألق دلوك فى الدّلاء.
....
نص من بحثي توعوي لي تمت طباعته بعد اجازته من الازهر الشري ومجمع البحوث الإسلامية ..