قراءة في كتاب‘‘تاريخ القراءة‘‘ للآبرتو مانغويل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مزن أتاسي
    عضو الملتقى
    • 07-01-2010
    • 46

    قراءة في كتاب‘‘تاريخ القراءة‘‘ للآبرتو مانغويل

    تاريخ القراءة

    ’’آلبرتو مانغويل‘‘

    يكتب ( آلبرتو مانغويل) في كتابه الشهير (تاريخ القراءة) في الصفحة السادسة عشرة من العنوان( الصفحة الأخيرة)، والذي استبدل به ما درج المؤلفون على تسميته( المقدمة): ((في الرابعة من عمري اكتشفت فجأة أنني أستطيع القراءة. في كل مكان، دوماً وأبداً)). وعبر ثلاثمائة وخمس وأربعين صفحة من القطع الكبير يتابع سرد روايته الاستثنائية عن تاريخ القراءة فيعلّق على ثماني عشرة صورة منتقاة لأشخاص يقرؤون، مبتدئاً بصورة ‘‘الفتى أرسطو الجالس على كرسي منجّد، وقد وضع قدما على قدم يتابع بملل واضح لفيفة منشورة على حضنه‘‘. هكذا يتابع ‘‘قراءة الصور‘‘ السبع عشرة الباقية، ثم يخبرنا – بشغف وحراة بالغين – كيف اكتشف القراءة بعد أن تعلّم فك رموز العلامات و‘‘ الفرحة المتمثّلة في القدرة فجأة على الفهم دون التحديق في الأشكال الفارغة من الفحوى لا تزال ماثلة حتى الآن أمامي، تماما كما حدث في حينه‘‘. وفي سرده البديع لحكايته الشخصية أثناء تعلمه القراءة يكتشف حاسة جديدة:((فالأمور لم تعد تعني فقط ما تراه العين، وما كانت تسمعه الأذن ، وما كان يتذوقه اللسان، وما كان يشمه الأنف ، وما كانت تحس به الأنامل، بل كل ما كان جسدي برمته أن يحلّه من رموز وطلاسم وأن يستوعبه ويملأه بالحياة ويعطيه صوتاً ليقرأ)). الحياة كتاب والبشر قرّاء: علماء الفلك يقرؤون السماء وأفلاكها، المهندسون المعماريون اليابانيون يقرؤون ((قطعة الأرض كي يبنوا عليها بيتاً بطريقة تحميه من الأرواح الشريرة، يقرأ الصيادون والباحثون الطبيعيون آثار الحيوانات ويقتفون آثارها)) ، كل البشر يشاطرون قراء الكتب اقتفاء العلامات وفك رموزها، وفي هذا السياق يضع الكاتب الإسلام في مكانة متميزة عن بقية الأديان لأنه لا يرى في القرآن كتاباً منزلاً من عند الله فحسب بل هو إحدى صفاته. في الفصل الأول المعنون‘‘قراءة الظلال‘‘يأخذنا في رحلة طويلة عن تاريخ الكتابة، ابتداءً من لوحين صلصاليين اكتشفا سنة 1984 في منطقة ‘‘تل براك‘‘ في سوريا يعودان إلى الألف الرابع قبل الميلاد ، بهما يبدأ مجمل تاريخنا ومجرد النظر إلى هذين الأثرين يبعث الحياة في الذاكرة المتعلقة ببدايات أزمنتنا‘‘،وبعد أن يستعيد مجموعة من أهم كتاب العالم في التاريخ الإنساني: شيشرون، أمبيذكلس، أرسطو، غالن، وما كتبوه عن فعل القراءة وآليته حاسة البصر والنظريات التي طوروها للتوصل إلى معرفة علاقة الإدراك الحسي بالأقسام المختلفة من جسم الإنسان وماهية العلاقة الموجودة بين بعضها البعض إلى أن تمّ ربط الحواس مباشرة بالدماغ، هنا يتوقف مطوّلا عند ابن الهيثم في العهد الفاطمي في مصر الذي شهد ازدهاراً ونهضة حضارية، فنعرف أن (الحاكم بأمر الله الفاطمي) أوكل إلى ابن الهيثم مهمة البحث في طريقة للتحكم بمجرى نهر النيل‘‘ وعلى الرغم من إخفاقه في مسعاه‘‘ إلاّ أنه - إلى جانب ذلك عمل على تفنيد ودحض نظرية (كلوديوس بطليموس) في علم الفلك، ثمّ طوّر بحثاً شاملاً في علم البصريات قامت شهرته عليه في وقت لاحق، وبعد مائتي عام قدّم العالم الإنكليزي روجر بيكون ملخّصاً معدّلاً لنظريات ابن الهيثم والذي فرّق أيضاً بين (الإحساس العادي) و(الإدراك الحسي)، وفي الفصل المعنون(الصفحة الأولى المفقودة) نسمع انفاس سقراط، دانتي، كافكا الذي يقطع بدخوله بينهما سياق التاريخ الزمني ولكنه يصل بينهما في عمق مشترك إنساني هو فعل القراءة، وكأن كر القرون لا يفعل سوى تخزين الحضارة الإنسانية ونقلها عبر حفريات البشر وتوغلهم عميقا في هذا الفعل، يقول آلبرتو القارئ عن كافكا القارئ‘‘ إن ما يميزه كقارئ هو أنه كان يتصوّر أنّ الخبرة والمعرفة تنقصانه من أجل التوصّل ‘ على الأقل‘ إلى مستهلاّت الفهم‘‘، ويبرر- على لسان الحاخام (ليفي إسحاق) غياب الصفحة الأولى من جميع بحوث التلمود البابلي مما يدفع القارئ إلى مباشرة القراءة بالصفحة الثانية ‘‘على الرغم من كثرة قراءات المرء، عليه ألا ينسى أبداً أنه لم يصل بعد إلى الصفحة الأولى‘‘. نقرأ عن عادات الشعوب في كيفية تعليم الصغار القراءة، عن الطقوس التي يمارسها الناس أثناء القراءة، عن الهوامش والملاحظات التي يكتبها القراء على حواف الكتب والتي قد تكون أحيانا أهم من النص المقروء، ثم إنّ‘‘ الناس المخلوقين على صورة الله هم أيضا كتب يجب أن تقرأ‘‘، علاقتنا مع جسدنا، تلقي الإشارات عند لقائنا بالآخرين، وهذا المجاز يتطلب مجازاً آخر يتوضح بالصور وداخل القارئ كي تترابط عملية القراءة مع العمليات الأخرى لجسدنا وعلى هذا فالكون بمن فيه وما فيه ليس سوى علامات ورموز تنتظر من يفكها أي يقرؤها، وهذا الكون – النص – يتوسع بالاعتماد على‘‘ حاجات القارئ وبراعته في التفسير‘‘. وفي العنوان(القراءة خلف الجدران)- الذي لا يخفي ارتباطه فيما سيكتب المؤلف عن أدب النساء حيث كانوا يقرؤون خفية وخلف الجدران - يقول منذ البداية كانت موضوعاته تدور حول الحب حيث احتكر الرجال أدب الرحلات والمغامرات والحروب والملاحم، هذا النوع من الروايات امتد من القرن الأول حتى القرن الثاني عشرالبيزنطي حيث نجد آخر هذه الروايات العاطفية، نتعرف على روائيات يابانيات ( ساي شوناغون) التي قدّمت العالم اليومي التافه الذي كانت تتحرك داخله والذي صورت ترهاته بحماسة ، والروائية( شيكيبو موراساكي) التي اعتبرت كتابة (ساي) سطحية وتافهة وأرادت أدبا ملحميا أسوة بأدب الرجال، وكذلك أدب جميع المهمشين أو المعزولين عن الفعل في المجتمعات لكونهم شاذين أو مختلفين أو لأي أسباب أخرى لا يجدون ‘‘ محلا أخر يعثرون فيه على قصصهم إلا في الأدب الذي ينتجونه هم بأنفسهم‘‘. وفي الفصل ذاته يتحدث عن أدب الرسائل الذي يجعل المرء يشعر وكأنه(يرى الآخر الذي يراسله روحاً وجسداً وما أكبر الشعور بالراحة عندما يعبر في رسالة ما عن أحاسيسه على الرغم من انه يعرف أن الرسالة لم تصل بعد). ومن الطريف ذلك التحذير المعلق في مكتبة دير سان بدرو في برشلونة الذي ورد في الفصل(سرقة الكتب): ‘‘من يسرق كتبا، أو يحتفظ بكتب كان قد استعارها، عسى أن يتحول الكتاب الموجود في يده إلى أفعى رقطاء، وعسى أن يصاب بشلل ارتجافي قاهر وأن تشلّ جميع أطرافه، عسى أن يصرخ عاليا طالبا الرحمة وعسى ألا تنقطع آلامه إلى أن يتحول إلى رمة متفسخة، وأن تعشش الديدان في أحشائه مثل دود الموتى الذي لا يفنى. وعندما يمثل أمام يوم الدين لتلتهمه نار جهنم إلى الأبد‘‘. لكن - وعلى الرغم من تلك اللعنات – لاشيء يثني قارئاً ‘‘تتملكه شهوة امتلاك كتاب‘‘ من أن يسرقه. النظارة التي تصاحب القارئ ‘‘ الولع‘‘بالقراءة تأخذ أيضا قسطها من الاهتمام الحاني، والرجل الوحيد الذي ينجو في العالم إثر كارثة نووية هي قصة رجل نهم جدا للقراءة إلا أن نظارته‘‘تنكسر بالصدفة‘‘، المترجم أيضا قارئ، لكنه قارئ يتمتع بذكاء أعلى من القارئ العادي ويمارس ‘‘ الخيانة الذهبية‘‘ المطلوبة لإيفاء القراءة الشخصية للنص المنقول معناها الذي حفر كثيرا في اللغة حتى وجده،وفي تعليقه الفذ على مقدمة رواية سرفانتس(دون كيخوته)الذي يبدؤها بعبارة(القارئ الخامل) يقدّر عاليا توجه سرفانتس إلى القارئ وتفسيره لظروف نشأة روايته ويعترف له بنقاط الضعف الموجودة فيه لذا – يقول آلبرتو – ‘‘كيف أرفض ما جرى توضيحه لي بهذه المودة؟ هكذا أوافق على اللعبة، أنا جاهز لتقبل الحكاية، لن أغلق الكتاب‘‘. ونعرف أيضا في هذا الفصل أن الشاعر الفذ (ريلكة) قام ببعض محاولات الترجمة حين انتهى من كتابة روايته(دفاتر مالت لوريدس بريغ) التي كانت قد استنفذت كلّ طاقاته الخلاقة – كما يحس هو شخصيا - ، ترجم حكايات قصيرة رومانسية كتبها موريس دوغورين، وترجم سونيتات لويزة لابيه ، نتعرف على تلك السيدة ‘‘الفارسة، الشاعرة ، الكاتبة أخاذة الجمال، وعلى تلك الإلهامات للسونيتات التي نظمت لأجلها، نمر على الكثير من الاستطرادات التي كانت الحامل الأول والأهم لتلك الإشراقات الفكرية والالتماعات عن الذاكرة التي تخترق الزمن وعن الكتابة التي تستعيدها عبر إعادة خلق الماضي – بحسب لويزة لابيه - عن برج بابل وأثره العميق في الثقافة الدينية الغربية والتي انتقلت إلى لغة الأدب والفلسفة . وحين يكتب عن(الكاتب كقارئ) يغوص عميقاً ليس فقط في دوافع الكتاب إلى الكتابة بل أيضا في احتياجهم إلى أن يكونوا قراء وقراء مجدين وجديين لالتقاط النقد الذي يحمل طيه اهتماما واكتراثا بالمكتوب وبالتالي التأثير الذي كانت تتركه على المستمعين مباشرة أو على القراء (خلف الجدران). لا ينسى ذلك الروائي السارد لحكاية تاريخ القراءة – إن صح التعبير- التوقف عند القراءة الممنوعة فيستعيد قولا لفولتير في هذا الصدد (الكتب تشتت الجهل ، هذا الحارس الأمين والضامن الحريص للدول ذات الأنظمة البوليسية)، نتعرف على المكتبات التي أحرقت، وعلى تاريخ القمع للثقافة والتنوير عبر محاكم التفتيش:(كان الحكام الديكتاتوريون على مر العصور والأزمان، وما زالوا يعرفون أن الجماهير الأمية سهلة الانقياد ، ونظرا إلى عدم التمكن من إبطال مفعول القراءة بعد تعلّمها ، يلجؤون إلى الحل الثاني الذي يفضلونه ، ألا وهو منع تعلّم القراءة).

    من الصعوبة بمكان الإحاطة بكتاب على هذا الثراء، إنه رواية استثنائية ليس لتاريخ القراءة فحسب، بل لقصة حياة البشر بحيويتها وديناميتها‘ بأشواقها وأحلامها ، بطموحها لقراءة الكون، وبتواضع القارئ الذي لم ‘‘ يتجاوز في قرائتها الصفحة الأولى.
يعمل...
X