منحوتة من أعمال أحمد كامل أحمد
[align=justify]ولد الفنان التتشكيلي والروائي أحمد كامل أحمد بقاهرة المعز عام 1949 ورحل عن عالمنا في يوم النصر السادس من أكتوبر عام 2008 .. عشق الكلمة منذ نعومة أظفاره.. درس الهندسة المعمارية وكان معمارياً متميزاً.. تدله في عشق الفن التشكيلي وهوي الكتابة وكان حكاء مقتدراً.
عاشق البحر الأحمر
عشق أحمد كامل البحر الأحمر ووقع فى هوى أسماكه وقرأ عنها كثيراً حتي صار بها خبيراً وكان أيضاً مولعاً بالحديد كمادة لأعماله.. وهكذا أبدع لنا ما يزيد عن ثلاثين منحوتة تصور لنا أسماك البحر الأحمر التى تسكن بعيداً فى الأعماق من خلال رؤيته الخاصة.. استغرق العمل فيها عدة سنوات.. وهى بحق قطع متحفية جديرة بالإلتفات والتمعن والعرض للناس ليروا فناً جميلاً يغسل القبح الذى أصبحنا نراه أينما ولينا وجوهنا.. وكان رحمه الله يعد مشروعاً لمنحوتات تمثل زواحف مصر لكن المنية وافته.
فارس يتحدى زمن الفن الردئ
حمل أحمد كامل القلم وكتب القصة القصيرة والرواية.. وقد فازت قصته " فارس تسحقه الهواجس " بجائزة مسابقة جريدة أخبار اليوم ونشرت مع القصص الفائزة فى كتاب اليوم.. و قصته ترفض التلوث البيئى ممثلاً فى تلويث النيل والتلوث الفكرى ممثلاً فى المرأة الضحية لمجتمع الذكور المتجنى كثيراً على المرأة ذلك المخلوق الجميل الرقيق والذى لولاه لما ولد الفن. صدرت له رواية " نافخ الكير الأسير " التي أرخت لحفر قناة السويس وافتتاحها ودارت أحداثها في القاهرة الفاطمية ومدينة الإسماعيلية الوليدة.. وقد قدم لها الأديب الكبير يوسف الشاروني وأعجب بها أيما إعجاب.
هذه الرواية
الفنان/ أحمد كامل أحمد أحد هؤلاء الفنانين الذين أحسوا أن اقتصاره على أداة تعبيرية واحدة تعجز عن استيعاب كل جوانب رؤيته للوجود، لهذا لم تقتصر وسيلة التعبير لديه على أداة واحدة – هي الريشة أو الازميل طبقاً لتخصصه – فلجأ إلي اللغة كما لجأ إلي اللون والنحت قبلها، فأبدع روايته نافخ الكير الأسير، متمرداً على استخدامه أداة تعبيرية واحدة، وأن لم تكن تلك هي البداية، فقد سبقتها إرهاصات بإبداعه في القصة القصيرة التي تميز فيها بحيث استحق الفوز بإحدي جوائزها الهامة ورواية نافخ الكير الأسير رواية تاريخية في ظاهرها – معاصرة في باطنها – إذ تقع أحداثها في مصر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في ولاية كل من الخديو اسماعيل والخديو توفيق، بعد أن درس مبدعها جيداً أصول العصر الإجتماعية والثقافية والإقتصادية وقد أبرز ما في حركتها الروائية محاولات بطلها الزواج مرتين من حب فشلتا ، بينما نجحت المحاولة الثالثة بالأساليب التقليدية، أما أنجح شخصياتها فشخصية المبروك، وتطوره من بداية الرواية حتى يضيع في نهايتها.
يوسف الشاروني
نافخ الكير الأسير
(1)
القاهرة عام 1854م. حي السيوفية منطقة الخليفة.
كنت قد غفوت في سريري الوثير الخالي من الدفء والذي على أن أدفئه بهذا الجسم النحيل الذي لم يبلغ الخامسة من عمره. وكنت أتحايل على هذا بأن أغطى جسمي كله باللحاف الثقيل المصنوع من القطن والقماش اللامع الناعم دافناً رأسي في المخدة.. ولا أنسى أن أترك فتحة صغيرة حتى أتنفس منها. وأظل أتململ بمكاني وأحرك قدمي على السرير المفروش ببطانية من الصوف حتى استشعر الدفء من خلال احتكاك قدمي بالبطانية ودفء أنفاسى أسفل اللحاف. ولست أدري ما الذي جعلني استيقظ في تلك الليلة مفزوعاً. ربما قد سمعت دق طبول ودفوف وصرخات نساء مكتومة وصياح رجال يشبه زئير الأسود، أو عواء الذئاب مما جعلني أنكمش في سريري وأنا في غاية الرعب .
وأخذتني رجفة ونوبة من البكاء الحاد.. ولم أستطع الإنتظار. حينما رفعت اللحاف من على وجهي ونظرت للشعاع الخافت المنبعث من لمبة الجاز المعلقة بالجدار الحجري بغرفتي ذات السقف الخشبي العالي. وكأن كل شئ بالغرفة قد تحول إلى رؤوس ذات عيون متوحشة وقحة. وأفواه ذات أسنان مدببة كأسنان التماسيح تريد أن تمزقني وتبتلعني .. فانتصبت واقفاً. وما هى إلا قفزة واحدة.. وجدت نفسي بعدها أعدو وأصرخ وكأنهم خلفي.. ولم ينقذني من هذا الإحساس إلا أمي التي تلقتني في حضنها وهى تقول : " اسم الله عليك سلام قولاً من رب رحيم ". استيقظ والدي وجدي الذي كنت أحبه وأجله كثيراً.
سمعت أبي يقول " الواد بيدلع علشان ينام جنبك يا وجيدة ".. حرام عليك يا فاضل الواد مسروع مش عارفة من إيه ؟؟ " وحسمها جدي حين قال : " اتركوا الولد لي سوف ينام معي الليلة ". أخذني جدي تحت عباءته. ومضيت معه إلى غرفته التي كانت تشبه غرفتي وباقي غرف البيت من حيث الشكل. لكن كانت تمتاز عنهم بما يعلقه جدي من آيات قرآنية على جدرانها بالكامل مما كان يعطيها مهابة.. وأحس بالأمن عندما يُسمح لي بدخولها.. سألني جدي إن كنت أريد أن أذهب إلى الحمام قبل أن ندخل إلى السرير ؟.. فاستحيت أن أقول له ولكنه كان يحس بي فقال : " هيا سوف نذهب معاً ".. فذهبنا وتخلصنا من بولنا وتوضأ جدي.. ثم عاد بي إلى الفراش وهو يقول : " قولي ياعم ما الذي أخافك ؟ ".. قلت : " لا أدري سمعت صوت طبول ودفوف وأصواتاً تشبه الحيوانات الجائعة ". قال : " منهم لله دا صوت الزار!! في آخر الشارع قرب الصليبة تسكن كودية.. تعقد حلقات الزار لكل من يدفع.. ويقع في حبائلها الجهلاء ".. سألته : وما الزار ؟ وأخذ يشرح لي وأنا ألف يدي حول عنقه ألتمس الدفء والأمان والحنان الذي أحسست بفقدهم يوم قرر أبي أننى كبرت.. ولا يجوز أن أنام مع أخواتي البنات – خديجة ثلاث سنوات وعائشة سنة - ولابد أن يكون لي فراش مستقل. كان جدي ما زال يحكي لي عن الزار حينما تبادر إلى سمعه صوت شخيري بعد أن اطمأنت نفسى ونمت كما لم أنم من قبل.
استيقظت مبكراً كعادتي فالبيت كله يصحو في السادسة لاستقبال جدي عند عودته من صلاة الفجر حيث يتخذ مجلسه المعتاد في صالة مربعة بين غرفته وغرفة جدتي رحمها الله.. كنت أراها مغلقة دائماً لا يجرؤ أحد على فتحها إلا إذا فتحها جدي بنفسه في بعض الأوقات ودخل وأغلقها عليه لفترة قصيرة.. ثم يخرج وكأنه قد ألقي بهمومه كلها داخل هذه الغرفة التي ظلت لغزاً محيراً لي طوال عمري.
كانت هذه الصالة مفروشة بسجادة سميكة من الصوف ذات ألوان حمراء وزرقاء ونقوش نباتية.. وداير الغرفة به مساند من القطن عليها غطاء مخملي ترتكن إلى الحائط.. وأمام كل مسند وسادة مربعة من نفس قماشه .. وبين كل مقعد ومسند وسادة مرتفعة يمكن للجالس أن يتكئ عليها بمرفقه.. وخلف جدي جدار من الخشب المخروط المعشق (مشربية) .. كان جدي يجلس دائماً وخلفه المشربية وأمامه المنقد النحاس ذو الأذنين. ونرجيلته المفضلة التي يدخن عليها التمباك مرة واحدة فقط في الصباح. وتنتشر بعض الفراوي لخراف سبق ذبحها ودبغ جلدها وتمشيط فرائها تعطي المكان نوعاً ما من الأبهة والدفء.
كان جدي إبراهيم يجلس بكامل ملابسه التي يصلى بها الفجر في المسجد.. الجلباب الصوفي وفوقه العباءة النعمان بلونها الجملي.. وفوق رأسه عمامة بيضاء ليست بالكبيرة ولا الصغيرة ولكنها تضفي عليه مهابة ووقاراً.. كان جدي ذو لحية بيضاء وبشرة قمحية مشربـة بالحمـرة.. لكن وجهه كان كأنه يشع نوراً.. وعيناه الوديعتان اللامعتان بالذكـاء والطيبة توحيان بالطمأنينة.
كان البيت مقسماً إلى ما يشبه الأجنحة.. وكل جناح به غرفتان بينهما صالة صغيرة يقفل عليها باب خشبي. جناح لجدي وجدتي والآخر لأبي وأمي وبه غرفة أبي وأمي وغرفة تنام بها البنتان خديجة وعائشة.. أما الجناح الثالث فهو مثل سابقه أنام أنا في غرفة والغرفة الأخري سوف تكون لأختيّ عندما تكبران.. وبرغم أن جدي قد تجاوز السبعين بقليل كما علمت منه إلا أنه كان قوي البنية مستقيم العود.. متزن الخطوات .. ولولا بياض ذقنه لظن من يراه أنه في الأربعين من عمره لهمته ونشاطه ووجهه المشدود الذي يخلو من الكرمشة والتجاعيد.. وبالرغم من أن والدي عمره أربعين عاماً إلا أن الفرق بينه وبين جدي في الشكل ليس بعيداً.
وقد وافق بلوغ جدي السبعين عاماً في يوم 25 إبريل وهو اليوم الذي بدأ فيه الحفر في قناة السويس سنه 1859م.. كنت أجلس مستكيناً تحت عباءة جدي.. وهو يدخن نرجيلته التي كنت أحب أن أسمع قرقرتها.. ويجعلني صوتها أضحك دون أن أدري لذلك سبباً.. ومن حين لآخر أخرج يدي الصغيرتين وأقربهما من المنقد المشتعل بالفحم وأفركهما حتى أشعر بالدفء.. كان ذلك يدفع أختي الصغيرة خديجة للدخول تحت العباءة عند قدمي وأنا أدفعها بعيداً عني.. وكأنني أدافع عن موقعي في حضن جدي مما يجعل جدي يلكزني بطرف أصابعه بلطف وهو يقول " يا واد اهدأ خليك حنين على أختك دي ضعيفة.. وبلاش تُحرك وتفرك زي الجدي العنيد ".. ثم يحملها ويضعها بالجانب الآخر تحت العباءة. فأكون أنا على جانبه الأيمن كالمعتاد وخديجة على الجانب الأيسر. ومع هذا لا يخلو الأمر من بعض الضرب والمناوشة تحت العباءة والتي لا يسلم منها جدي في أغلب الأحيان, ومع هذا فهو لا يغضب منا وهو دائماً يشعرنا بالدفء والحنان بل وأحيانا كان يلعب معنا حتى يغرينا بالآكل . كان يضع البيض المسلوق بقشره لبرهة وسط الفحم بالمنقد, ثم يتناول بيضة ويلقي بها في حجري أو في جيبي دون أن أشعر فأحس بحرارتها فأقوم منتفضا.ً وأنا أعتقد أن بعض الشرر المتطاير من الفحم قد أصابني. فيمسك جدي بجلبابي وهو يقول ما بك ثم يمد يده ليتناول البيضة في حركة سريعة ويقول " ما الذي أدخل هذه بجيبك ؟.. أوعي تكون بضت وأنت قاعدً ! ".. ثم ينفجر في الضحك ونضحك جميعاً.. ويقول : " لي لابد أن تأكلها وتخلص تارك منها.. يضربها بطرف المنقد النحاس ويفركها بين يديه وينزع عنها قشرتها ويقول : " هم ياجمل كلها الآن حتى لا تلسعك مرة أخري ".. وبهذه الطريقة كنا نأكل معه ونحن سعداء.
كانت الأمور قد استقرت على أني سأنام بجوار جدي. على الرغم من معارضة والدي .. إلا أن جدي قد حسم الأمر كعادته فهو صاحب الكلمة الأولي والأخيرة بهذا البيت وليس في استطاعة أحد أن يرد له كلمة.. كنت أسعد بوجودي مع جدي أينما كان.. وكنت أهابه وأجله. حينما يعود إلى المنزل وهو يضع عباءته على كتفه والعمامة على رأسه. أجري ناحيته وأتمسح بيده حتى يبتسم لي ويمد لي يده بالسلام. وأحيانا كان يشدني ناحيته بقوة مداعباً إياي. لكني عندما أدخل معه غرفته أساعده على خلع حذاءه مثلاً وأراه وهـو بدون العمامة يـزول عنـي الإحساس بالرهبة منه, وأحس أنه قريب منى وأنني أحبه أكثر من أي إنسان في هذا الكون الصغير الذي هو بيتنا. والذي لا أعرف غيره. كنت أسعد وأحس بالطمأنينة والحنان وأنا في حضنه أعبث بيدي في لحيته وكأنني أمشطها باصابعي النحيلة.. هذا الحنان الذي أفتقدته في أبي والذي يصر دائماً على أن يعاملني كرجل كبير ربما لإحساسه بأنني الولد الوحيد المسئول عن أخوتي البنات من بعده.
عودني جدي على أن يحكي لي أحداثاً قد حدثت له وهو صغير.. وكان يظل يحكي لي وأنا أنصت إليه في اهتمام بالغ إلى أن تغمض عيناي وأدخل في نوم عميق.. وفي الليلة التالية كنت أذكره بأننا قد توقفنا عند كذا وكذا حتى يكمل لي الحكاية التي كنت أسمعها بشغف وفضول.. كان يحكي لي عن أبيه " منصور " الذي كان أمهر صانع للسيوف والحراب بمصر المحروسة.. وكان سيفه له شكل ورنين مميز. فكل من يراه يعرف أنه من صناعة الشيخ منصور.. وأصبح سيفه يعرف باسم المنصور. وقد اعتمد عليه إبراهيم باشا ابن محمد على في تجهيز ما يلزم لحملاته وفتوحاته من سيوف وحراب ودروع.. وكل ما يلزم لعدة الفرس.. وكان يدفع له مقابل عمله ذهباً ويقربه إليه في مجالسه. وكيف أن أبا جدي قد سماه إبراهيم لحبه وتقديره لإبراهيم باشا ( الفاتح ).. وعندما علم إبراهيم باشا بذلك أعطاه كيساً من الذهب هدية للمولود.. وقد اعتني المنصور بتعليم جدي إبراهيم في الأزهر. ثم بعد ذلك نقل له كل خبرته واعتمد عليه في إدارة العمل بالورشة التي ما تزال على حالتها وفي مكانها بنهاية الدحديرة المسماة بنزلة عوام بك المواجهة للقلعة عندما تتقاطع مع امتداد شارع الصليبة المعروف باسم شارع المظفر. وقيل إنه المظفر قطز لكن البعض يظن أنه المظفر سنجر وله قبة وضريح بنفس الشارع.
هذا الشارع الذي يمتد من القرافة القديمة عند ضريح السيدة نفيسة ثم يتقاطع مع شارع مراسينا وهو الشارع الذي كان قديماً مرسي المراكب وفي نهايته مسجد ابن طولون.. والمثل القديم القائل " على قلبها لطالون " بمعني أن يبقي الراكب حتى نهاية الخط. ويقطع الشارع القادم من السيدة نفيسة هذا الشارع ( مراسينا ) عند الصليبة ويتجه مستقيماً إلى المنطقة المسماة بالسيوفية سكننا. لأن بها صناعة السيوف ثم يتجه مستقيماً ليتقاطع مع شارع عوام بك الذي تقع الورشة على ناصيته وشارع السيوفية الذي يمتد حتى قبة سنجر المظفر ثم مسجد الماس الحاجب .
سألت جدي في إحدى الليالي " ليه أبويا لا يصنع السيوف مثلك " ؟؟.. ورد علىّ جدي والحسرة والمرارة تملأ صوته.. " ياولدي كنا نصنع السيوف في زماننا لإبراهيم باشا الملقب بالفاتح لأننا كنا نفتح البلاد.. كنا فاتحين محاربين ومجاهدين.. أما الآن فقد أصبحنا منفتحين. وصارت بلادنا نهباً للإنجليز والفرنسيين. "ويستطرد متحسراً " لكل زمان دول ورجال ".. " وماذا يصنع أبي الآن في الورشة " ؟؟.. " أبوك يصنع العدد من مطارق وشواكيش ومعاول وفؤوس وجنازير وخلافه من لوازم العمل وليست عدة حرب فلم يعد هناك حروب .. وأصبح الجنود السابقون والعمال من الشباب وكل ذي عزم مجنداً لخدمة الأجانب.. الكل يذهب إلى الفرما للعمل بالقناة على أمل الرجوع بالمال الذي يمكّنه من الزواج أو فتح ورشة أو بدء تجارة.. الوقت صعب ياولدي ".. كانت الكلمات أكبر من عقلي لكني كنت أحس وأعي ما يقصده جدي.. وكنت سعيداً بحكاياته عن قوة البخار وعن القطار وافتتاح السكة الحديد بين مصر والإسكندرية عام 1856 في عهد محمد سعيد باشا.
[/align]