تويت
قصة قصيرة بقلم / محمد الزاكي
خرجت من البيت قبيل شروق الشمس قاصدة أشجار التين .. أيقنت بنضج ثمراتها.. كانت ترتسم على وجهها البريء علامات طفولة الشقاء والبؤس.. لم تعرف طفولتها غير الكدح المتواصل من لدن زوجة أبيها القاسية القلب .. وصل مبلغ أنانيتها لها أن حرمتها من الالتحاق بمدرسة القرية مثل الكثير من أقرانها.
لما وصلت مليكة إلى أشجار التين بخارج القرية شعرت بحفيف ورقها تحركه نسائم الصباح الجديد ، فينعش روح طفولتها ويسري فيها بلسما يشفي شيئا من جراحات تلك الطفولة الحزينة .
شعرت مليكة بأن هذا المرتع الدافئ تعويض عن حضن أمومة مفقودة ، فوالدها غير مكترث بمصير مستقبلها ما دام يترك شأن ابنته لزوجته ويغيب عن البيت لساعات طوال في دكانه لبيع الخزف .
كانت أشجار التين قد أينعت ثمارها ، فقطفت مليكة بعض الثمار الحلوة الشهية .. وضعت تلك الثمرات الطرية في وعاء صغير لتقدمه لزوجة أبيها لعل قلبها يرق قليلا من جهتها ، فتقنع والدها بإرسالها للمدرسة .
في طريقها نحو بيتها طاف في رأسها حلم دخولها للمدرسة .. تمنت لو يتحقق هذا الحلم الذي تراه مستحيلا كمن يريد أن ينبت الشعر بباطن كفه .. كم كانت تتمنى لو أن أمها على قيد الحياة .. من دون شك فإن كثيرا من الأمور ستتغير ، فحنان الأم لا يعوضه أي حنان في الدنيا .
مرت بمسجد قريتها .. سمعت صبيان القرية يتلون جماعة ما تيسر لهم من القرءان .
وجدت مليكة متنفسا آخر غير مرتع أشجار التين ، فجلست مستريحة بجوار المسجد .. ذهبت عنها زفراتها الحارة وهي تسترجع حلم دخولها للمدرسة .. وقف أمامها شيخ طاعن في السن .. أمعن النظر في وجهها الحزين .. فسألها :
- ما اسمك يا بنيتي ؟
- مليكة
وعندما أرادت مليكة أن تقوم من مكانها وتودع المسجد أهدت شيئا من التين للشيخ المسن .. لكنه اكتفى بأخذ ثمرة واحدة ، ونصحها بأن تتصدق بالباقي على الفقراء ، ستجدهم في طريقها ، وسيبارك الله في عمرها ويحقق أملها ، فشرع يردد وهي تودعه :
- سوف يفرج الله عنك .. يا ملوكه ...لا تحملي هما .
قصدت مليكة البيت وهي تحمل هم تأخرها.. كيف لها أن تفهم زوجة أبيها بأنها خرجت بنية أن تحضر لها شيئا من التين الناضج .. وبعد هذا هل ستقتنع بأنها تصدقت بوعاء التين كله .. ثم إن زوجة أبيها أنانية لاتحب الإحسان وفعل الخير ..
حينما اقتربت مليكة إلى البيت .. كان ما تحمله من هم التأخر يلازمها .. لكنها حينما مدت بصرها نحو البيت رأت سيارة بيضاء ، فتناسلت أسئلة الاستفهام لديها ..
طردت ما بها .. اقتحمت البيت فوجدت خالها وزوجته قدما من مدينة الدار البيضاء بعد غياب طويل .. لم تكن مليكة تدري ما سبب هذا المجيء لكن أحاسيس دفينة من السرور كانت تسري في روحها وجسدها ، فلا تعلم لها سرا ، ثم تنظر إلى وجه زوجة أبيها فتراه في أكلح صورة رأته ، لا تدري مليكة شيئا ، وبعد برهة حضر والد مليكة .
لم تكن وجبة الغذاء هنيئة لدى زوجة الأب ، وبعد حزن فراق يرى على وجه الأب .. نظر الأب إلى مليكة بنظرة رقيقة لو مازجت مياه البحر المالحة لجعلته عذبا زلالا ، وقال لها :
- هذا خالك في منزلة الأب .. ليس له بنات ...هل تعيشين معه بالمدينة ؟
نظرت مليكة إلى أبيها وهي صامتة .. لكن واقع الحال أفصح مما يمكن أن تدل عليه الكلمات .. وحين اهتدى الأب إلى قراءة محياها بالسرور المشع على عينيها ، قال لها :
- إني موافق .
أراد الأب أن يسمع كلاما من فم مليكة ، فقال لها :
- وستدرسين هنالك .
كان هذا خير نبإ سمعته مليكة في حياتها ، فقالت كأنها تعيش حلما ، ولكنه حلم قد تحقق :
- أصحيح ما تقوله يا بابا ؟ !
- كما سمعت يا بنيتي .
نهضت مليكة مسرعة إلى بيتها لتجمع بعض متاعها ، لكن خالها كان مسرعا بالرجوع إلى المدينة ليلتحق غدا بعمله .. فأخبرها بأن لا تكلف نفسها عناء ذلك ، فسيقتني لها ما يلزمها بالمدينة .
حين خرجت مليكة من البيت ، وقبل أن تستقل السيارة .. نظرت إلى أبيها وهو يغالب بعض العبرات التي لم يسمح لها بأن تغادر عينيه .. احتضن بقوة ابنته .. شعرت لأول مرة برقة عاطفة والدها .. صمد كثيرا ، فذرف عبرات لودا ع أخير .. لكن قلبه مطمئن بإيداع مليكة عند خالها ، فذلك خير لها من الشقاء الذي تلاقيه في غيابه عن بيته .
غابت السيارة عن القرية .. وتحقق حلم مليكة ، وعندما مرت بمسجد القرية .. شاهدت عن الشيخ الطاعن في السن ، فتذكرت مواساته لها .
غابت السيارة عن المسجد .. فغابت مليكة عن قريتها في صيف لم تجن فيه ثمرات التين فحسب ، ولكن جنت فيه فرج الله القريب ، وجزاء براءتها وإحسانها وصبرها .
محمد الزاكي- المغرب
مليكة
خرجت من البيت قبيل شروق الشمس قاصدة أشجار التين .. أيقنت بنضج ثمراتها.. كانت ترتسم على وجهها البريء علامات طفولة الشقاء والبؤس.. لم تعرف طفولتها غير الكدح المتواصل من لدن زوجة أبيها القاسية القلب .. وصل مبلغ أنانيتها لها أن حرمتها من الالتحاق بمدرسة القرية مثل الكثير من أقرانها.
لما وصلت مليكة إلى أشجار التين بخارج القرية شعرت بحفيف ورقها تحركه نسائم الصباح الجديد ، فينعش روح طفولتها ويسري فيها بلسما يشفي شيئا من جراحات تلك الطفولة الحزينة .
شعرت مليكة بأن هذا المرتع الدافئ تعويض عن حضن أمومة مفقودة ، فوالدها غير مكترث بمصير مستقبلها ما دام يترك شأن ابنته لزوجته ويغيب عن البيت لساعات طوال في دكانه لبيع الخزف .
كانت أشجار التين قد أينعت ثمارها ، فقطفت مليكة بعض الثمار الحلوة الشهية .. وضعت تلك الثمرات الطرية في وعاء صغير لتقدمه لزوجة أبيها لعل قلبها يرق قليلا من جهتها ، فتقنع والدها بإرسالها للمدرسة .
في طريقها نحو بيتها طاف في رأسها حلم دخولها للمدرسة .. تمنت لو يتحقق هذا الحلم الذي تراه مستحيلا كمن يريد أن ينبت الشعر بباطن كفه .. كم كانت تتمنى لو أن أمها على قيد الحياة .. من دون شك فإن كثيرا من الأمور ستتغير ، فحنان الأم لا يعوضه أي حنان في الدنيا .
مرت بمسجد قريتها .. سمعت صبيان القرية يتلون جماعة ما تيسر لهم من القرءان .
وجدت مليكة متنفسا آخر غير مرتع أشجار التين ، فجلست مستريحة بجوار المسجد .. ذهبت عنها زفراتها الحارة وهي تسترجع حلم دخولها للمدرسة .. وقف أمامها شيخ طاعن في السن .. أمعن النظر في وجهها الحزين .. فسألها :
- ما اسمك يا بنيتي ؟
- مليكة
وعندما أرادت مليكة أن تقوم من مكانها وتودع المسجد أهدت شيئا من التين للشيخ المسن .. لكنه اكتفى بأخذ ثمرة واحدة ، ونصحها بأن تتصدق بالباقي على الفقراء ، ستجدهم في طريقها ، وسيبارك الله في عمرها ويحقق أملها ، فشرع يردد وهي تودعه :
- سوف يفرج الله عنك .. يا ملوكه ...لا تحملي هما .
قصدت مليكة البيت وهي تحمل هم تأخرها.. كيف لها أن تفهم زوجة أبيها بأنها خرجت بنية أن تحضر لها شيئا من التين الناضج .. وبعد هذا هل ستقتنع بأنها تصدقت بوعاء التين كله .. ثم إن زوجة أبيها أنانية لاتحب الإحسان وفعل الخير ..
حينما اقتربت مليكة إلى البيت .. كان ما تحمله من هم التأخر يلازمها .. لكنها حينما مدت بصرها نحو البيت رأت سيارة بيضاء ، فتناسلت أسئلة الاستفهام لديها ..
طردت ما بها .. اقتحمت البيت فوجدت خالها وزوجته قدما من مدينة الدار البيضاء بعد غياب طويل .. لم تكن مليكة تدري ما سبب هذا المجيء لكن أحاسيس دفينة من السرور كانت تسري في روحها وجسدها ، فلا تعلم لها سرا ، ثم تنظر إلى وجه زوجة أبيها فتراه في أكلح صورة رأته ، لا تدري مليكة شيئا ، وبعد برهة حضر والد مليكة .
لم تكن وجبة الغذاء هنيئة لدى زوجة الأب ، وبعد حزن فراق يرى على وجه الأب .. نظر الأب إلى مليكة بنظرة رقيقة لو مازجت مياه البحر المالحة لجعلته عذبا زلالا ، وقال لها :
- هذا خالك في منزلة الأب .. ليس له بنات ...هل تعيشين معه بالمدينة ؟
نظرت مليكة إلى أبيها وهي صامتة .. لكن واقع الحال أفصح مما يمكن أن تدل عليه الكلمات .. وحين اهتدى الأب إلى قراءة محياها بالسرور المشع على عينيها ، قال لها :
- إني موافق .
أراد الأب أن يسمع كلاما من فم مليكة ، فقال لها :
- وستدرسين هنالك .
كان هذا خير نبإ سمعته مليكة في حياتها ، فقالت كأنها تعيش حلما ، ولكنه حلم قد تحقق :
- أصحيح ما تقوله يا بابا ؟ !
- كما سمعت يا بنيتي .
نهضت مليكة مسرعة إلى بيتها لتجمع بعض متاعها ، لكن خالها كان مسرعا بالرجوع إلى المدينة ليلتحق غدا بعمله .. فأخبرها بأن لا تكلف نفسها عناء ذلك ، فسيقتني لها ما يلزمها بالمدينة .
حين خرجت مليكة من البيت ، وقبل أن تستقل السيارة .. نظرت إلى أبيها وهو يغالب بعض العبرات التي لم يسمح لها بأن تغادر عينيه .. احتضن بقوة ابنته .. شعرت لأول مرة برقة عاطفة والدها .. صمد كثيرا ، فذرف عبرات لودا ع أخير .. لكن قلبه مطمئن بإيداع مليكة عند خالها ، فذلك خير لها من الشقاء الذي تلاقيه في غيابه عن بيته .
غابت السيارة عن القرية .. وتحقق حلم مليكة ، وعندما مرت بمسجد القرية .. شاهدت عن الشيخ الطاعن في السن ، فتذكرت مواساته لها .
غابت السيارة عن المسجد .. فغابت مليكة عن قريتها في صيف لم تجن فيه ثمرات التين فحسب ، ولكن جنت فيه فرج الله القريب ، وجزاء براءتها وإحسانها وصبرها .
محمد الزاكي- المغرب