من وحي عمرة رمضان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبد الله راتب نفاخ
    أديب
    • 23-07-2010
    • 1173

    من وحي عمرة رمضان

    من وحي عمرة رمضان

    حين يقف أولئك الملايين من البشر في تلك البقعة من الأرض ، التي تضم أول بيت وضع للناس مباركاً ، و يتجهون جميعاً إلى ذلك البناء الحجري المجلل بالسواد ، فيما تتوجه قلوبهم و عقولهم إلى خالقهم و خالقه ، الواحد الأحد الذي لا يحده مكان و لا زمان ، و لا يدركه بصر و لا يحويه حجر ، فتنقل المصورات و الروائي لنا هذا المشهد المهيب ، أقول في نفسي : أي إرادة علوية تلك التي سخرت لمكة كل هذا التعظيم و التبريك ، و جعلت الناس من مشارق الأرض و مغاربها يتسابقون ليفوزوا بموطئ قدم فيها في هذه الأيام المباركات .
    لو لم تكن اليد الإلهية هي صانعة هذا الاجتماع لما حازت هذه البقعة الصغيرة الضائعة بين رمال الصحراء تلك الأهمية البالغة ، و التأثير العجيب في قلوب كل أولئك البشر على اختلاف منازلهم و أصولهم و مشاربهم ، فأتوا يخبون إليها خطاهم ، و الشوق يحدوهم ، و الإعجاز الإلهي يخبر بحالهم { و اجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم } ‘ فلعل أعظم دعوة استجابها الله لنبي في التاريخ هي دعوة إبراهيم تلك ، فعلى مر القرون لم يشهد مكان مقدس في العالم من التعظيم و شد الرحال ما شهد المسجد الحرام ، على بعده و نأيه ، و افتقاره لوسائل الراحة قديماً ، و ما كان يتوقع الوافد إليه من أهوال قطاع الطرق و وحوش الصحراء و مفاجآتها المرعبة في طريقه ، لكنَّ شعوراً غريباً كان يحمل القادمين على مركب الشوق السارح في دنيا المحبة و العشق للذات الإلهية ، فينسيهم كل ما يلقون أو يتوقعون أن يلقوا ، و يشد عزمهم للسير في درب الإيمان و العبادة و الطاعة الموصل إلى مكة ، خير بلاد الله ، و أحبها إلى قلوب المؤمنين به .
    و الكعبة التي يتوجه إليها المسلمون ليست رباً يعبد من دون الله ، كما يظن بعض الجهلة أو السفلة ، بل هي شعار لتوحيد الكلمة الواجب بين أصحاب الشهادة الواحدة و القبلة الواحدة ، فكما يجمعهم معبود واحد و قبلة واحدة ، ينبغي لهم ان تكون كلمتهم واحدة ، و أن تكون مستمدة من شعارهم الذي ارتضاه الله لهم قبل بدء الأزمان و الدهور { و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } ، و أن يكون الحج أو العمرة بعداً عميقاً في نفوسهم و حياتهم فيتحدوا به ، و يكونوا كأنما خرجوا اللحظة من بطون أمهاتهم ، ليبتدؤوا عهداً جديداً مع خالقهم الذي سعوا إلى بيته حاجين ‘ فوجب عليهم أن يبقوا على العهد محافظين ، و في طاعتهم إياه صادقين .
    و العمرة الرمضانية التي يتهافت عليها الناس تهافتاً ، هي حالة من الجمع العجيب بين قداسة المكان و قداسة الزمان ، وصولاً بالروح إلى تجليها الأقدس الذي لا يكون إلا بإتمام الاهتداء بهدي الله عز و جل ، و السير وفق التشريعات الربانية ، فبهذه العوامل مجتمعة تصل الروح إلى غايتها التي خلقت لأجلها ، و أمر ربنا بالوصول إليها و السعي نحوها .
    و في خشوع المؤمنين خلف إمامهم و هو يرتل عليهم آيات البيان الإلهي متهجداً في ليل مكة واسع المدى الذي شهد قبل مئات السنين نزول الوحي على قلب الرسول الأمين في أيام كهذه الأيام ، و ليال كهذه الليالي ، تجرد كامل نحو العبادة الخالصة للإله الواحد القيوم الصمد ‘ المتجلي على عباده في وقفتهم مخبتين له ، لائذين برحمته ، متواضعين لسلطانه ، خاضعين لربوبيته ، مقرين بعظمته ، مؤمنين بقيوميته ، راضين بحكمته و قضائه و قدره .
    و هؤلاء الطائفون حول البيت العتيق ، المشابهون في دورتهم لدورة الأفلاك السيارة ، و الجواري الكنَّس ، ليثبتون أن في هذه الاستدارة رمزاً لحركة الكون كله ، الذي تطوف فيه الكواكب حول نفسها ، و حول الشموس و النجوم ، ممعنة في الخشوع و التضرع لرب الأرباب ، المالك الملك ، الحاكم الذي لا راد لحكمه ، و الذي كل الخلق إليه راجعون ، و به معتصمون ، و دونه لا يكونون و لا يعيشون .
    رباه .... أسألك في هذه الليالي خيراً لهذه الأمة كلها ، عفواً عن مسيئها ، و زيادة في صلاح صالحها ، و نصراً مؤزراً على أعدائها ، و أن تنيلها من كل خير ، و تصرف عنها كل شر .... إنك أنت الحليم القدير العظيم المجيد .
    الأديب هو من كان لأمته و للغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ

    [align=left]إمام الأدب العربي
    مصطفى صادق الرافعي[/align]
يعمل...
X