المصالح المرسلة عند الأصوليين ج1
[/من الأدلة لاستنباط الأحكام عند الأصوليين نوعان 1 :
أولا : نوع متفق عليه بين جمهور المسلمين وهو كالتالي :
1- الكتاب ؛
2- السنة؛
3- القياس؛
4- الإجماع ؛
ثانيا : نوع مختلف فيه بين الأصوليين ويشمل :
1- الاستحسان؛
2- الاستصحاب؛
3- شرع من قبلنا؛
4- العرف والعادة؛
5- المصالح المرسلة؛
6- القول بأقل ما قيل؛
7- العقل؛
8- قول الصحابة؛
9- الاستقراء؛
10- الأصل والمراد به الدلالة المستمرة؛
11- إجماع أهل المدينة.
وتشتمل جولتنا في رحاب الأصوليين النظر في مسألتين من الأدلة المختلف فيها :
- المصلحة المرسلة
- شرع من قبلنا .
وأسأل الله أن ييسر دراسة شاملة لكل الأدلة المختلف فيها ليحيا من حيي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة.
إذ كيف نستسيغ أن تبنى الشريعة على أمور تختلف فيها الأذهان, عند أمة جاء نبيها ليبين لهم أكثر الذي اختلفت فيه بنو إسرائيل؟ أم كيف يسوغ لنا الاختلاف في أسس التشريع وشريعتنا تأمر بالوحدة والتوحد؟ ... إنها محاولة لوضع اليد على أسباب الاختلاف والفرقة بالدليل القطعي الذي لا يترك لبسا ولا شكا عند أحد، وإذا جاء نور الله انطفأت شموع العباد.
.. *- ما المصلحة المرسلة ؟
لعل الكلام عن المصلحة المرسلة يحثنا على الكلام عن مقاصد الأحكام للشريعة الإسلامية فمن مقاصد الأحكام للشريعة الإسلامية :
- كونها جاءت رحمة للناس. لقوله تعالى :
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ الأنبياء 107
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ يونس 57
ولذلك اتجه الإسلام في أحكامه إلى نواح ثلاث :
أولا : تهذيب الفرد ليستطيع أن يكون مصدر خير لجماعته ولا يكون منه شر لأحد من الناس وذلك : بتهذيبه بالعبادات توثيقا للعلائق الاجتماعية الفاضلة وتطهيره من أدران الحقد الذي سكن في قلب ابن آدم، ونهيه عن الظلم والفحشاء ؛
ثانيا : إقامة العدل في الجماعة الإسلامية : العدل فيما بينها والعدل مع غيرها.
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى المائدة 7
وتقوم العدالة الاجتماعية في الإسلام على المساواة بين الناس في الأحكام, فلا فروق طبقية ولا فروق لون أو وطن أو جنس؛
ثالثا : مراعاة المصلحة : فما من أمر شرعه الإسلام بالكتاب والسنة إلا كانت فيه مصلحة حقيقية. 2
" إن الشرائع السماوية لا يراد بها إلا تحقيق مصالح العباد، وأن المراد بالمصلحة جلب المنفعة ودفع المضرة، وأن المصالح بحسب مراتبها ثلاثة أنواع :
المصالح الضرورية : وهي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا, بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة, بل على فساد وفوت حياة, وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم. ومجموع الضروريات خمس حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
المصالح الحاجية : معناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب, فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة.
المصالح التحسينية : وهي الأخذ بما يليق من محاسن العبادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم من أحكام الأخلاق .
والمصالح باعتبار الشرع لها ثلاثة أنواع :
- منها ما اعتبره الشرع : أي وضع من الأحكام ما يوصل إليه كالمحافظة على النفس والعقل.
- منها ما ألغاه : أي وضع من الأحكام ما يدل على إهداره, كمصلحة آكل الربا في زيادة ثروته, ففي زيادة الثروة مصلحة له, إلا أن الشارع ألغاها لما فيها من ضرر يصيب المدين .
- ومنها ما لم يشهد الشارع بإلغائه ولا باعتباره وهذه المصلحة المرسلة والتي يعبر عنها بالمناسب المرسل.
تعريف المصلحة المرسلة :
وقد عرفها العلماء بأنها لم يشهد لها الشارع بالاعتبار ولا بالإلغاء
3
.
حكمها وشروطها عند الأصوليين:
اختلف العلماء في الأخذ بها على مذاهب :
- منع التمسك بها مطلقا، وإليها ذهب الجمهور حيث أن العمل بها يفتح الباب لوصول ذوي الأهواء من الولاة ونحوهم إلى أهوائهم بصبغها بصبغة المصلحة .
- الجواز مطلقا وهو المحكي عن الإمام مالك، وذلك لأن الشارع الحكيم قد أثر عنه بما لا يحصى من الأدلة أن الشريعة لم توضع إلا لمصالح العباد.
- إن كانت المصلحة المترتبة على شرع الحكم ضرورية قطعية كلية، كانت حجة ووجب العمل بها, وإن فقد واحد من هذه الثلاث لم تكن حجة، وهو اختيار البيضاوي 4 وسايره عليه الغزالي5 وتابعهما الأمدي 6
ومعنى كونها ضرورية : أنها تحفظ ضرورة من الضروريات الخمسة (الدين, النفس, العقل, النسل والمال).
ومعنى كونها قطعية : أنها تثبت بطريق لا شبهة فيه.
ومعنى كونها كلية : أنها توجب نفعا عاما للمسلمين ولا تختص ببعض الأفراد دون بعض"7 .
- مذهب الغزالي أبو حامد :
والغزالي في تعريفه للمصلحة, نهَج نهْج الاحتياط, من ترجيح المصلحة على النص, خشية أن يفتح هذا الباب على مصراعيه فيتهافت الناس في اتباع المصالح وإهمال النصوص, فاشترط لتقديم المصلحة على النص أن تكون ضرورية كلية قطعية وهذا قوله في الموضوع :
" أما الواقع في رتبة الضروريات, فلا بد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد وإن لم يشهد له نص معين، مثاله أن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين, فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب وهذا لا عهد له في الشرع, ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضا, فيجوز أن يقول قائل أن هذا الأسير مقتول بكل حال, فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع؛ لأنا نعلم قطعا أن مقصود الشرع تقليل القتل, كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان, فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل, وكان هذا التفاتا إلى مصلحة، علم بالضرورة كونها مقصود الشرع لا بدليل واحد وأصل معين, بل بأدلة خارجة عن الحصر, لكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين, فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف : " إنها ضرورية قطعية كلية "8.
- مذهب الطوفي :
إن ما احتاط له الغزالي رحمه الله وقيده بالضوابط الثلاث, حتى لا يأتي من يرجح المصلحة أيا كانت على النص فيقع المسلمون في المحظور, خرج عليه سليمان بن عبد القوي الطوفي الملقب " بنجم الدين" إذ نادى بتقديم المصلحة مطلقا على النص والإجماع عند معارضتها لهما وهذا نصه :
" وهذه الأدلة التسعة عشر أقواها النص والإجماع، ثم هما إما أن يوافقا رعاية المصلحة أو يخالفاها, فإن وافقاها فبها ونعمت ولا نزاع ...
وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما لا بطريق الالتفات عليهما والتعطيل لهما "9.
" إن رعاية المصلحة أقوى من الإجماع ويلزم من ذلك أنها أقوى أدلة الشرع لأن الأقوى من الأقوى أقوى"10.
إن تعذر الجمع بينهما قدمت المصلحة على غيرها لقوله r " لا ضرر ولا ضرار" وهو خاص في نفي الضرر, المستلزم لرعاية المصالح, فيجب تقديمه, ولأن المصلحة هي المقصودة من سياسة المكلفين وباقي الأدلة كالوسائل والمقاصد واجبة التقديم على الوسائل11.
ويقول أيضا : " إنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها دون العبادات وشبهها, لأن العبادات حق للشرع خاص به, ولا يمكن معرفــــة
حقه كما وكيفا وزمانا و مكانا إلا من جهته, فيأتي به العبد على ما رسم له وهذا بخلاف حقوق المكلفين فإن أحكامها سياسية شرعية وشرعت لمصالحهم فكانت هي المعتبرة وعلى تحصيلها المعول"12.
- سعيد رمضان البوطي :
خلص البوطي في كتابه " ضوابط المصلحة " إلى تقييد المصلحة بخمس قيود :
1- اندراجها في مقاصد الشارع.
2- عدم معارضتها للكتاب.
3- عدم معارضتها للسنة.
4- عدم معارضتها للقياس.
5- عدم تفويتها مصلحة أهم منها أو مثلها.
وعلى هذا مدار بابه الثاني من الكتاب إذ قال في تمهيده ما يلي :
... فتحقيق مصالح العباد معنى كلي, والأحكام التفصيلية المناطة بأدلتها الشرعية جزئيات له ...
من أجل ذلك كان لابد لاعتبار المصلحة في التشريع من تقييدها بضوابط تحدد معناها الكلي من ناحية, وتربطها بالأدلة التفصيلية للأحكام من ناحية أخرى, حتى يتم التطابق بذلك بين الكلي وجزئياته. "والعلاقة بين فهم المجتهد للمصلحة باعتبارها مناطا كليا للأحكام, والأدلة التفصيلية باعتبارها مناطات جزئية لها يشبه إلى حد كبير العلاقة بين تخريج المناط وتحقيقه "...13 .
وبعد أن ناقش العقل واستقلاله بمعرفة المصلحة وبين عواره, خلص إلى القول :
" ومن هنا تعلم أن موقع الضوابط الآتية من المصلحة هو موقع كشف وتحديد لا موقع استثناء وتضييق : أي أن ما وراء هذه الضوابط ليس داخلا في حدود المصلحة وإن توهم متوهم أنه قد يدخل فيها ومن ثم فلا يتصور التعارض بين المصلحة الحقيقية وأدلة الأحكام بحال"14.
- متاهات لا حدود لها:
ذهبت مذاهب العلماء في الأخذ والرد بالمصلحة المرسلة إلى الحدود التالية :
* قال الآمدي : " اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به (المناسب المرسل) وهو الحق, إلا ما نقل عن مالك أنه يقول به, مع إنكار أصحابه لذلك عنه, ولعل النقل إن صح عنه, فالأشبه أنه لم يقل بذلك في كل مصلحة, بل فيما كان من المصالح الضرورية الكلية الحاصلة قطعا, لا فيما كان من المصالح غير ضروري, ولا كلي ولا وقوعه قطعي 15
* وقال الشاطبي : " وأنكر مالك حديث إكفاء القدور التي طبخت من الإبل والغنم قبل القسم تعويلا على أصل رفع الحرج الذي يعبر عنه بالمصالح المرسلة, فأجاز أكل الطعام قبل القسم لمن احتـــــــاج إليه.16
* وعرف العلماء المصلحة المرسلة بأنها لم يشهد لها الشارع بالاعتبار ولا بالإلغاء.
إنها ثلاث تعريفات تقربنا من فحوى المصلحة المرسلة, ولعل أكثرها أصالة, القول الذي نقله الشاطبي عن ابن العربي : بأن المصالح المرسلة انبنت على أصل رفع الحرج, كما أن أخطرها اتهاما للشريعة هو تعريف العلماء بكون المصلحة ما لم يشهد لها الشرع لا بالاعتبار ولا بالإلغاء.
وقد أثار علماؤنا رحمهم الله في قواعدهم :
- إن الحكم على الشيء فرع تصوره, وأخذ الشي بالرد والقبول فرع كونه معقولا.17
ومن هنا أقول :
دأب علماؤنا على القول في تعريف المصالح المرسلة " ما لم يشهد لها الشرع بالاعتبار ولا بالإلغاء ؟ فهل تدبروا قوله عز وجل :
مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءالأنعام 38
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ النحل 89
لقد ارتبط السلف الصالح بنصوص الكتاب والسنة ولم يتعدوها إلى غيرها, إلا فيما ثبت فيه إجماع أو خضع لقياس شرعي, قال محمد الخضري بك : " لم نر فيهم من يقدم قياسا على سنة ثبتت إلا أن منهم من لم يُروَ له الأثر في الحادثة أو روي له ولم يثق بسنده, فأفتى بالرأي, فربما كان ما أفتى به مخالفة لسنة لم تكن بمعلومة له أو علمت ولكن لم يثق برواتها, أو عارضها ما هو أقوى في نظره.18
وخلف من بعدهم خلف انتهك الحدود واعتدى على النصوص ومن ذلك ما ساقه الطوفي في سطوره القليلة التي أثارت عليه الويلات الكبيرة، ومهما حاول بعض القائلين بالمصالح بوضع ضوابط لها فإن الإنسان حينئذ ينزلق في غلس الفكر بعيدا عن هدي النصوص، قد تتراءى له المصالح قطعية وما هي بقطعية, كما قد يتجاوز النصوص الحديثية بضرب من الاستخفاف كما فعل الورياغلي في حواره مع " النشرة " حيث قال :
" أما الحديث فهو كلام عربي نقله الراوي العربي, فهو لا يحافظ على الألفاظ, بل يحافظ على المعاني التي فهمها, فأكثر الحديث روي بالمعنى كما في البخاري ومسلم، ف 99% منها هي أفهام للرواة من الحديث النبوي، إن الرواية بالمعنى فيها تقرب للكبار وتستوي في هذا الهدف مع الوضع في الحديث"19...
إنها آفة ترجيح المصالح على النصوص.
وحول سؤال الفوائد البنكية أجاب :
" الفوائد البنكية تدخل في مجال الفقه العصري الذي يحكمه الرأي الاجتهادي وإنه على من يستعمل القياس أن يدرك أن من شرع القياس فليس لعين القياس وإنما لما فيه من المصالح والمعروف؛ وهنا نطرح السؤال التالي : هل الفوائد البنكية داخلة في الربا بالنص أم بالقياس؟
الجواب لا هذا ولا ذاك فلا يمكن أن تدخل بالدليل (النص) لتقدم النص على الفوائد البنكية ولا بمعنى الدليل (القياس) لأن ظروف الربا الجاهلي غير ظروف الفوائد البنكية لأن الفقه غيرالفقه, والوقت غير الوقت "20.
وهكذا أهدر السنة النبوية وجعلها من الكلام العربي الذي فهمه العرب الرواة من كلام النبوة، وقال بصريح العبارة "أن الرواية بالمعنى فيها تقرب للكبار وتستوي في هذا الهدف مع الوضع في الحديث " فأية آفة أخطر من هذا التصريح إنها الأهواء واضطراب الأمزجة والتلاعب بالمصالح المرسلة... أيليق هذا بجلالة العالم؟!!
فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :: "[ ألا إنها ستكون فتنة ! فقلت : ما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال : كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله, ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم, هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة, ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا :
إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِالجن 1-2؛ من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم] "21.
ألا فكل خروج عن كتاب الله والاستشهاد بغير النصوص ضلال ما بعده ضلال ؟ كان الله للمتقولين على دينه, واتقوا زلات العلماء!!!
-[ يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم.]22
* - الأصوليون والمصالح المرسلة :
لكم حز في نفسي, ما تؤججه الصحبة المباشرة للشيوخ من محبة وما ينتج عنها من انقياد واستسلام تطمس عين الاجتهاد وتسوق إلى دروب التقليد, لكن من لم تهذب أخلاقه صحبة الشيوخ, حتى وإن حصل العلوم, تذهب ببهائه خوارم مروءته وسلاطة لسانه.
وعين المحبة عن كل سوء كليلة, ومن أوتيها نجا من سوء الظن بالخالق وبالخلق, وهي مزية عظمى, وسبب في النجاة بين يدي الله العزيز الغفار, لكن الأمر دين وفتيا ولا بد فيه من تحري الحق والصواب وهذا ما يتطلب عينا ناقدة كعين القاضي تميز لأول وهلة من خلال تصرفات المتقاضين من ألحن حجة, حتى ولو كان صاحب الباطل ذا لسان ساحر, لكنها في نفس الوقت لا تسيء الظن لا بهذا ولا بذاك, حتى تنجلي الحقائق وتكتمل.
ودعما لما سبق يقول محمد مصطفى الشلبي :" وقد كان حسن الظن بالشيوخ يدعونا إلى قبول ما نسبوه, لولا أنا وجدناهم كثيرا ما ادعوا الاستقراء من غير استقراء, والإجماع في موضوع الخلاف ...
وأكبر الظن عندي أن هذا النوع من المرسل لا يوجد في كلام الأئمة, بعد أن عرفنا أنه المناسب الذي ليس له أصل معين, ولم يثبت عن الشارع اعتبار جنسه ولو بعيدا, وكيف يتصور ذلك من مجتهد تأثر بجو الشريعة وخبر مصالحها, ووقف على حقائقها, معتقدا أن اجتهاده يوصله في نهاية المطاف إلى ما يظن أنه حكم الله في موضع اجتهاده؟
ولا يليق بفقيه مطلقا أن ينسب إلى الشارع ما يبدو لأول الأمر بعده عن شرعه, إنما يليق هذا بواضعي القوانين فإنهم ينظرون إلى المصلحة في ذاتها مجردة عن كونها منسوبة لأحد...
حينئذ يمكننا أن نقول أن كل مصلحة عمل بها المجتهدون, لا تعدم أن يكون لها جنس اعتبره الشارع, والأجناس كثيرة تختلف قربا وبعدا, وليس في مقدور إنسان ضبطها مهما حاول, حتى يحكم على تلك المصلحة أنها خارجة على اعتبار الشارع لجنسها. فلو فرضنا هذا النوع من المرسل فهو مردود بالاتفاق ..23.".
والشائع عند الفقهاء أن المصلحة المرسلة والقول بها هي من اختصاص مالك ومذهبه لكونه توسع فيها وأصلها, وأن جمهور العلماء عملوا على ردها سواء لاءمت أو لم تلائم, وأنه لا يصح التمسك بها.
إنها نظرة فوقية سطحية, لا يقول بها من خبر الفقه وفروعه لذا قال القرافي24 :
" وأما المصلحة المرسلة فغيرنا يصرح بإنكارها ولكنهم عند التفريع نجدهم يعللون بمطلق المصلحة, ولا يطالبون أنفسهم عند الفروق والجوامع بإبداء الشاهد لها بالاعتبار, بل يعتمدون على مجرد المناسبة وهذا هو المصلحة المرسلة.
وقال ابن دقيق العيد : " الذي لا يشك فيه أن لمالك ترجيحا على غيره من الفقهاء في هذا النوع, ويليه أحمد بن حنبل ولا يكاد يخلو غيرهما من اعتباره في الجملة ولكن لهذين ترجيح في استعماله.25
وقال البغدادي في جنة الناظر : لا تظهر مخالفة الشافعي لمالك في المصالح, فإن مالكا يقول : إن المجتهد إذا استقرأ موارد الشرع ومصادره, أفضى نظره إلى العلم برعاية المصالح في جزئياته وكلياته, وأن لا مصلحة إلا وهي معتبرة في جنسها, لكنه استثنى من هذه القاعدة كل مصلحة صادمها أصل من أصول الشريعة، وما حكاه أصحاب الشافعي عن الشافعي لا يعدو هذه المقال.26
وقال الزركشي في البحر المحيط : " إن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك"27.
وقال ابن همام : " يلزم الحنفية الشارطين للتأثير, القول بملائم المرسل عند غيرهم ويكون داخلا في المؤثر عندهم.28
إنها أقوال تتعدد وتتباين في مذاهبها وتجتمع على القول بالمصلحة المرسلة وأجمعوا على تعريفها كما قال الشلبي: " بأنه المناسب الذي ليس له أصل معين". وفيها من الدليل ما يرد قول الشلبي " وأكبر الظن عندي أن هذا النوع من المرسل لا يوجد في كلام الأئمة ".
لقد ثبت في كلام أئمة الفقه كما ثبت في فعل الصحب الكرام, فكيف يتسنى لنا إنكار واقع الصحب الكرام وما جرى فيه من المناسب المرسل وأدهى مما ساقه الشلبي, وهو ما قاله أحمد الريسوني حين ناقش الطوفي في ما ذهب إليه من كون المصلحة ترجح على النص عند التعارض: " ولهذا نقول على غرار الطوفي : " فمن المحال " أن يخلو حكم من أحكام الله, ونص من نصوصه من حفظ المصلحة, فضلا عن أن يعارضها".29
ويضيف : " والنتيجة المنطقية الحتمية لكل ما قدمته من كلام الطوفي هي أن تقول : لا يوجد نص وحكم شرعي إلا وفيه جلب مصلحة أو مصالح، أو فيه درء مفسدة أو مفاسد، ومن أعجب العجب, أن يرتب المرء على ذلك استنتاجا عكسيا!.
والطوفي حين تحدث عن تعارض النص مع المصلحة لم يقدم أي مثال لذلك لا من الفقه ولا من الواقع ولا حتى على سبيل التخفيف والتقدير, غير أني أسعف دعواه تلك ببعض الأمثلة حتى يتم تفنيد الدعوى أصلا وفروعا30".
وفي محاولة للاستشهاد, ساق الريسوني أمثلة من كتاب بداية المجتهد لابن رشد حيث قال :
" فأما الطلاق الذي يقع بالإيلاء, فعند مالك والشافعي أنه رجعي لأن الأصل " كل طلاق وقع بالشرع أنه يحمل على أنه رجعي إلى أن يدل الدليل على أنه بائن", وقال أبو حنيفة وأبو الثور هو بائن وذلك إن كان رجعيا لم يزل الضرر عنها بذلك لأنه يجبرها على الرجعة، فسبب الاختلاف معارضة المصلحة المقصودة بالإيلاء للأصل المعروف في الطلاق, فمن غلب الأصل قال : رجعي ومن غلب المصلحة قال بائن."31،
قال الريسوني : والأصل الذي يشير إليه راجع إلى النص ومأخوذ منه, وهو النص الذي جاء في موضع واحد وسياق واحد مع النص الذي ذكر الإيلاء وحكم بالطلاق عند عدم الفيء إلى الزوجة، قال الله تبارك وتعالى :
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} البقرة 226-229
وأفاض في دلالة الآية وكون طلاق المولي : طلاقا رجعيا واعترض على من قال بأن طلاق المولي بائن بقوله :
" وهذا الاتجاه ينبني على اعتبار أن الطلاق الرجعي في هذه الحالة يحفظ المصلحة وهذا مجرد افتراض قصير النظر ثم أفاض في بيان ذلك.32..
والذي تنبغي الإشارة إليه في هذا الصدد أن طلاق المولي لا يستجيب لتعريف المصلحة : بأنه المناسب الذي لم تشهد له الشريعة لا باعتباره ولا بإلغائه، لكون طلاق المولي جاء مقننا بضوابط نصية فأين هي المصلحة المرسلة؟ ؛ لكن يبقى هذا دليلا على القول بالمصلحة لدى الحنفية وأبي ثور، وكان أولى بالريسوني أن يرجع إلى كتاب تعليل الأحكام ليقتبس جملة من المصالح المرسلة عمل بها الصحابة الكرام وهذه أمثلة لبعضها :
- تعطيل إقامة الحدود في دار الحرب مخافة أن يلحق أهلها بالعدو.
- سهم المؤلفة قلوبهم وتعطيل عمر بن الخطاب له.
- خروج النساء إلى المساجد ؟؟؟
- قيام رمضان بجماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم وامتناعه عليه السلام مع بيان السبب.
- ضالة الإبل وحكمها في زمنه عليه السلام وزمن عثمان وعلي بن أبي طالب.
- تقدير دية العاقل من الإبل لفعله عليه الصلاة والسلام ورأي عمر بعده في ذلك.
- تدوين عمر الدواوين.
- منع عمر بن الخطاب النصارى واليهود من أسواق المسلمين أن يكونوا صيارفة أو جزارين.
- منع عمر t نكاح الكتابية من المسلم وقد عدها الله جلت قدرته من الحلائل.
- صلاة عثمان بمنى صلاة تامة من أجل كثرة الأعراب عامئذ.
- والأمثلة كثيرة33.
-------------
هوامش:
1 - التعارض والترجيح لمحمد الحفناوي , ص : 104 إلى 132.
2 - أصول الفقه لأبي زهرة , ص : 364 – 366 ( باختصار شديد).
3 - أنظر تنقيح الفصول للقرافي , ص : 446 .
4 - أنظر شرح الأسنوي , 3 / 136
5 - أنظر المستصفى , ج . 1 296 .
6 - انظر أحكام الأحكام، ج4/296.
7- التعارض والترجيح لمحمد الحفناوي، ص 116-118 بتصرف.
8 - المستصفى للغزالي , ج . 1 / 294 – 296 . هكذا يشهد الغزالي رحمه الله على هذه الواقعة بأنه لم يشهد لها أصل معين ثم استدرك فهذا مثال مصلحة مأخوذة بطريق القياس على أصل معين ...
ويأبى الكمال أن لا ينتمي إلا لله فالغزالي هو من وقف في وجه شيخه إمام الحرمين لما قال: فما قولكم في الساقط على السطح على مصروع, إن تحول عنه إلى غيره قتله, و إن مكث عليه قتله, فماذا يفعل و قد قضيتم بأن لا حكم لله فيه؟ قلنا حكم الله أن لا حكم فيه.فهذا أيضا حكم وهو نفي الحكم, وعقب عليه الغزالي بقوله ولم أفهمه بعدها وكررته عليه مرارا. و لو جاز أن يقال نفي الحكم حكم : لجاز ذلك قبل ورود الشرائع وبعد فتورها وعلى الجملة جعل نفي الحكم حكما تناقض, فإنه جمع بين النفي والإثبات إن كان لا يعني تخيير المكلف بين الفعل وتركه وإن عناه فهو إباحة محققة, لا مستند له في الشرع ( راجع المنخول ص 599 بتحقيق حسن هيتو) وسبق هذا الاستشهاد إثر الكلام " في تقدير خلو واقعة عن حكم الله مع بقاء الشريعة على نظامها ".
9 - المصلحة في الشريعة الإسلامية للدكتور مصطفى زيد , ص : 17.
10 - المصدر السابق , ص : 18.
11 - مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه لعبد الوهاب خلاف , ص : 141.
12 - نفسه, ص : 143.
13 – ضوابط المصلحة للبوطي ص: 115 - 116
14 – نفسه, ص 117.
15 - الموافقات, ج2/11 نقلا عن ابن العربي.
16 - الإحكام للآمدي , ج . 4 / 167.
17 - العقد المنظوم في الخصوص والعموم للقرافي , ج .1/ 345 .
18 - أنظر تاريخ التشريع له ص 441 و ما بعدها.
19 - جريدة النشرة لصاحبها محمد حفيظ العدد173 لتاريخ 5- 11- أبريل 1999 حوار مع الورياغلي امحند عضو المجلس العلمي الإقليمي بتطوان وأستاذ الدراسات العليا بكلية أصول الدين حاوره محمد لمرابط .
20 - نفس المصدر السابق.
21 - رواه الترمذي كتاب فضائل القرآن باب ما جاء في فضل القرآن حديث 2906 وهو حديث صحيح لغيره لكثرة شواهده عن علي بن أبي طالب.
22 - أخرجه الإمام أحمد, ج 5/ 154 عن أبي ذر t .
23 - تعليل الأحكام لمحمد مصطفى الشلبي.
24 - مختصر التنقيح , وانظر المصدر السابق , ص : 272.
25 - تعليل الأحكام للشلبي, ص : 271- 272.
26 - يرحم الله شيخي سيدي لمربح كان يقول ما الشافعي من مالك إلا القاضي أبو يوسف من أبي حنيفة ومذهب الشافعي تأصيل لمذهب مالك .
27 - تعليل الأحكام للشلبي، ص 271-272.
28 - نفسه.
29 - نظرية التقريب والتغليب, ص : 362- 363 .
30 - نفسه.
31 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد , ج . 2/ 76 .
32 –انظر التقريب والتغليب، ص. 363-364
33- انظر كتاب تعليل الأحكام للشلبي، من ص: 36 إلى 71