‘‘العصفورية‘‘
خرائط عربستانية على مفرش .. أرابيسك
ليس هذا المقال في رثاء الوزير والسفير المخالف ل والمختلف عن المؤسسة الرسمية بحود ماتسمح به ظروفه ومعطيات واقعه السعودي والشاعر والروائي والقاص ورجل الإدارة اللامع محمد غازي القصيبي الذي رحل عن عالمنا صبيحة الأحد الفائت 15 / 8 فاقدين برحيله قامة أدبية عالية تركت خزينا كبيرا في مختلف الأجناس الأدبية ليس هنا أيضا موطن الكتابة عنها، بل هو موطن الكتابة عن روايته الرائعة ‘‘العصفورية‘‘، التي كنت أتهيأ للكتابة عنها حين قرأت خبر وفاته، تغمده الله بواسع رحمته. صدرت الرواية عام 1996 ، بعنوان يحمل عدة دلالات: ‘‘العصفورية‘‘ هو الفضاء الذي يحتضن الرواية وهو – في اللبنانية المحكية – مستشفى للمجانين وهو إذن فضاء محدود ومغلق على أحداثه وساكنيه ، الدلالة الثانية أن كل مايدور في فلك هذا الفضاء ينتمي لأفعال وأقوال المجانين وتفسيرها وتأويلها من قبل أطبائهم وهذا يجعل الرواية ضمن استقطابين اثنين: المجنون وطبيبه، والدلالة الثالثة الناجمة عن هذا الفضاء المحدود والمغلق ولكن البطن الثري بما يروى فيه وعنه الأمر الذي يأخذنا إلى جنس ‘‘الفانتازيا‘‘ ويذكرنا بأسلوب السرد واللغة الفصيحة الرشيقة الذكية بأسلوب الجاحظ وهو يحكي عن بخلائه وطفيلييه، كذلك يذكرنا في موقع ما بطريقة المعري في رسالة غفرانه حيث السرد ‘‘تداع حر‘‘ منفلت من أية قواعد من شأنها أن تحدد وجهته التي هي النبش في عمق المحيط العربي وإخراج مافيه من مشكلات وأمراض سياسية واجتماعية وسوسيولوجية ومعرفية، مع عرض موسع لإشكالية المجتمع والسلطة وجدلية السلطة والمعرفة، تبدأ الرواية بمدخل أو مشهد البروفسور الراوي يسأل عن طبيبه الذي يدخل هادئا واثقا بنفسه حليما كما يجدر بطبيب نفسي، وتنتهي بمخرج أو مشهد يكون فيه الطبيب داخل الغرفة إياها يسأل عن البروفسور الذي اكتشف أنه فر من المستشفى وبقي هو عالقا في الغرفة إياها التي أمضى فيها وقتا طويلا يستمع فيه إلى مريضه البروفسور يهلوس ببعض ماعلق بذهنه من حكاياه عن زواجه بفراشة ودفّاية وهما إمرأتان من عالم الجن والممرض يبتعد مذعورا وهو يقول: الدكتور ثابت جن الدكتور ثابت جن والدكتور يجلس على الأرض ويطلق ضحكات هستيرية، لقد فرّ المريض ‘‘البروفسور‘‘ بعد أن أفضى جعبته أفقيا وعموديا على مسامع الطبيب الذي جن ليس لسماعه لحكايا المجنون بل ربما – وهذا رأيي الشخصي – لأنه رأى واقعا وفهم حقائق وأدرك نتائج لم يكن يعرفها، والطبيب في ذلك يشبه بطل ‘‘كافكا‘‘ في رواية ‘‘المحاكمة‘‘ الإنسان العادي البريئ الذي يجد نفسه متورطا في أزمة كبرى لاعلاقة له بها سوى بيروقراطية متوحشة تودي به إلى مصيره الذي يواجهه وحيدا، هذا العالم الكافكاوي الكابوسي ولكن الساخر بمرارة يطالعنا في رواية العصفورية، إنه ينكأ الجراح جميعها في العالم العربستاني، والخليجعربستاني، ثم ينفد إلى العالم وأزماته ، يروي البروفسور روايته عبر استعارته لقناع ‘‘المتنبي‘‘ أو ‘‘أبي حسيد‘‘ وتوحده معه ولهذا مايبرره، حيث المتنبي الرائي لمشاكل زمانه ومصائبه الشاكي والمتشكي منه ومن ناسه، واضع اليد على مقولتي الغربة والمنفى للإنسان داخل وطنه، وصاحب الحكم الشهيرة في غربة الإنسان في هذا العالم، والقصيبي إذ يفرش روايته العربستانية على مفرش أرابيسك - إذا جاز القول – وفي مستشفى المجانين حصرا، فإنه يستحضر المتنبي في أشعاره التي تملأ الفضاء مرة للاستشهاد به، وأخرى لمخالفته، وثالثة للمقارنة به، ورابعة للسخرية منه وكأنه يقول: ذاك المتنبي وزمانه، وهذا أنا وزماني هل من فارق تراه أيها العربستاني؟ ولأنه يروي عن العالم العربستاني فقد حفلت اللغة باللهجات العامية التي كانت تأتي في محلها ومقامها بخفة ظل وثقافة موسوعية شاملة ليس لمعرفته بها فحسب، بل لتوظيفها البديع فيما سيقت لأجله، ولمساسها بروح الشعب التي ينطق بها، يقول في الصفحة ثلاثين وهو يعبر على ‘‘عقدة الخواجة‘‘ في أحد تداعياته: هذه العقدة ياحكيم، موجودة في كل مكان. البريطانيون يحبون العطور الفرنسية ، والمرأة الفرنسية تحب الرجل الشرقي. وصلنا إلى الجنس. بدأت تبتسم وتشعل سيجارة جديدة. من حسن الحظ أنك لاتدخن السجائر الفرنسية لأن رائحتها تصيبني بالغثيان. على عكس السجائر الأمريكية ذات النيكوتين السيكسي والتكنولوجيا المتطورة. شأنها شأن القنابل الذكية. السجائر الأمريكية يادكتور ذكية جدا ، بدليل انها تحذر الناس من أضرارها في أمريكا ولا تفعل ذلك في بلاد العالم. لاتجاوب؟ تتغابى ‘‘ليس الغبي بسيد في قومه / لكنّ سيد قومه المتغابي‘‘، هكذا يمرر القصيبي مايريد قوله بمثل خفة الظل هذه وأناقة التمرير وذكائه، وحسه اللغوي العالي بالمفردة وإيحاءاتها، انظروا كيف يتبع الفقرة السابقة بهذه وهو يتطرق فيها لمقولات كبرى تستدعي لغة أخرى، أو بالأحرى رطانة الكتابات الملتزمة وتجهم مفرداتها ، لكنه يستبدل ذاك بلغة خام على قماشة أصيلة من الفصاحة الجزلة الممتلئة حيوية وسيولة دون الرطانة الكئيبة ومفرداتها الصوتية العالية التي جعلت الآخرين يصفوننا – بحق – ظاهرة صوتية، يقول القصيبي في إحدى استطراداته أو تداعياته: ‘‘موضوعنا إعجاب المرأة الفرنسية بالرجل الشرقي. وهذه مقولة اختبرتها بنفسي. لاحظ دقة التعبير. قلت مقولة ولم أقل نظرية. في عربستان ياحكيم خلط هائل بالمصطلحات فيختلف العربستانيون حتى عندما يتفقون. يخلط العربستانيون بين المقولة والنظرية والقانون. مع أن الفروق شاسعة. يعتقدون أن كل نظرية علمية صحيحة . وهذا هراء غير علمي. المقولة ياحكيم، هي مجرد زعم. كل إنسان يستطيع أن يأتي بمقولة. هناك ملايين المقولات‘‘. رواية العصفورية ولو أنها تنتمي إلى الروايات الانتقادية، لكنها من الظلم أن تختزل إلى هذا وحده، إنها رواية تقرأ للاستمتاع بعدة مستويات: الأدب ولغته الرفيعة، المتعة القصوى التي تتيحها خفة الظل وحس السخرية، وهي أخيرا صرخة في واد نتمنى ألا يكون بغير ذي زرع. رحم الله القصيبي، لكننا نقول: ماتركته يمكث في الأرض.
خرائط عربستانية على مفرش .. أرابيسك
ليس هذا المقال في رثاء الوزير والسفير المخالف ل والمختلف عن المؤسسة الرسمية بحود ماتسمح به ظروفه ومعطيات واقعه السعودي والشاعر والروائي والقاص ورجل الإدارة اللامع محمد غازي القصيبي الذي رحل عن عالمنا صبيحة الأحد الفائت 15 / 8 فاقدين برحيله قامة أدبية عالية تركت خزينا كبيرا في مختلف الأجناس الأدبية ليس هنا أيضا موطن الكتابة عنها، بل هو موطن الكتابة عن روايته الرائعة ‘‘العصفورية‘‘، التي كنت أتهيأ للكتابة عنها حين قرأت خبر وفاته، تغمده الله بواسع رحمته. صدرت الرواية عام 1996 ، بعنوان يحمل عدة دلالات: ‘‘العصفورية‘‘ هو الفضاء الذي يحتضن الرواية وهو – في اللبنانية المحكية – مستشفى للمجانين وهو إذن فضاء محدود ومغلق على أحداثه وساكنيه ، الدلالة الثانية أن كل مايدور في فلك هذا الفضاء ينتمي لأفعال وأقوال المجانين وتفسيرها وتأويلها من قبل أطبائهم وهذا يجعل الرواية ضمن استقطابين اثنين: المجنون وطبيبه، والدلالة الثالثة الناجمة عن هذا الفضاء المحدود والمغلق ولكن البطن الثري بما يروى فيه وعنه الأمر الذي يأخذنا إلى جنس ‘‘الفانتازيا‘‘ ويذكرنا بأسلوب السرد واللغة الفصيحة الرشيقة الذكية بأسلوب الجاحظ وهو يحكي عن بخلائه وطفيلييه، كذلك يذكرنا في موقع ما بطريقة المعري في رسالة غفرانه حيث السرد ‘‘تداع حر‘‘ منفلت من أية قواعد من شأنها أن تحدد وجهته التي هي النبش في عمق المحيط العربي وإخراج مافيه من مشكلات وأمراض سياسية واجتماعية وسوسيولوجية ومعرفية، مع عرض موسع لإشكالية المجتمع والسلطة وجدلية السلطة والمعرفة، تبدأ الرواية بمدخل أو مشهد البروفسور الراوي يسأل عن طبيبه الذي يدخل هادئا واثقا بنفسه حليما كما يجدر بطبيب نفسي، وتنتهي بمخرج أو مشهد يكون فيه الطبيب داخل الغرفة إياها يسأل عن البروفسور الذي اكتشف أنه فر من المستشفى وبقي هو عالقا في الغرفة إياها التي أمضى فيها وقتا طويلا يستمع فيه إلى مريضه البروفسور يهلوس ببعض ماعلق بذهنه من حكاياه عن زواجه بفراشة ودفّاية وهما إمرأتان من عالم الجن والممرض يبتعد مذعورا وهو يقول: الدكتور ثابت جن الدكتور ثابت جن والدكتور يجلس على الأرض ويطلق ضحكات هستيرية، لقد فرّ المريض ‘‘البروفسور‘‘ بعد أن أفضى جعبته أفقيا وعموديا على مسامع الطبيب الذي جن ليس لسماعه لحكايا المجنون بل ربما – وهذا رأيي الشخصي – لأنه رأى واقعا وفهم حقائق وأدرك نتائج لم يكن يعرفها، والطبيب في ذلك يشبه بطل ‘‘كافكا‘‘ في رواية ‘‘المحاكمة‘‘ الإنسان العادي البريئ الذي يجد نفسه متورطا في أزمة كبرى لاعلاقة له بها سوى بيروقراطية متوحشة تودي به إلى مصيره الذي يواجهه وحيدا، هذا العالم الكافكاوي الكابوسي ولكن الساخر بمرارة يطالعنا في رواية العصفورية، إنه ينكأ الجراح جميعها في العالم العربستاني، والخليجعربستاني، ثم ينفد إلى العالم وأزماته ، يروي البروفسور روايته عبر استعارته لقناع ‘‘المتنبي‘‘ أو ‘‘أبي حسيد‘‘ وتوحده معه ولهذا مايبرره، حيث المتنبي الرائي لمشاكل زمانه ومصائبه الشاكي والمتشكي منه ومن ناسه، واضع اليد على مقولتي الغربة والمنفى للإنسان داخل وطنه، وصاحب الحكم الشهيرة في غربة الإنسان في هذا العالم، والقصيبي إذ يفرش روايته العربستانية على مفرش أرابيسك - إذا جاز القول – وفي مستشفى المجانين حصرا، فإنه يستحضر المتنبي في أشعاره التي تملأ الفضاء مرة للاستشهاد به، وأخرى لمخالفته، وثالثة للمقارنة به، ورابعة للسخرية منه وكأنه يقول: ذاك المتنبي وزمانه، وهذا أنا وزماني هل من فارق تراه أيها العربستاني؟ ولأنه يروي عن العالم العربستاني فقد حفلت اللغة باللهجات العامية التي كانت تأتي في محلها ومقامها بخفة ظل وثقافة موسوعية شاملة ليس لمعرفته بها فحسب، بل لتوظيفها البديع فيما سيقت لأجله، ولمساسها بروح الشعب التي ينطق بها، يقول في الصفحة ثلاثين وهو يعبر على ‘‘عقدة الخواجة‘‘ في أحد تداعياته: هذه العقدة ياحكيم، موجودة في كل مكان. البريطانيون يحبون العطور الفرنسية ، والمرأة الفرنسية تحب الرجل الشرقي. وصلنا إلى الجنس. بدأت تبتسم وتشعل سيجارة جديدة. من حسن الحظ أنك لاتدخن السجائر الفرنسية لأن رائحتها تصيبني بالغثيان. على عكس السجائر الأمريكية ذات النيكوتين السيكسي والتكنولوجيا المتطورة. شأنها شأن القنابل الذكية. السجائر الأمريكية يادكتور ذكية جدا ، بدليل انها تحذر الناس من أضرارها في أمريكا ولا تفعل ذلك في بلاد العالم. لاتجاوب؟ تتغابى ‘‘ليس الغبي بسيد في قومه / لكنّ سيد قومه المتغابي‘‘، هكذا يمرر القصيبي مايريد قوله بمثل خفة الظل هذه وأناقة التمرير وذكائه، وحسه اللغوي العالي بالمفردة وإيحاءاتها، انظروا كيف يتبع الفقرة السابقة بهذه وهو يتطرق فيها لمقولات كبرى تستدعي لغة أخرى، أو بالأحرى رطانة الكتابات الملتزمة وتجهم مفرداتها ، لكنه يستبدل ذاك بلغة خام على قماشة أصيلة من الفصاحة الجزلة الممتلئة حيوية وسيولة دون الرطانة الكئيبة ومفرداتها الصوتية العالية التي جعلت الآخرين يصفوننا – بحق – ظاهرة صوتية، يقول القصيبي في إحدى استطراداته أو تداعياته: ‘‘موضوعنا إعجاب المرأة الفرنسية بالرجل الشرقي. وهذه مقولة اختبرتها بنفسي. لاحظ دقة التعبير. قلت مقولة ولم أقل نظرية. في عربستان ياحكيم خلط هائل بالمصطلحات فيختلف العربستانيون حتى عندما يتفقون. يخلط العربستانيون بين المقولة والنظرية والقانون. مع أن الفروق شاسعة. يعتقدون أن كل نظرية علمية صحيحة . وهذا هراء غير علمي. المقولة ياحكيم، هي مجرد زعم. كل إنسان يستطيع أن يأتي بمقولة. هناك ملايين المقولات‘‘. رواية العصفورية ولو أنها تنتمي إلى الروايات الانتقادية، لكنها من الظلم أن تختزل إلى هذا وحده، إنها رواية تقرأ للاستمتاع بعدة مستويات: الأدب ولغته الرفيعة، المتعة القصوى التي تتيحها خفة الظل وحس السخرية، وهي أخيرا صرخة في واد نتمنى ألا يكون بغير ذي زرع. رحم الله القصيبي، لكننا نقول: ماتركته يمكث في الأرض.