حلقة مع الموت
رغد - النسمة الحائرة
رام الله، صيف 2002
لم تعد السيارة تحت سيطرتي، تتراشقني نيران القناصة من كل اتجاه. يا للجبناء، من أكون أنا ليسلطوا علي كل تلك النيران. أتكون هذه حياتي؟ أيكون هذا موتي؟ أهذا كل شيء؟ سأمووووت..... يا ربي سأموت!!! ما زال ينقصني عُمر، لم أكمل قصة حياتي. يا الله! لا أحتاج لعمرٍ أطول، فقد نلت نصيبي من الأحزان، أريد فقط أن أنهي الفصل الأخير، أريد أن أطمئن على أحبتي... أختي أغاريد، عمي المريض... أبناء عمي المتناحرين... شهادة الدكتوراة... أيكون هذا دمي الذي انتثر على زجاج السيارة؟ فقدت الاحساس بكتفيّ، صدري ثقيلٌ جداً، لقد انقطعت أنفاسي، علي أن أنطق بالشهادة، أضعت لحظاتي الأخيرة وأنا أفكر في دنياي، فهل أضعت عقباي؟ دمي ينهمر كالشلال، لا أقوى على التشهد، لا أقوى على التسليم... قتلني الجبناء، قتلوني! ليتني أقتلهم، سأفتك بهم. ليتني أنتقم.
هل تٌكتب لي الشهادة أم أنني لا أستحقها؟
لا أبصر سوى الدخان،
لا أسمع سوى النيران،
لا أشعر أنني كنت في يومٍ إنسان،
ها أنا أموت مع السؤال نفسه، من أكون؟
‡‡رغد مريد السيد ‡‡
۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞
۩۩ رام الله، 2002تلك رغد، نسمتي الحائرة. بدأت انتفاضة الأقصى، داهم الجيش الاسرائيلي جميع أنحاء رام الله واستهدفت قناصته جميع من في الشارع العالقين خارج بيوتهم. كانت رغد إحداهم. كان هذا قدرها الذي فتح لي باب الدخول إليها من بعد أن هجرتني يائسة من أحلامها.
علمت أنها لو سلكت تلك الطريق ستستهدفها نيران الجنود الصهاينة، ولو أنها كانت تقبل رؤيتي أو سماعي لحذرتها. ولكنها اختارت قدرها. اختارت أن تكون ككل الناس، مسيّرة، محتارة، عاجزة.
هجرتني بسببه، بشير السيد، في ذلك اليوم الذي تحطم فيه قلبها كالزجاج تآكلتني أوجاعها كحجارة الجير الحارقة. هو هجرها فرفضَت البكاء، أبت الانهزام. وبنت جداراً عازلاً حول مشاعرها. أقنعتها الآهات الضجرة بأن خير وسيلة للتحصن ضد خيبة الأمل هي التخلي عن الأمل.
وها أنا أقف قربها في غرفة الطوارئ، وهي لا تراني ولا تسمعني أرى دماءها تسيل على الأرض، وعيناها مغلقتان. لو يعلم أولئك الذين قتلوك أن لك قلباً نقياً لا تنضب فيه الحياة لما عمدوا إلى إيذاءك، لو علم أولئك الأطباء الذين تركوا جسدك لينزف ظانين أن لا أمل لنجاتك أن ما يين أناملك الحياة لما يئسوا منك. أنا لم أيأس من عودتك إلي يا نسمتي الحائرة، أعرف أن الطريق أمامك مازال ضبابياً، وقريباً ستدركين الدرب. أصمدى لدقائق، لن يكون اليوم موتك، فالنجدة قادمة.
۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞
إسراء _ النسمة الحرة
في اللحظة الآنية
إسراء _ النسمة الحرة
في اللحظة الآنية
لن أنسى في حياتي ذلك اليوم الذي وصلت فيه رغد على سرير مُدَولب إلى زقاق المستشفى في رام الله.رأيت وجهها لحظة إنزالها من سيارة الإسعاف ورأيت خصلة من شعرها تتراقص مع نسمات الجو، وذلك رغم اتساع المسافة التي كانت تفصلني عن المدخل. ما زلت أذكر إعجابي بحلاوة شبابها النضر! ضمختها الدماء دون أن تمحو من وجهها السلام. وصل إليها المسعفون بعد ساعتين من إصابتها من شدة الرصاص، فنزفت حتى كادت عروقها أن تجف. لم يكترث الأطباء بها، وتباطؤوا في إسعافها. حتى دخل ذلك الرجل على الكرسي المتحرك يصرخ: " ابنتي، ابنتي! إلى من تتركيني، أنت من يحن علي. كنت قد عاهدت نفسي أن أمحو الآلام عن جبينك، كنت أتمنى أن تدفنيني لا أن تدفنك هذه الأذرع المهترئة العاجزة. قومي يا ابنتي فامسحي الدمع عن خد عمك المكلوم، المهموم، المعدوم، موتك هو إعدامي، أنجدوها يا ناس، وخذوا كل مالي، أنجدوها وخذوا ما تبقى من عمري، لا تتركوها تموت، هي الأمل لذكرى لن تعود، هي الأمانة التي تركها لي أخي رحمه الله ولم أصنها، أعيدوا لي الأمانة حتى يتسنى لي أن أصونها."
أبكي ذاك الرجل مقلتي، فما أصعب حاله! كسيحاً، مريضاً، وعاجزاً. اقتربتُ منهما في ذلك الممر الدامي فلمحت حركة في ذراع رغد. فاستصرخت الأطباء والممرضين وقلت لهم أنها ما زالت تتنفس، وعليهم إنقاذها. كنت متطوعة أساعد المسعفين ببعض الضماد والإسعافات وليس لمشورتي ثقل في لحظات ينهال فيها الموت علينا كحجارة من السماء، لا يذر شاباً ولا طفلاً ولا امرأة. حتى كان بطبيبٍ سمع صوت ندائي واستجدائي، فاقترب وهو ينظر إلى رغد، ففتح عينيه بصدمة قوية وقال: "هذه بنت مريد وحنان!". ونظر إلى عمها المقعد، والذي كان لتوه قد رفع رأسه ناظراً إلى الطبيب بعينين يملأهما الترجّي والأمل وقال الطبيب حينها: "مراد؟ مراد السيد؟" وساد الصمت لوهلة. ورأيت الغضب يتفجر في عيني الطبيب الذي تصرف بسرعة ونادى على الممرضين لينقلوا رغد إلى غرفة العمليات. وظل الرجل المقعد في مكانه لا ينطق بكلمة بعد أن مسمرته شزرات ذلك الطبيب، حتى أنه لم يبادر بالتعريف عن نفسه أو تأكيد صحة اسمه. ظل يتهرب بنظراته بعيداً، ومن ثم غادر المستشفى، وحده يجر كرسيه المتحرك.
ما سمعته لاحقاً عن مراد السيد، عم رغد، وولي أمرها، هو أنه رجل طموح يحب المال، ولا يألو أمراً يعينه على الحصول على المزيد منه، كثرت منه المظالم و أحبه البعض ممن كانوا يعملون في شركاته ومشاريعه التي ملأت رقعة البلاد التي كانت ما تزال مأهولة بأصحابها الشرعيين من العرب، وكانت له تعاملات مالية مشبوهة مع السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلة. ولكنني لم أبحث عن دليل على تلك الأقاويل فقد لا تتعدى كونها شائعات يتناقلها الناس لحبهم اتهام كل رجل ناجح بالفساد. أعترف أنني أكاد أصدق تلك الأقاويل، لأن الأموال الطائلة والأملاك الهائلة التي في حوزته، واستحواذه على كافة المقاولات والمشاريع الإنشائية التي تطرحها السلطة أمر يبعث إلى الشك خاصة وأن لعبة الحكم صارت مكشوفة في فلسطين.
رؤيتي لرغد في ذلك اليوم كان سيمر دون ذكرى لولا أنني رأيت أبا نور إلى جانبها لا يفارقها. إذاً فتلك هي النسمة التي أعياك هجرها يا أبا نور؟ تريد أن تبني الكتيبة الأولى من جيش النسائم، وهي الحلقة الضائعة التي تظل تخبرني عنها؟ لن أنكر غيرتي وقتها، ولكن فضولي تفوق على غيرتي أردت أن أعرف ما يميز تلك الفتاة حتى تستحوذ على عقلك يا ابن سرمد؟ من تكون تلك الفتاة؟
أبكي ذاك الرجل مقلتي، فما أصعب حاله! كسيحاً، مريضاً، وعاجزاً. اقتربتُ منهما في ذلك الممر الدامي فلمحت حركة في ذراع رغد. فاستصرخت الأطباء والممرضين وقلت لهم أنها ما زالت تتنفس، وعليهم إنقاذها. كنت متطوعة أساعد المسعفين ببعض الضماد والإسعافات وليس لمشورتي ثقل في لحظات ينهال فيها الموت علينا كحجارة من السماء، لا يذر شاباً ولا طفلاً ولا امرأة. حتى كان بطبيبٍ سمع صوت ندائي واستجدائي، فاقترب وهو ينظر إلى رغد، ففتح عينيه بصدمة قوية وقال: "هذه بنت مريد وحنان!". ونظر إلى عمها المقعد، والذي كان لتوه قد رفع رأسه ناظراً إلى الطبيب بعينين يملأهما الترجّي والأمل وقال الطبيب حينها: "مراد؟ مراد السيد؟" وساد الصمت لوهلة. ورأيت الغضب يتفجر في عيني الطبيب الذي تصرف بسرعة ونادى على الممرضين لينقلوا رغد إلى غرفة العمليات. وظل الرجل المقعد في مكانه لا ينطق بكلمة بعد أن مسمرته شزرات ذلك الطبيب، حتى أنه لم يبادر بالتعريف عن نفسه أو تأكيد صحة اسمه. ظل يتهرب بنظراته بعيداً، ومن ثم غادر المستشفى، وحده يجر كرسيه المتحرك.
ما سمعته لاحقاً عن مراد السيد، عم رغد، وولي أمرها، هو أنه رجل طموح يحب المال، ولا يألو أمراً يعينه على الحصول على المزيد منه، كثرت منه المظالم و أحبه البعض ممن كانوا يعملون في شركاته ومشاريعه التي ملأت رقعة البلاد التي كانت ما تزال مأهولة بأصحابها الشرعيين من العرب، وكانت له تعاملات مالية مشبوهة مع السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلة. ولكنني لم أبحث عن دليل على تلك الأقاويل فقد لا تتعدى كونها شائعات يتناقلها الناس لحبهم اتهام كل رجل ناجح بالفساد. أعترف أنني أكاد أصدق تلك الأقاويل، لأن الأموال الطائلة والأملاك الهائلة التي في حوزته، واستحواذه على كافة المقاولات والمشاريع الإنشائية التي تطرحها السلطة أمر يبعث إلى الشك خاصة وأن لعبة الحكم صارت مكشوفة في فلسطين.
رؤيتي لرغد في ذلك اليوم كان سيمر دون ذكرى لولا أنني رأيت أبا نور إلى جانبها لا يفارقها. إذاً فتلك هي النسمة التي أعياك هجرها يا أبا نور؟ تريد أن تبني الكتيبة الأولى من جيش النسائم، وهي الحلقة الضائعة التي تظل تخبرني عنها؟ لن أنكر غيرتي وقتها، ولكن فضولي تفوق على غيرتي أردت أن أعرف ما يميز تلك الفتاة حتى تستحوذ على عقلك يا ابن سرمد؟ من تكون تلك الفتاة؟
﴿﴾إسراء السلوادية﴿﴾
۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞۞