قد أتاكم نبأ البوعزيزي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • هشام البوزيدي
    أديب وكاتب
    • 07-03-2011
    • 391

    قد أتاكم نبأ البوعزيزي


    هل أتاكم نبأ سيدي بوزيد من بلاد القيروان؟
    هل أتاكم نبأ محمد البوعزيزي؟
    رجل مسلم من تونس وكفى..
    ولد ليحيا ويموت شاهدا على مأساة أمة تنوء بحمل كالجبال,
    أمة تنحت في الصخر مراثي القهر, وتذرع في القيد سراديب الأسر.
    لكن أمتي لا تسقط, أمتي نخلة جذورها في قلب الدهر,
    وهامتها تشق عنان السماء, أمتي جبل أشم في مفازة جرداء,
    جبل أحاط به الحصى والتراب.


    محمد البوعزيزي شبيهي وشبيهك, أخي وأخوك, بل أنت وأنا..
    انظر في أعماق نفسك وفي تلافيف قلبك, وفي ثنايا روحك,
    تملّ في ذكرى الصبا الأول,
    حتما ستجده هنالك, محمد, مثلي ومثلك,
    على الفطرة ولد, وفي كنف أرض الإسلام رشد,
    في بيت مثل بيتي وبيتك, في حضن الأبوة والأمومة الحانية,
    في ظل الأخوة الرحيمة, حيث تقسم اللقمة أنصافا متساوية,
    حيث تبلع الغصص المتتالية,
    حيث تتردد النصائح الغالية:
    يا محمد, عليك بخاصة نفسك, يا بني, إن للجدر عيونا وإن للإسمنت آذانا,
    أي بني, نحن نحيا لنطعم ونرتوي, دع عنك أمر العامة,
    نحن نغذوك, ونعلمك, فلا تفجعنا في نفسك,
    يشب محمد كما شببت أنت وأنا, وهو وهي,
    يتنقل بين الفصول, يحلم كما كنت تحلم بما تخبئه الأيام التالية,
    وفي كل طور جديد تتطلع إليه نظرات الأم المشفقة,
    وترمقه عيون الأخت الصغرى خاتمة العقد, فهي بفتوة الأخ البكر معجبة,
    تمضي السنون, وتتبدى الصورة, سراب خادع,
    وتعليم أنكر التعليم, منذ أعرض عن النور, وشق سبيله في الظلام, تعليم أحكم حبل الجهل حول عنقه,
    تعليم يخطف قلوبا مفعمة بالأمل تنبض بإكسير الفطرة, ليدخلها إلى نفق مظلم,
    تعليم استنسخه ذووه من خلف البحار فما أغنى عنا فتيلا.

    تنتهي الرحلة الماكرة بعد تصرم زهرة عمر الرجل, ليصطدم بجدار الوهم: "هنيئا لك الشهادة" قطعة من كاغد!
    أبهذا بعنا النفوس؟ ألهذا أفنينا الأعمار؟
    هذه شهادات تصرخ بخراب بيت من غرروا بنا, إنهم ما أرادوا قط علما ولا تعليما,
    إنهم ما شادوا تلك الفصول وأحاطوها بالأسوار والجدران مثل السجون, إلا ليغتالوا أجيالا,
    كما اغتالوك واغتالوا محمدا. إنها متاهة رعناء, إنها ضمان بقاء ما اصطلحوا عليه بالاستقرار,
    إنها ضمان لسلطانهم بالاستمرار, إنها عنوان دهاء القوم, إنها مهلكة لذرارينا.

    يمضي محمد, يبغي فرجا, يرجو رزقا وكفافا, ممن باعوه أماني خادعة في سنوات الفصل المتطاولة,
    يذكر ليالي الكد, يذكر ركام الكراريس , يذكر لوائح الكتب المقررة, يذكر غباء الملخصات المكررة,
    يذكر كيف غدت شبيبته أوراق قمار في أيدي تجار التعليم,
    يذكر كيف غدا أرقاما مربحة في حسابات من امتصوا دماء شعوب كادحة,
    يذكر مصاريف حولية تقتطع من رغيف الخبز كلما نادي الوزير:
    "ها قد حل موسم الدرس فهلموا فقد جئناكم بمناهج مستحدثة, فكتب العام الماضي عفا عليها الدهر".

    مضى محمد يرجو, عبثا يرجو, فقد نالوا منه كل الذي أرادوه, قد أخمدوا شعلة صباه,
    فليكن مثل ألوف مثله مؤلفة, حطاما على قارعة الطرقات.

    ثمة وقف محمد, يعرض خضارا, يبيع ثوما وبصلا, يظل عفيفا ولا يمد لأحد كفا,
    فهل نازع صاحبنا القوم في ملكهم؟ أم أنه دعا أحدا للخروج وشق عصا الطاعة؟
    كلا, كل ما أراد محمد أن يحس أنه أهل ليكسب لأهله لقمة, يا ملوك طوائف آخر الأزمان,
    كيف أسرتم أمتنا؟ كيف اغتلتم عزتنا, كيف وأدتم نخوتنا؟

    تدنو من محمد شرطية فتنهره وتنهاه عن تكسبه وتزجره عن تعففه,
    يقف صاحبنا, يراجع خيط أيامه, كيف أمسى -وهو الشهم- والأرض من تحته تستضعفه؟
    كيف يحيا وجراء السوء تنهشه؟ وقف محمد سامقا يراجعها, لعله عن غيها يرجعها,
    تثور فترفع كفا آثمة, تصكه, وتشتمه.

    يمضي محمد يجر مهانته, يتجرع مرارته,
    يطرق دار الوالي: "أيا أيها الراعي, هذي مظلمتي, أيا أيها الراعي, اليوم لن ألين أو يرجع لي حقي,
    اليوم لم يبق لي في الدنيا أرب, فيا أرض اشهدي, أني جئت أحمل روحي في كفي,
    فإما عدل أعود به, وإما أخلف عند الباب أشلائي.."

    لم يع بنو عَلمان زلزال البوعزيزي,
    لم يدروا أي إعصار ماج به,
    لم يدروا أن عروشهم بنفث حشاه عم قريب تندك,
    لم يجد محمد إلا أبوابا موصدة, لم يلق إلا آذانا مصمتة,
    وكيف يحفل بنو علمان لمظلمة نفس مسلمة,
    وما قاموا إلا لهدم صروح الحق.

    ساعتها دقت في أحشاء المظلوم طبول الحرب,
    توقّد نارا شب لها عظم وشعر وبشر,
    ولعل لفح النار في مهجته هو الذي أضرمها,
    فنار الظلم أسرع في السجر,
    يا لِفتى أعمى الجور نور بصيرته,
    ويا لفتى أحرقت شرارته عروش البغي,
    يا لفتى فتّت صرح الطغيان,
    توقّد فتانا نارا, لم يخمدها رصاص الكفر,
    رصاص جبن شق جباها وصدورا لم تعد تهاب الموت,
    شرارة صاحبنا أبطلت سحر السجان,
    شرارة صاحبنا نغصت عيش الفرعون,
    فطار لها فزعا لا يلوي على شيء,
    وفر وغدا سلطانه كلا شيء,
    شرارة صاحبنا تنطق بألف لسان,
    فيا رب اغفر لعُبيد أرداه ظلم بني علمان.


    هشام البوزيدي
    14 مارس 2011

    التعديل الأخير تم بواسطة هشام البوزيدي; الساعة 14-03-2011, 15:19.

    [gdwl]اللهم احقن دماء إخواننا في سوريا وفي كل البلاد وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا

    لا يحسن أن ينزل على أفضل رسول، أفضل كتاب بلسان مفضول, ومن لم يعقل عن الله تعالى:{‏بلسان عربي مبين} فلا عَقِل.(الزمخشري)
    قد لا توجد لغة سوى العربية, بهذا التناسق الأصيل بين الروح والكلمة والخط, كأنها جسد واحد. (جوته)
    [/gdwl]
يعمل...
X