....مراجعة للنقاط الرئيسية التي قيلت في المحاضرة الأول
**أعتقد أن قصيدة النثر محاولة جريئة ,,,على طريق إضاءة شاعرية الكتابة ,,,والتي كان لها بذورها الأولية في كتابات المتصوفة تحديداً وما القول عن أولية الكتابة الكتابة (كرامبو وبودلير) أو التنظير لها ( غربا) هو -في رأيي - قول قاصر ,, والواقع أن قصيدة النثر كانت ستظهر في الأوساط العربية عاجلاً أم آجلاً بتأثر أو بدونه ..أعتقد أن قصيدة النثر هي خطوة متقدمة على النمط الحر الذي راوح خجولاً حول الموزون باعتباره تأصيلاً ...ولا أرى أن هنالك تناقضاً في التسمية (قصيدة النثر) , إذا علمنا إن مصطلح نثر هنا اتخذ معنى اصطلاحي أوسع بكثير من المدلول المعجمي للكلمة, في الواقع هو دال على ثورية الفكرة في مقابل الموزون باعتباره تأصيلاً لا يمكن الخروج عنه
أعتقد أن اتهام قصيدة النثر بأنها دخيلة ومحاولة تغريبية لتهديم التراث هو قول غير واعي ويحتاج إلى كثير من الدلالات لإثبات وجهة نظره إذا علمنا أن الدلالة المنطقية تقتضي بالتأثر الزماني والمكاني ,,,وأبسط مثال على ذلك أن أغراض الشعر الآن –مثلاً- خرجت كثيرا عن (المدح ,الرثاء, الهجاء, الغزل, الفخر..الخ) لأن الهم الإنساني وتناقضاته الذي يحمله شاعر الآن , مختلف تمام الاختلاف عن ما كان يحمله عنترة , امروء القيس , أو المتنبي مثلاً ,,,وتلك القاعدة المنطقية تنسحب تماماً على شكل الكتابة المغايرة أيضا,, ولا يعني الاختلاف الخلاف بالضرورة ,,,,حيث لا تحتم عليّ الضرورة المنطقية أن أكتب بطريقة المتنبي لكي أقول أنه قامة عالية جدا.
** الشعر بصفة عامة وليس من حيث التعريف ,,,-أي الحد الأدنى الذي يمكن أن نتفق عليه جميعاً-هو تعبير أنساني/جمالي عبر وعاء اللغة عن رؤى و/أو رأي الشاعر عن البيئي الذي حوله
...والبيئي يتمثل في كل ما هو حول الشاعر..كالواقع السياسي..النفسي..الاقتصادي.. الاجتماعي ..العلاقة بالآخر ..الطبيعة..الخ..إذن –إذا افترضنا اتفاقنا على ما تقدم- يكون الشعر كأي بنية كلامية له شقين المعنى (الرؤيا الجمالية المتشكلة في ذهن الشاعر عن المثال في أرض الواقع) والشكل (الصياغة اللفظية التي تعبر عن تلك الرؤيا الجمالية وتوصلها للمتلقي )..والاستنتاج المنطقي الأولي لهكذا توصيف أنه إذا تغير المحيط البيئي حول الشاعر أو تغيرت رؤية هذا الشاعر للمحيط البيئي ستتغير طرائق التعبير بالضرورة ...
** لقد جاء عروض الخليل بعد أكثر من 300 سنة من الكتابة ..كان فيها الكثير, الكثير من الأنساق الوزنية تم اختيار ألأكثرها شيوعا – إحصائيا- والأكثر الباقي تم إهماله من الدوائر العروضية ,,ولكن بقي ضمن حظيرة الشعر ...مما يدل بوضوح على أن القضية توصيف إحصائي وليس تأصيلي ...وقابل لتغير والتطور جزئيا أو كليا...كالموشحات والموليا والدوبيت وشعر التفعيلة ..وقصيدة النثر
**....لقد اهتم الغرب كثيرا بكتابات المتصوفة وتحديدا ((المواقف والمخاطبات )) لنفّري و ((الطواسين )) للحلاج عبر ترجمات المستشرقين ..واعتقد أنها أثرت كثيرا في الشكل الكتابي الحديث وظهور وتطور قصيدة النثر ..تقول العبارة الشهيرة للنفّري ((إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة)) أعتقد أن هذا تحديداً ما تريد أن تقوله قصيدة النثر ...
** ظهرت قصيدة النثر في الأوساط الفرنسية مبكراً جدا في منتصف القرن التاسع عشر,وأهم من أسهم في تشكيل هذا النموذج الشعري في تلك المرحلة هو الشاعر الفرنسي بودلير جاء بعده الكثير ممن كتبوا قصيدة النثر أمثال :رامبو,وبريتون وتابعت الحركة النقدية ذلك بشغف..وتأثرت الأوساط العربية بذلك عبر الترجمات لاحقاً
**كان جبران من أوائل من ساهموا في أوائل القرن العشرين بكسر الحدود بين الشعري والنثري
عبر مقولته المشهورة إن الوزن والقافية قيدان على الإبداع، وأنا بنفسي سوف أبدأ في التخلص من هذه القيود، وأكتب شعرًا يلائم الواقع الذي أعيش ..فظهر ما سمي النثر الشعري الرومنسي ..والشعر المنثور
**يرى أدونيس ذلك الباحث الكبير أنه الرائد الأول لقصيدة النثر في العالم العربي والمبشر الأول لها عبر مجلة شعر..وبل والمسمي الأول لها عربيا ً..عبر إطلاق تسمية قصيدة النثر لأول مرة في مجلة شعر عام 1960نقلاً عن الترجمات الفرنسية ..وهو الذي حث أنسي الحاج على كتابة قصيدة النثر الذي أصبح لاحقا في نظر الكثيرين الرائد الأول لقصيدة النثر وهو صاحب الديوان الشهير (خواتم)...وشكلوا مع محمد الماغوط وزوجته سنية صالح النواة الأولى لقصيدة النثر في الوطن العربي وعبر مجلة شعر..منذ مطلع الستينيات
**الانزياح بمعناه الواسع موجود , منذ وجود الصورة الشعرية في الكلاسكيات القديمة ,,بمعنى أن أي لفظة تبتعد عن معناها المباشر تحقق الانزياح , وعلينا أن نعترف أن ذلك يمكن له أن يتحقق أيضاً في السرديات الخطابية المحضة , كقولنا أننا بحاجة لفصل قصيدة النثر عن الخاطرة حتى وإن حققت تلك الأخيرة جزء من الانزياح ..يمكننا هنا أن نستنتج منطقيا ونحن مطمئنين أن الانزياح شرط للشعر وليس سبباً يؤدي إلى الشعري بالضرورة ,, أي أن كل شعر لابدّ له أن يحقق الانزياح ,,ولكن ليس كل انزياح هو بالضرورة شعراً
** يخلط الكثير بين البساطة أسلوبياً ,,التي تحتاج فيما اعتقد لدراية كبيرة وواعية –في مجال الشعر-و إلى حس شعري رفيع وبين المباشر الصارخ ,,فيتجه من حيث يدري أو لا يدري إلى ما هو ضد الانزياح والذي هو من أهم ركائز قصيدة النثر..بدعوى الابتعاد عن الغموض والتعقيد ,,,,ويجعل العلاقة سطحية خطية بين المبنى/المعنى بمباشرة ووضوح قاسي ...
وبالتالي نفقد أهم ما تحتاجه الصورة الشعرية هو التخييل..
**السرد لغةً هو تعاقب الكلام ضمن سياق مترابط ..وبهذا المعنى لن يكون السرد إطلاقاً ضد الشعر..لأن تعاقب الكلام ترابطياً لا يعني بالضرورة التسطح فتعاقب التصوير الشعري المتصل لن يمنع أن يكون التصوير رؤيوي كثيف..كما أن التدفق المتقطع لا يمنعه أيضاً...مما يعني أن السرد في قصيدة النثر غير متعلق بالسطحي أو الكثيف ..قد يكون هذا وقد يكون هذا وقد يكون ذاك
***
أعتقد أن هنالك مفاصل اصطلاحية مهمة يجب الولوج في ثناياها عند الحديث عن قصيدة النثر ومحاولة رصدها مهفوميا وعلاقاتها التأثيرية والتأثيرية وأهمها الإيقاع
.... اعتقد انه كان من الطبيعي تغير طرائق التعبير عند تغير الهم المُعبر عنه ... لا انتقادا أو تقليلاً من الماضي وإنما انسجاماً مع الواقع المُعبر عنه ..عبر توظيف منظومات إيقاعية تقول الشعري/الجمالي لا ضمن الرتيب الخطي وإنما ضمن الفوضوي المركب ...لتبدأ الغنائية بالتراجع أمام الدفق الإيقاعي الممثل بتفجير كثافة المعنى
... فكما كان التركيب التصويري مغايراً عبر الاستخدام للفظي المغاير...سيتبع ذلك بالضرورة تغاير الإيقاعي الشكلي..لأنه ناتج عنه...وبالتالي الشكلي الجاهز, لن يحقق بالضرورة التصويري المغاير ..لأن الإيقاعي /الموسيقي يتبع اللفظي المتأتي من الذهني المتصور عند الشاعر عن الواقع/المثال المحيط وليس العكس ..ومن هنا تحديدا كانت جاهزية القالب قيد كما يقول جبران خليل جبران ...وليس للأمر علاقة ببراعة الشاعر أم لا
**إن القول بأن قصيدة النثر تقبل التعايش مع الموزون هو إلغاء للفكرة الأساس لنشوء قصيدة النثر باعتبارها الحل لقيد الموزون وليست صياغة شعرية متغيرة شكلا ....مع التأكيد طبعا أن هذا ليس له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالمساس بالتراث ...لأن التراث كانت تحكمه ظروف زمانية ومكانية تختلف كثيرا عن تلك التي تحكمت بظهور قصيدة النثر
....الحديث بتفصيل قليلاً حول الاعتراضات على مشروعية قصيدة النثر
لقد ارتبطت فكرة عدم تقبل طرائق التعبير الحديثة عموماً وقصيدة النثر خصوصاً , بفكرة أن المورث الثقافي العربي هو الشكل الأسمى للتعبير وما دونه هو نقص, بمعنى أنه كلما اقتربنا من الماضي اقتربنا من التعبير المثال على المستوى البشري وكلما ابتعدنا عنه كانت القيمة الأدبية أقل والفكرة أدنى , هكذا وبحسب هذه الفكرة تكون نظرة الإنسان للعالم حوله وأيضا طرائق تعبيره عن هذه النظرة هي ثابتة إلى حد كبير , ترتقي إبداعياً باقترابها من الماضي المثال وتنحدر بابتعادها عنه , فكانت الحداثة في المجال الأدبي وطرائق التعبير تحديداً - بحسب هذه النظرة – هي تشكيلات مغايرة صورياً فقط للماضي المثال , دون اللجوء أو حتى تقبل فكرة اللجوء إلى تشكيلات مغايرة جزئيا أو جذرياً لتشكيلات التعبير الماضي , لأن هكذا خروج من وجهة نظر هذه الدعوى هو انحدار , بل وأكثر من ذلك هو محاولة لمحاربة ذلك المثال فانعكست ضراوة الدفاع عن هذه الفكرة على مدى شراسة الهجوم على كل ما من شأنه محاولة لدحضها ,,
إن هذه النظرة بالأساس جاءت من الارتباط الوثيق بين الموروث الثقافي العربي والموروث الديني الإسلامي , عندما نزل القرآن الكريم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بوصفه كلام الله عزّ وجل الكامل بلا باطل..كان تحدي معجز للفصاحة العربية بكل أشكالها التعبيرية فاعتبر أصحاب هذه النظرة أن لأشكال التعبيرية القائمة وعلى رأسها الشعر بشكله العمودي هي أرقى التعابير الإنسانية بوصفها ارتقت أن تكون موضعاً لأن يتحداها القرآن الكريم إعجازياً ,,,و قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ((خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ))...فكانت الفكرة عند هؤلاء أن أرقى شكل تعبيري هو ذاك لأنه موضع هذا التحدي ..وهو أيضاً صادر عن خيار الناس ,,,وقد عزز كثيراً الدفاع عن هذه الفكرة , الهجمات الاستعمارية والثقافية منها تحددا وحملات المستشرقين التي كانت في معظمها تحاول تهديم التراث العربي ..فكانت قصيدة النثر من أكثر الأشكال التعبيرية محاربةً..كونها تخرج جذرياً عن المثال الماضي من جهة ..وكونها ذات تأصيل في الحضارة الغربية من جهة أخرى ,,,,
لهذا تحديداً كان لما وضعه الخليل من تحديد للشكل الشعري في ذلك الوقت هو بمثابة توثيق هام جداً وتأصيل لأصحاب هذه النظرة لأنها أول دراسة من نوعها تضع إطار محدد للشكل التعبيري المثال ...لأنه يحدد شكلياً النقطة الأمثل التي يرتقي الشعر عند الاقتراب منها والذي يفسد عند الابتعاد عنها أي أنه حدد علمياً شكل التعبير الشعري الذي هو احد أهم الأشكال التعبيرية التي تحداها القرآن الكريم إعجازياً...وأعتقد هنا أن هذا هو المحور الأهم الذي دفع أصحاب هذه النظرة لعدم تقبل الخروج عن الشكل الشعري القديم أكثر بكثير من الأشكال الأخرى كالسرديات الخطابية هو أن الشعر كان يمثل رأس الهرم للفصاحة العربية ولأنه أيضا حُدد له الإطار الشكلي وبشكل علمي فذ غير مسبوق
وهنا أعتقد أن أهم ما يهدّم هكذا ربط هو أن القرآن الكريم الكامل بلا باطل...هو صالح كل زمان ومكان ..فالكمالية خارج الزماني/المكاني..تعني بالضرورة اللامثال الأدنى لانسحاب الإعجاز عبر الزماني /المكاني الكلي أي بوصف هذا الإعجاز غير محدد زمانيا أو مكانياً..وهذا يعني بالضرورة أن التغير والتطور لكل أشكال التعبير الإنساني هي ضرورة تقتضيها تعددية أوجه الإعجاز على مستوى الزمان والمكان...بل إن التقدم الحضاري علمياً وأدبياً بصيرورته ما دامت الحياة هو ضرورة لفهم عميق للإعجاز ...فيكون تتطور التعبير الإنساني . والشعري منه تحديداً هو إشارة متقدمة على مدى عمق الإعجاز ..تماماً كما كانت هناك اكتشافات علمية هي إشارات لذلك ....
أعتقد أن إثبات قدرة اللغة العربية على استيعاب التقدم الحضاري عبر التشكيل التعبيري الحديث ..وإثبات استيعابها للهم الإنساني الحديث بوصفها الوعاء الأكبر للصياغات التعبيرية الحديثة هو يصب في مصلحة الأصالة كثيراً ,,,بهذا المعنى تكون قصيدة النثر هي خدمة للأصالة التراثية بشرط أن يتحمل روادها المسؤولية الأدبية والحضارية ...وبحسب هذه النظرة أو الاستقراء المنطقي أعتقد أن الإشكال الأهم هو ليس مدى مشروعية قصيدة النثر بل هو مدى مشروعية النصوص التي تملأ صفحات الشبكة العنكبوتية من حيث أنها ترتقي بالقيمة الجمالية والرؤى الإنسانية أم لا ؟,, هذا هو السؤال الأهم في رأي والذي هو موجه للنقاد تحديداً , فنحن بحاجة كبيرة للتنظير نقدياً حول كيفية تقييم قصيدة النثر وتحديد قيمها الجمالية والإنسانية بدلاً من الجدال حول مدى مشروعيتها التي أصبحت واقعاً لابد منه, وخصوصاً أن الحركة النقدية العربية بوصفها تنتقي أدواتها من قلب الحضارة العربية ما زالت خجولة جداً للتقدم
....حول مصطلح القصيدة ..وإشكالية تسمية (( قصيدة النثر))
لسان العرب
والقَصِيدُ من الشِّعْر: ما تمَّ شطر أَبياته، وفي التهذيب: شطر ابنيته، سمي بذلك لكماله وصحة وزنه.
وقال ابن جني: سمي قصيداً لأَنه قُصِدَ واعتُمِدَ
القصيدة الكلاسيكة ..الموسوعة العلمية
فالقصيدة في تعريفها الكلاسيكي هي موضوع شعري مكون من ابيات قلت أو كثرت، وقد تغيرت خصائصها الشكلية في عدد من العصور فاخذ شكل المربعات والمسدسات والموشحات لكنها لم تتغير تغيرا كبيرة منذ أقدم نصوصها المعروفة منذ ما يقارب الالفين عام، حيث يلتزم فيها بعنصرين أساسيين هما : الوزن والقافية. اما خصائصها الموضوعية فقد تغيرت تبعا للعصور المتتالية التي عاشها الشاعر العربي
نرى هنا أن مصطلح (قصيدة ) بحسب التعريفات الكلاسيكية جاء من القصد والتعمد باعتماد انساق معينة
…وهذا يعيدنا إلى قضية مهمة جداً أن الأيقاع هو الدائرة الأوسع التي تشمل ما هو شعري وغير شعري ... فهنالك مثلاً ما نظم موقعاً لأغراض علمية ..كألفية ابن مالك وأرجوزة المنطق....وما هو شعري يشمل ما هو قصيدي وغير قصيدي ....فنرى مثلا المسرحيات الشعرية ,,,والسجالات في الكثير من المنتديات ...والتي ليس لها أبعاد قصيدية .....فكل ما هو إيقاع ليس بالضرورة شعر ..وكل ما هو شعر ليس بالضرورة قصيدة ...وكل ما هو قصيدي هو شعري ,إيقاعي بالضرورة
أعتقد أنه علينا أن نعلم ما هي المحددات المميزة للإيقاعي العام ليكون شعري فنعلم ما هو تعريف الشعر...ونعلم ما هي المحددات المميزة للشعري ليكون قصيدي فنعلم ماهو تعريف القصيدة
أعتقد أن العزف على الشعوري من الإيقاعي ضمن التصوير الرؤيوي هو ما يدخلنا من ضمن دائرة الإيقاع الأوسع إلى منطقة الشعر و بحسب التعريفات الكلاسيكية فإن اعتماد انساق محددة جاهزة يدخلنا من ضمن دائرة الشعر إلى منطقة القصيدة .......وهذ النقلة الأخيرة من الشعر إلى تحديدات القصيدة الشكلية هو غير موجود في قصيدة النثر ..فكون المجانية هي أحد أهم ركائز قصيدة النثر فإن الشكلية الجاهزة هي ضد قصيدة النثر أي أن قصيدة النثر ضد الشكل القصيدي...أي ضد القصيدة , هذا واضح في أن كل نص في قصيدة النثر له محدادته الشكلية الخاصة تقريباً وهذا يضع مصطلح قصيدة النثر في إشكالية كبيرة مفهومياً أولاً هي ضد القصيدة ,ثانياً هي تتدعي الشعر وتوسم بالنثر...وهذه الصفة (النثر) صعدت الأزمة الإشكالية كثيراً كون كلمة نثر مرتبطة بشكل مباشر في الإدبيات العربية بما هو ضد الشعر
ولكني أعتقد من جهة أخرى أن التركيب الاصطلاحي (قصيدة النثر ) يوحي بحداثة وجدية هذا الشكل الشعري من حيث الإصطلاح المركب فهو شعر كون لفظة (القصيدة) وهو خارج عن الكلاسكي الموزون كون لفظة(النثر) ..أي أن حال المعنى الإصطلاحي لهذا التركيب يقول أن هذا الشكل الشعري هو شعر من منطقة أخرى مختلفة تماماً عن منطقة الموزون
..حول إشكالية الغموض –اللامعنى – وإشكالية نخبوية قصيدة النثر
استناداً على ما تقدم ..نرى أن بنية قصيدة النثر تعتمد الرؤى كمادة شعرية ..وليس العلاقات الخطية , أي أن الصورة الشعرية في قصيدة النثر تستند على علاقة تفاعلية حياتية داخل الإطار التصويري , وليس على علاقة بيانية خطية بين المشبه والمشبه به , فهي تتجاوز الحدود الكلاسيكية للتشبيه والاستعارة نحو الإيحاء الترميزي للرؤيا عبر إيجاد عالم خاص بعلاقات ترابطية خاصّة بكل نص لوحده ,,من هنا نجد أن نصوص قصيدة النثر ترتكز على الترميز والغموض الإيحائي ,,وهذا ليس مأخذا – في رأيي – على قصيدة النثر وإنما صفة ملازمة لطبيعتها الرؤيوية ...ولكن هذا الموضوع يشكل أزمة في اتجاهين :
الإتجاه الأول : هنالك الكثير ممن يستصيغون فكرة الغموض في قصيدة النثر ولقلة حيلتهم يكتبون نصوصاً بلا معنى على الإطلاق بدعوى أنها عميقة و الواقع أنها نصوص عبثية أكثر من كونها رؤيوية , لا قيمة لها حتى لو كانت جميلة فأنا لا أتفق –في رأيي- مطلقاً مع فكرة عبثية الجمال وخواءه من المضمون ,ذلك هو تعبير عن فراغ ثقافي يحط من قيمة الجمال لعزله عن القيمة الإنسانية ,, وللأسف نشاهد الكثير من هذه النصوص تتلقى الكثير من الردود التي تشيد بها ,مما يددل بشكل واضح على قصور في الوعي لدى بعض الكتّاب وبعض المتلقين
الإتجاه الثاني: هنالك الكثير ممن يستندون كثيراً على التكثيف والترميز الإيحائي أسلوبياً بشكل يستعصي معه على المتلقي العادي الغوص في أعماق النص , بل يشعر أنه يقرأ طلاسم وانه دخل النص وخرج منه دون أن يعلم شيأً ,,ولا أعتقد أن هذا يحسب على الناص كثيراً لأنه لم يكسر حدود الجمالي الإنساني ,, ولكنه يبقي على مسافة كبيرة بينه وبين المتلقي , ويضيق الخناق كثيراً على الجمال بسلب البساطة منه , وبهذا يترك الأبواب مفتوحة على مصراعيها لمقولة نخبوية قصيدة النثر
أعتقد أن حقيقة الإبداع تكمن في عمق الرؤى وطرحها بطريقة تقبل تعدد التأويلات المتصاعد والمنفتحة من الطافي على السطح وحتى الغائر في العمق ,,, وضمن نقاط توازنية كثيرة , يكون النص فائق الإبداع عندما يكون قابل لتعدد القراءات من قبل المتلقين على اختلافاتهم الثقافية ,,دون التنازل عن حق الشاعر في التكثيف الرؤيوي العميق
...مدخل حول نظرة للقراءة الإبداعية /النقدية لقصيدة النثر
تستند قصيدة النثر – بحسب ما تقدم- على :-
الرؤيا—العالم الخاص الذي يبتدعه الشاعر خارج عالم الواقع بعلاقاته الشيئية والزمانية الخاصة والذي يبث من خلاله الجمالي /الإنساني الذي يريد قوله
الإيقاع__العلاقات اللفظية الكلامية والتركيبات التصويرية المتوائمة مع طبيعة الرؤيا والتي تضعها ضمن منطقة الشعر
الكثافة وتعددية التأويلات__انفتاح النص على إمكانية الفهم المتعدد والمنسجم مع عمق الرؤى
البنائية المتخصصة__ استناد توالي التصويرات عبر الاستطالة أو الاختصار أو التكرار أو الفوضوية ربما...على خصوصية متأتية من الإيقاع الرؤيوي لكل نص بتفرده
أعتقد عند النظر لنصوص قصيدة النثر يجب الأخذ بعين الاعتبار كل العناصر أعلاه ضمن منظومة (الناص- النتاج –المتلقي) , علينا أن نعلم الأطر العامة لرؤى الناص من خلال نصه واستكشاف مدى تواءم هذه الأطر مع شكلها المطروحة من خلاله ضمن التفكيك وإعادة البناء على مستوى الصورة والبنية الكلية للنص وبالتالي التركيز استفهامياً على بؤر الجمال وعلى البعد الإنساني الموازي لهذا الجمال والمتضامن معه معنوياً,
إن اقتصار النظر نقديا فقط على المحاولات التفسيرية لنص قصيدة النثر, عبر محاولة استثمار العلاقات التشبيهية والاستعارية البلاغية فيه ظلم كبير للناص والنص لأنه يضع النص في زاوية محددة ويلغي بذلك أحقيته في تعددية التأويل..أي أنه ينتقل من النظرة التأويلية للنص المنسجمة مع طبيعة الكثافة الرؤيوية التي تتميز بها نصوص قصيدة النثر, نحو نظرة تفسيرية تسطح النص وتهدم بنيته الجمالية, كما أن اقتصار النظر على الانبهار والمجاملة فيه غبن وتسخيف لعقلية المتلقي وحتى ربما خداعها , أعتقد من هنا يجب النظر بتوازن للمنظومة (الناص-النتاج –المتلقي) بكليتها
محبتي
هيثم الريماوي
**أعتقد أن قصيدة النثر محاولة جريئة ,,,على طريق إضاءة شاعرية الكتابة ,,,والتي كان لها بذورها الأولية في كتابات المتصوفة تحديداً وما القول عن أولية الكتابة الكتابة (كرامبو وبودلير) أو التنظير لها ( غربا) هو -في رأيي - قول قاصر ,, والواقع أن قصيدة النثر كانت ستظهر في الأوساط العربية عاجلاً أم آجلاً بتأثر أو بدونه ..أعتقد أن قصيدة النثر هي خطوة متقدمة على النمط الحر الذي راوح خجولاً حول الموزون باعتباره تأصيلاً ...ولا أرى أن هنالك تناقضاً في التسمية (قصيدة النثر) , إذا علمنا إن مصطلح نثر هنا اتخذ معنى اصطلاحي أوسع بكثير من المدلول المعجمي للكلمة, في الواقع هو دال على ثورية الفكرة في مقابل الموزون باعتباره تأصيلاً لا يمكن الخروج عنه
أعتقد أن اتهام قصيدة النثر بأنها دخيلة ومحاولة تغريبية لتهديم التراث هو قول غير واعي ويحتاج إلى كثير من الدلالات لإثبات وجهة نظره إذا علمنا أن الدلالة المنطقية تقتضي بالتأثر الزماني والمكاني ,,,وأبسط مثال على ذلك أن أغراض الشعر الآن –مثلاً- خرجت كثيرا عن (المدح ,الرثاء, الهجاء, الغزل, الفخر..الخ) لأن الهم الإنساني وتناقضاته الذي يحمله شاعر الآن , مختلف تمام الاختلاف عن ما كان يحمله عنترة , امروء القيس , أو المتنبي مثلاً ,,,وتلك القاعدة المنطقية تنسحب تماماً على شكل الكتابة المغايرة أيضا,, ولا يعني الاختلاف الخلاف بالضرورة ,,,,حيث لا تحتم عليّ الضرورة المنطقية أن أكتب بطريقة المتنبي لكي أقول أنه قامة عالية جدا.
** الشعر بصفة عامة وليس من حيث التعريف ,,,-أي الحد الأدنى الذي يمكن أن نتفق عليه جميعاً-هو تعبير أنساني/جمالي عبر وعاء اللغة عن رؤى و/أو رأي الشاعر عن البيئي الذي حوله
...والبيئي يتمثل في كل ما هو حول الشاعر..كالواقع السياسي..النفسي..الاقتصادي.. الاجتماعي ..العلاقة بالآخر ..الطبيعة..الخ..إذن –إذا افترضنا اتفاقنا على ما تقدم- يكون الشعر كأي بنية كلامية له شقين المعنى (الرؤيا الجمالية المتشكلة في ذهن الشاعر عن المثال في أرض الواقع) والشكل (الصياغة اللفظية التي تعبر عن تلك الرؤيا الجمالية وتوصلها للمتلقي )..والاستنتاج المنطقي الأولي لهكذا توصيف أنه إذا تغير المحيط البيئي حول الشاعر أو تغيرت رؤية هذا الشاعر للمحيط البيئي ستتغير طرائق التعبير بالضرورة ...
** لقد جاء عروض الخليل بعد أكثر من 300 سنة من الكتابة ..كان فيها الكثير, الكثير من الأنساق الوزنية تم اختيار ألأكثرها شيوعا – إحصائيا- والأكثر الباقي تم إهماله من الدوائر العروضية ,,ولكن بقي ضمن حظيرة الشعر ...مما يدل بوضوح على أن القضية توصيف إحصائي وليس تأصيلي ...وقابل لتغير والتطور جزئيا أو كليا...كالموشحات والموليا والدوبيت وشعر التفعيلة ..وقصيدة النثر
**....لقد اهتم الغرب كثيرا بكتابات المتصوفة وتحديدا ((المواقف والمخاطبات )) لنفّري و ((الطواسين )) للحلاج عبر ترجمات المستشرقين ..واعتقد أنها أثرت كثيرا في الشكل الكتابي الحديث وظهور وتطور قصيدة النثر ..تقول العبارة الشهيرة للنفّري ((إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة)) أعتقد أن هذا تحديداً ما تريد أن تقوله قصيدة النثر ...
** ظهرت قصيدة النثر في الأوساط الفرنسية مبكراً جدا في منتصف القرن التاسع عشر,وأهم من أسهم في تشكيل هذا النموذج الشعري في تلك المرحلة هو الشاعر الفرنسي بودلير جاء بعده الكثير ممن كتبوا قصيدة النثر أمثال :رامبو,وبريتون وتابعت الحركة النقدية ذلك بشغف..وتأثرت الأوساط العربية بذلك عبر الترجمات لاحقاً
**كان جبران من أوائل من ساهموا في أوائل القرن العشرين بكسر الحدود بين الشعري والنثري
عبر مقولته المشهورة إن الوزن والقافية قيدان على الإبداع، وأنا بنفسي سوف أبدأ في التخلص من هذه القيود، وأكتب شعرًا يلائم الواقع الذي أعيش ..فظهر ما سمي النثر الشعري الرومنسي ..والشعر المنثور
**يرى أدونيس ذلك الباحث الكبير أنه الرائد الأول لقصيدة النثر في العالم العربي والمبشر الأول لها عبر مجلة شعر..وبل والمسمي الأول لها عربيا ً..عبر إطلاق تسمية قصيدة النثر لأول مرة في مجلة شعر عام 1960نقلاً عن الترجمات الفرنسية ..وهو الذي حث أنسي الحاج على كتابة قصيدة النثر الذي أصبح لاحقا في نظر الكثيرين الرائد الأول لقصيدة النثر وهو صاحب الديوان الشهير (خواتم)...وشكلوا مع محمد الماغوط وزوجته سنية صالح النواة الأولى لقصيدة النثر في الوطن العربي وعبر مجلة شعر..منذ مطلع الستينيات
**الانزياح بمعناه الواسع موجود , منذ وجود الصورة الشعرية في الكلاسكيات القديمة ,,بمعنى أن أي لفظة تبتعد عن معناها المباشر تحقق الانزياح , وعلينا أن نعترف أن ذلك يمكن له أن يتحقق أيضاً في السرديات الخطابية المحضة , كقولنا أننا بحاجة لفصل قصيدة النثر عن الخاطرة حتى وإن حققت تلك الأخيرة جزء من الانزياح ..يمكننا هنا أن نستنتج منطقيا ونحن مطمئنين أن الانزياح شرط للشعر وليس سبباً يؤدي إلى الشعري بالضرورة ,, أي أن كل شعر لابدّ له أن يحقق الانزياح ,,ولكن ليس كل انزياح هو بالضرورة شعراً
** يخلط الكثير بين البساطة أسلوبياً ,,التي تحتاج فيما اعتقد لدراية كبيرة وواعية –في مجال الشعر-و إلى حس شعري رفيع وبين المباشر الصارخ ,,فيتجه من حيث يدري أو لا يدري إلى ما هو ضد الانزياح والذي هو من أهم ركائز قصيدة النثر..بدعوى الابتعاد عن الغموض والتعقيد ,,,,ويجعل العلاقة سطحية خطية بين المبنى/المعنى بمباشرة ووضوح قاسي ...
وبالتالي نفقد أهم ما تحتاجه الصورة الشعرية هو التخييل..
**السرد لغةً هو تعاقب الكلام ضمن سياق مترابط ..وبهذا المعنى لن يكون السرد إطلاقاً ضد الشعر..لأن تعاقب الكلام ترابطياً لا يعني بالضرورة التسطح فتعاقب التصوير الشعري المتصل لن يمنع أن يكون التصوير رؤيوي كثيف..كما أن التدفق المتقطع لا يمنعه أيضاً...مما يعني أن السرد في قصيدة النثر غير متعلق بالسطحي أو الكثيف ..قد يكون هذا وقد يكون هذا وقد يكون ذاك
***
أعتقد أن هنالك مفاصل اصطلاحية مهمة يجب الولوج في ثناياها عند الحديث عن قصيدة النثر ومحاولة رصدها مهفوميا وعلاقاتها التأثيرية والتأثيرية وأهمها الإيقاع
.... اعتقد انه كان من الطبيعي تغير طرائق التعبير عند تغير الهم المُعبر عنه ... لا انتقادا أو تقليلاً من الماضي وإنما انسجاماً مع الواقع المُعبر عنه ..عبر توظيف منظومات إيقاعية تقول الشعري/الجمالي لا ضمن الرتيب الخطي وإنما ضمن الفوضوي المركب ...لتبدأ الغنائية بالتراجع أمام الدفق الإيقاعي الممثل بتفجير كثافة المعنى
... فكما كان التركيب التصويري مغايراً عبر الاستخدام للفظي المغاير...سيتبع ذلك بالضرورة تغاير الإيقاعي الشكلي..لأنه ناتج عنه...وبالتالي الشكلي الجاهز, لن يحقق بالضرورة التصويري المغاير ..لأن الإيقاعي /الموسيقي يتبع اللفظي المتأتي من الذهني المتصور عند الشاعر عن الواقع/المثال المحيط وليس العكس ..ومن هنا تحديدا كانت جاهزية القالب قيد كما يقول جبران خليل جبران ...وليس للأمر علاقة ببراعة الشاعر أم لا
**إن القول بأن قصيدة النثر تقبل التعايش مع الموزون هو إلغاء للفكرة الأساس لنشوء قصيدة النثر باعتبارها الحل لقيد الموزون وليست صياغة شعرية متغيرة شكلا ....مع التأكيد طبعا أن هذا ليس له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالمساس بالتراث ...لأن التراث كانت تحكمه ظروف زمانية ومكانية تختلف كثيرا عن تلك التي تحكمت بظهور قصيدة النثر
....الحديث بتفصيل قليلاً حول الاعتراضات على مشروعية قصيدة النثر
لقد ارتبطت فكرة عدم تقبل طرائق التعبير الحديثة عموماً وقصيدة النثر خصوصاً , بفكرة أن المورث الثقافي العربي هو الشكل الأسمى للتعبير وما دونه هو نقص, بمعنى أنه كلما اقتربنا من الماضي اقتربنا من التعبير المثال على المستوى البشري وكلما ابتعدنا عنه كانت القيمة الأدبية أقل والفكرة أدنى , هكذا وبحسب هذه الفكرة تكون نظرة الإنسان للعالم حوله وأيضا طرائق تعبيره عن هذه النظرة هي ثابتة إلى حد كبير , ترتقي إبداعياً باقترابها من الماضي المثال وتنحدر بابتعادها عنه , فكانت الحداثة في المجال الأدبي وطرائق التعبير تحديداً - بحسب هذه النظرة – هي تشكيلات مغايرة صورياً فقط للماضي المثال , دون اللجوء أو حتى تقبل فكرة اللجوء إلى تشكيلات مغايرة جزئيا أو جذرياً لتشكيلات التعبير الماضي , لأن هكذا خروج من وجهة نظر هذه الدعوى هو انحدار , بل وأكثر من ذلك هو محاولة لمحاربة ذلك المثال فانعكست ضراوة الدفاع عن هذه الفكرة على مدى شراسة الهجوم على كل ما من شأنه محاولة لدحضها ,,
إن هذه النظرة بالأساس جاءت من الارتباط الوثيق بين الموروث الثقافي العربي والموروث الديني الإسلامي , عندما نزل القرآن الكريم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بوصفه كلام الله عزّ وجل الكامل بلا باطل..كان تحدي معجز للفصاحة العربية بكل أشكالها التعبيرية فاعتبر أصحاب هذه النظرة أن لأشكال التعبيرية القائمة وعلى رأسها الشعر بشكله العمودي هي أرقى التعابير الإنسانية بوصفها ارتقت أن تكون موضعاً لأن يتحداها القرآن الكريم إعجازياً ,,,و قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ((خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ))...فكانت الفكرة عند هؤلاء أن أرقى شكل تعبيري هو ذاك لأنه موضع هذا التحدي ..وهو أيضاً صادر عن خيار الناس ,,,وقد عزز كثيراً الدفاع عن هذه الفكرة , الهجمات الاستعمارية والثقافية منها تحددا وحملات المستشرقين التي كانت في معظمها تحاول تهديم التراث العربي ..فكانت قصيدة النثر من أكثر الأشكال التعبيرية محاربةً..كونها تخرج جذرياً عن المثال الماضي من جهة ..وكونها ذات تأصيل في الحضارة الغربية من جهة أخرى ,,,,
لهذا تحديداً كان لما وضعه الخليل من تحديد للشكل الشعري في ذلك الوقت هو بمثابة توثيق هام جداً وتأصيل لأصحاب هذه النظرة لأنها أول دراسة من نوعها تضع إطار محدد للشكل التعبيري المثال ...لأنه يحدد شكلياً النقطة الأمثل التي يرتقي الشعر عند الاقتراب منها والذي يفسد عند الابتعاد عنها أي أنه حدد علمياً شكل التعبير الشعري الذي هو احد أهم الأشكال التعبيرية التي تحداها القرآن الكريم إعجازياً...وأعتقد هنا أن هذا هو المحور الأهم الذي دفع أصحاب هذه النظرة لعدم تقبل الخروج عن الشكل الشعري القديم أكثر بكثير من الأشكال الأخرى كالسرديات الخطابية هو أن الشعر كان يمثل رأس الهرم للفصاحة العربية ولأنه أيضا حُدد له الإطار الشكلي وبشكل علمي فذ غير مسبوق
وهنا أعتقد أن أهم ما يهدّم هكذا ربط هو أن القرآن الكريم الكامل بلا باطل...هو صالح كل زمان ومكان ..فالكمالية خارج الزماني/المكاني..تعني بالضرورة اللامثال الأدنى لانسحاب الإعجاز عبر الزماني /المكاني الكلي أي بوصف هذا الإعجاز غير محدد زمانيا أو مكانياً..وهذا يعني بالضرورة أن التغير والتطور لكل أشكال التعبير الإنساني هي ضرورة تقتضيها تعددية أوجه الإعجاز على مستوى الزمان والمكان...بل إن التقدم الحضاري علمياً وأدبياً بصيرورته ما دامت الحياة هو ضرورة لفهم عميق للإعجاز ...فيكون تتطور التعبير الإنساني . والشعري منه تحديداً هو إشارة متقدمة على مدى عمق الإعجاز ..تماماً كما كانت هناك اكتشافات علمية هي إشارات لذلك ....
أعتقد أن إثبات قدرة اللغة العربية على استيعاب التقدم الحضاري عبر التشكيل التعبيري الحديث ..وإثبات استيعابها للهم الإنساني الحديث بوصفها الوعاء الأكبر للصياغات التعبيرية الحديثة هو يصب في مصلحة الأصالة كثيراً ,,,بهذا المعنى تكون قصيدة النثر هي خدمة للأصالة التراثية بشرط أن يتحمل روادها المسؤولية الأدبية والحضارية ...وبحسب هذه النظرة أو الاستقراء المنطقي أعتقد أن الإشكال الأهم هو ليس مدى مشروعية قصيدة النثر بل هو مدى مشروعية النصوص التي تملأ صفحات الشبكة العنكبوتية من حيث أنها ترتقي بالقيمة الجمالية والرؤى الإنسانية أم لا ؟,, هذا هو السؤال الأهم في رأي والذي هو موجه للنقاد تحديداً , فنحن بحاجة كبيرة للتنظير نقدياً حول كيفية تقييم قصيدة النثر وتحديد قيمها الجمالية والإنسانية بدلاً من الجدال حول مدى مشروعيتها التي أصبحت واقعاً لابد منه, وخصوصاً أن الحركة النقدية العربية بوصفها تنتقي أدواتها من قلب الحضارة العربية ما زالت خجولة جداً للتقدم
....حول مصطلح القصيدة ..وإشكالية تسمية (( قصيدة النثر))
لسان العرب
والقَصِيدُ من الشِّعْر: ما تمَّ شطر أَبياته، وفي التهذيب: شطر ابنيته، سمي بذلك لكماله وصحة وزنه.
وقال ابن جني: سمي قصيداً لأَنه قُصِدَ واعتُمِدَ
القصيدة الكلاسيكة ..الموسوعة العلمية
فالقصيدة في تعريفها الكلاسيكي هي موضوع شعري مكون من ابيات قلت أو كثرت، وقد تغيرت خصائصها الشكلية في عدد من العصور فاخذ شكل المربعات والمسدسات والموشحات لكنها لم تتغير تغيرا كبيرة منذ أقدم نصوصها المعروفة منذ ما يقارب الالفين عام، حيث يلتزم فيها بعنصرين أساسيين هما : الوزن والقافية. اما خصائصها الموضوعية فقد تغيرت تبعا للعصور المتتالية التي عاشها الشاعر العربي
نرى هنا أن مصطلح (قصيدة ) بحسب التعريفات الكلاسيكية جاء من القصد والتعمد باعتماد انساق معينة
…وهذا يعيدنا إلى قضية مهمة جداً أن الأيقاع هو الدائرة الأوسع التي تشمل ما هو شعري وغير شعري ... فهنالك مثلاً ما نظم موقعاً لأغراض علمية ..كألفية ابن مالك وأرجوزة المنطق....وما هو شعري يشمل ما هو قصيدي وغير قصيدي ....فنرى مثلا المسرحيات الشعرية ,,,والسجالات في الكثير من المنتديات ...والتي ليس لها أبعاد قصيدية .....فكل ما هو إيقاع ليس بالضرورة شعر ..وكل ما هو شعر ليس بالضرورة قصيدة ...وكل ما هو قصيدي هو شعري ,إيقاعي بالضرورة
أعتقد أنه علينا أن نعلم ما هي المحددات المميزة للإيقاعي العام ليكون شعري فنعلم ما هو تعريف الشعر...ونعلم ما هي المحددات المميزة للشعري ليكون قصيدي فنعلم ماهو تعريف القصيدة
أعتقد أن العزف على الشعوري من الإيقاعي ضمن التصوير الرؤيوي هو ما يدخلنا من ضمن دائرة الإيقاع الأوسع إلى منطقة الشعر و بحسب التعريفات الكلاسيكية فإن اعتماد انساق محددة جاهزة يدخلنا من ضمن دائرة الشعر إلى منطقة القصيدة .......وهذ النقلة الأخيرة من الشعر إلى تحديدات القصيدة الشكلية هو غير موجود في قصيدة النثر ..فكون المجانية هي أحد أهم ركائز قصيدة النثر فإن الشكلية الجاهزة هي ضد قصيدة النثر أي أن قصيدة النثر ضد الشكل القصيدي...أي ضد القصيدة , هذا واضح في أن كل نص في قصيدة النثر له محدادته الشكلية الخاصة تقريباً وهذا يضع مصطلح قصيدة النثر في إشكالية كبيرة مفهومياً أولاً هي ضد القصيدة ,ثانياً هي تتدعي الشعر وتوسم بالنثر...وهذه الصفة (النثر) صعدت الأزمة الإشكالية كثيراً كون كلمة نثر مرتبطة بشكل مباشر في الإدبيات العربية بما هو ضد الشعر
ولكني أعتقد من جهة أخرى أن التركيب الاصطلاحي (قصيدة النثر ) يوحي بحداثة وجدية هذا الشكل الشعري من حيث الإصطلاح المركب فهو شعر كون لفظة (القصيدة) وهو خارج عن الكلاسكي الموزون كون لفظة(النثر) ..أي أن حال المعنى الإصطلاحي لهذا التركيب يقول أن هذا الشكل الشعري هو شعر من منطقة أخرى مختلفة تماماً عن منطقة الموزون
..حول إشكالية الغموض –اللامعنى – وإشكالية نخبوية قصيدة النثر
استناداً على ما تقدم ..نرى أن بنية قصيدة النثر تعتمد الرؤى كمادة شعرية ..وليس العلاقات الخطية , أي أن الصورة الشعرية في قصيدة النثر تستند على علاقة تفاعلية حياتية داخل الإطار التصويري , وليس على علاقة بيانية خطية بين المشبه والمشبه به , فهي تتجاوز الحدود الكلاسيكية للتشبيه والاستعارة نحو الإيحاء الترميزي للرؤيا عبر إيجاد عالم خاص بعلاقات ترابطية خاصّة بكل نص لوحده ,,من هنا نجد أن نصوص قصيدة النثر ترتكز على الترميز والغموض الإيحائي ,,وهذا ليس مأخذا – في رأيي – على قصيدة النثر وإنما صفة ملازمة لطبيعتها الرؤيوية ...ولكن هذا الموضوع يشكل أزمة في اتجاهين :
الإتجاه الأول : هنالك الكثير ممن يستصيغون فكرة الغموض في قصيدة النثر ولقلة حيلتهم يكتبون نصوصاً بلا معنى على الإطلاق بدعوى أنها عميقة و الواقع أنها نصوص عبثية أكثر من كونها رؤيوية , لا قيمة لها حتى لو كانت جميلة فأنا لا أتفق –في رأيي- مطلقاً مع فكرة عبثية الجمال وخواءه من المضمون ,ذلك هو تعبير عن فراغ ثقافي يحط من قيمة الجمال لعزله عن القيمة الإنسانية ,, وللأسف نشاهد الكثير من هذه النصوص تتلقى الكثير من الردود التي تشيد بها ,مما يددل بشكل واضح على قصور في الوعي لدى بعض الكتّاب وبعض المتلقين
الإتجاه الثاني: هنالك الكثير ممن يستندون كثيراً على التكثيف والترميز الإيحائي أسلوبياً بشكل يستعصي معه على المتلقي العادي الغوص في أعماق النص , بل يشعر أنه يقرأ طلاسم وانه دخل النص وخرج منه دون أن يعلم شيأً ,,ولا أعتقد أن هذا يحسب على الناص كثيراً لأنه لم يكسر حدود الجمالي الإنساني ,, ولكنه يبقي على مسافة كبيرة بينه وبين المتلقي , ويضيق الخناق كثيراً على الجمال بسلب البساطة منه , وبهذا يترك الأبواب مفتوحة على مصراعيها لمقولة نخبوية قصيدة النثر
أعتقد أن حقيقة الإبداع تكمن في عمق الرؤى وطرحها بطريقة تقبل تعدد التأويلات المتصاعد والمنفتحة من الطافي على السطح وحتى الغائر في العمق ,,, وضمن نقاط توازنية كثيرة , يكون النص فائق الإبداع عندما يكون قابل لتعدد القراءات من قبل المتلقين على اختلافاتهم الثقافية ,,دون التنازل عن حق الشاعر في التكثيف الرؤيوي العميق
...مدخل حول نظرة للقراءة الإبداعية /النقدية لقصيدة النثر
تستند قصيدة النثر – بحسب ما تقدم- على :-
الرؤيا—العالم الخاص الذي يبتدعه الشاعر خارج عالم الواقع بعلاقاته الشيئية والزمانية الخاصة والذي يبث من خلاله الجمالي /الإنساني الذي يريد قوله
الإيقاع__العلاقات اللفظية الكلامية والتركيبات التصويرية المتوائمة مع طبيعة الرؤيا والتي تضعها ضمن منطقة الشعر
الكثافة وتعددية التأويلات__انفتاح النص على إمكانية الفهم المتعدد والمنسجم مع عمق الرؤى
البنائية المتخصصة__ استناد توالي التصويرات عبر الاستطالة أو الاختصار أو التكرار أو الفوضوية ربما...على خصوصية متأتية من الإيقاع الرؤيوي لكل نص بتفرده
أعتقد عند النظر لنصوص قصيدة النثر يجب الأخذ بعين الاعتبار كل العناصر أعلاه ضمن منظومة (الناص- النتاج –المتلقي) , علينا أن نعلم الأطر العامة لرؤى الناص من خلال نصه واستكشاف مدى تواءم هذه الأطر مع شكلها المطروحة من خلاله ضمن التفكيك وإعادة البناء على مستوى الصورة والبنية الكلية للنص وبالتالي التركيز استفهامياً على بؤر الجمال وعلى البعد الإنساني الموازي لهذا الجمال والمتضامن معه معنوياً,
إن اقتصار النظر نقديا فقط على المحاولات التفسيرية لنص قصيدة النثر, عبر محاولة استثمار العلاقات التشبيهية والاستعارية البلاغية فيه ظلم كبير للناص والنص لأنه يضع النص في زاوية محددة ويلغي بذلك أحقيته في تعددية التأويل..أي أنه ينتقل من النظرة التأويلية للنص المنسجمة مع طبيعة الكثافة الرؤيوية التي تتميز بها نصوص قصيدة النثر, نحو نظرة تفسيرية تسطح النص وتهدم بنيته الجمالية, كما أن اقتصار النظر على الانبهار والمجاملة فيه غبن وتسخيف لعقلية المتلقي وحتى ربما خداعها , أعتقد من هنا يجب النظر بتوازن للمنظومة (الناص-النتاج –المتلقي) بكليتها
محبتي
هيثم الريماوي