يبدو من قبيل الثرثرة تكرار القول بأن الكفاح من أجل الحرية والحفاظ على الهوية يحتاج في بلادنا إلى صلابة لم تعد للأسف موجودة ، بعد أن بددتها رفاهية السلم الأمريكي المأمول .. وحتى لو وجدنا اليوم سببا ،كحصار الجوع المضروب علينا ، يبعث فينا من جديد صلابة الجوعى من البدائيين القدماء، فإننا لن نجد من حولنا، مثلهم، طبيعة مشاع شحيحة يمكن أن نتحدى قسوتها بعصينا وحجارتنا ، بعد أن تحولت كل الأرض إلى ممالك ودول حديثة لا حصة لنا فيها مسورة بالحدود ومحمية بالمدافع والدبابات ندور على أطرافها في هذا الزمن "الشرعي " مثقلين بثقافة مبتورة تختلف عن كل ثقافات الشعوب الأخرى ، لا تصلنا، في الوطن التاريخي، بغير إسمه فقط، ولا تصلنا ، في تراث الآباء والأجداد، بغير صور في الذاكرة باهتة آخذة بالتلاشي .. أما المستقبل، فنحن لا نستطيع ، بضعفنا وعجزنا سياسيا وعسكريا، أن نتحقق من شكل هذا المستقبل ولونه ومداه .. بل أكثر من ذلك تركنا مهمة رسم هذا المستقبل وتشكيل ملامحه لأطراف آخرى معادية تمتلك عناصر وأسباب القوة
***
نحن اليوم ، برغم كل اتفاقيات السلم المزعوم ، لا نقف ، كغيرنا من الشعوب ، في مكان ما هنا أو هناك كما قد يتوهم البعض منا لنسوغ أو نبرر الإقتتال حول أي منا أحق وأولى بأن يبسط سلطانه ويتفرد بالحكم من دون الآخرين .. بل ما زلنا موقوفين أسرى ، كما كنا دائما، خلف أسوار الجغرافيا الوطنية بعد أن تسيدها غرباء،ولا نستطيع ، حتى لو دخلناها بوثائق مزورة أو بتصاريح إسرائيلية رسمية وبموافقة أمنية ، أن نتلمس آثار و دروب آبائنا بعد أن تغيرت التضاريس فلا أثر للمراعي والبيادر والكروم.. وكل تلك المعالم التي يفترض أن تكون دليل الذاكرة اليانعة في أرجاء الوطن التاريخي المسروق قد بادت الآن ولم تعد تعني أكثر من بضعة صور يمكن أن يتخيلها قبل موته، كما يتخيل الجنة ، أي إنسان لا مكان ولا قيمة لوجوده على هذه الأرض .
***
نحن ما نزال ، منذ أكثر من نصف قرن ، موقوفين ، في هوة من التاريخ ، إما في المخيمات وإما في السجون وما بينهما نسعى أشقياء ، كأمنا هاجر، ضمن حالة وجودية مرتبكة ما بين الوطن التاريخي المفقود والواقع الجغرافي المفروض والمستقبل المتخيل المأمول .. وهي حالة أنتجت في حياتنا المبعثرة ثقافة موازية روائية بإمتياز تتداخل فيها الأبعاد إلى درجة الإنصهار فلا تكاد تبصر عبرها الفواصل الدقيقة ما بين الوطن الماضي "الذاكرة " والوطن المستقبل "الحلم " .. أما الحاضر أو ما نظنه حاضرا فهو حالة بينهما يكاد يحيلها التجاذب ،بل أحالها فعلا ، إلى انقسام وصراع وتصادم يجد ترجمته الحقيقة اليوم في إنقسامنا السياسي وإقتتالنا الداخلي وفي تناقض منطلقاتنا ودوافعنا الفكرية والعقائدية ..
إنها ثقافة أساسها الإنقطاع عن التاريخ مسكونة بالشتات والهجرة والخيمة والخيم والموت وسطوة الآخرين .. وإنظروا إلى تجليات هذه الثقافة في أبعادها المختلفة ، في الشعر والرواية أو القصة والمسرح والغناء ستجدونها تزخر بمعاني ومفردات هذا الإنقطاع وتعبر عنه في نفس الوقت، كما تشير بمجملها إلى الحاجة الملحة والرغبة العميقة بالخلاص .
***
ربما يظن البعض بأن الفلسطيني قد تجاوز هذه الحالة بعد أن عادت له حاسة الإتجاه فانخرط منذ عام 1965 في تكوين حالة جديدة أسست منذ ذلك الوقت لثقافة مختلفة أغنت اللوحة الفلسطينية بمفردات جذرية رادكالية كالثورة والتسلل والكفاح المسلح والإنتفاضة .. لا بأس ،لكن إذا كانت العبرة بالنهايات كما يقولون فإن ما نراه اليوم بعد أربعين عاما من هذا التحول هو أن الثورة ، ليس فقط لم تعد مقبولة ، بل ولم تعد معقولة أيضا خصوصا بعد أن فقدت ،طوال تلك العقود ، قوتها وعمقها وتحالفاتها .. كما أن المحتل الذي كان هدفا مشروعا يسوغ ويبرر التسلل ليلا وتجاوز الحدود لملاقاته ومقاومته قد أصبح اليوم عنوانا وشريكا "شرعيا" للسلم لا يقتضيك لكي تصل إليه غير أن تنبذ المقاومة وتلقي السلاح وتأتيه إلى القدس المحتلة ليأخذك بالأحضان في وضح النهار !!!!.
***
كل تلك المفردات إذن ، كالثورة والتسلل والكفاح المسلح والإنتفاضة ، ليست في المحصلة غير محاولات فقط جربناها لكي ننتقل، في هذا البرزخ النكبوي ، من معادلة وجودنا الناقصة والمبتورة إلى معادلة أخرى للوجود نتمناها ناضجة ومكتملة .. وإذا استبهم هذا الأمر على أحد فإني أسأله
بماذا نفسر استعدادنا للتخلي عن تلك المفردات التاريخية، الكفاحية ، واستبدالها بمفردة واحدة "المفاوضات" وضعها وإشترطها الأعداء ؟ إلا إذا جاء قبولنا بهذه المفاوضات " ولنعترف بذلك صراحة "محاولة أخرى نجربها اليوم أيضا للوصول إلى نفس الغاية ، وهي الخروج من معادلة غيابنا المستمر إلى معادلة الحضور المرجوة والمأمولة ؟!
***
نحن، عندما ثرنا وتسللنا وانتفضنا ، إنما عبرنا مرة بالبندقية ومرة بالحجارة عن تبرمنا وضيقنا وافصحنا علانية عن رغبتنا الإنسانية المقموعة بالتحرر من الشروط اللا إنسانية لوجودنا المنكوب وعن حاجتنا الملحة للخروج من التيه والغياب غير العادل، لاجغرافيا ولا تاريخيا ، والدخول في معادلة جديدة تطمئن هواجسنا ومخاوفنا وتوفر لحياتنا بعض الحضور الآمن على بعض الجغرافيا وفي جزء من التاريخ .
لكننا ، بعد ضعفنا ويأسنا من تحقيق ذلك بالبندقية أو بالحجر ، آثرنا الإنخراط في "خدعة المفاوضات " وأضطررنا ، كرها أو طوعا ، أن نتخفف من نبرتنا العالية المتفاخرة كعادتها بشعارات النصر وتحقيق الإنجازات الوطنية .. لعلنا نمضي في نفس الطريق ، طريق المحاولات ، آملين هذه المرة ، وبغير الموت ونزف الدماء ، أن تكون النتيجة هي نفسها التي أعلنا لأجلها الثورة وحملنا لأجلها البنادق وهي جغرفة وجودنا وتأريخه في دولة " نتمناها " ونأمل أن نتحرر على أرضها من خوفنا وغيابنا
***
نجحت خدعة المفاوضات وبدا لنا أن المحاولة السلمية قد أثمرت حيث ظننا إذ أدخلنا إلى بعض الضفة وغزة أن الهدف قد تحقق وأننا نهبط اليوم أحرار على أول الجغرافيا ونستطيع بالتالي أن نتجاوز عليها تقافة الغياب القديمة بكل إرثها الحزين ونعيد تأسيس ثقافة جديدة للحضور تصلنا بأول التاريخ
***
لكن قد يعز علينا، في هذا السياق السلمي ، التخلي بيسر عن مواريث الثقافة السابقة، ثقافة الثورة والمقاومة والكفاح المسلح بعد إلفة استمرت عقود طويلة عكست خلالها معاناتنا وعبرت عن تطلعاتنا وأحيت فينا وأشاعت بشائر النصر والتحرير .. بينما أصبحنا مضطرين ، ليس فقط بحكم إشتراطات السلام الموقع ، ولكن أيضا بعد أن تبين عبر تجربة هذا الحضور السلمي ، على ضيق مساحته الزمنية ، من نفور وتصادم ما بين الثقافة الكفاحية الموروثة من جهة وبين ما يقتضيه هذا الحضور السياسي من ثقافة سلمية مغايرة من جهة أخرى
***
وأصبح من الضروري إذن أن نكون اكثر حذرا في تأسيس وبناء هذه المرحلة فلا نجعل من تصادم الثقافة بداية لتصادم المجتمع ، كما هو حادث هذه الأيام في قطاع غزة .. الأمر الذي يستوجب ،في ظني ، طرح بعض الأسئلة على أصحاب الشان السياسي في بلادنا على إختلاف سياساتهم وعقائدهم آملين أن نلمس إجابات مقنعة لها
1- كيف ستنظمون حضورنا "السلمي"الحديث بثقافة ما بعد النكبة ؟
2- هل ستنجحون في إرساء قواعد التنمية المدنية والتربية الوطنية بثقافة البنادق والعشائر ؟
3- كيف ستنجحون في تسييد القانون المدني الحديث بثقافة سائدة تزخر بسطوة سيادات فصائلية وعسكرية وعقائدية لا تحترم الحداثة بل تتهمها بالكفر ؟
4- هل ستنجحون في إحترام حضورنا السياسي "الحديث" بينما يعتبره بعضنا حضورا مزيفا بل ويتهمه بالخيانة وبتغييب الحضور الحقيقي الجغرافي والتاريخي ؟
5- كيف ستنهضون إذا ما اختلفتم على اللحظة الراهنة ؟ وهل نعتبر هذه اللحظة ركنا نبني عليه حاضرنا وننطلق منه إلى الأمام ؟أم نعتبرها، كما يرى البعض ، لحظة انحدار كارثي بكل ما أشاعته فينا ثقافة ما بعد النكبة من أحلام وتطلعات وشعارات عزيزة ؟
***
وأريد في ختام هذه المقالة المختصرة أن أشير إلى أمر أرى من الضرورة الإشارة إليه وهو :
إن الخروج القسري من الجغرافيا الوطنية القديمة "ما قبل النكبة " لا يعني بالضرورة الخروج القصري من ثقافتها .. كما أن القبول بإشتراطات الدخول السياسي "السلمي " إلى وعد أو وهم الدولة الحديثة لا يعكس ولا يعني بالضرورة أيضا إستعدادنا الثقافي للقبول بالحداثة .
من هنا فإني أنصح آولئك الذين يريدون اليوم حماية "حضورهم" الحديث ويحرصون على نجاح علاقاتهم الشخصية أو "الوطنية " بالتاريخ العولمي الجديد أن يبحثوا بحذر شديد عن صيغة ما تنقذ الوعي الوطني وتحرره من حالة التشتت والإستلاب والتصادم ما بين الماضي والحاضر ، القديم والحديث ، .. صيغة تتعامل مع مقتضيات الحاضر ومتطلباته من دون إغفال حاجة هذا الحاضر إلى التواصل ، بشكل من الأشكال ، مع جذوره التاريخية من جهة ، كما لا تستدرجها وتجرها من خلفها العناوين والشعارات الحداثية التي لا وجود لأسبابها في الوضع الفلسطيني القائم اليوم من جهة أخرى .
هل يمكن إنجاز هذه الصيغة الوطنية المعقدة ؟
آمل ألا يستعين أحد أو طرف من الأطراف هنا في فلسطين على إنجاز هذه الصيغة الوطنية بوسائل وأدوات أو ...... أسلحة أجنبية
***
نحن اليوم ، برغم كل اتفاقيات السلم المزعوم ، لا نقف ، كغيرنا من الشعوب ، في مكان ما هنا أو هناك كما قد يتوهم البعض منا لنسوغ أو نبرر الإقتتال حول أي منا أحق وأولى بأن يبسط سلطانه ويتفرد بالحكم من دون الآخرين .. بل ما زلنا موقوفين أسرى ، كما كنا دائما، خلف أسوار الجغرافيا الوطنية بعد أن تسيدها غرباء،ولا نستطيع ، حتى لو دخلناها بوثائق مزورة أو بتصاريح إسرائيلية رسمية وبموافقة أمنية ، أن نتلمس آثار و دروب آبائنا بعد أن تغيرت التضاريس فلا أثر للمراعي والبيادر والكروم.. وكل تلك المعالم التي يفترض أن تكون دليل الذاكرة اليانعة في أرجاء الوطن التاريخي المسروق قد بادت الآن ولم تعد تعني أكثر من بضعة صور يمكن أن يتخيلها قبل موته، كما يتخيل الجنة ، أي إنسان لا مكان ولا قيمة لوجوده على هذه الأرض .
***
نحن ما نزال ، منذ أكثر من نصف قرن ، موقوفين ، في هوة من التاريخ ، إما في المخيمات وإما في السجون وما بينهما نسعى أشقياء ، كأمنا هاجر، ضمن حالة وجودية مرتبكة ما بين الوطن التاريخي المفقود والواقع الجغرافي المفروض والمستقبل المتخيل المأمول .. وهي حالة أنتجت في حياتنا المبعثرة ثقافة موازية روائية بإمتياز تتداخل فيها الأبعاد إلى درجة الإنصهار فلا تكاد تبصر عبرها الفواصل الدقيقة ما بين الوطن الماضي "الذاكرة " والوطن المستقبل "الحلم " .. أما الحاضر أو ما نظنه حاضرا فهو حالة بينهما يكاد يحيلها التجاذب ،بل أحالها فعلا ، إلى انقسام وصراع وتصادم يجد ترجمته الحقيقة اليوم في إنقسامنا السياسي وإقتتالنا الداخلي وفي تناقض منطلقاتنا ودوافعنا الفكرية والعقائدية ..
إنها ثقافة أساسها الإنقطاع عن التاريخ مسكونة بالشتات والهجرة والخيمة والخيم والموت وسطوة الآخرين .. وإنظروا إلى تجليات هذه الثقافة في أبعادها المختلفة ، في الشعر والرواية أو القصة والمسرح والغناء ستجدونها تزخر بمعاني ومفردات هذا الإنقطاع وتعبر عنه في نفس الوقت، كما تشير بمجملها إلى الحاجة الملحة والرغبة العميقة بالخلاص .
***
ربما يظن البعض بأن الفلسطيني قد تجاوز هذه الحالة بعد أن عادت له حاسة الإتجاه فانخرط منذ عام 1965 في تكوين حالة جديدة أسست منذ ذلك الوقت لثقافة مختلفة أغنت اللوحة الفلسطينية بمفردات جذرية رادكالية كالثورة والتسلل والكفاح المسلح والإنتفاضة .. لا بأس ،لكن إذا كانت العبرة بالنهايات كما يقولون فإن ما نراه اليوم بعد أربعين عاما من هذا التحول هو أن الثورة ، ليس فقط لم تعد مقبولة ، بل ولم تعد معقولة أيضا خصوصا بعد أن فقدت ،طوال تلك العقود ، قوتها وعمقها وتحالفاتها .. كما أن المحتل الذي كان هدفا مشروعا يسوغ ويبرر التسلل ليلا وتجاوز الحدود لملاقاته ومقاومته قد أصبح اليوم عنوانا وشريكا "شرعيا" للسلم لا يقتضيك لكي تصل إليه غير أن تنبذ المقاومة وتلقي السلاح وتأتيه إلى القدس المحتلة ليأخذك بالأحضان في وضح النهار !!!!.
***
كل تلك المفردات إذن ، كالثورة والتسلل والكفاح المسلح والإنتفاضة ، ليست في المحصلة غير محاولات فقط جربناها لكي ننتقل، في هذا البرزخ النكبوي ، من معادلة وجودنا الناقصة والمبتورة إلى معادلة أخرى للوجود نتمناها ناضجة ومكتملة .. وإذا استبهم هذا الأمر على أحد فإني أسأله
بماذا نفسر استعدادنا للتخلي عن تلك المفردات التاريخية، الكفاحية ، واستبدالها بمفردة واحدة "المفاوضات" وضعها وإشترطها الأعداء ؟ إلا إذا جاء قبولنا بهذه المفاوضات " ولنعترف بذلك صراحة "محاولة أخرى نجربها اليوم أيضا للوصول إلى نفس الغاية ، وهي الخروج من معادلة غيابنا المستمر إلى معادلة الحضور المرجوة والمأمولة ؟!
***
نحن، عندما ثرنا وتسللنا وانتفضنا ، إنما عبرنا مرة بالبندقية ومرة بالحجارة عن تبرمنا وضيقنا وافصحنا علانية عن رغبتنا الإنسانية المقموعة بالتحرر من الشروط اللا إنسانية لوجودنا المنكوب وعن حاجتنا الملحة للخروج من التيه والغياب غير العادل، لاجغرافيا ولا تاريخيا ، والدخول في معادلة جديدة تطمئن هواجسنا ومخاوفنا وتوفر لحياتنا بعض الحضور الآمن على بعض الجغرافيا وفي جزء من التاريخ .
لكننا ، بعد ضعفنا ويأسنا من تحقيق ذلك بالبندقية أو بالحجر ، آثرنا الإنخراط في "خدعة المفاوضات " وأضطررنا ، كرها أو طوعا ، أن نتخفف من نبرتنا العالية المتفاخرة كعادتها بشعارات النصر وتحقيق الإنجازات الوطنية .. لعلنا نمضي في نفس الطريق ، طريق المحاولات ، آملين هذه المرة ، وبغير الموت ونزف الدماء ، أن تكون النتيجة هي نفسها التي أعلنا لأجلها الثورة وحملنا لأجلها البنادق وهي جغرفة وجودنا وتأريخه في دولة " نتمناها " ونأمل أن نتحرر على أرضها من خوفنا وغيابنا
***
نجحت خدعة المفاوضات وبدا لنا أن المحاولة السلمية قد أثمرت حيث ظننا إذ أدخلنا إلى بعض الضفة وغزة أن الهدف قد تحقق وأننا نهبط اليوم أحرار على أول الجغرافيا ونستطيع بالتالي أن نتجاوز عليها تقافة الغياب القديمة بكل إرثها الحزين ونعيد تأسيس ثقافة جديدة للحضور تصلنا بأول التاريخ
***
لكن قد يعز علينا، في هذا السياق السلمي ، التخلي بيسر عن مواريث الثقافة السابقة، ثقافة الثورة والمقاومة والكفاح المسلح بعد إلفة استمرت عقود طويلة عكست خلالها معاناتنا وعبرت عن تطلعاتنا وأحيت فينا وأشاعت بشائر النصر والتحرير .. بينما أصبحنا مضطرين ، ليس فقط بحكم إشتراطات السلام الموقع ، ولكن أيضا بعد أن تبين عبر تجربة هذا الحضور السلمي ، على ضيق مساحته الزمنية ، من نفور وتصادم ما بين الثقافة الكفاحية الموروثة من جهة وبين ما يقتضيه هذا الحضور السياسي من ثقافة سلمية مغايرة من جهة أخرى
***
وأصبح من الضروري إذن أن نكون اكثر حذرا في تأسيس وبناء هذه المرحلة فلا نجعل من تصادم الثقافة بداية لتصادم المجتمع ، كما هو حادث هذه الأيام في قطاع غزة .. الأمر الذي يستوجب ،في ظني ، طرح بعض الأسئلة على أصحاب الشان السياسي في بلادنا على إختلاف سياساتهم وعقائدهم آملين أن نلمس إجابات مقنعة لها
1- كيف ستنظمون حضورنا "السلمي"الحديث بثقافة ما بعد النكبة ؟
2- هل ستنجحون في إرساء قواعد التنمية المدنية والتربية الوطنية بثقافة البنادق والعشائر ؟
3- كيف ستنجحون في تسييد القانون المدني الحديث بثقافة سائدة تزخر بسطوة سيادات فصائلية وعسكرية وعقائدية لا تحترم الحداثة بل تتهمها بالكفر ؟
4- هل ستنجحون في إحترام حضورنا السياسي "الحديث" بينما يعتبره بعضنا حضورا مزيفا بل ويتهمه بالخيانة وبتغييب الحضور الحقيقي الجغرافي والتاريخي ؟
5- كيف ستنهضون إذا ما اختلفتم على اللحظة الراهنة ؟ وهل نعتبر هذه اللحظة ركنا نبني عليه حاضرنا وننطلق منه إلى الأمام ؟أم نعتبرها، كما يرى البعض ، لحظة انحدار كارثي بكل ما أشاعته فينا ثقافة ما بعد النكبة من أحلام وتطلعات وشعارات عزيزة ؟
***
وأريد في ختام هذه المقالة المختصرة أن أشير إلى أمر أرى من الضرورة الإشارة إليه وهو :
إن الخروج القسري من الجغرافيا الوطنية القديمة "ما قبل النكبة " لا يعني بالضرورة الخروج القصري من ثقافتها .. كما أن القبول بإشتراطات الدخول السياسي "السلمي " إلى وعد أو وهم الدولة الحديثة لا يعكس ولا يعني بالضرورة أيضا إستعدادنا الثقافي للقبول بالحداثة .
من هنا فإني أنصح آولئك الذين يريدون اليوم حماية "حضورهم" الحديث ويحرصون على نجاح علاقاتهم الشخصية أو "الوطنية " بالتاريخ العولمي الجديد أن يبحثوا بحذر شديد عن صيغة ما تنقذ الوعي الوطني وتحرره من حالة التشتت والإستلاب والتصادم ما بين الماضي والحاضر ، القديم والحديث ، .. صيغة تتعامل مع مقتضيات الحاضر ومتطلباته من دون إغفال حاجة هذا الحاضر إلى التواصل ، بشكل من الأشكال ، مع جذوره التاريخية من جهة ، كما لا تستدرجها وتجرها من خلفها العناوين والشعارات الحداثية التي لا وجود لأسبابها في الوضع الفلسطيني القائم اليوم من جهة أخرى .
هل يمكن إنجاز هذه الصيغة الوطنية المعقدة ؟
آمل ألا يستعين أحد أو طرف من الأطراف هنا في فلسطين على إنجاز هذه الصيغة الوطنية بوسائل وأدوات أو ...... أسلحة أجنبية