الطب النفسي عند الأطفال والمراهقين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د.محمد أنس بركات
    عضو الملتقى
    • 14-01-2010
    • 51

    الطب النفسي عند الأطفال والمراهقين

    قصص ولوحات
    في الطب النفسي عند الأطفال والمراهقين
    الجزء الأول
    الدكتور محمد أنس بركات
    [IMG]file:///C:/DOCUME%7E1/user/LOCALS%7E1/Temp/msohtml1/01/clip_image002.jpg[/IMG]
    مقدمة
    لا أخفي القارئ أنه عندما بدأت تروادني فكرة نشر كتاب قصصي يتناول الطب النفسي عند الأطفال , جال في ذهني أفكار متعددة لتناول هذا الموضوع الذي يهدف في النهاية إلى زيادة المعرفة في هذا الاختصاص , ولقد وجدت أن ّ الطريقة المثلى لعرض المواضيع يجب أن تكون بشكل قصصي جذاب .
    وقد حرصت أن تكون المواضيع أقرب للقارئ , جذابة ومفهومة , تبتعد قدر الإمكان عن تعقيدات المفردات الطبية , وتحمل في الوقت نفسه أجمل الأفكار والمعاني .
    يحتوي الكتاب في طياته مواضيع مختلفة تبحث في جوانب متعددة من الإضطرابات السلوكية والنفسية عند الأطفال , منذ الطفولة الباكرة إلى المراحل المتأخرة من المراهقة والبلوغ .
    حاولت في البداية التعمق في الإطلاع والإسهاب في قراءة مانشر عن أدب الطب النفسي عند الأطفال باللغة العربية حيث توجد بعض المنارات المضيئة في حلكة الليل المظلم , وهي بلا شك قليلة كماهو الحال في بقية العلوم , هذا مازادني إصراراً لمتابعة الدرب في تذليل الصعاب إلى أن يرى المؤلف الضوء إن شاء الله .
    سلكت في منهج التأليف أسلوبا ً متعدد المحاور في المخاطبة يهدف إلى الوصل بين حلقات ثلاث هي الطفل والأسرة والبيئة حتى يتثنى للقارئ الكريم تفهم مشاكل الطفولة بكل أبعادها , وبالتالي نستطيع تفهم مبادئ العلاج عندما نأخذ الطفل وعائلته وبيئته كعنصر واحد لايتجزء .
    ولقد اطلعت بإسهاب على مراجع متعددة كتبت بلغات مختلفة كي أجمع الأفكار والآراء , ووضعت عنوانا ً لحالات مرضية تحمل أسماءً لأطفال عانوا من تلك الإضطرابات , وقصصت سيرتهم أقرب مايمكن للواقع , وابتعدت قدر الإمكان عن جمود البحث العلمي , ومزجت بين المعلومات الطبية والقصة السريرية لتأخذ قالبا ً واحدا ً يتمثل بإنسان يعاني وليس بمرض مكبل بقواعد الكتاب الطبي .
    وفي نهاية المطاف ليس بوسعي إلا الرجاء والإستعانة بالله, هو وليّ في الدنيا ولآخرة , أرجو منه التوفيق وحسن الإختيار , وأن يكون هذا المؤلف المتواضع شمعة يضاء بها عند الحاجة وعونا ً لكل من أحب عالم الطفولة .


    تاريخ الطب النفسي
    أبدء رحلتي بدخولي في آلة الزمن , وأذهب عبر آلاف السنين لزمن فقد الكثير من ذاكرته , وكأنه رجل كهل ينطق بعبارات تحمل بمعناها الحكمة والخبرة الممزوجة تارة بتعابيرالأمل وتارة أخرى بعلامات الحزن والألم المدفون في أعماق ذاكرته . ولم تستغرق رحلتي إلا ّ بضع لحظات , وهي كذلك عندما أرغب في التنقل عبر الزمن من مكان لآخر , أتجول عبرها بين الأمم والحضارات بتواريخ مختلفة وضعت لتجعل في التاريخ محطات نلقي فيها المرساة ونسترجع ماحدث .
    بدأت رحلتي باسترجاع مقولة هيبوقراط لتلاميذه في خدمة المريض " إن لم تستطيعوا فعل الخير , فعلى الأقل لاتضروا المريض " , وتبقى مقولته سارية للوقت الراهن , تحمل بمعناها حاجة الإنسان الأبدية للعلم والحقيقة , وهذه الحقيقة غير مطلقة , فما هو منطقي في الماضي يبدو غريبا ً ومستهجنا ً في الحاضر , وماهو مألوف في زماننا سيكون مخالفا ً في المستقبل يخضع للتطوير والتعديل .
    كانت محطتي الأولى في زمن الفراعنة , طفل يعاني من الهذيان نتيجة غضب الطبيعة , والعلاج السحري ليس إلا ّ مزيجا ً من النباتات دُونت صفاتها على ورق البردي . وتوالت الأيام بعد ذلك إلى حين ظهور الديانات السماوية حيث رفع فيها الإنسان لرتبة خليفة الله عز وجل على الأرض دون إدراك معناها العميق بإحسان الإنسان لأخيه ورفقه بحاله , وعلل الإنسان مختلف الإصابات العقلية للعقاب الإلهي تارة ً أو لسيطرة الشيطان تارة ً أخرى . ولم تخل ُ رحلتي من إطلالات تتسم بالتفهم والعطف فالمسلمون في بلاد الأندلس وفي عاصمة العلم بغداد من أوائل دارسي علم النفس وأضطراباته , أسماء أشتهرت على مر العصور مثل الرازي وأبن سينا , أسسوا أماكن خاصة لإيواء المصابين منذ عام 1173 م حتى يضمنوا لهم الحماية ويصونوا إنسانيتهم في فترة عُرفت أوروبا بالعصور الوسطى أو عصر الظلام , انتشر فيها الطاعون ليحصد عشرات بل مئات الألوف ويضعف من عقيدة المؤمنين , ولم يجد بابا الكنيسة حينئذ " اينوسان الثالث " من مخرج لإرضاء الرب ولمَّ شمل البقية سوى حرق الأطفال والنساء والشيوخ المصابين بتهمة الشعوذة .
    عودة إلى العصور القديمة حيث دون الفرس منذ القرن السادس قبل الميلاد أن َّ الإنسان بصراع دائم بين رغبة الجسد وفضيلة النفس , وليس المرض النفسي إلا َّ اشتدادا ً لهذا الصراع مما يتطلب تدخل عارف لقّب َ حينئذ بطبيب الكلام , وربما كان ذلك بمثابة حجر الأساس لما يعرف الآن بالتحليل النفسي .
    ولقد عزى هيبوقراط , في العصر الإغريقي , الهستريا إلى التغيرات الطارئة على الرحم واصفا ً إياه بقدرته على التجوال داخل الجسد ضاغطا ً على الأعضاء ومسببا ً لأعراض الهستريا ؛ وبقيت نظريته سائدة حتى عصر النهضة حيث كانت تستخدم مبخرات عطرة الرائحة لجلب الرحم لمكانه ومبخرات كريهة الرائحة لطرده من الأماكن الأخرى .
    وعندما بحثت في مراجع الأدب الطبي عن بعض المنارات المضيئة هنا وهناك , ظهرت بعض الأسماء الخالدة كجان وير , وباراسلز , وروبرت برتون الذين نظروا للمريض المصاب بإضطراب نفسي نظرة إنسانية ؛ أما باراسلز فلقد شرح الإختلال العقلي بأنه إضطرا ب ناتج عن خلل في كميائيات الجسد ؛ وأكد َّ برتون على دور التعاطف والحديث مع المصاب في تخفيف آلامه .
    أصدر لويس الرابع عشر في فرنسا عام 1656 قرارا ًيأمر فيه وضع كل المشردين بمن فيهم المرضى النفسيين في غرف خاصة ضمن المصحات الطبية , بعيدا ًعن قساوة الشارع , ولكنهم وقعوا في مهانة المكان المغلق , مكبلي الأيدي , في أقبية رطبة تفتقد لأدنى الظروف الصحية المناسبة , يضربون بالعصا ويتركون عارين دون ملابس أو غطاء , إلى درجة مقولة ريل , الطبيب النفسي الألماني في عصر النهضة " سيفقد المصاب مابقي من إتزان في عقله عندما ينظر إلى مستقره الأخير " وكذلك " تسدل هذه الرؤية الظلام الكامل على مابقي من نور بسيط في عقول هؤلاء المرضى " .


    أما الطبيب الفرنسي , فيليب بينل , فقد عمل في مشفى بيستر لرعاية المرضى المصابين بإضرابات نفسية , حررهم من القيود وبدء بإستخدام المعالجة السلوكية الأقرب للإنسانية في معاملتهم , وكانت حينئذ المعالجة المنطقية الوحيدة , وماعدا ذلك كان خليطا ً من أجهزة ومواد " الكرسي الهزاز أو الدوار , الحمام الفجائي , حزام مضاد للإستمناء , أو ممزوج عصارة الصفراء من كلب أسود مع دماغ غراب , وخلطات أخرى كفيلة بإرسال أشهر الأطباء في الوقت الحاضر للإستشفاء عند وصفها .
    بدأ القرن السابع عشر وتلاه الثامن بإعطاء المزيد من الأولوية في معالجة الأمراض النفسية في أوربا , حيث أنشئت المصحات العقلية ووضعت الشرائع والقوانين لمتابعة المصابين , وتلاها مع مرور الزمن الإهتمام بالإعاقة , ومن ثمّ تفهم أسباب التأخر العقلي وبالتالي بدء التبحر في أعماق بحر الطفولة ومعرفة ماهو طبيعي أو مرضي , وإرساخ قواعد الإختبارات النفسية والتحليل النفسي , وانفتحت آفاق مختلفة لمعالجة الإضطرابات السلوكية والنفسية عند الأطفال والبالغين ؛ أتت هذه الخطوات تدريجيا ً لتوضح الترابط بين الأسباب الوراثية والعضوية والبيئية في الحدثية الإمراضية ؛ وهي في واقع الحال لاتمثل إلاّ بداية الطريق نحو تفهم أوسع وأعمق , وعرفة مدى تداخل العوامل المختلفة في تطور المرض واستفحاله .
    كانت قصة الطفل فيكتور من منطقة افيرون في فرنسا بداية لنظرة إنسانية حاول فيها الطبيب ايتار تفهم ومعالجة إصابة الطفل الملقب" بالمتوحش" , ولقب كذلك بسبب انقطاعه التام عن المحيط الاجتماعي وبقاؤه شارد في الغابات ؛ ولم يكن لفيكتور مخرجا ً من واقعه المؤلم رغم محاولة ايتار ايجاد أدنى الدرجات لدمجه في المجتمع ؛ ولقد باءت محاولة ايتار بالفشل ووضع فيكتور في نهاية المطاف مع الأطفال الصم والبكم لعدم وجود مؤسسات مختصة تهتم بالاضطرابات السلوكية والنفسية عند الأطفال .
    بدأ التوجه , منذ مطلع القرن التاسع عشر , نحو معرفة آلية هذه الإصابات حيث اهتم فالريه - وهو طبيب عمل في مشفى سالبترير في باريس – بمعرفة آلية الإصابة وعزاها إلى سوء عمل بعض المناطق الدماغية , بينما أكد فليكس أن َّ السبب العضوي غير كاف لشرح آلية كل الإصابات وأن َّ للبيئة والإهمال والإساءة دور إضافي في تطور المرض النفسي , واتجه بعض الباحثين آنذاك إلى الواقع العملي مثل دولاسيوف الذي بيّن َ أنَّ المصابين بالبلاهة لديهم بعض الملكات غير المستثمرة , وبتحريض هذه الملكات واستثارتها نستطيع تحسين سلوك الطفل وتوسيع آفاق ملكاته المعرفية .
    كما تضافرت الحوادث والجهود لفتح آفاق جديدة , فلم يعد مفهوم المصحات كافيا ً لردم الهوة بين الإصابة والعلاج , وبدأ يلوح في الأفق مصطلح جديد بنظرة تتطلع إلى حيز أوسع ألا وهي مفهوم المصح-التأهيل- المدرسة ؛ لم تر هذه النظرة الجديدة النور في فرنسا إلا ّ في مطلع القرن العشرين ؛ وكتب بورنوفيل في ذاك الوقت خلاصة بحثه عن واقع المصحات من الناحية الإنسانية والتربوية , وأكدّ على ضرورة تحسين الظروف الصحية والغذائية والتعليمية , وأوضح أهمية التأهيل التربوي السلوكي في تنشئة الأطفال المصابين بالاضطرابات العقلية , علما ً أن َّ عدد المصحات- المدرسة في فرنسا لم يتجاوز في ذاك الوقت الخمس مراكز .
    نقلة سريعة إلى أعماق التحليل النفسي الذي أخذ جذوره من التطور العاطفي ونظرياته خلال مرحلة الطفولة حيث كتب سغمون فرويد ( 1856-1939) نظريته في مراحل التطور العاطفي للطفل , ووسائل الدفاع في مواجهة الصراع القائم خلال هذه المراحل ( المرحلة الفموية ثم الشرجية ثم التناسلية فالأوديبية , وبعد ذلك مرحلة الكمون فالمراهقة ) ؛ تأخذ هذه المراحل الشكل المتتالي ولاتبنى المرحلة المتأخرة إلا َّ على أرضية المرحلة السابقة بما تحمله من اضطراب أو خلل ؛ وقد يحدث التراجع للمكتسبات تاركة بذلك خللا ً في بناء شخصية الطفل .
    أما سبيتز – طبيب هنغاري عاش خلال الفترة بين ( 1887-1974) وعمل في الولايات المتحدة – فقد سلط الضوء على منحى آخر في التطور العاطفي مقسما ً إياه إلى ثلاثة مراحل : تتسم المرحلة الأولى بظهور الإبتسامة بين الشهرالثاني والثالث وهي أساسية للإنفتاح على العالم الخارجي ؛ تأتي بعدها المرحلة الثانية أو مايعرف بمرحلة القلق والخوف من الإنفصال عن الأم ؛ وتتلوها المرحلة الثالثة حيث يُظهر الطفل بوادر العلاقة المنفصلة عن الأم بلفظ كلمة ( لا أو كلا) دالة على الدخول في مرحلة التمييز والكيان المنفصل .
    لايسعني في هذا الفصل الإسهاب في التطور العاطفي للطفل , وللقارئ الكريم التبحر فيما نشر من كتب ومقالات لباحثين تركوا بصماتهم كميلاني كلين ومارغريت ماهلر وفينيكوت ودانييل سترن والعديد من العلماء الآخرين ؛ وقبل الإنتقال إلى محطة أخرى , أحب أن ّ أنوه عن مايعرف بالشيء الإنتقالي وهو غالبا ً لعبة يستخدمها الطفل وتبقى ملازمة له للتخفيف من أعراض القلق .
    ويعتبر التطور المعرفي من الركائز التي بني عليها علم النفس والطب النفسي عند الأطفال والبالغين؛وضع جان بياجيه – عالم نفس سويسري(1896-1980)-
    بعض المبادئ الهامة في فهم التطور المعرفي للطفل , فحسب رؤيته هناك تلازم أساسي بين ماهو فطري وماهو مكتسب ؛ أما التعلم فهو خاضع للتجارب المكتسبة التي تتطلب جهازا ً عصبيا ً سليما ً, كذلك التعلم بحاجة لتجارب متوالية متناسبة مع عمر الطفل مما يزيد ويُغني قدراته المكتسبة , ويجعله في مركز التبادل من الأخذ والعطاء ؛ كل ذلك سيزيد من تراكم المعلومات عند الطفل الذي يبدأ بجمعها وتصنيفها ثم استيعابها وتحليلها , ومن ثم تعليلها وتجريدها , ومزيدا ً من العمليات العقلية التي تزداد مع مرور الزمن تعقيدا ً . كما وضع بياجه مراحل لإستقلاب الفكرة تبدأ بالتأقلم معها وتتفاعل معها بمزيد من التفهم وتنتهي بالإنسجام مع الواقع .
    ويبدء الطفل بإستيعاب مفهوم بقاء الشيء إذا أخفي عنه بعمر يتراوح بين 8-9 أشهر , وتتطور لديه فيما بعد المعرفة التجريبية لتأخذ أفاقا ً أوسع حيث تظهر



    نواة مفهوم اللعب الرمزي والتقليد والرسم ومن ثم اللغة والعمليات الفكرية المجردة .
    بعد هذه اللمحة السريعة عبر التاريخ , جلست أناجي نفسي عن واقعنا الحالي في التعامل مع الإضطرابات السلوكية والنفسية عند الأطفال وتسألت لم َ نحن متخلفون , لاأقول عما يجري في الغرب ولكن عما يجب أن نكون نحن عليه , والسبب في تأخرنا أننا أهملنا العلم والقراءة والبحث عن الحقيقة , وربما لأن الحقيقة تؤلمنا فقبلنا بواقعنا واستكنا لما نحن عليه .
    جلست أكتب الكلمات الأخيرة من هذا الفصل عند غروب الشمس وفي قرارة نفسي أننا نحيا مع الأمل وفي غروب الشمس وإشراقها يتجدد هذا الأمل ليصبح حقيقة وتصبح ثقافتنا نبراسا ً يحتذى به ؛ ولكن الإبداع يتطلب كالنبتة بيئة وتربة مناسبة لتتفتح أزهاره وتزكو رائحته ؛ وتبقى مسؤليتنا في تربية الأجيال المفتاح لمستقبل أفضل تكون فيه الوسائل المتبعة في تعليم الأطفال وارشادهم ومعرفة العوائق وتفهم الصعوبات وسبر المعاناةفي جميع المجالات هي الأفضل مما كانت عليه وربما الأفضل مما عليه في مناطق أخرى من العالم .
    تتطلب هذه التطلعات الأساسية لبناء مجتمع أفضل الإهتمام من الجهات المسؤولة لإنشاء المراكز المختصة في العناية النفسية للأطفال والمراهقين , وبالتأكيد العمل على تأهيل الكوادر المختصة ونشر الوعي بين فئات المجتمع لأهمية الصحة النفسية خلال هذه المرحلة الأساسية من حياة الإنسان .
    اضطرابات المزاج والاكتئاب
    داوود ... النهاية الحزينة

    قصة داوود مؤلمة, وما يؤلم أكثر أنها ليست البداية ولا النهاية في سلسة الحوادث التي حرمتها القيم الإنسانية والأديان السماوية . الحياة منحة من الله, يجب أن نستغلها لسعادة أنفسنا وسعادة الآخرين. ونظرتنا المنطقية للحياة لا تلبث أن تختل لتترك روحا ً مريضة بالحزن والاكتئاب, يائسة وممزقة, تائهة في ظلمات اليأس, ترميها أمواج البحر العاتية فتغرقها أو ترديها إلى الشاطئ ركاما ً, يغرقها شبح الموت الذي يعلم تمام العلم أين ومتى يصطاد فريسته ثم يأوي جائعا ً منتظراً فريسته القادمة دون كلل أو هوادة.
    من هو ذلك الشبح؟ سؤال يصعب الجواب عليه, فهو كذلك كما جاء بتعريف نفسه غير ملموس, موجود في كل زمان ومكان, ويسمي نفسه الانتحار.
    حاول الكثيرون النيل منه دون جدوى فهو ماكر كل المكر ليصل لهدفه؛ يبحث عن ضحاياه بكل خبث ومهارة, يبحث كالحشرات الممرضة على النبتة الضعيفة ليتمكن منها؛ ويبحث عن ضحاياه بتربة مناسبة, تلك التربة المتكلسة المالحة التي هي الكآبة, الاكتئاب الهوسي, اضطرابات الهوية الجنسية, وظروف حياتية مؤلمة تجعل من تلك التربة وسطا ً غير ملائم للحياة.

    تاريخيا ً, لم تخلُ منه الكتب بشتى أنواعها لتظهر الفاعل بطلا ً في قصة رومانسية, أو في مسرحية درامية كما هو الحال بروميو وجوليت لشكسبير وآنَّا كارينينا لتولستوي؛ وبعيدا ً عن الخيال نجد الواقع أشد ّ قسوة وألما ً كما هو الحال بالنسبة للفنان فنسان فان كوخ وللأديب أرنست همنغويه؛ وكذلك المزيد كل يوم وكأن القدر المحتوم لا مهرب منه.
    وإذا نظرنا في أفق التاريخ وجدنا بعض المحطات المحزنة تلوح هنا وهناك, ومثال ذلك ما حدث خلال العصور الوسطى في أوربا حيث كانت تحاكم جثة المنتحر وتعلق من رجليها في مشنقة قبل دفنها أو سحلها في الطرقات والميادين وربما استخراجها من القبر ليتم محاكمتها أو أن يحضر تمثالا ً يلقب باسم الميت لمحاكمته ثم ّ توارى الجثة مستقرها بسلام إن لم توضع في براميل إلى حد التعفن.
    وعندما ننظر إلى الأدب الطبي وما كتبه الباحثون الاجتماعيون عن الانتحار عند الأطفال والمراهقين نجد ما يلي : تندر حوادث الانتحار في مرحلة الطفولة إن لم تكن أندر من النادر قبل مرحلة المراهقة, وتغلب أن تكون أسباب الوفاة في مرحلة الطفولة متعلقة بإهمال الأهل أو المجتمع أو كلاهما كالتسممات وحوادث الطرق والاضطهاد والإهمال. ويشكل الانتحار السبب الثاني للوفيات بالولايات المتحدة في مرحلة المراهقة حيث يبلغ العدد سنويا ً 2000 حالة انتحار بين عمر 13-19 سنة, ويعتقد أن النسبة تفوق الرقم المعلن بكثير. وتغلب المحاولة عند الإناث باستخدام الأدوات الحادة لقطع الأوردة وتناول الأدوية والمواد السامة بينما يغلب عند الذكور استخدام الأسلحة النارية والشنق بمعنى أن َّ الوسائل المستخدمة عند الذكور غالبا ً ما تكون ناجعة.
    لماذا الانتحار؟ يبدو وراء هذا السؤال عدة محرضات الأولى هي الدوافع العدوانية داخل كل شخص فينا إذ تكون خامدة أو ثائرة كالبركان وقد تنقلب على الذات في لحظات فقدان قيمة الذات واليأس الكامل من الحياة ؛ وعندما يصل المزاج إلى أدنى درجاته ويدوم يسمى الكآبة, وهي ليست بمعنى اليأس العابر ولكنها كينونة مرضية تدوم فترة طويلة وتجعل الجسد صنما ً وعبدا ً لها لفقدان الأمل وتدني قيمة الذات, ولكن ما هي الأسباب؟
    عاملان أساسيان وراء الانتحار هما الاستعداد الوراثي لاضطرابات المزاج الشديدة والثاني هو المجتمع وظروف الحياة أو بمعنى أوسع البيئة المحيطة بكل فرد داخل بوتقة المجتمع.
    تلعب مادة السيروتونين, وهي ناقل كيميائي في الجملة العصبية, دورا ً أساسيا ً في التوازن العاطفي والمزاج؛ وقد يحدث اضطراب في آلية عمل جهاز المزاج ناجم عن استعداد وراثي وظروف بيئية مساعدة. مما سبق, نستطيع تفسير كثرة الاضطرابات النفسية في بعض العائلات,وقد تكون البيئة مساعدة لتطور الاضطرابات السلوكية والنفسية عند طفل ما, وأسأل القارئ الكريم عن المتوقع من بيئة يمارس فيها الاضطهاد كل يوم, وقد يعاني الطفل من الاعتداء الجسدي والجنسي دون القدرة على البوح بكلمة أو الخلاص, وربما الانحدار للعمل في أقبية الدعارة والمخدرات.
    يجرنا الحديث السابق لفتح باب الأمل نحو آفاق مبشرة تكون فيها الوقاية حجر الأساس وبالتالي نستطيع التعامل مع المراهق في أصعب الظروف القاسية ونخرجه من أزمته راضيا ً عن حياته ومتأقلما ً مع ظروفه, ومتأملا ً بمستقبل مشرق لأننا سنبعد فكرة الانتحار لا لمرة واحدة وإنما دون عودة.
    تقوم فكرة الوقاية على محورين الأول يهدف إلى مسح شامل لكل الأطفال الذين يرضخون تحت وطأة المعاناة ( تشرد, اضطهاد, اضطرابات نفسية عائلية) بينما يتمركز المحور الثاني على الوقاية من تكرر محاولات الانتحار حيث تلعب المراكز الطبية, ومراكز حماية الطفولة والأسرة, ومراكز العناية بالاضطرابات السلوكية والنفسية دورا ً أساسيا ً في حماية الأطفال والمراهقين ورعايتهم.
    أما ما يتعلق بالوسائل المتبعة في معالجة الاكتئاب والمتابعة فهي تضم محاور متعددة منها المعالجة الدوائية, والتقويم السلوكي, وتحسين الظروف البيئية وبالتالي لابد من إدراك أهمية الأسرة والبيئة في نجاح الوقاية أو فشلها.
    * * *

    عودة إلى تجسيد الواقع بقصة قصيرة تدور رحاها في مزيج من اليأس والأمل, تلك قصة داوود عندما لم يجد من يحيط به في أشد الأوقات, والعناية
    لا تكون فقط بالطعام والشراب وإنما أيضا ً بغذاء النفس, وبالدعم لمحاربة اليأس والكآبة, وبرفع السلاح دائما ً لمنع فكرة الانتحار الدخول في الأذهان.
    عاش داوود طفولته عند عمته بعيدا ً عن والده الذي أمضى بدوره قسما ً كبيرا ً من حياته في السجن, وعندما كان خارج السجن كان أيضا ً سجين الكحول والمخدرات,أما والدته فقد قضت نحبها بحادث سير دون معرفة تفاصيل الحادث, ولذلك لم يجد داوود من مأوى لطفولته إلا ّ عند عمته المتقدمة بالعمر والتي كانت تصارع الفقر بما تستلمه من راتبها التقاعدي الشهري الهزيل. ولقد قدر له مصارعة الحياة منذ نعومة أظفاره يقتات مع الجوع كل ما يصل يديه؛ ورغم الظروف الصعبة والرياح المعاكسة , قاوم داوود ظروف طفولته فلم أجده إلا ّ الطفل الضحوك في معظم الأحيان, ولم أدرك أنها كانت مصطنعة بامتياز إلا ّ عند دخول داوود مرحلة المراهقة حيث تبين لي أن َّ ظروف حياته نحتت شخصيته فتركته مصقولا ً دون أمل ووضعته في دوامة يصعب الخروج منها إلا ّ بمعجزة.
    ولد داوود كما سبق وذكرت في بيئة فقيرة مفككة؛ أما عمته فقد بلغت سن الكهولة وبدت لكل من يراها أنها بحاجة للمساعدة دون أن تتطلبها جهرا ً بسبب عزة نفسها؛ ولقد لقبت نفسها بأم داوود طالما وجدت في داوود أبنا ً لها بعد حياة أمضتها في درب العنوسة عاملة في مصنع للنسيج براتب متواضع يتناسب مع مستواها العلمي؛ وتحدّت أم داوود كل الظروف الصعبة وعانت ما عانت من أهوال الحياة دون فقدان بصيص النور الذي جعل من حياتها غرفة مظلمة تتخللها خيوط النور بعض الأحيان وعاشت تتدبر أمرها براتب ضئيل لا يكفي لسد رمق جوعها والبقاء على قيد الحياة إلا ّ إذا استطاعت أن تحسن التصرف في تدبير الفقر المدقع.


    رجعت بذاكرتي إلى أحد الأيام الباردة من شتاء عام 1993 حيث زارني داوود مع عمته لأول مرة وقد بلغ من العمر آنذاك أربع سنوات؛ كان يرتدي قميصا ً بدت عليه علامات التآكل لكثرة الاستخدام دون سترة خارجية تحميه من قسوة البرد؛ وقد حز ّ في نفسي أن أراه يقاوم البرد بما لدى عمته من إمكانيات محدودة؛ وكانت نظراته الجانبية الخجولة تترقبني من وقت لآخر يتسلل بينها بعض النظرات المباشرة والجامدة التي تحمل معها معاني الحذر والترقب. حاولت التقرب منه شيئاً فشيئا ً لأسبر مدى مرونته في التأقلم مع الحوادث فوجدت في أعماقه الطفل اللعوب والمرح؛ وأكدت لي هذه التجربة أنه يعاني ظروفا ً صعبة تضفي عليه ذلك الحذر ذا النظرات المترقبة للخطر.
    بدأت استشارتي بالفحص الطبي للبلعوم والأذن... وأنهيتها بوصفة تتضمن صاد حيوي لمعالجة إنتان اللوزات. كانت الزيارة الأولى بمثابة الاستطلاع لواقع داوود حيث أدركت مدى تأثره بظروف بيئته وعرفت أنه ينمو ضمن واقع محزن ولن تطول الأيام إلا ّ وهو فريسة للضياع والهلاك.
    خاطبته : " داوود, أنت طفل تسمع كلام الماما ويجب أن تطيعها فهي تحبك وليس لها سواك".
    ارتسمت البسمة على شفتيه انعكاسا ً لتعبير وجهي وهي وإن دلت على شيء فهو براءة الطفولة, بينما بقيت النظرة الحزينة مسيطرة على ملامح أم داوود.
    ردت أم داوود: " هل تعلم يا حكيم أن داوود الذي تراه أمامك يختلف عمن هو في المنزل؟؛ بدأ يتكلم معي كلاما ً نابيا ً؛ وإذا ثار يكسر الأشياء ويعبث بممتلكاتنا؛وكل ما سبق لا يقلقني ولكن أن أراه يضرب رأسه بالحائط أو على الأرض مرارا ً إلى أن أتوسل إليه أن يتوقف, هذا الأمر لا استطيع تحمله".
    نظرت إلى داوود محاولا ً أن أرى التغيرات على تعبير وجهه فلم أجد سوى الهروب بالنظرات إلى الصور المعلقة على الجدار, تزامنت مع آذان صائغة لما يجري حولها.
    توالت الأيام بعد ذلك لتنسني ما انطبع في نفسي من حال داوود؛ مضت سنوات دون أخبار عن صحته الجسدية والنفسية رغم إعلام عمته بأنني لن أتقاضى أجور استشارتي وأنني سأرحب بهما في أي زمان ومكان؛ وجاء اليوم الذي علمت فيه عن طريق الجوار أثناء فحص لطفل يقطن أهله بجانب سكن أم داوود أنه وعمته يعانيان الفقر والمحاكم لأنهما يقطنان بالأجرة وصاحب المنزل يرغب بإخلائهما مقابل مبلغ يصعب من خلاله شراء حتى ولو غرفة في منطقة نائية. كما علمت أن َّ داوود يزداد عسرة ويسمع صوت شجاره مع عمته؛ وليس من الغريب أن تمضي عمته الساعات بحثا ً عنه في مرمى القمامة قريبا ً من سكنهم.
    أتت الزيارة التالية عند بلوغ داوود الثانية عشر من عمره؛ وجدته جالسا ً مع عمته في غرفة الانتظار؛ أهلت بهما ولمتهما عن انقطاع أخبارهما؛ ومررت بنظرات خاطفة وسريعة متأملا ً وجه داوود فوجدت تقاسيم وجهه قد تغيرت عمّا ألفته في مخيلتي وهذا طبيعي في التغيرات الفيزيولوجية للنمو عند الأطفال عندما يقتربون من سن البلوغ ولكن التعبير هنا لم يكن لينتمي إلى الطفولة ببهجتها وسرورها إنما يحمل بين طياته مشاعر حزينة تنتمي إلى الطرف الآخر المظلم من الحياة.
    بدأت الحديث معهما بالسؤال عن أخبارهما .. كيف أخبارك يا داوود؟
    ولم يكن الجواب إلا ّ ابتسامة خجولة ...
    " أم داوود : أريد أن أتكلم معك على انفراد ... " .
    إذا كان الأمر يتعلق بداوود فالأفضل أن نتكلم أمامه بوضوح .
    " بصراحة حكيم... أنقذني... لم أعد أحتمل حياتي... ثم أخذت تذرف الدموع وهي تجهش... لم أعد أحتمل... لم أعد أحتمل... يا رب تأخذ أمانتك وتريحني ".
    طيبت خاطرها وهدأت من ثورة مشاعرها وأخذت أتعمق شيئا ً فشيئا ً عن سبب انهيارها... عليك أن توضحي ما في نفسك وعلى داوود أن يسمع.
    " داوود يا حكيم ... يزداد عسرة يوما ًبعد يوم... أصبح يسرق.. أخذ من محفظتي مئة ليرة ليشتري علبة دخان.. المبلغ المتبقي لسد جوعنا وعدم مد ّ اليد للناس... وما بعد ليس بالأفضل.. إذا تكلمت لأنصحه ثار غضبه... قد يمضي الساعات وحده وهو يسمع الموسيقى الصاخبة, وقد يكسر الأشياء في ثورات غضبه, هذا إذا بقي لدينا شيء ليكسره.. أطباعه متقلبة.. أنظر إليه كم أصبح نحيلا ً.. ينام متأخرا ً ويبقى لفترات طويلة متأملا ً في الفراغ.. لقد حاول التهجم علي ّ بالضرب .. أصبحت أخشى عليه من أي ّ تصرف.. يغلب على كلامه الحزن وإذا كان مسرورا ً تكلم عن سعادته إذا مات.
    كنت خلال إصغائي لأم داوود متأملا ً بأبعاد الكلام, ومدركا ً أن نفسية داوود راسخة على شرخ قد يؤول للانهيار في أية لحظة وخصوصا ً أنه مقدم على فترة صعبة هي فترة المراهقة.
    داوود.. سمعت كلام الماما فما هو جوابك؟
    نظر للأرض وأجابني: " لا أحد يحبني.. يسخر مني أولاد الحارة..." ثم نظر إلي ّ والدمعة تتلألأ في عينيه. فترة من الصمت هيمنت على المشهد ولمحات سريعة من الحل ّ دارت في مخيلتي.. لا شك أن ّ حياة داوود مؤلمة ولكن أين المفر؟ قرى الأطفال لا تستقبل إلا َّ الأطفال دون عمر محدد كي يستطيعوا التأقلم مع البيئة الجديدة.. لا يملك داوود من هذه الدنيا إلا َّ عمته وبقية الأقرباء هم أبعد من الغرباء... أما الجمعيات الخيرية فتقدم الدعم المادي من وقت لآخر ولكن يعسر عليها تفهم الأبعاد النفسية والعلاجية لمثل هذه الحالات... ما العمل؟
    لم يبق أمامي وعلى المدى المنظور في مخيلتي إلا ّ المساعدة على أرض الواقع وذلك بدعم العمة ماديا ًعن طريق الجمعيات الخيرية وبالتالي دعم داوود صحيا ً واجتماعيا ً ونفسيا ً بالزيارات المتكررة.
    مرت الأيام والأشهر والزيارات المتوقعة لم تكن إلا َّ حبرا ً على ورق؛ كان الهاتف الوسيلة الوحيدة التي بقيت لأم داوود لتعبر عن همها وحزنها ؛ لم يعد لها القدرة على إقناع داوود لزيارتي؛ ومن خلال الأحاديث الطويلة عبر الهاتف تبين لي أن َّ داوود انجرف إلى بيئة يدوس خلالها الأوحال ولن تطول الفترة ليمشي في الرمال المتحركة ولتبتلعه دون جهد, فهو الآن قادر على ضرب عمته للحصول على المال, ومنه إلى التبغ والكحول, وهو الآن يائس من حياته, وكل الحلول مطروحة أمامه بما فيها الانتحار.. كله سيء وبنمط واحد.. كله أسود وبلون واحد.. لم يعد لأي شيء طعم أو ملذة, لم يعد مهتما ً بملابسه, انعزل عن المجتمع وبدأ يعيش في عالمه الخاص, حتى عمته أصبحت بعيدة عنه كل البعد ولم تعد تجد الوسيلة لتضيء قلبه وترسم البهجة على شفتيه.
    أذكر في أحد المرات كلام عمته عن الموت: " تصور يا دكتور, داوود يهدد بقتل نفسه" ولكنها اعتبرت كلامه ضربا ً من الخيال وابتزازا ً ليحصل على
    ما يريد.
    لم تمض فترة طويلة ليحصل ما هو متوقع, ولم تكن الحادثة مفاجأة لمحصول الأيام الماضية, هكذا تلقيت خبر نقل داوود إلى المشفى في حالة إغماء نتيجة تناول أدوية تستخدمها عمته لتهدئ أعصابها, ذهبت لرؤيته فوجدته في غرفة الإسعاف فاقد الوعي حيث تلقى هناك العناية لتأمين الطريق الهوائي وحماية الرئتين من الاستنشاق؛ وباشر الطبيب المناوب إجراء غسيلا ً للمعدة طالما أن ّ المدة المنقضية منذ تناول المادة المثبطة للجملة العصبية لم تتجاوز الساعتين؛ ثم نقل إلى شعبة العناية المشددة للمتابعة ومراقبة العلامات الحيوية. ولقد علمت بعد ذلك أن ّ المادة المستخدمة هي مهدئ شديد التأثير تتناوله عمته كمنوم وقد تناول داوود ما وجده في العلبة بمقدار خمسة عشر حبة وهي ليست فقط كافية لإدخال أي شخص بالغ في السبات العميق وإنما كفيلة لإرساله إلى السماء.
    أقام داوود في شعبة العناية المشددة مدة خمسة أيام تعافى خلالها من وضعه الحرج وعاد لوعيه الطبيعي تدريجيا ًوكأنه عائد من سفر بعيد, من عالم يصعب التكلم عنه. وإذا كانت مشاعره تبوح بتعبير على وجهه فهي لا تتعدى انحناء الرأس للجانب يتبعها تساقط الدموع على وجنتين لم يبق للفرح أثر عليهما.
    زرت داوود قبل خروجه من المشفى بساعات, كانت عمته جالسة بجنبي وقد بدت قلقة على مستقبل داوود. بدأت حديثها بقولها أنها أعطت كل ما تستطيع فلماذا فعل داوود بنفسه ما فعل؛ ثم تابعت وهي تقول: " أعلم ما حدث, كل ما تراه بفعل السحر والحسد, ولكن لماذا؟ لم نؤذي أحد! لماذا وسوس الشيطان له حتى فعل ما فعل؟ ". ولقد علمت أن َّ المشفى قد أخبرت الأمن الجنائي لتحري ملابسات الحادث وصدر تقرير الطبيب الشرعي بأن الحادث ليس إلا َّ محاولة انتحار في مرحلة المراهقة .
    ترك داوود المشفى بعد فترة استشفاء لم تزد عن خمسة أيام بسبب التكاليف المادية ولأن عمته باتت تعاني وتستنجد للعودة إلى منزلها. كانت الفترة كافية ليستعيد الجسد جزءاً من قوته ولكن الروح البائسة بقيت ملازمة لجسد لا يعرف من الدنيا معنى السعادة. وصفت لداوود أدوية مضادة للاكتئاب وطلبت منهما زيارتي باستمرار وطلبت من صديقة تعمل كمرشدة اجتماعية زيارتهما ضمن إمكانيتها طالما أن َّ عملها طوعي وأن َّ مكان إقامة داوود في منطقة نائية يصعب الوصول إليها بسهولة.
    مرّت الأيام دون خبر أو معلومات عن داوود وعمته, حاولت جاهدا ً الاتصال بهما دون جدوى. كنت أخشى على داوود من إعادة المحاولة فالخطر مضطرد مع تكرار المحاولة. حاولت تناسي الموضوع دون فائدة لأن شيئا ً ما في أعماقي يلّح علي بضرورة مد يد المساعدة وبكل الوسائل والإمكانيات؛ تكلمت مع " هالة" المرشدة الاجتماعية ورجوتها زيارتهما؛ ولم أفاجأ عندما أتتني بالأخبار الحزينة حيث علمت أن َّ وضع داوود الصحي يزداد سوءا ً, لم يعد يهتم بملابسه, يزداد نحولا ً, فترات نومه قصيرة ومتقطعة, وتظهر عليه علامات اليأس خصوصا ً بعد رسوبه في المدرسة لسنتين متواليتين, لم يتناول أبدا ً أدويته, وأشد ما في الأمر أنه تشاجر مع عمته بعنف عندما أعلَمتهُ بضرورة ترك المدرسة للعمل في مكان لتصليح العربات وأنه لا يصلح إلا ّ لذلك العمل.
    " إن ّ المقدر كائن لا ينمحي " عبارة نستخدمها دائما ً لنواسي أنفسنا بما حدث, وهو كذلك عندما علمت بوفاة داوود, كانت الوسيلة المستخدمة أشد ضراوة ً وفتكا ً, تلك التي تأتي من أعماق الألم,تلك التي تأتي من أعماق داوود , كانت الصدى الذي يتردد ثم يخفت رويدا ً ويضيع في اللانهاية , الشنق وبعده الراحة لمعاناة دامت ستة عشر سنة بظلام لم تشرق عليه الشمس .
    عودة لآخر لقاء جمعني مع أم داوود, بعد عشرة أيام من وفاته. كان يكتنف اللقاء صمتا ً غريبا ً وكأن داوود يشاركنا اللقاء. تخلل الموقف بعض الدمعات التي سالت على وجه عمته لتغسل بها ماض لم يترك من الأثر إلا ّ جروح عميقة تدفنها في أعماق مشاعرها؛ ذكرت لي عبرها كيف أعطاها صور وبعض ملابس أمه التي أحتفظ بها طيلة الأيام الماضية ليعيدها قبل وفاته ذاكرا ً أنه لم يعد بحاجة إليها؛ ومن ثم أخذت تذرف الدمع لتنتهي بالقول : " هي مشيئة الله ولا حول ولا قوة إلا ّ بالله العلي العظيم, حسبي الله ونعم الوكيل", تزامن ذلك مع خواطري بقول الإمام الشافعي في ديوانه عن الرضى بقضاء الله وقدره :
    " دع ِالأيام َ تغدر ُ كل َّ حين ٍ فما يغني عن الموت ِ الدواء ُ "

    إذا كان الإيمان بالقضاء والقدر ضرورة ملحة تعبر عن عمق الإيمان في كل نفس بشرية , ولكنها بلا شك ليست العائق للمزيد من العلم والمعرفة في سبيل خدمة الإنسان والإنسانية والرقي إلى درجة المسؤولية كوننا خليفة الله عز وجل على الأرض.
    الانتحار كلمة فضفاضة تحمل بين أحرفها المعاني العديدة حسب الثقافات والمجتمعات... حسب الزمن والتاريخ... هي اليأس والهرب من الواقع.. هي الفشل والخنوع والهزيمة... أم أنها الشجاعة والنبل في المشاعر.. فهل كان الإضراب عن الطعام عند المهاتما غاندي ليوقف القتال بين الهندوس والمسلمين صرخة نداء لإيقاف التفسخ ضمن المجتمع في شبه الجزيرة الهندية ؟ وهل كان انتحار داوود صرخة نداء للمجتمع بأن اللامبالاة وفقدان المحبة والمساعدة هو نمط آخر من تفسخ المجتمعات؟


    اضطرابات الهوية الجنسية
    شادي ... سجين القدر !

    عندما نتكلم عن إنسان بأنه سجين لقدر ما, نقصد بذلك عدم قدرته التخلص مما هو محتوم عليه, ولكن ذلك السؤال الأزلي يكرر نفسه في كل مرة, هل الإنسان مخير أم مسير؟
    سؤال يقع في عمق الإيمان وفلسفته, ولكن ما يزيد الأمر تعقيدا ً هو الغوص فيما هو طبيعي أو مرضي, فيما هو مألوف أو شاذ, فيما هو أخلاقي أو تدني في القيم والأخلاق.. تلك هي قصة" شادي.. سجين القدر", أو ربما نجد عنوانا ً أخرا ً ألا وهو" شادي.. وسخرية القدر", وإذا نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر تأديبية, فلعل الأفضل القول " شادي.. الجريمة والعقاب" .
    سنتكلم في هذا البحث عن اضطرابات الهوية الجنسية عند الأطفال والمراهقين . يبدأ الطفل بتمييز أعضائه التناسلية اعتبارا ً من عمر السنتين, ويتضح له الأمر جليا ً بعمر ثلاث سنوات؛ ثم َّ يمر بمرحلة محددة يكون فيها الترابط بين الذكر وأمه وبين الأنثى ووالدها ترابطا ً صلبا ً حيث يخشى الذكر من فقدان العضو التناسلي بينما ترغب الأنثى الحصول على العضو التناسلي الذكري وذلك حسب رؤية "فرويد" في التطور العاطفي للطفل.
    يميل الذكور إلى اللعب مع أقرانهم بألعاب ٍ تكون فيها الإثارة والقوة مسيطرة ( تقليد شخصيات خيالية كسوبر مان, والرجل الوطواط )؛ وتأخذ المغامرة حيزا ً من حياة الطفل الطبيعية سواءا ً أكان ذكرا ً أم أنثى, ولكن يغلب على مغامرات الذكور الحركة والسرعة والأدوات الآلية كالمركبات والدّراجات وألعاب السرعة والجهد الحركي ككرة القدم بينما يكون اللعب عند الأنثى أقرب للحياة الأنثوية ( العناية باللعبة, ترتيب الأدوات المنزلية المسلية, وتقليد الأم)؛ ثم َّ يمر بعدئذ ٍ بمرحلة الكمون وينتقل منها إلى الطفولة المتأخرة لتنبئ بالدخول في عالم جديد هو عالم المراهقة؛ وبعدئذ ٍ ينتقل المراهق إلى عالم الرشد وتتكون الملامح الأساسية لشخصيته ولا أقول النهائية لأنها ستبقى بتفاعل مستمر تؤثر بالغير وتتأثر بما يحيط بها .
    عندما نتكلم عن الهوية الجنسية نقصد بذلك فكرتان, الأولى تبحث في تشوه الأعضاء التناسلية الخلقي؛ فعند وجود تشوه أو عدم تمايز في الأعضاء التناسلية ينجم عن ذلك اضطرابات سلوكية ونفسية عند المصاب وعائلته. أما الفكرة الأخرى فهي الميول الجنسية دون تشوه في الأعضاء التناسلية, وهنا نضع التعريف التالي:
    · المغاير جنسيا ً : هو الميول الجنسية الدائمة للجنس الآخر, الذكر نحو الأنثى والأنثى نحو الذكر.
    ·المماثل جنسيا ً: هو الميول الجنسية الدائمة لنفس الجنس, الذكر للذكر والأنثى للأنثى.
    ·المتأرجح جنسيا ً: هو الميول الجنسية المؤقتة والعابرة لنفس الجنس, أو تجربة مثلية محدودة بالزمن ولا تأخذ الطابع المستمر ومفهوم الديمومة.
    ·المتحول جنسيا ً : هو الميول فكرا ً وقالبا ً لتغيير الجنس إلى الجنس المعاكس وهو ما يميزه عن المماثلين جنسيا ً بأن المماثلين مقتنعين بجنسهم إنما يجدون الشهوة في مقاربة نفس الجنس. أما الاضطرابات الأخرى فهي تنطوي تحت حب تقليد الجنس الآخر في الملابس وفي الشكل؛ أما السادية فهي تلذذ المرء بإنزال العذاب بالآخرين والمازوشية هي تحقق اللذة بالعذاب والألم والإهانة .

    وعندما ندرس انتشار هذه التغيرات في الرغبة الجنسية على المستوى الإحصائي نجد أن َّ أغلب الدراسات الإحصائية يشوبها انعدام المصداقية والحرج عند الجواب على الاستبيانات, حتى في البلاد حيث المثلية ليست إلا َّ نمطا ً من الحياة لا يعاقب عليها القانون؛ نذكر من هذه الإحصائيات التالي: تتراوح نسبة المثلية في الولايات المتحدة بين 4-5 % ,وتشكل نسبة المتحولين جنسيا ً أي الشعور ميولا ً وجسدا ً بالانتماء للجنس الآخر 1/30000 بالنسبة للذكور
    و 1/100000 بالنسبة للإناث. نشرت فرنسا وبريطانيا ودول أخرى نسبا ً قريبة لما سبق تتراوح فيها النسبة بين 3-6% حسب مكان الدراسة وزمانها.
    أردت في بداية الكتابة عن هذا البحث تجنب النظرة التاريخية والدينية للمثلية, ولكن وجدت في تقصي المعلومات وسرد المهم منها فائدة للقارئ, مع التحفظ لكل ما سيرد لأنه في ذمة التاريخ وربما الأكثر في طي الكتمان.
    عرفت المثلية منذ فجر الحضارات, عند الهنود الحمر والقبائل الوثنية بأفريقيا, عند الإغريق والرومان والحضارات الشرق أسيوية . اختلفت النظرة للمثلية عبر الزمان والمكان حيث تقبلت بعض الحضارات المثلية دون حرج, بينما وضع البعض الآخر ضوابط وقيود, وعقاب يتراوح بين السجن والإعدام. تمثلت النظرة للمثلية في الحضارة الإغريقية بجمال الجسد , وكانت تفرض على الرجل الإنجاب , بينما بررت العلاقة المثلية بين صفوف المحاربين بأنها الوسيلة المثلى للتضحية !
    مرت الحضارة الرومانية بفترات تقلبت فيها النظرة للمثلية, فكانت تمارس بعض الأحيان جهرا ً, وأحيانا ً أخرى معاقب عليها حتى الإعدام؛ من الأمثلة علاقة نيرون بخادمه سبورس, والعلاقات المثلية المتعددة عند يوليوس قيصر. استمرت العلاقات المثلية في الحضارة الرومانية بالتأرجح بين القبول والمنع إلى أن أصبحت تلك الممارسات معاقب عليها بالإعدام كما ورد في قانون جوستينيان عام 533 ميلادي.

    عُرفت المثلية عند الهنود الحمر وتمثلت بثياب الروح المقدسة, وكان يطلق على المثليين صفة الروح المزدوجة مما جعلهم مميزين عن باقي أفراد القبيلة. عُرفت كذلك المثلية في الحضارات الشرق أسيوية" في الصين والهند وعند الساموراي في اليابان". و لم تنكر هذه الحضارات ممارسة المثلية في مجتمعاتهم عبر العصور حيث تراوحت النظرة بين التقبل والرفض حتى وصلت في بعض الفترات إلى إنزال أشد العقوبات بالممارس للمثلية؛ كما ورد في القرآن الكريم عن ممارسة قوم النبي لوط للمثلية وكيف أنزل الله عز وجل فيهم أشد العذاب.
    شهدت العلاقات المثلية خلال مرحلة العصور الوسطى في أوربا حوادث عديدة تمثلت بإنزال أشد العقوبات لمن يمارسها, مما ذكر استئصال الخصية في التجربة الأولى, فالقضيب في التجربة الثانية, والحرق حيا ً في التجربة الثالثة. عاقبت مجالس التفتيش خلال تلك الفترة المثلية كمعاملة الشعوذة والهرطقة فكان مصير الكاهن الفيلسوف لوسيليو فانيني قطع اللسان والحرق حيا ً, وكذلك قضت الراهبة بارتولوميا كريفلي هي وعشيقتها الراهبة برنادت بقية حياتهما في السجن.
    ومقابل ما ورد سابقا ً, سُجل في صفحات التاريخ العلاقة المثلية لكل ٍ من لويس الثالث عشر, ولويس الرابع عشر, وملك بريطانيا إدوارد الثاني, وريتشارد قلب الأسد,والكاتب البريطاني اوسكار وايلد وهو متزوج ورب أسرة حيث حكم عليه بالسجن لمدة عامين بسبب علاقاته المثلية , وكثير من المشاهير عبر الزمان لدرجة أن دفع ذلك الكاتب الفرنسي ديديه غودار لإصدار كتاب المشاهير ممن عرف عنهم علاقات مثلية أو متأرجحة.
    عاقب سكان أمريكا المثليين بالموت وبقيت العقوبة ذاتها لغاية عام 1779 حيث استبدلها الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون بعقوبة الاخصاء.
    تغيرت النظرة للمثلية في الآونة الأخيرة ضمن مجتمعات متعددة سواء أكانت غربية أم شرق أسيوية؛ فمثلا ً توقفت الجمعية الأمريكية للطب النفسي عن اعتبار المثلية مرض نفسي واعتبرت ذلك من مفارقات والتنوع الطبيعي في الحياة . ولم تعد الممارسة للمثلية جرم يلاحق عليه الفرد بعد تجاوز سن المراهقة والدخول في سن الرشد, وتبعت الدول الأوروبية وكثير من الدول الشرق أسيوية نفس التوجه؛ وهذا لا يعني أن المجتمع يرى في المثلية ممارسة مقبولة للرغبة الجنسية , فالهوة بين القوانين وتقبل المجتمع لعادات مستهجنة لا زالت واسعة ؛ هذا ما تُظهره الدراسة الإحصائية في فرنسا عام 1997 حيث سؤل عدد من الأمهات عن موقفهم إزاء فرضية التوجه المثلي عند أولادهم فكان الرد كما يلي :
    · 33% الشعور بالألم والحزن ولن يستسلموا لهذا القدر.
    · 51% الشعور بالألم ولكنهم سيتركون لأولادهم حق الاختيار في حياتهم.
    · 14% القبول بالواقع و اعتبار طريقة الممارسة الجنسية حرية شخصية.



    إذا وجدت المثلية طريقها كنمط من مفارقات الطبيعة وليس كشذوذ في بعض المجتمعات فإنها لا زالت في كثير من المجتمعات الأخرى شذوذ وتدني في الأخلاق ؛ يعاقب عليها القانون الجزائي من السجن إلى العقوبة القصوى, الإعدام . يعاقب القانون الجزائي السوري كل ممارسة مخالفة للطبيعة بالسجن حتى ثلاث سنوات " المادة 520 من قانون العقوبات: كل مجامعة على خلاف الطبيعة يعاقب عليها بالحبس حتى ثلاث سنوات ".
    ما هو موقف الديانات إزاء الممارسة المثلية ؟
    لم تمارس الديانات الوثنية الضغوط الشديدة لمنع المثلية كما هو الحال بالنسبة للديانات السماوية. حرّمت الديانة اليهودية والمسيحية المثلية واعتبرتها مخالفة للطبيعة ولسعادة الإنسان و قيمه الأخلاقية؛ وقد جاء مؤخرا ً عن الفاتيكان التحذير من الانخراط في تمثيل الكنيسة الكاثوليكية لكل من ثابر على ممارسته للمثلية إلا ّ في حال الامتناع عن مثل هذه العلاقات لأكثر من ثلاث سنوات, مما يعني للكنيسة الرجوع عن الإثم والتوبة. حرّمت الديانة الإسلامية العلاقات المثلية فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى في سورة الأعراف: " ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون * وما كان جواب قومه إلا ّ أن قالوا أخرجوهم إنهم أناس يتطهرون * فأنجيناه وأهله إلا ّ امرأته كانت من الغابرين * وأمطرنا عليهم مطرا ً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين."
    نعود في نهاية النظرة السريعة لواقع المثلية من وجهة النظر الدينية والأخلاقية إلى التبحر في النظرة العلمية لمسببات المثلية وماذا يقول علماء النفس ؟
    ·يعزي بعض علماء النفس كون المثلية نتاج اضطراب في تطور التطابق الجنسي مع الوالدين؛ والسبب في العمق ليس إلا ّ تشكل علاقة مشوهة بين الذكر ووالده وبين الأنثى ووالدتها. تتجسد هذه العلاقة السيئة عند الطفل في مراحل مختلفة من نموه العاطفي فتتشكل عنده النظرة المشوهة لما سيكون المثل لعلاقاته العاطفية وبذلك يتكون في أعماق ذاته شعور مبتور للجنس المخالف وميول للجنس المماثل لأنه فقد المنارة التي ترشده إلى الطريق المألوف في الشهوة الجنسية, ويرى البعض الآخر في المثلية تعويضا ً لما فات من علاقة مبتورة ومشوهة بين الطفل ووالده وبين الطفلة ووالدتها.
    ·المثلية بسبب بيولوجي هرموني وراثي: يستند المدافعون عن هذه النظرية لمقالات ولدراسات تشير إلى اختلاف في البنية التشريحية النسجية والبيولوجية لدماغ المثليين مقارنة مع المغايرين جنسيا ً؛ ويدعم مؤيدون هذه النظرية أبحاثهم بحدوث المثلية في عالم الحيوان مما يعني لهم بأنها نتاج الطبيعة حيث تشير بعض الدراسات لوجود العلاقات المثلية عند البنغوان والدلفين.
    ·المثلية والمورثات : لقد وردت في الآونة الأخيرة دراسات توضح ازدياد احتمال الميول المثلية نتيجة اضطرابات وراثية . يقول الباحثون في هذا المجال أن ّ المثلية أمر مقرر جينيا ً أكثر من كونه أسلوبا ً يختاره الإنسان, ويستنبط باحث في جامعة أونتاروا بكندا أن الآلية تكمن في الذاكرة الهرمونية للرحم مما يؤدي لتشكل أضداد تؤثر في عملية تطور وتمايز مراكز الميول الجنسية في الدماغ.
    ·المثلية نتيجة الاضطهاد والاعتداء الجنسي: يرى الباحثون في الاعتداء الجنسي سببا ً للانحراف والميول الشاذة, ويضم الباحثون الاجتماعيون ضمن هذه البوتقة السادية والمازوشية والمتحولين جنسيا ً. يترك الاعتداء الجنسي على الطفل جرح صعب الاندمال والشفاء سوف نتطرق إليه في بحث منفصل هو الاضطهاد والطفل المضطهد, ولكن المهم في هذا البحث هو مدى الترابط بين الاعتداء الجنسي والمثلية. تثبت الدراسات أن الاعتداء الجنسي لا يشكل خطرا ً إضافيا ً لحدوث المثلية وإنما تحدث خللا ً شديدا ً في الثقة بالنفس وبناء الشخصية السليمة, وأن المثلية ليست منتشرة بين أولئك الذين تعرضوا للاعتداء الجنسي في مرحلة الطفولة أكثر مما هو عليه في شرائح المجتمع بشكل عام.

    وهنا نقف لبضع لحظات ونسأل عن المسببات؟ من المتهم؟ هل نعزي السبب للمجتمع والبيئة؟ أم الأسرة ؟ وما دور الوراثة في كل ما ورد سابقا ً ؟ سؤال يصعب الإجابة عليه في الوقت الحاضر, والمسؤولية متعددة ومتداخلة يصعب فك رموزها طالما تتعلق بغريزة الإنسان, ولكننا نستطيع رؤية الطريق السليم ألا وهو التربية الصالحة والمتوازنة والسليمة للطفل حيث يقوم كلا الأبوين بدورهما الصحيح دون صرامة أو استهتار, ودون دلال أو فساد؛ يعطون الطفل حقوقه ليعيش طفولته بكل معناها السليم, ويحمونه من كل ما يفسد نفسه البريئة من ملوثات الحياة والمجتمع.
    ولكن كيف نتعامل مع المراهقين والمراهقات حينما يبوحون بميولهم الجنسية المماثلة؟ للجواب على هذا السؤال لابد ّ من شرح بعض جوانب نظرية ألفرد كينزي في تشكل الميول الجنسية للفرد ضمن المجتمع. يرى هذا الباحث في نظريته أن الميول الجنسية متباينة لتأخذ طيف الألوان وليس الأمر بالأبيض والأسود, يذكرنا ذلك بشكل الناقوس في التوزيع الإحصائي لمجتمع ما, كما يعني
    أن لا نتعامل مع كل تجربة مثلية لمراهق بحتمية بقاء هذا النمط من الميول طوال الحياة, فقد تكون تجربة عابرة ولا تعبر عن الميول الدائمة, وقد يحتاج المراهق لبعض المساعدة حتى يتخلص من ذكريات ناجمة عن بيئة سيئة دفعته في هذا الاتجاه. وللأسرة دور مهم في حماية المراهق من الانحراف في منعطفات خطرة يسوقهم إليها فئات من المجتمع ليست لديهم أي قواعد إنسانية أو وازع ديني أخلاقي.
    ماذا نفعل عندما تتكرر الممارسة المثلية؟ وماذا نفعل عندما يتجه الإنسان لحياة مثلية بتجارب وعلاقات متعددة؟ نترك للقارئ الكريم فرض العقوبة المناسبة فليس هنالك دواء يشفي من كون المرء ذو ميول جنسية مماثلة إلا ّ الإرادة الشخصية للامتناع عن مثل هذه الممارسات مدعومة بالمعالجة السلوكية النفسية.
    أوجدت المجتمعات حلولا ً متباينة للميول المثلية تراوحت من قبولها في بعض المجتمعات كنمط من أنماط الحياة, وأعطت للمثليين حقوقا ً اجتماعية قد تصل لحق الزواج العلني والتبني؛ ولا زالت المثلية في مجتمعات أخرى فساد قد يقود المجتمع للهلاك والمثليين كونهم بالغين وقادرين على التحكم بتصرفاتهم فهم محاسبين في الدنيا والآخرة, وإن كان الجزاء الرباني آت, لكن على المجتمع حماية أفراده من الفساد وبالتالي الحكم على المثليين بالعقوبات الدنيوية التي تتراوح من السجن والتأديب الجسدي بالجلد والرجم حتى عقوبة الإعدام.
    * * *

    وننتقل الآن إلى عالم القصة, إلى ما حدث لشادي, إلى ذكريات جمعتني بالدكتور سامر وهو طبيب نفسي تربطني به أواصل المحبة والأخوة ولا يمر الزمن إلا ونحن بين الفينة والأخرى بأمسية نبحث فيها عن مشاكل الحياة و الحلول لمرضانا النفسيين؛ ووجدت نفسي في إحدى الأمسيات أستمع لقصة شادي في سكون الليل.
    بدأ الدكتور سامر يروي قصة شادي وهو ينظر إلى الأرض وقد ارتسمت على وجهه ملامح الحزن لتعطي صورة مسبقة عن مضمون حياته وآلامه. عاش شادي طفولته في بيئة متواضعة, الأب يعمل مدرسا ً لمادة الفنون والأم تشرف على مكتبة خاصة, ويحيط به ثلاثة أشقاء وشقيقتين جميعهم أكبر سنا ً, منهم أخان متزوجان وأخت في مرحلة الخطوبة.
    مرت طفولة شادي دون مؤشرات لسلوك شاذ سوى الخجل من الاختلاط مع الزملاء فكان في طبعه ميالا ً للانعزال وتظهر على تصرفاته رقة الإحساس لدرجة الانزعاج والبكاء لأتفه الأسباب, وكان مترددا ً قلقا, أما وسائل الدفاع فقد اختزلت في الأنا الهشة المحبطة ولم يظهر منها إلا ومضات من كبح المشاعر والتسامي وتكذيب الواقع.
    وتابع الزميل حديثه في سكون الليل موضحا ً الواقع الاجتماعي والبيئي لشادي, وفي خضم الحديث والكلمات تتناثر لتكمل الصورة الحقيقية لطفولته سألني قائلاً:" وإذا علمت أن شادي لا ينقصه الذكاء لمتابعة العلم, ومتفوق في بعض المواد فماذا تقول؟"


    أجبت مباشرة: " لابد من سبب لتركه المدرسة!"
    نظر الدكتور سامر للأفق لبضع ثوان وتابع مسترسلا ً في الكلام:" لقد اتصف شادي بحسن الخلق والأخلاق ولكن شعوره بالانتماء إلى عالم أخر جعله منذ نعومة أظفاره يعيش التناقض بين ما تمليه عليه الغريزة وما يفرضه المجتمع من عُرف الشرع وقوانينه, ذلك العالم الذي لا يعلم شادي عنه إلا َّ القليل, عالم يدخل في كيانه وتركيب شخصيته, عالم سيكون فيه منبوذا ً إلا َّ إذا استطاع بالحنكة والالتفاف تجنب المواجهة مع الآخرين وبذلك يكون قدره متأرجحا ً بين الكذب والنفاق أو بين الذل والازدراء".
    واجه شادي في المدرسة سخرية زملائه الذكور بسبب أحاسيسه المرهفة؛ كان يبكي لأتفه الأسباب ويتجنب اللعب مع الآخرين؛ يجلس مع الأكبر سنا ً ويسمع أحاديث الحياة وأسرار الكون بنهم شديد, ولم تُذكر لشادي مشاكل حتى بلغ الأربعة عشر ربيعا ً حيث بدأ يتذمر من الذهاب للمدرسة, ثم تتطور الأمر للانعزال في المنزل, كان يمضي الوقت بسماع الموسيقى والرسم ومشاهدة التلفاز إلى اللحظة التي فقد والده الصبر فنهال عليه بالضرب لتغيبه المتكرر عن المدرسة؛ تكرر الشجار وتكرر الضرب وتلاه الفرار من المنزل إلى الملجأ الوحيد ألا وهو منزل شقيقه الواقع في ريف دمشق بعيدا ً عن سخط والده وقسوته.
    توقف الدكتور سامر لبضع لحظات ارتشف خلالها قليلا ً من القهوة وتابع: تدّخل الأخ لإيجاد الحل ّ المناسب, ووصل الجميع في النهاية إلى قناعة لا يسكنها الشك بضرورة إيجاد عمل لشادي يكون له المعين ومهنة يقتات منها قوت عيشه؛ وكان أخوه ثابت من أكثر المدافعين عن هذه الفكرة وذلك بقوله: " سيجني شادي من مهنته العملية ما يفوق بأضعاف ما يحصل عليه المتخرج من الجامعة". وهكذا تقرر إرسال شادي صباحا ً إلى معمل لتصنيع الأدوات الكهربائية, ومساءا ً إلى متجر لتركيب مستقبلات الأقمار الصناعية الفضائية .
    ذهب شادي إلى عالم الاندماج مع المجتمع ولم يتجاوز عمره الخامس عشرة سنة, كان يتأفف من عمله الصباحي لأسباب متعددة أهمها الاستيقاظ المبكر وخصوصا ً أن عمله المسائي يتطلب منه السهر, وقد يتأخر بعض الأحايين لدرجة عودته بعد تجاوز عقارب الساعة الثالثة صباحا ًمصطحبا ً ببعض الرفاق الذين يُسمع صوت قهقهتهم عبر سكون الليل وهدوءه. وترك الأب تربية شادي لوالدته بعدما ملئ اليأس قلبه وتعب من الجدال القائم بينه وبين زوجته عن الوسيلة الناجعة لردع شادي وتهذيبه؛ الأب يرى في التشدّد والصرامة الدواء لهذا الداء السقيم والأم تخشى عليه من الهروب والتشرد, وبات سكان المنزل بصراع يومي يؤرق النفس وينهكها, كل واحد متشبث برأيه ولا يتقبل وجهة نظر الآخر, الأم ترى في منحه الحرية والتقرب منه ترياقا ً يساعدها على معرفة العلة وعلاجها بينما يرى الأب في نظرية الأم الحنون السير نحو الهاوية, والعلاج الوحيد حسب رأيه الصرامة والشدة والضرب أو الجزاء بالحبس في غرفته ومنعه لقاء أصدقائه؛ أما الأخوة فتارة مع الأب وتارة أخرى مع الأم, وبات سكان المنزل بصراع يومي ينتهي بإسناد مشاكل شادي لسن المراهقة وأحسن دواء هوا لزمن.
    مرّت الأيام وزال الضباب وظهرت الحقيقة شيئا ً فشيئا ً, لم تكن تصرفاته ثورة البركان في سن المراهقة, ولم تكن نار الحرية المشتعلة بين ضلوعه , بل وراء ذلك علاقات غير مألوفة ومستهجنة, علاقات تجري وراء الكواليس, في ظلمة الليل وجهل الأهل, وهذا ما سنسلط عليه بقعة الضوء في الفقرات التالية.
    عمل شادي في متجر الإلكترونيات لفترة تجاوزت السنتان تعرّف خلالها على الكثير من الرفاق والعمال, ولكن علاقاته الحميمة بقيت محدودة برفيقين" عادل ونوري", كانا رفيقا العمل, وكانا معه في النهار والسهر, وكانا كظل جسده وفي أعماق شعوره ورغباته.
    لن ادخل في تفاصيل العلاقة الرابطة بين شادي ورفيقاه, سأترك للقارئ الكريم التكهن بما يجري وراء الستار, علاقة حب أو تدني في الأخلاق, علاقة حب مثلي كان فيها شادي الضحية, بينما مارس كل من عادل ونوري رغباتهما المتأرجحة ووجدا شادي نموذجا ً لكبش الفداء. كانت الأمور مكتومة لا يعلم عنها إلا ّ الثلاثة وظلمة الليل والرقيب القّهار إلى اليوم الذي انكشفت فيه الحقيقة حيث استدعي والد شادي لمركز الشرطة إثر شجار بين صاحب المتجر وعادل وصل لدرجة استخدام الأدوات الحادة والضرب المبرح بسبب رفض صاحب المتجر زيادة أجور عادل الأسبوعية. كانت ادعاءات طريف, صاحب المتجر, ضد عادل مبيته منذ علمه بهذه العلاقة إثر قدومه بساعة متأخرة من الليل ليأخذ بعض المواد الضرورية لعمله فوجد الثلاثة بوضعية الفعل الجنسي المخالف للطبيعة مما أضطره لطردهم وتهديدهم بإحالتهم للشرطة إذا تكرر ذلك, ولم تطل الفترة لينفذ وعده في الوقت والمكان المناسب بعدما تجرأ عادل وتجاوز كل الاعتبارات.
    ضربت الصدمة والد شادي كالرعد عندما يضرب بالأرض؛ وبدأ يتساءل هل يعيش الواقع أم أنه في كابوس أبدي؟ لماذا يسير قدر شادي في هذا الاتجاه؟ وكيف يخرج ابنه من هذا النفق المظلم ؟ وطفق الأب يسأل ويستنجد بمن حوله, وعلم بعد قليل أن َّ النائب العام قد أمر بإيقاف الثلاثة مع طريف في ذمة التحقيق لعرضهم على الطبيب الشرعي. عاد الأب إلى المنزل يبكي في حالة انهيار, لا يعلم بأي الطرق سيعلم الأم والأخوة بما آلت إليه أوضاع العائلة. وأقبل اليوم التالي حاملا ً معه الأخبار السيئة حيث جاء التقرير الشرعي مؤكدا ً للتوقعات المسجلة في تقرير الشرطة, وأحيل الجميع للمحاكمة بسبب الشروع بالأذى والضرب والفعل المخالف للأدب و الطبيعة.
    نظرت للدكتور سامر وقد بدت لي القصة واضحة جلية, سيقع شادي أسير مركز التأهيل السلوكي في مركز الأحداث لعدم إتمامه السن القانوني, أمّا عادل ونوري, فحكم عليهما بالسجن مع تشديد العقوبة بسبب الاعتداء على قاصر, وأمضى طريف بضع أيام في السجن ثم أخلي سبيله بعد تخفيف العقوبة للسجن مدة شهر واستبدالها بغرامة مادية .

    بدأت هذا البحث بعنوان " شادي.. سجين القدر", وسرنا سويا ً بتفاصيل حياة شادي إلى مرحلة تصحيح السلوك والعودة للطريق السليم, وعلى القارئ الكريم حرية التوقف عند هذا المفترق لينظر إلى الواقعة من مفهوم الجريمة والعقاب أو من مفهوم حاجة شادي للدعم السلوكي والنفسي وإعادة تأهيله في المجتمع ليصل إلى بر الأمان. دع عزيزي القارئ خيالك يسبح في فلك الاحتمالات والتوقعات لإنهاء القصة, وليكن إحدى الاحتمالات الحزينة كون شادي فريسة التأرجح بين ما يفرضه المجتمع من الالتزام بقوانين الآداب والأخلاق وبين ما تمليه عليه الغريزة ليعاود الكرة بعد الأخرى وهكذا بصراع دائم بين الأنا وما فوق الأنا.
    * * *

    ونكشف الستار مرة أخرى وأخيرة لنضع بعض النقاط على الحروف بحوار دار مع الزميل الدكتور سامر قبل كلمة الوداع.
    الدكتور سامر : ما هو انطباعك بعد سماعك القصة؟ وكيف ترى الحل ّ الأمثل ؟
    الجواب: شعرت بالألم, ولكن يعود الأمر, في النهاية, له ولعائلته في تصحيح السلوك واتخاذ القرار السليم, ولا سبيل للعائلة في التخلي عنه, وإذا فعلت فستزيد الأمور تعقيدا ً وخرابا ً, وعليه اتخاذ القرار بمتابعة العلاج السلوكي للتخلص من هذه الرغبات الجانحة.
    الدكتور سامر " وقد ارتسمت على وجهه خطوط من الدهشة والاستفهام": هل تريد إقناعي بالمعالجة السلوكية؟
    الجواب: قد تفشل المعالجة السلوكية في حالات كثيرة ولكن لا بأس إذا أراد الشخص إتباعها بعد إرادة وتصميم في تغيير سلوكه الجنسي,ولقد أظهرت بعض الدراسات فائدة المعالجة السلوكية حين استخدمت وسائل الإيحاء واستبدال صورة الذات السلبية بالإيجابية بهدف رفع قيمة الذات, والإثارة المتكررة للتوجه لعلاقات مغايرة, والتشجيع على ممارستها, ولجم الميول المثلية.
    الدكتور سامر: كل المصادر تثبت أن َّ نسبة النجاح ضئيلة ولا تتعدى بضعة حالات نشرت في الأدب الطبي, وأظنهم من النمط المتأرجح, كما يؤدي هذا النمط



    من العلاج إلى الشعور بالإحباط بسبب سيطرة الغريزة على الإرادة, هل تريد أن تقول أننا نستطيع تغيير الشكل الفيزيولوجي والبنيوي للإنسان؟
    وأجبته بأن الأمور معقدّة ولم تحسم في الوقت الحاضر, ولا شك أن َّ البيئة والتربية عوامل مهمة في توجه الميول المثلية, وعلينا ترك الأبواب مفتوحة لمن أراد حياة سليمة فالحياة المثلية محفوفة بالمخاطر تبدأ برفض المجتمع والدين لمثل هذه الميول ولتنتهي بالأمراض المنتقلة عبر العلاقات الجنسية غير المضبوطة كالتهاب الكبد ونقص المناعة المكتسب والأمراض الزهرية الأخرى.
    نظرت مباشرة في عيني الدكتور سامر وأذان العشاء يعلو في سكينة الليل ثم تابعت: يعتمد الإسلام في تحريمه للمثلية على قدرة الفرد في المجتمع بضبط غرائزه هذا في حال كون المثلية حتمية بيولوجية وليس للإنسان شأن في هذا التوجه الشاذ, وبالتالي يسمو الإسلام بالإنسان عندما يستطيع الأخير السيطرة على رغباته وجنوحه.
    الدكتور سامر: نعم, ولكن يجد علماء النفس في كبت الرغبات مصدر للكآبة واليأس, وتابع بعد لحظات من التأمل بقوله هذا ما أظهرته الدراسات بكون نسبة الانتحار عند المثليين أعلى مما هو عليه عند المغايرين جنسيا ً.
    الجواب: نعم, هذا عندما نفتقد للرادع الديني, وعندما نبتعد عن الطمأنينة المتولدة من إيمان عميق بخالق الكون, ثم ّ لا بد ّ من التنويه عن دور الأسرة في تعليم الشاب المراهق دور الأعضاء التناسلية, ومفهوم الإسلام في الطهارة والوقاية من الأمراض التناسلية, وأهم عامل في الوقاية هو دعم العلاقات والروابط الحميمة بين المراهق وباقي أفراد الأسرة مما يجعل الحديث في العلاقات الجنسية أمر لا يستوجب الخجل أو إخفاء المشاعر, وحتى لا تتأزم الأمور وتتعقد.

    الاضطهاد
    خالد... الطفل المضطهد

    الطفل المضطهد تعبير شاع استخدامه في زماننا رغم ما يقال عن التقدم الحضاري والاهتمام بحقوق الطفل والإنسان, وننظر حولنا لنجد العديد من المقالات والأبحاث تتناول طرق التدبير ولكن القليل يصل لقلب المستمع والأهل بهدف تغيير سلوكهم وتعاملهم مع الأطفال.
    الطفولة مرحلة أساسية في بناء شخصية الإنسان, هي التربة التي ستشيد عليها أوتاد الشخصية, فإذا كانت الأرض هشة فإن دعامات البناء ستؤول للسقوط بعد حين, أو أن يكون البناء متشققا ً ,متآكلاً , آيلاً للسقوط بين الفينة والأخرى.
    تظهر الدراسات الحديثة أهمية التربية والتعليم في تطور الطفل ونموه , وأساس التربية أن الطفل يتعلم بالسلوك مع دعم ذلك السلوك بالفكر والمنطق, فإذا تعاكس السلوك مع المنطق نشأت منطقة ضبابية في الرؤيا تجعل الإنسان تائها في ضبط تصرفاته وشعوره ؛ خصوصا ً أن سلوكنا كأناس بالغين ليس إلا انعكاس لما هو معروف بتعبير"فوق الأنا", ذلك الجزء المدفون بحرص في سراديب شخصية كل إنسان .
    يتظاهر الاضطهاد ضد الأطفال بأشكال مختلفة, منها الاعتداء الجسدي كالضرب واللكم والصفع واستخدام الأدوات المختلفة لإلحاق الأذى, أو التعذيب ومن ذلك الحرق والقرص ومحاولة الخنق والضرب بالعصا وبالأدوات المدببة لإحداث الكسور العظمية. أما الأشكال الأخرى للاضطهاد فهي الإهمال لدرجة ترك الرضيع دون عناية وتغذية, أو عدم تقديم العناية الطبية, أو تركه عرضة للخطر بسبب صغر عمره وعدم إدراكه للمخاطر التي تحوم حوله. وقد يأخذ الاضطهاد شكل الاعتداء الجنسي بجميع أشكاله لدرجة إلحاق الأذى بالأعضاء التناسلية.
    ولا يقل مدى تأثير الاضطهاد النفسي على شخصية الطفل عما هو في الأشكال الأخرى من الاضطهاد, بل قد يكون هذا النمط من الاضطهاد أشد ضراوة وبؤسا ً على شخصية الطفل ليهدم الروح ويبقي الجسد, وهكذا لا نجد سوى الأنقاض لما كان متوقعا ً أن يكون بناءا ً صحيحا ً راسخا ً على قواعد سليمة.
    السلوك يورث عبر الأجيال, ولقد بينت الدراسات الإحصائية أن الآباء الذين يضطهدون أولادهم هم بدورهم كانوا مضطهدين في فترة طفولتهم, كما وضحت هذه الدراسات مدى تأثير التوتر والشجار بين أفراد العائلة على سلوك الطفل في المستقبل, و يصبح سلوك العنف جزءا ً من شخصية الطفل , يتعامل معه بشكل غير واع ٍ للحدث ومضمونه, وسيكون العنف مفتاحاً لحل كل مشكلة لأن العقل الباطن للطفل يذكره بأن أي خطر أو مشكلة يجب أن تواجه بالعنف.
    لقد أظهرت الدراسات والأبحاث الحديثة أن نسبة الاعتداء على الأطفال قد ازدادت خلال السنوات السابقة, ويعتقد بعض الباحثين أن وعي المجتمعات لتفشي هذه الظاهرة قد سلط الضوء بشكل يجعل الموضوع مدار بحث وجدل كل يوم , ويوحي بأن هذه الظاهرة تزداد بشكل مضطرد مع الأيام.
    تحدث وفاة الطفل في بعض الحالات نتيجة الأذى المباشر على جسده, وعلى سبيل المثال حدوث النزف الدماغي نتيجة رض القحف وكسور الجمجمة. وقد يكون سبب الوفاة الخنق بوضع الوسادة على وجهه. وفي جميع هذه الحالات تظهر جليا ً نية إلحاق الأذى بالطفل لدرجة الموت. أما الإهمال والجهل فليسوا أقل ضراوة لأنهما كما في الحالات السابقة سبب وفاة الطفل في العديد من الحالات كما هو الحال في تركه بجانب بركة ماء عميقة أو بجانب نار مشتعلة أو إهمال الاستشارة الطبية لطفل يعاني من أعراض الحمى الشديدة والاختلاج.
    ولا يلعب الوضع الاقتصادي للعائلة دورا ًمهما ًفي الاضطهاد؛ وقد تكون العوامل المادية سببا ً في تحديد المصروف العائلي ولكنها ليست, بأي شكل, عاملا ً محفزاً للاضطهاد؛ وقد نرى العديد من حالات الاضطهاد في عائلات ميسورة وغنية, ويحتل فيها الأبوان مراكز مرموقة في المجتمع.


    يؤثر الاضطهاد على النمو الجسدي والنفسي للطفل فيترك الاضطهاد الجسدي آثارا ً وندبا ً تبقى مع مرور الزمن كحروق أعقاب لفافات التبغ, وندب الجروح, والكسور؛ وكذلك يترك الاضطهاد النفسي ندب في شخصية الإنسان البالغ قد تكون عميقة لدرجة أنها تعيق السلوك السليم للشخص وتطوره .
    أما العوامل المسببة للاضطهاد فهي:
    1-العوامل البيئية الصعبة كفقدان العمل
    2-الاضطرابات النفسية عند الوالدين كالنزعات العدوانية والاكتئاب والإدمان والنفاس كالفصام
    3- فرط النشاط ونقص التركيز عند الطفل والأطفال المثيرين للشغب
    4-الأسباب الاجتماعية مثل عزلة الأسرة واستخدام الضرب والعنف كوسيلة مألوفة في التربية لتغيير سلوك الطفل.
    تقدَر منظمة الصحة العالمية عدد الأطفال المضطهدين في العالم برقم يتجاوز 50 مليون وهو رقم تقديري والحقيقة قد تكون أعلى من ذلك بكثير, وتذكر الدراسات أن الإناث أكثر عرضة للاعتداء الجنسي والإهمال التعليمي والغذائي بينما يتعرض الذكور للاعتداء الجسدي؛ كما تذكر الدراسات أن الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة أكثر عرضة للاضطهاد من الأطفال السليمين ويضاعف العنف العائلي من إمكانية وقوع الطفل تحت وطأة الاضطهاد والعنف.
    يؤدي الاضطهاد إلى الفشل الدراسي والإدمان والجنوح أو الإجرام , وقد يكون السبب لاضطرابات نفسية كالكآبة والعدوانية أو اضطرابات السلوك والنوم.
    ويظهر فحص الطفل المضطهد علامات موجهة للتشخيص وهي:
    1-عدم تماشي القصة مع الفحص السريري.
    2- تضارب المعلومات حول إصابة الطفل وتأذيه.
    3- التأخر في طلب الإسعاف والاستشارة الطبية.
    4- يظهر فحص الطفل علامات توحي بالاضطهاد, وغالبا ً ما ينفي أهل المصاب السبب الرضي للإصابة.

    ويجب التحقق من المعلومات الواردة في قصة المصاب بهدف كشف
    الملابسات والأكاذيب في تفسير الأذى اللاحق بالطفل, كما يجب استجواب الطفل لوحده عندما يكون قادرا ً على التكلم والإجابة على الأسئلة.
    ولا شك أن العنف العائلي والانفصال بين الأبوين, وكذلك الاضطرابات السلوكية عند الوالدين والإدمان, كل ذلك يشكل نقاط علام يجب التحري عنها عند الأطفال المعانون من الاضطهاد.
    ويتوجب على الطبيب الفاحص تحديد شكل الإصابات على جسد الطفل وماهيتها, وكذلك صفاتها ونوعها, ولابد من تصوير الإصابات وحفظها في الملف الطبي حتى يتثنى الرجوع إليها عند الضرورة لاستكمال الملف الشرعي والجنائي.


    يتعلق تدبير حالات الاضطهاد عند الأطفال بعوامل مختلفة وأساسها السؤال التالي: هل تسمح الظروف بتعديل البيئة الاجتماعية للطفل بشكل يمكنه من الاستمرار في الحياة مع أبويه دون أن يتعرض للاضطهاد ؟. ويتوجب على المراكز المهتمة بتربية الأطفال وحمايتهم من الاضطهاد أن تنشر المعلومات المتعلقة بتربية الطفل والأخطاء المرتكبة في هذا المجال بما في ذلك مفهوم أن الضرب هو السبيل المثالي لتهذيبهم وأن العصا لمن عصى , وللأسف نجد أن فعالية العصا السحرية تنقلب على الساحر فاهو الطفل الذي تربى على الضرب يضطهد الآخرين ويكون قنبلة موقوتة ستنفجر في المستقبل بأشكال وألوان مختلفة كالاكتئاب والقلق والإدمان واضطرابات السلوك...
    عندما يتعذر إصلاح البيئة الاجتماعية فلا بد من حماية الطفل وهنا تلعب حماية الأسرة والطفل أو رعاية الطفولة والأمومة دورها في الطلب من القاضي المتخصص في هذه الأمور سحب حصانة رعاية الطفل من الأبوين وتكليف من يراه مناسباً لتربية ورعاية المصاب, ولا شك أن آخر الطب الكي ولكن عندما تتعذر جميع الوسائل من تعديل سلوك الأبوين وعندما يكون تطور الطفل الروحي الحركي والجسدي مهدداً فلا بد من اتخاذ الإجراءات المناسبة الكفيلة بالحماية والرعاية .
    ولا بد من التعمق في دراسة البيئة العائلية لكل طفل تعرض للاضطهاد, ويجب أن تشمل هذه الدراسة الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والنفسية, كما يتعين على وسائل الصحافة والإعلام توعية المجتمع على خطورة هذه الآفة وطرق الوقاية والتدبير.
    ويبقى المثل الشعبي التالي, " درهم وقاية خير من قنطار علاج ", أساس تطور المجتمعات المتقدمة؛ وهنا نرى أهمية متابعة الأسر الرازحة تحت وطأة الضغوط الاجتماعية والنفسية لمساعدتها على النهوض ولا بد من نشر ثقافة حماية الطفل وأسس التربية السليمة على جميع المستويات.
    وننتقل الآن لقصة خالد... الطفل المضطهد, والاسم الوارد هو أسم مستعار لقصة واقعية وردت في مجلة " سالب موجب", العدد 258 لعام 2010 وقد كتب على الصفحة الأولى العنوان التالي: " حتى الموت... عذبت طفلها وأطفأت السجائر بجسده في شقة عشيقها".
    ونورد القصة كما جاءت في المجلة .
    " الأم عذبت طفلها وأطفأت السجائر بجسده في شقة عشيقها"
    " حمص- أكرم سلايمة
    غريبة هذه الدنيا وقاسية في حقائقها فمع كل يوم من رصدنا لوقائعها نكتشف مفردات جديدة وأمورا ً كانت مختبئة في شوارعها الخلفية تحاول أن تخفي نفسها حتى لا يكشفها أحد ويقتلعها من جذورها باعتبارها نشازا ً عما هو موجود ضمن أعراف وقيم وتقاليد المجتمع. والغريب من تلك الحقائق المرة أنها تتواجد ضمن الدائرة الضيقة للأسرة والتي لا يخطر على بال أحد أن تصل إلى هذا الحد
    ولاسيما إذا كانت الأم هي طرف وفلذة كبدها هو الضحية... فتابعوا..

    ادعاء وشكوك
    لم يكن الادعاء الذي تقدمت به والدة الطفل إلى قسم الإسعاف في مشفى حمص الوطني بتعرض طفلها ( خ.س) والبالغ من العمر عامين فقط لحادث سير أثناء تواجدها في شارع العشاق وفرار السائق الذي صدمه مقنعا ً لدى مخفر الشرطة في المشفى, نظرا ً للحالة التي وصل بها الطفل إلى المشفى مفارقا ً للحياة, الأمر الذي دفعهم للتوسع بالتحقيقات وإبلاغ فرع مرور حمص عن الحادثة التي ادعت الأم وقوعها في ذلك الشارع.
    تحريات دقيقة
    بدأ فرع المرور بالتحري عن الحادث المزعوم, وقام الملازم أول (أ.ع) بمقاطعة المعلومات والتوجه إلى المكان المذكور ومطابقة البلاغات والضبوط المنظمة في ذلك التاريخ ليكتشف عدم وجود حالة مشابهة.. فبدأت الشكوك تدور حول الغموض الذي يكتنف الحادثة..
    في تلك الأثناء حضر إلى المشفى قاضي التحقيق وقاضي النيابة وضابط الأمن الجنائي والأطباء الشرعيون, حيث أمر القاضي بتشريح الجثة.
    على خط مواز لتسارع الأحداث كان العميد ( م.م) رئيس فرع الأمن الجنائي يدرس جميع الاحتمالات والملابسات التي أحاطت بالقضية بعدما تعززت القناعة لديه بوجود ملابسة جرميه كلف على إثرها الملازم أول ( أ.ع) وعناصر من فرع الأمن الجنائي بالتحقيق السريع في القضية.
    تعذيب وضرب
    انطلاقا ً من تقرير الطبابة الشرعية الذي أشار لتعرض الطفل للضرب والتعذيب ووجود آثار حروق بأعقاب السجائر وبفترات مختلفة, بدأت دائرة الشك تحوم حول الأم ومبررات ادعاءاتها بتعرض طفلها المتوفى لحادث سيارة...
    وبإلقاء القبض على الأم وزوجها انكشفت حقيقة مرعبة جردت تلك السيدة من كل قيم الإنسانية والأمومة؛ حيث أفادت مصادر مطلعة لسالب موجب أن تلك السيدة كانت قد ارتبطت بعلاقة مع أحد الأشخاص خلال مراجعتها لعيادة طبية في مدينة حمص؛ وفي يوم الحادث كانت موجودة في منزل العشيق. ونظرا ً لبكاء الطفل وتألمه وما تركه ذلك من أثر على أجواء الخلوة مع ذلك العشيق وإرضاء ً له بدأت بضرب الطفل وتعذيبه حتى فارق الحياة؛ عمدت بعدها لتلك التمثيلية الرخيصة ونقلته إلى المشفى, فيما لاذ العشيق الذي تتواصل الجهود للقبض عليه بالفرار, بعدما تم القبض على من كان يتردد على تلك الشقة المشبوهة والمستأجرة من قبل العشيق الفار. كما أشار الزوج الذي انتقل مع عائلته منذ نحو الشهرين إلى حمص إلى أن زوجته كانت تقوم بضرب وتعذيب الطفل وحرقه أحيانا ً بالسجائر".






    طيف التوحد
    نور .... ومرض التوحد

    التوحد مرض ذو طيف من الأعراض, يصيب الأطفال بدرجات متفاوتة, فبعضهم لديه أعراض خفيفة ويستطيع العيش بشكل مستقل وبعضهم الآخر يحتاج للدعم المستمر طيلة الحياة.
    تُظهر الدراسات الحديثة تزايد عدد الحالات المصابة بطيف التوحد عند الأطفال, فقد ذكرت بعض الإحصائيات أن 3.4 من كل 1000 طفل بين عمر 3-10 سنوات مصاب بالتوحد. وربما كان التأخر في التشخيص في السنوات السابقة نتيجة الظن بأن أولئك الأطفال سيتحسن سلوكهم مع الزمن وأن الأعراض ليست إلا علامات للخجل والانطواء بسبب إهمال الأهل وسلوكهم الخاطئ في التربية.
    لا يُعرف سبب واضح لمرض التوحد حتى الوقت الراهن؛ وتركز الدراسات حول احتمال خلل في عمل النواقل العصبية أو مستقبلاتها على مستوى الدماغ والناجم عن خلل مورثي والذي يؤدي بدوره إلى خلل في عمل الجهاز المناعي. ولا يعرف للوقت الحاضر إذا ما كان هذا الخلل قد حدث خلال الحياة الجنينية أو أن الإصابة تطوريه وبالتالي تتفاقم مع مرور الزمن. ومن الأسباب المتهمة والتي لم يثبت دورها في حدوث التوحد نذكر الحساسية الغذائية وزيادة تركيز الفطور في جهاز الهضم والتعرض للسموم البيئية, وبعض اللقاحات خاصة لقاح الحصبة والحصبة الألمانية والنكاف.
    ويبدو أن كل الأطفال المصابين بالتوحد تجمعهم الأعراض التالية:
    1-فشل في التواصل الاجتماعي
    2-فشل في وسائل التخاطب اللغوية وغير اللغوية
    3-تصرفات وحركات شاذة يميل الطفل لتكرارها مثل إجراء حركات هز متكررة في اليدين أو تشبه حركات غزل النسيج.

    ورغم تواجد الأعراض السابقة عند كل الأطفال المصابين إلا أن شدتها تختلف من طفل لآخر مما يضفي ذلك الطيف من صفات التوحد.

    يختلف بدء ظهور الأعراض من طفل لآخر , فمنهم من تكون الأعراض التوحدية مبكرة وظاهرة من عمر بضع أشهر, ومنهم من تتأخر عندهم العلامات الواصمة لثمانية عشر شهراً , ومهما يكن الأمر فإن الطبيب الحاذق قادر على تشخيص الإصابة منذ بدء الأعراض مما يساعد أهل المصاب على بدء العلاج بشكل مبكر وبالتالي الحصول على إنذار أفضل لمستقبل الطفل وتطوره الروحي العاطفي وتواصله مع البيئة والمجتمع.


    ومن المهم تنبيه أباء الأطفال والمربين على العلامات التي تستدعي الاستشارة الطبية دون تأخير :
    قبل عمر السنة:
    1-صعوبة التواصل البصري بالعينين مع الآخرين.
    2-الرضيع لا يبتسم لمن يداعبه أو يلعب معه, علما ً أن الرضيع
    يبتسم لمن يداعبه منذ عمر الشهرين.
    3-تأخر" المكاغاة" مثال ذلك لفظ حرف غ غ غ عند مداعبته, أو لفظ
    كلمة بابا, ماما عندما يقترب الرضيع من عمر السنة؛ ويجب الانتباه أن الرضيع لا يعاني من اضطراب في السمع.
    4-لا يبدي الرضيع علامات الخوف من الانفصال عن الأم والخوف
    من الغريب.
    5-يظهر غالبا ً على الرضيع المصاب بالتوحد اضطرابات في
    التواصل الجسدي تظهر على شكل اضطراب في مقويته عندما تحاول الأم ضمه لصدرها .

    بعد عمر السنة :
    1-لا يلتفت الطفل الدارج ( أول المشي) لمن يناديه باسمه, ويجب
    تحري نقص السمع في هذه الحالات.
    2-لا يقوم الطفل الصغير بالنظر إلى ما يشير إليه الأبوين بالقول:
    انظر إلى...
    3-لا يقوم الطفل بتقديم نفسه للأهل عند قيامه بعمل ما أو بحمل
    شيء ما.
    ومع مرور الزمن تتكامل الصورة وتتضح:
    1-حب اللعب على انفراد.
    2-عدم الاكتراث بالأطفال ممن يلعبون حوله.
    3-تحدد كلام الطفل بعدة كلمات أو عبارات مكررة.
    4- نادراً ما يلعب الطفل المصاب بالتوحد الألعاب المثيرة والتخيلية .
    5- الميل للقيام بحركات مكررة ( مثال ذلك هز الجسد والخفقان في اليدين).
    6-نوبات من الغضب لأتفه الأسباب وكذلك الضحك والبكاء دون مبرر.
    7- لا يظهر عليه بوادر التأثر بالعاطفة أو إظهارها ( لا يقرأ الطفل التوحدي تعبير الوجه).
    8-يجد صعوبة في تغيير عاداته اليومية.
    9-عدم الخوف من المخاطر.
    10-عدم الاكتراث عند مناداته باسمه أو توجيه السؤال إليه.
    11-تمسكه بألعاب محددة أو اهتمامه بجزء من اللعبة.

    ويجب على المربين الانتباه للعلامات التالية:

    1-الرضيع لا يلفظ بعض الأحرف مثل " با- ما- دا" ولا يشير إلى الأشياء بعمر السنة.
    2- لا يلفظ الطفل أي كلمة بعمر ستة عشر شهرا ً .
    3-لا يلفظ الطفل جملة من كلمتين بعمر السنتين؛ مثال ذلك " باي روح, أو أنا آكل" .
    4-لا يتجاوب لمناداته باسمه.
    5- اضطراب التواصل البصري والعاطفي منذ المراحل المبكرة من العمر؛ وكذلك التواصل الاجتماعي ومثال ذلك الطلب من الطفل أخذ غرض معين وإعطائه لآخر فلا يستجيب الطفل لذلك التفاعل الاجتماعي.

    لا يكترث الطفل المصاب بالتوحد لما يجري حوله, ويبكي بعض الأحيان دون تفسير, وقد يتمثل قلقه وغضبه بضرب الرأس المتكرر على الحائط وعض اليد والساعد؛ أما الذين استطاعوا استخدام اللغة في التواصل مع الآخرين فتكون لغتهم ضامرة وغير مفهومة. وغالبا ً ما يكرر المصابين كلمات وجمل الآخرين كالببغاوات, أو أن تكون لغتهم مفككة, وغير مترابطة ومفهومة.
    يعاني المصابون بالتوحد من صعوبة تفسير اللغة الجسدية ونغمة الصوت"مثال ذلك تمييز النبرة الحزينة من النبرة الفرحة", وقد يفهم المصاب بالتوحد الجملة الهازئة وكأنها مديح. وغالبا ً ما يخالف تعبير الوجه سياق الكلام ويبدو الكلام كأنه صادر عن رجل آلي.
    ومن السمات الشائعة لدى المصابين بمرض التوحد الحركات النمطية المتكررة بهز الأيدي أو هز الجذع والرأس؛ ويتخلل هذه الحركات النمطية توقف عن الحركة لبضعة لحظات.
    يميل الطفل التوحدي إلى الحفاظ على طقوس تقليدية ثابتة في حياته وإذا تغيرت هذه الطقوس نرى نظرات القلق والخوف على وجهه. وربما يشعر المصاب بالراحة النفسية بتجنب التغيير في عالمه الذي يكتنفه الارتباك.







    ومن الأعراض المشاركة لمرض التوحد اضطراب الحواس وفقدان الشعور بالألم؛ وبعضهم يعاني من نوبات الصرع. ويتشارك طيف التوحد, في بعض الحالات, مع تناذر الصبغي إكس الهش Fragile x syndrome وبعض الاضطرابات الصبغية الأخرى كالتصلب الحدبي Tuberous sclerosis .
    لا يوجد فحص مخبري لتشخيص التوحد ولا زال التشخيص سريري أي يعتمد على مجموعة علامات مضطربة في تطور الطفل الروحي وسلوكه الاجتماعي. ولقد أثبتت الدراسات دور العامل الوراثي في حدوث التوحد فإذا كان لدى الأسرة طفل مصاب بالتوحد فاحتمال ولادة طفل آخر مصاب تصل ل 10% أي أعلى بكثير مما هو متوقع في المجتمع بشكل عام.
    تظهر أعراض التوحد في مراحل مبكرة من الطفولة قبل عمر الثلاث سنوات. وتوجد اختبارات مبرمجة ومتعددة بهدف نخل الأطفال المحتمل إصابتهم بطيف التوحد؛ كما توجد اختبارات أخرى للتشخيص وتحديد نمط الإصابة.
    قسّم الباحثون طيف التوحد إلى مرض التوحد بشكله الوصفي, وبعض التناذرات الأخرى مثل تناذر أسبرجر وتناذر رت. أما الاضطراب التفككي الطفولي المبكر والذي يبدأ عادة بعد عمر الثلاث سنوات فقد وضع بتصنيف خاص, ويعتقد أن الاضطراب ناتج عن مشكلة استقلابية عصبية.
    يخضع الطفل المشتبه بإصابته لاستشارة طبية تضم عدد من الخبراء في تقييم وعلاج المصابين بطيف التوحد, ويضم هذا الطاقم الطبي خبراء في علم النفس والطب النفسي عند الأطفال والأمراض العصبية والمعالجات النطقية والتقويمية والسلوكية. كما يتم تقييم النقاط الإيجابية والسلبية في سلوك الطفل المصاب حتى نستطيع دعم السلوك الايجابي ولجم السلوك السلبي. و يشارك عادة ً خبراء في علاج المصاب بالتوحد ممن لهم باع طويل في العناية بذوي الاحتياجات الخاصة.
    ويجب وضع الطفل تحت إشراف طاقم طبي يؤمن له الخدمات العلاجية والتثقيفية من خلال برامج مخصصة ومبرمجة . وتهدف هذه البرامج إلى تعليم الطفل كيفية التواصل مع الآخرين عن طريق الكلام والرسوم ولغة الإشارة سعيا ً لإخراج الطفل من دائرة اهتماماته الضيقة وشده نحو آفاق جديدة بطرق التشجيع الايجابي ومن خلال وضعه في أجواء اجتماعية مناسبة. ويحتاج بعض الأطفال المصابين بالتوحد لأدوية مضادة للاكتئاب التي تخفف من الحركات النمطية؛ وقد يحتاجون لأدوية تخفف عندهم فرط النشاط ؛ كما نستخدم في بعض الحالات مضادات الاختلاج والذهان.
    يتم الإشراف على المصابين في مراكز متخصصة لمعالجة مثل هذه الحالات. وبدأت هذه المراكز بالتواجد في أكثر البلدان ولكن فضَلت الدول المتقدمة علمياً دمج المصابين مع أقرانهم في المدارس العامة إذا وجد الطاقم المعالج فائدة من ذلك, ويخضع هؤلاء الأطفال لبرامج وعناية خاصة تساعدهم على التأقلم في عالمهم الجديد.


    وقد ينوء أهل المصاب من ثقل المرض؛ ويجد بعض الأهالي ممن لدى أطفالهم حالات شديدة من التوحد أن المصاب يستنزف طاقاتهم ويحرمهم من حياة طبيعية مما يتطلب وضع المصاب بمراكز مهيأة للإقامة الدائمة. وتشمل الأعمال اليومية تعلم المهارات الضرورية للحياة مثل الطبخ والتسوق وعبور الشارع ونشاطات أخرى تقام بشكل جماعي.
    يسبب علم الوالدين بتشخيص التوحد عند طفلهم الكثير من القلق والإرباك. وتظهر لديهم وسائل الدفاع النفسي فيرفض الأبوين التشخيص وتبدو عليهم علامات الغضب. وقد ينهار حلمهم بالطفل المثالي ويحل محله جرح يصعب اندماله مع الزمن. ويهرب الأهل, في بعض الحالات, إلى عالم الشعوذة والخيال. ويحاول بعضهم اللجوء إلى معالجات لم تثبت فعاليتها؛ ويبحث الآخرون عن السبب من خلال أخطاء اقترفوها في تربية طفلهم. وهكذا يدخل الأهل في دوامة يصعب الخروج منها دون المساعدة.
    ونشأت جمعيات في مختلف الأقطار لدعم أهل المصاب بالتوحد وتعريفهم بأسباب الإصابة ووسائل الدعم التربوي والسلوكي. وتنشر هذه الجمعيات آخر ما توصل إليه الباحثون من وسائل دعم نفسي وعلاج؛ ويوجد على الشبكة العنكبوتية آلاف المواقع الحاوية على معلومات تفيد القارئ في هذا المجال.
    ولا بد َ من مشاركة الأهل في دعم الأسلوب التربوي والعلاجي؛ ولاحظ الباحثون أهمية إشراك أهل المصاب بالطرق العلاجية حتى نحصل على أفضل النتائج العلاجية.
    * * *

    وندخل الآن في عالم التوحد, ذلك العالم الذي لا يعلم عنه الناس إلا القليل. عالمٌ يصعب وصفه إلا ّ ممن عانى المرض وتكبد عناء السهر للعناية بالمصابين وذويهم. وقصة نور واحدة من القصص المليئة بومضات الحزن والأمل, مليئة باليأس والتحدي؛ وهكذا هي الدنيا ضيقة لولا فسحة الأمل التي نبحث عنها في كل مكان.
    ولدَ نور من أبوين يعملان في السلك التعليمي؛ ولقد شغل الأب موقع مرموق كمدرس لمادة الرياضيات وكرست الأم حياتها المهنية في تعليم مادة الفنون لطلاب السنوات الإعدادية والثانوية. ولم يعتر ولادته في المشفى أي مشاكل طبية, وهو الطفل البكر لعائلة ميسورة نسبيا ً لم تعان الفقر والحرمان, وكانت السكينة والألفة تكتنف أجواء الأسرة بعيدا ً عن أي مشاحنات أو شجار عائلي.
    تابعت نور في عيادتي الطبية منذ ولادته؛ وكان تطوره الروحي الحركي سليما ً حتى عمر التسعة أشهر حيث تلقى خلالها اللقاحات الضرورية والعناية الصحية اللازمة. ولم أسجل في ملفه الطبي إلا بعض الملاحظات التي رغبت بتسجيلها رغم قناعتي حينئذ بعدم أهميتها لأنني كنت أعزي الأمر إلى ظروف الفحص الطبي السريع وعدم إعطاء الوقت الكافي للملاحظة. وكانت الملاحظة الأساسية التي دونتها عدة مرات محاولة نور تجنب الرؤية المباشرة للعينين ومحاولته الاهتمام بالأشياء أكثر من ترابطه العاطفي مع الأشخاص.
    تراجعت ملكات نور التواصلية مع المحيط, وبدأت تظهر عليه علامات التوحد دون أي شك أو ريب, وتم إرساله إلى المراكز المختصة ليتلقى الرعاية اللازمة منذ عمر السنتين.
    لن أقص معاناة نور مع الإصابة من وجهة نظر الشاهد ولكن من وجهة نظر المصاب, وهي محاولة قد تظهر للقارئ جريئة ولكنها محاولة لدخول عالم المجهول, عالم يصعب الخوض في أفاقه إذا لم نرفع الشراع ونبحر في يمه.
    * * *

    قدري أن أخوض, دون هوادة, حرب مع الوحدة. وأن أتأرجح بين عالمين, ذلك الذي نشأت لأرضخ تحته, والآخر لأهرب إليه بمساعدة الأيدي التي مدت إلي جسور المحبة والعطاء. يختلف عالمي عما عهده الأطفال بأنه يدور في فلك الأشياء ويبتعد عن العاطفة والتواصل مع الآخرين.
    ظن الباحثون أن مشكلتي في التواصل مع العالم الخارجي ليست إلا نتاج التعامل السيء والتربية الخاطئة التي كرسهما والديَ خلال تربيتي في المراحل المبكرة من حياتي؛ ولم يدرك العلماء إلا متأخرا ً أن مشكلتي أعمق من أن تكون نتاج البيئة السيئة, بل هي اضطراب في التكوين البيولوجي للجملة العصبية يبدأ منذ الحياة الجنينية المبكرة.
    بدأت أكتسب مهاراتي بالملامسة, وهذا ليس بالغريب عندما نعلم أنها الوسيلة الأولى التي يبني عليها الرضع تعرفهم على الأشياء, كم من مرة رأيتموني أضع اللعب في فمي كوسيلة للتواصل مع محيطي؟ ولكنني لم استطع تجاوز هذه المرحلة, وبينما استطاع أقراني فتح نوافذ عالمهم إلى تطور طبيعي فإنني لا زلت سجين وحدتي وعالمي الخاص.



    للمتابعة في المستقبل
    الرجاء تصحيح الأخطاء النحوية ولكم الشكر


























يعمل...
X