المدرسة: إلى أين؟
لم تكن المؤسسة التربوية محل جدل في العالم كما هي عليه الآن فبتقاطعها مع أكثر القضايا حيوية في المجتمع كالهوية و التشغيل و المشاكل الاجتماعية تتعدى المدرسة كونها جملة من البرامج التي يتم تدريسها و اختبارها لنيل الشهادة الجامعية و لم تكن المستويات العلمية و لا المؤهلات بهذا التباعد من قبل في نفس الفصل الدراسي فقد اتسعت الفجوة بصفة رهيبة بين أصحاب المؤهلات العالية جدا و بين العاجزين عن القراءة أو الكتابة أو كليهما و ظهرت صعوبات خِلقية و بيئية تتعلق بفك الشيفرة الأبجدية و العددية نابعة من تشوهات ذهنية و عاطفية يأتي بها التلاميذ إلى المدرسة و تكرسها نقائص النظام التربوي فنجد نسب انقطاع هائلة بعد سنين يكون فيها التلميذ غير صالح للحصول على وظيفة و لا قادرا على تعلم حرفة.
و بتفكيك ظاهرة الفشل المدرسي نكتشف تعدد أطرافها فإضافة إلى المسافة الثقافية التي تكون بين البيت و المدرسة و التي تساعد أو تعرقل الطفل في الاندماج فإن هنالك اعتبارات اجتماعية و اقتصادية و ثقافية محدِدة في تعاطي الطفل مع المدرسة و إتمام تحصيله الدراسي.
هذه الاعتبارات في شقها الاجتماعي تتعلق بالقيمة التي يسندها اللاوعي الجمعي للعلم و الفكر و الفن و التي انحدرت كثيرا في الثلاثين سنة الماضية بسبب صعود دور الحِرَف الذي جعل صاحب الحرفة أقدر على تأمين متطلبات الحياة المادية مقابل تراجع صاحب الفكر و عدم قدرته على مجاراة السياق الاستهلاكي إن فكريا أو ماديا إضافة إلى دور الدولة في تجميد القطاع العام و نزوعها نحو الخوصصة و محاربة المهن الفكرية و الثقافية مما وتـّر العلاقة بين المدرّس و الطالب و بين المثقف و الشعب و جعل الفيصل في العلاقات هو المراكز الاجتماعية و الإمكانات المادية أما الشق الاقتصادي فهو يتعدى الظروف المحلية إلى الظروف العالمية فتوحـُّش النظام الرأسمالي و تقسيمه الطبقي للمجتمعات إلى شريحتين غير متساويتين تكون الشريحة الغالبة هي الأشد فقرا و الشريحة النادرة هي ذات الثراء الفاحش أثر جذريا على بنية المدرسة فعوض أن نجد تقسيما ثلاثيا (يعتمد تقريبا على 25% من التلاميذ الممتازين و 50% من التلاميذ ذوي الإمكانات المتوسطة و القادرين على مواصلة تعليمهم و إنهائه ضمن معدل متوسط و 25% من التلاميذ الذين يعانون صعوبات و القادرين في نسبة منهم على الالتحاق بالصفوف الوسطى و تبقى النسبة الأقل منهم مشمولة بالفشل و الانقطاع المدرسيين) نجد تقسيما ثنائيا يجعل 10% إلى 15% من التلاميذ ممتازين (أو نخبة و هم في أغلبهم من النخبة الاقتصادية) و النسبة الباقية من التلاميذ الذين يعانون صعوبات مدرسية متفاوتة فمنهم من يصل بمجهود شخصي و منهم من يواصل ضمن حلول سياسية ملفقة منها الارتقاء الآلي (للتغطية على نقائص النظام) و منهم من ينقطع مبكرا ليتعلم حرفة فيما تضطر نسبة منهم من القادمين من أوساط فقيرة و مهمشة إلى الدخول في متاهات تجارة الأطفال و الانحراف مما يؤدي بهم إلى مراكز الإصلاح و التأهيل في سن مبكرة و ما ينجر عن ذلك من تدمير لحياتهم في المستقبل.
و هكذا نجد أن المدرسة تعيد إنتاج التفاوت الطبقي و لا تساعد في حلّ المشاكل المعرفية و النفسية للطفل بما يجعله يصل إلى بر الأمان الاجتماعي و يمكنه من عيش حياة سليمة سواء اختار مواصلة الدراسة أو تعلـُّم حرفة.
إن التبعية الاقتصادية لدولنا للدول العظمى هي سبب التفاوت الطبقي المجحف و هي أيضا سبب التبعية الثقافية و تقتضي هذه أن تملي علينا الدول القوية سياساتها و تجعل من مدارسنا مخابر لبرامجها و لا أدل على ذلك من أن قضية الهوية تشهد في العالم كله مراجعة و إعادة قراءة من حيث اللغة و المناهج و مدى مواكبة اللغات المحلية للعصر و العلوم و التكنولوجيا نتيجة الحروب الثقافية التي صارت السمة الغالبة لهذا العصر و قد أفرِغت مناهج كثيرة من مضمونها القيمي و الثقافي تاركة المجال للآليات التي لا تتطلب مجهودا فكريا فيما وقع تمرير المفاهيم السياسية للأحزاب الحاكمة فتحولت المدرسة من محضنة اجتماعية و فكرية و نفسية و علمية إلى محضنة سياسية لا تنتظر من التلاميذ أن يكونوا عباقرة أو أفرادا صالحين و إنما أن يكونوا ملقـَّنين و مُلقِّنين في المستقبل و إزاء تراجع دور المرأة في الأسرة لا كعضو فاعل اقتصاديا و إنما كعضو أساسي في العملية النفسية لبناء شخصية الطفل و في عملية التوريث الاجتماعي للمعاني و الأفكار و الأخلاقيات و الخصوصيات الثقافية ينشأ الشاب و الشابة على غير مثال و على غير قدوة و يكون فريسة للخطاب السياسي الذي يوجهه لا كفرد من المجتمع و لكن كعنصر تابع للدولة يتبنى شعوريا أو لا شعوريا أفكار النظام، يبرر كل شيء لأنه لا يملك نموذجا من تجربته أو من قراءاته يقارن به الواقع الطاحن و هكذا تضمحل فكرة الوطن لديه -لأن فكرة الوطن تنشأ من البيت و المدرسة- و تتركز مكانها فكرة الدولة، الدولة التي أخذت في العقود الأخيرة صفة الشركة العملاقة و هكذا يصير الفرد مجرد أجير لا شخصا منتميا نفسيا و اجتماعيا و لا شريكا في القرار السياسي.
و كما يكون الشخص نتاجا لظروفه النفسية و الاجتماعية فهو يعيد إنتاجها في مرحلة ثانية بصفة لاواعية مما يخلق في داخله صراعا و قلقا ناجما عن عدم الانتماء و قد يعيد إنتاجها بصفة واعية و قد استوعب نموذج الدولة دون أن يكون فاعلا في المحافظة على هويته الفردية و الجمعية.
إن المدرسة الآن في مفترق طرق جديد نتيجة الثورات التي اندلعت في تونس و غيرها من الدول العربية و نتيجة للمد السلفي الذي يقدم نفسه كبديل لهذا التفكك الثقافي تبدو المدرسة مهددة للمرة الثانية فالمجموعات الدينية في تكوينها الداخلي لا تقبل النقد التاريخي و لا المروق و لا التناول بالبحث و هذا شامل لكل الأديان كما أن الدولة في تكوينها غير متجانسة فلا يمكن أن تفرض خطابا إسلاميا في دولة تتكون من مسلمين و غير مسلمين سواء كانوا من ديانات مختلفة أو تحولوا لديانة أخرى أو أنهم لا يدينون بأيّ دين و تقتضي المواطنة احترام اختياراتهم و اختلافاتهم.
إن ما يجب أن تزرعه المدرسة الحديثة هو أن يحب الطفل وطنه (بكل ما يشمله من عاطفة تجاه ربه و أرضه و عائلته) ثم يحب أي شيء آخر بعده، أن ينفتح على الآخر و يتقبل اختلافه عنه، أن يناقشه بأدواته الصغيرة إلى أن يطورها و ينميها في نفس الإطار المنفتح و الناقد لذاته و للآخر، أن يعرف خصوصياته و يحترمها و يفرض على الآخر احترامها، أن يتعرف على الثقافات الأخرى و يعرف أن منها ثقافات مجرمة تؤسس للإستعمار و الإقصاء تتكلم عن الحرية و تقتل الشعوب و تفتك أرضها فيتعلم كيف يأخذ منها دون أن يتبناها كل هذا بلغة مبسطة ستفهمها فطرته السليمة و لكن أن نطعمه طبخ ماما أمريكا و نقول له إنها شريرة فلن يستوعب ذلك (لقد دخل الإستعمار حتى إلى بطوننا!) فإذا قدمنا له النموذج الأفضل فلا بد أنه سيطرد النموذج الدخيل من تلقاء نفسه كما أن المدرسة لا يمكن أن تضطلع بكل شيء بمفردها لأن المسافة الثقافية بين البيت و المدرسة و بين الطفل و مقومات هويته يجب أن تكون قريبة و إلا صار الطفل يسبح بلا بوصلة و سيجد نفسه مرة أخرى فريسة الخطاب السياسي، خطاب براغماتي ميكيافيلي أو خطاب ديني متشدد فتضيع شخصيته و حريته و من خلالها شخصية الوطن لفائدة مفهوم الدولة المادي.