قرأت لكم
مقالة تلقي الضوء على دور سالم جبران الشعري
بداية: سالم جبران في السبعين من العمر
سالم جبران أحد الشعراء الذين أسسوا للقصيدة الوطنية الملتزمة المقاومة ، وأحد الذين تسلحوا بالنظرية الماركسية العلمية التي منها انطلقوا في بلورة افكارهم ومواقفهم ومسيرتهم وكتاباتهم. هو معلم وقائد فكري صقل بكتاباته واشعاره وآرائه شخصيتنا ،تعلمنا منه الكثير بحيث صارت له بصمات تسم جيلا كاملا.
سالم جبران الشاعر والمفكر والمعلم في السبعين من العمر، لذلك جاء هذا المقال تكريما لدوره الفاعل وتثمينا له، جرى الاقتصار فيه على جانب واحد من عطائه المتنوع، اقتصرنا لان الشعر وعاء يحتوي في داخله على الكثير ويعبر بشكل مباشر او غير مباشر عن المواقف والآراء. عل كلام هذا المقال يناشد الشاعر ليستأنف الكتابة ، تلك الكتابة التي تقنا اليها يا ابا السعيد. العمر المديد والعطاء الدائم ما نتمناه لك.
***
رغم اختلاف النقاد حول مفهوم "أدب المقاومة"، إلا أن معظم من كتب منهم عن شعرنا المحلي اصطلح على تسميته بهذا الإسم. وذلك لأن شعرنا كُتب تحت ضغط ظروف معينة، هي ظروف الاحتلال بكل ما تحمله كلمة احتلال من مفاهيم وأبعاد.
في الواقع كان شعراؤنا هنا بمثابة الراصد للأحداث، يرونها فيتفاعلون معها ويترجمونها قصائد متحدية رافضة لواقع مؤلم، هو واقع الظلم والاحتلال والتمييز فأصبح إنتاجهم المؤشر الذي يدل على الجرح، ومن ثم الصوت الصارخ ضد المحتل وأساليبه، فساهمت أقلام شعرائنا في فضح كل المخططات التي استهدفت قمعنا وتشريدنا، وأصبح الشاعر الذي ينظر للقضية من علٍ بعيدا عن آلام شعبه وطموحاته وآماله شاعرا مرفوضا مقطوعا عن الجماهير ومنها. لأن شعراءنا هنا عاشوا القضية وذاقوا مرارتها على جلودهم، جاء شعرهم متميزا بمميزات خاصة اشتركت مع الشعر التقدمي العالمي في كثير، واختلفت عنه في كثير، وظلت محافظة على محلية خاصة ونكهة خاصة فلسطينية. فكان شعرنا شعرا تقدميا ثوريا وامتدادا لتراث شعري عظيم كان منتشرا قبل نكبة (1948)، ولقد اكتسب شعراؤنا هذه الرؤى بسبب اطلاعهم على ما أنتجته أقلام الأدباء التقدميين في العالمين العربي والعالمي وذلك عن طريق ما كانت تنشره صحف ومجلات الحزب الشيوعي الاسرائيلي في فترة كانت حالكة من حيث شح المصادر وانعدام الكتب التقدمية.
حديثنا عن الشعر الفلسطيني المحلي بكل ما فيه من روعة ومن نكهة خاصة، يقودنا إلى الحديث عن شاعر بارز كان له دور كبير في إعلاء شأن شعرنا وفي صبغه بصبغة تقدمية ثورية، الشاعر هو سالم جبران.
كرس سالم جبران معظم شعره لمقاومة الاحتلال ورفضه وتعرية أساليبه وممارساته، لذلك فالحديث عن شعر سالم يعني الحديث عن المقاومة فالمقاومة تغطي مساحة كبيرة في دواوينه الثلاثة المنشورة بين الأعوام 1975- 1967 (1).
لا مقاومة بدون حُب، فكي يكون الشاعر مقاوما يجب أن يتعمد في تجربة الحُب، فحُب الوطن وحُب الشعب وحُب الأرض، هو المنطلق والأساس لشعر المقاومة، وللحقيقة نقول ان سالما يكن لوطنه ولشعبه ولأرضه حُبا عميقا يبلغ حد العبادة، فمنذ بدأ يمارس الشعر لخص سالم حُبه في قصيدة رائعة وبسيطة، لكنها رغم بساطتها تكشف عن جمالية رائعة وإحساس مرهف، وتبشر بميلاد شاعر عظيم، يقول سالم في قصيدة بعنوان :"حُب" (2):
كما تحب الأم طفلها المشوها
أحبها
حبيبتي بلادي:
هذا الحُب الكبير لبلاده يجعله يحس بكل ضربة تصيبها،وبكل عملية اغتصاب تنفذ فيها فيسجل الشاعر كل ما مر على شعبه ووطنه من محن إبتداء من نكبة 1948، في قصائد معبرة تنضج ألما وحسرة، ولكنها تنضج أيضا ثورية وبعد رؤيا:
كان ليل النكبة الأسود لا إشعاع فيه
غير إشعاع القنابل ليست تقاتل!
ولماذا يا بلادي!
قالت الأعين، في رعب
ولم تفهم تفاصيل القضية (3)
في هذا المقطع البسيط يختزل سالم جبران نكبة (1948)، ويسجل عدم فهم الشعب لتفاصيل المؤامرة التي حاك خيوطها الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية في حينه.
كانت النكبة وكان التهجير واللجوء والتشريد وقد رأى شاعرنا كل هذه المآسي وعايشها فدونها شعرا لكنه لم يكن يستبق الأحداث، بل كان على درجة من الوعي كبيرة عارفا بتفاصيل المؤامرة ملما بأهدافها وأبعادها، فلم يستسلم فجاء شعره في هذه المرحلة حاثا الناس على البقاء وعدم ترك الأرض والوطن مهما حدث، فقد عرف ورفاقه أن المؤامرة كانت تستهدف أولا وقبل كل شيء ترك الوطن، فكان صوته ينادي بالبقاء وبالتشبث بكل حجر وبكل شبر أرض، وهذا التصميم على البقاء كان خطوة سالم الأولى في شعره نحو المقاومة.
يقول سالم في قصيدة بعنوان "بقاء " (4).
الأرض خناجر
تحت الأقدام الوحشية
والأرض مقابر للأحلام الهمجية
سأظل هنا
في بيت يبنى من أحجار
في كوخ مصنوع
من أغصان الأشجار
أو في إحدى مغر بلادي
يا جزار
الأرض الفلسطينية عند سالم جبران مزروعة بالخناجر تزعج أقدام المحتل، وترفض كل قدم غريبة، والأرض الفلسطينية مقبرة لأحلام الصهيونية الهمجية التي بنيت على تشريد شعب كامل. لكن الشاعر رغم وحشية المحتل سيظل على أرضه وفي بيته صامدا يحلم بغد مشرق، بأمل حلو أخضر، فهمة الشاعر مهما قست أقدام المحتلين لا تفتر وتفاؤله لا يزول، فهو مؤمن بقدرة شعبه، مؤمن بأن مستقبل الظلم الزوال إذا صمدنا وقاومنا:
سأظل هنا
أمسك جرحي بيد
وألوح بالأخرى لربيع،
يحمل لبلادي
دفء الشمس وباقات الأزهار (5).
وفي قصيدة "أغنية" (6)، يمجد سالم جبران الشعب الذي يتحمل كل ما أصابه من صدمات فيلملم جراحه ويسير فوق الأشواك سعيا للربيع، كما أنه يقرر بقاءه وشعبه على تراب وطنه فالوطن لا يقوم إلا بشعبه، والشعب لا يقوم إلا بوطنه، لذلك وانطلاقا من هذه الفكرة يهيب سالم بأبناء شعبه أن يتكاتفوا ويتماسكوا ويتوحدوا من أجل معركة البقاء ومن أجل معركة الرجوع، فما من طريقة سوى الاتحاد ما من وسيلة لرد الغاصب سوى الصمود في وجهه:
كالسنديان هنا سنبقى
كالصخور
كعرائس الزيتون فوق ربى بلادي
كالنهور كحمائم البرية الخضراء
أنا سوف نخفق فوق أرضك
يا بلادي
كالنسور
هنا باقون كجذور أشجارنا لا شيء يستطيع اقتلاعها- اقتلاعنا- فجذورنا في الأرض الفلسطينية عميقة تضرب في الرحم، يأتي الشتاء ويذهب وتظل الجذور حالمة بالربيع معانقة الحياة، فكل عواصف المؤامرات لن تزحزحنا شبرا واحدا عن أرضنا ووطننا:
سأظل فوق ترابك المذبوح يا وطني
مع المزمار، أنشد الربيع
وأقول للباكين والمتشائمين
إن الشتاء يموت فابتسموا
ولا تتخاذلوا تحت الدموع
هاتوا اياديكم، فمعركة البقاء
تريدكم سندا ومعركة الرجوع (7).
فالمعركة إذا معركة مصير، معركة بقاء ورجوع للوطن وللأرض، ولا يمكن أن يتحقق كل هذا بالبكاء والتشرنق بل بالاتحاد والتفاؤل والإقبال على الحياة، لأنها نصير الفقراء والمظلومين.
وفي قصيدة "القائمة السوداء" (8)، يتحدى سالم السلطة ويعرض بالمتعاونين معها، ويعري أساليبها، فمهما حاولت السلطة إغراء شاعرنا- شعبنا- كي يتنازل عن أرضه وعن وطنه، كي يصبح عميلا يخدم أجهزة الظلام سيرفض ذلك وسيبقى حرا شريفا يدافع عن شعبه ويحثه على البقاء ويهديه إلى الصواب:
سجل إسمي في القائمة السوداء
سجل إسم أبي، أمي، إخواني
سجل حتى حيطاني
في بيتي لن تلقى إلا شرفاء
لا تنظر نحوي بعيون باردة بلهاء
سجل إسمي
فأنا لن أتنازل
عن أرضي الطيبة المعطاء
لن أعمل جاسوسا للأجهزة السوداء
ويختتم شاعرنا قصيدته بمقطع رائع يسجل فيه حبه لوطنه ويسخر فيه من أجهزة السلطة فيقول:
وطني ملكي
أبقاه لي أجدادي
وسأبقيه للأبناء
حر فيه أنا..
أتجول كيف أشاء
خبئ في غير ملفاتك بالقائمة السوداء (9).
جاءت النكبة وجاء معها التشريد فانقسم الشعب الفلسطيني، قسم بقي على أرضه وتمسك بها وآخر هجر قسرا وعنوة، ولكن السلطة ما كفت يوما عن مضايقة الباقين، بل حاولت بكل ما تملكه من أساليب ووسائل قمعه وتضييق الخناق عليه في شتى مرافق الحياة. ولم تمر سنوات قلائل إلا والشعب العربي يقع في نكبة أخرى هي حرب حزيران (1967)، هذه الحرب التي تصدع معها المارد العربي الوهمي، وبتصدع هذا المارد الوهمي تحطمت كل الأوهام التي كانت تحملها الناس، فكانت نكسة أرخت ظلالها على العالم العربي برمته فعاش فترة من الألم واليأس والتشاؤم.
لكن شعراءنا هنا رأوا في الحرب شيئا غير النكسة، فقد كانوا على وعي تماما بما يحدث، لذلك كانت النكسة بالنسبة لهم بعثا جديدا نهاية لمرحلة من الأوهام مريضة، رأوا فيها ناقوسا يدق في رأس كل عربي كي ينهض من جديد، كي يركل كل تراكمات الوهم وينفض عنه كل أثر منه ليتسربل بأفكار جديدة ورؤيا جديدة. رأى شعراؤنا هنا أن النكسة كانت بمثابة هزة أفاقت العالم العربي والفلسطيني من سباته. هكذا رأى سالم وزملاؤه نكسة حزيران. فسالم يسجل أثر النكسة وعاصفة الهزيمة كهزة تدمرعالمنا الشائخ ناسا وأفكارا وها هو يقول في قصيدة عاصفة الهزيمة" (10).
هزي من الأعماق، يا عاصفة الهزيمة
عالمنا الشائخ
فليدمر الإعصار كل التحف القديمة ناسا وأفكارا
ليحرق لهب الثورة كل أراضينا
كي لا تحاك، من جديد، فوقها مهزلة
كي لا تعاد، من جديد، فوقها جريمة
عملاق هذا العصر، هب اطلع النصر
فكل السابقين أطلعوا الهزيمة
كان لا بد من هزيمة كي تحرك الأجيال الجديدة، كي تخلق إنسانا متفائلا لا يؤمن بالأوهام بل بالعمل والفعل فسالم يشكر في قصيدة أخرى بعنوان "يوم العار" هذه الهزيمة على ما فعلته يقول (11):
الغرين الناعم صار نار
والأشجار
غصونها صارت رماحا
بعد أن ملت عطاء الزهر والأثمار
والميتون
استيقظوا ثوار
شكرا ليوم العار
فنحن لولاه بقينا مثلما كنا، نمص جرحنا في ذلة الكلاب
أو نخمس الأشعار
شكرا لهزيمة هزتنا من الأعماق وأصبحت جسرا نحو مستقبل ثائر. فهذه الهزيمة وضعت حجرا على رأس مرحلة عمرها "مليون" سنة، لم نكن نتقن فيها سوى البكاء وتخميس الأشعار واجترار الحزن والمهانة.
بكيت مليون سنة
لم تبق بوابة شعب ما وقفت عندها كالكلب أروى-
كالكلب أروى- آه من يسمع؟
أخبار الضياع المحزنة
بكيت حتى سقطت عيناي في شوارع الأرض
دموعا ودما
سخفي دفعت ثمنه
عرفت أن الدمع لا يمنح للضائع أرضا آمنة (12)
الدموع لا تحل المشكلة، البكاء لا يرجع الأرض المفقودة ولا يرجع وطنا فقدناه، استجداء الحلول ما عاد ينفع، إنتظار الفرج من الآخرين ما عاد يجدي، فالحل هو الاتحاد والمقاومة، أن يأخذ الفلسطيني الأمر بيديه، الحل ليس فرديا بل هو ثورة جماهيرية، فلنمزق كل الأشياء بما فيها شهاداتنا ولنحمل السلاح دفاعا عن الوطن:
كل الشهادات إلى المرحاض
كل كتب الدراسة
تعلم التياسة
فلتعلم الجبال أن ثائرا جديدا
آت
لكي يسهم في تحرير أرض الشمس
أو يهرق في محرابها انفاسه (13)
الهدف إذا تحرير "أرض الشمس" وهذا التحرير لا يتم بشكل فردي وانطوائي، بل بالمقاومة الشعبية، فمرحلة الحلول الفردية ولت، ولأن الشاعر بدأ بحُب بلاده في المرحلة السابقة فهو يبدأ مرحلته الجديدة بنفس هذا الزخم فالمقاومة فاشلة إن لم تكن نابعة من حُب كل ذرة تراب ومن كل حاكورة وبيت في الوطن:
يمكنكم أن تقلعوا الشجر
من جبل في قريتي
يعانق القمر
يمكنكم أن تحرثوا كل بيوت قريتي
فلا يظل، بعدها أثر
يمكنكم أن تأخذوا ربابتي وتحرقوها بعد أن تقطعوا الوتر
يمكنكم
لكنكم لن تخنقوا لحني
لأني عاشق الأرض مغني الريح والمطر (14).
مهما فعلتم فلن تستطيعوا مصادرة حُبي لأرضي ولشعبي ولبلادي، فالجليل جنتي على الأرض بتربته الخضراء ومائه الصافي لأجله بقيت ولأجله سأبقى، سأحافظ عليه بدمائي، فحُب الشاعر لجليله- وهو ابن الجليل حُب عميق فها هو يقول:
كان الجليل ناسا وتربة خضراء وماء
وبعد أن حرمت أن أزوره
صار الجليل جنة
وناسه آلهة
وصار حتى ليلة ضياء
أقول للقياصر الصغار: ما أضعفكم
قد تحبسون خطوتي
لكن قلبي هائم في وطنه
يزور أي بقعة يشاء يفعل ما يشاء (15)
لأجل هذا الحُب العميق القائم بين الشاعر وبلاده، بينه وبين جليله وشعبه يهون الموت، وتجدر المقاومة وهل هناك أقدس من الاستشهاد في سبيل قضية عادلة! يقول سالم:
تشتعل المقاومة
في كل شبر
يعلن الإصرار
إصراره أن تبصق العدوان كل دار
شعبي أنا أعرفه إن أظلمت
ينبح من دمائه نهار (16)
الشاعر مؤمن بشعبه، مؤمن بقوته وبصلابته وبقدرته على العيش الكريم ورفض الذل والهوان، فالشعب تعلم درسا من الهزيمة، تعلم من التجارب القاسية التي مر بها وعايشها، فكان الدرس رفضا وإصرارا وعزيمة متحدية:
يتعلم الشعب المعذب كيف يسرق من عيون
جلاده حتى النعاس
وكيف يقتحم الحصون
ليقول للمحكوم ألف مؤبد!
إن الخلاص غدا
إذا استنطقت لا تنطق
وإن عذبت
أبصق في عيون الصالبين! (17)
إذا أهين الشعب ومست كرامته يصبح مستعدا لأن يدفع أغلى ما يملك في سبيل رد هذه الكرامة يتعلم الشعب المعذب كيف يدفع للبطولة
بنتا لحد الآن لم تحلم بغير العرس
لم تتقن سوى لم الجديلة
وفتى بعمر الورد يقرأ في الكتاب
ويحفظ الأشعار والقصص الجميلة
يتعلم الشعب المعذب
كيف يحترف البطولة (18)
هذا هو الشعب المقاوم، شعب عايش أزمنة القهر وألف الحزن والعذاب، ولكنه نفض عنه غبار الزمن الرديء، وانتصب ماردا بطلا يركل الذل ويعانق الحرية، الحرية التي تجعله مستعدا لأن يبذل دماءه من أجلها، الحرية التي تجعله يتحول إلى ثائر يدافع عن قضية عادلة حتى النخاع:
يتعلم الشعب المعذب كيف يجعل من تراب من حجار أرض الحمى
أكلا كأسماك المسيح ومن المغائر في الجبال قصور عز لا تهين
سيان يصبح كل موقع ثائر في عينه
مهدا لنصر أو ضريح
ويظل يمشي
والدماء تزيده بذلا
لميلاد النهار (19)
من أجل هذا النهار، نهار الحرية يقاوم الشعب، يتحمل المصاعب يدخل السجون، يضحي، يكتب بدمه نشيد النصر يروي بدمه أرض بلاده، ولكنه مهما حدث يظل متفائلا، يرى النهار يقترب، يراه يتحقق أمامه أملا:
أسند ظهري لجدار أبي التاريخ
وأسدد طرفي عن بعد في وجه أخي المستقبل
وأقول بثقة نبي مصلوب يعلن آخر كلمة إني متفائل
الدرب طويل
والأهل يموتون من الجوع
والشهداء جحافل
وأنا متفائل
دمي النازف مطر
لحمي المطحون سماء
وأنيني أهزوجة الغد مرج سنابل الغد عرس سنابل (20)
كي يصبح الغد مرج سنابل، كي تصبح الدنيا عرس سنابل لا بد من أن يقاوم الجميع:
إبن عشرين يقاتل وإبن سبعين يقاتل
والتي مات أخوها تنسج الصوف لمن قام مكانه (21)
هكذا ويتحقق النصر ويطلع النهار، نهار الحرية من جديد، بالاتحاد، في عرس من المقاومة بالقتال، فالصمت لا ينفع فالمرحلة الآن تتطلب التضحيات والشعب مستعد لذلك:
والتي مات فتى أحلامها
خرجت تحمل بارودته تغسل عن أرض البطولات المهانة
والتي مات ابنها
تحلم أن يطلع تينا وسنابل
عله يطعم في معركة النصر مقاتل (22)
وهذا الشعب الذي تغنى له هذه القصائد هو شعب صهرته نار الاحتلال عملاقا، صهرته بطلا يفدي أرضه بدمه، والشاعر في كل هذا متفائل بغد جميل، متفائل بانهيار السجون وانقلاب الأمور لصالح شعبه:
اه شعبي
صهرتك النار عملاقا
ستفنى هذه الدنيا ولا تفنى، ستبني
بالدم الغالي ونيران القنابل
غدك الحلو، أسمع الجلاد يبكي ثم ينهار
ومن كفيك
كالصابون
تنهار السلاسل (23)
لا بد للشعب أن ينتصر مهما طال ليل الاحتلال والظلم، فالشعب مهما حاولوا خنقه والبطش به لا يفنى، وشعب عرف معنى التضحية سيخلق النصر حتما. و (سالم) يحترم شعبه ويجله ويعرفه حق المعرفة، ويقدر تضحياته، يحترم المقاومين منه المنتظرين النصر.
سوف أغني للسنين
قصة طويلة طويلة
عن فاطمة
تلك التي كانت تخبئ بين نهديها
الدناميت
لكي توصله
عابرة في خندق الموت
إلى المقاومة (24)
هذا هو شعب الشاعر، شعب لا يهاب الموت بل يقتحمه وما ذلك إلا لأنه مؤمن بقضيته العادلة
عندما يصبح الموت بالقنبلة
خطرا فوق رأس ثلاثين مليون راجل
تصبح المرحلة
قدرا
كل فرد يصير مقاتل (25)
إذا نحن لا نرغب القتال، بل نحن شعب مسالم، ولكن إذا اعتُدي علينا لا يمكن أن نسكت.
إذا أصبح الخطر يهددنا ليل نهار كلنا نصبح مقاتلين، فالموت لا يخيفنا بل يصبح حافزا آخر للقتال وللتضحية:
يا دماء أبي وأخي وابن عمي
يا دماء رفاقي البواسل أنت، بعد التراب الذي
يتنزى أسى في السلاسل
والبيوت التي دمرت
والألوف التي هجرت
والصفاء الذي
حرقته على النيل نار القنابل
حافز آخر كي نقاتل (26)
هذا هو شعبنا الحقيقي شعب لا يرتضي الهوان، يثور على الظلم، يطالب بحقه حتى لو كلفه ذلك عمره، ولأنه كذلك يبايعه (سالم) قائدا لهذه المرحلة:
كل الذين تزعموا
قبلك
ساقونا قطيعا أعزلا للموت
فدس على قبورهم -المجرمين
وتزعم أنت (27)
زعمناهم سنين طويلة، فكانت النكبة تتلو النكبة، أما الآن فلا زعامة لفرد، بل لشعب يقاوم ويقاتل.
الزعامة لشعب يقاوم ويقاتل الزعامة لشعب تعمد بالتجربة فخرج منها أكثر صلابة وأشد بأسا، وخرج منها ثائرا لا يهاب، يعرف عدوه، ويعرف كيف يسترد حقه المغتصب، لذلك يغني (سالم) للمقاومين وللثوار، يغني لأصحاب الحق، ولكنه يخجل منهم، يخجل من هؤلاء الذين ضحوا بأرواحهم من أجلنا، من أجل شعبهم بينما هو لا يتقن سوى فن الكلمة، مع أن الكلمة أيضا إذا جندت بشكل صحيح في المعركة تصبح خطيرة خطر الرصاص والقنابل، ها هو (سالم) يرثي أحد الشهداء دون أن يجرؤ على زيارة قبره، لأنه يخجل من تضحيته الكبيرة:
أمجد ذكراك من غير أن ازور ضريحك يا صانع المعجزات
لأني إذا زرته سأموت حيا
أنا كل ما صنعته يدي كلمات (28)
هذا هو سالم جبران بشعره الزاخر حيوية ورفضا، وسالم في كل ما كتب كان منحازا للكادحين. هذا هو سالم الذي يصب لهب قصائده على رؤوس الزعماء التقليديين الذين باعوا القضية وسالم وهو يكتب عن مقاومة شعبه البطل لا ينسى أن يتغنى بكل ثورة قامت على الظلم، وبكل شعب ثار على المحتل الغاصب، فهو مع كل كادح يقاوم من أجل لقمة العيش ومن أجل الحق والعدالة.
بهذه الرؤية التقدمية والإنسانية صنع سالم قصائده المقاومة، ولا يسعنا في هذا المجال إلا أن نقول مخلصين: إن سالم منذ بدأ يمارس الشعر كان شاعرا ملتزما بقضية شعبه، فهي هاجسه اليومي فكل كلمة قالها جاءت تحمل بذرة المقاومة، وكل قصيدة نظمها إنطلقت من تجربة شعب كاملة، وما يميز سالم عن الآخرين بساطته، فكلماته تصل قلب القارئ بسهولة، وخير اسم نطلقه على سالم هو شاعر الشعب والبساطة، شاعر الحُب والمقاومة، وما ذلك إلا لأنه وقف دائما وما زال إلى جانب شعبه حاثا ومحرضا يرسم لشعبه طريق الحرية، ذلك الطريق الوعر الشائك الذي يرى سالم نهايته القريبة الحتمية.
ولأجل الوطن ولأجل حُب الوطن كتب. فبوركت يا سالم شاعرا يرهق الكلمة ويوظفها في خدمة القضية، معك على هذا الطريق دائما.
"كما تحب الأم طفلها المشوها أحبها حبيبتي بلادي"
// الإشارات:
إعتمدنا هنا على دواوين سالم جبران الثلاثة:
1. ديوان: كلمات من القلب، منشورات دار القبس العربي، عمان بدون تاريخ.
2. ديوان: قصائد ليست محددة الإقامة، مطبعة النهضة الناصرة، 1972.
3. ديوان: رفاق الشمس، دار الحرية للطباعة والنشر، الناصرة، 1975.
4.كلمات من القلب، ص102، 1964.
5. ن.م. قصيدة 1948، ص50، 1964.
6. ن.م.بقاء، ص 10 ، 1964.
7. ن.م. ص10.
8. ن.م. قصيدة أغنية، ص 20، 1964.
9. ن.م. ص 21.
10. ن.م. قصيدة القائمة السوداء، ص55، 1963.
11. ن.م. ص55.
12. قصائد ليست محددة الإقامة، قصيدة عاصفة الهزيمة ص 36، ص 37.
13. ن.م. قصيدة يوم العار، ص 32.
14. ن.م. قصيدة نهاية المليون سنة ، ص 34.
15. ن.م. قصيدة الطالب الذي عشق الثورة، ص 31.
16. ن.م. قصيدة بشير الريح والمطر، ص 10.
17. ن.م. قصيدة ما يشاء، ص 14.
18. ن.م. قصيدة نهار شعبي، ص 22.
19. ن.م. قصيدة بلا أوسمة، ص 64.
20. ن.م. قصيدة ص 65.
21. ن.م. قصيدة ص 66.
22. رفاق الشمس، قصيدة كتابة على جدار معسكر الأسرى ، ص 9.
23. ن.م. قصيدة آه شعب، ص 34.
24. ن.م. ص 38
25. ن.م. ص 39.
26. ن.م. قصيدة فاطمة، ص 34- 33.
27. ن.م. قصيدة أغنية المقاومة الشعبية ص 54.
28. ن.م. ص 55.
29. ن.م. قصيدة مبايعة، ص 23.
30. ن.م. قصيدة مرثية، ص 50.
حبيب بولس من ابرز النقاد العرب قي الثقافة العربية في اسرائيل وهو محاضر جامعي
مقالة تلقي الضوء على دور سالم جبران الشعري
سالم جبران شاعر الأرض والمقاومة
د. حبيب بولس
د. حبيب بولس
بداية: سالم جبران في السبعين من العمر
سالم جبران أحد الشعراء الذين أسسوا للقصيدة الوطنية الملتزمة المقاومة ، وأحد الذين تسلحوا بالنظرية الماركسية العلمية التي منها انطلقوا في بلورة افكارهم ومواقفهم ومسيرتهم وكتاباتهم. هو معلم وقائد فكري صقل بكتاباته واشعاره وآرائه شخصيتنا ،تعلمنا منه الكثير بحيث صارت له بصمات تسم جيلا كاملا.
سالم جبران الشاعر والمفكر والمعلم في السبعين من العمر، لذلك جاء هذا المقال تكريما لدوره الفاعل وتثمينا له، جرى الاقتصار فيه على جانب واحد من عطائه المتنوع، اقتصرنا لان الشعر وعاء يحتوي في داخله على الكثير ويعبر بشكل مباشر او غير مباشر عن المواقف والآراء. عل كلام هذا المقال يناشد الشاعر ليستأنف الكتابة ، تلك الكتابة التي تقنا اليها يا ابا السعيد. العمر المديد والعطاء الدائم ما نتمناه لك.
***
رغم اختلاف النقاد حول مفهوم "أدب المقاومة"، إلا أن معظم من كتب منهم عن شعرنا المحلي اصطلح على تسميته بهذا الإسم. وذلك لأن شعرنا كُتب تحت ضغط ظروف معينة، هي ظروف الاحتلال بكل ما تحمله كلمة احتلال من مفاهيم وأبعاد.
في الواقع كان شعراؤنا هنا بمثابة الراصد للأحداث، يرونها فيتفاعلون معها ويترجمونها قصائد متحدية رافضة لواقع مؤلم، هو واقع الظلم والاحتلال والتمييز فأصبح إنتاجهم المؤشر الذي يدل على الجرح، ومن ثم الصوت الصارخ ضد المحتل وأساليبه، فساهمت أقلام شعرائنا في فضح كل المخططات التي استهدفت قمعنا وتشريدنا، وأصبح الشاعر الذي ينظر للقضية من علٍ بعيدا عن آلام شعبه وطموحاته وآماله شاعرا مرفوضا مقطوعا عن الجماهير ومنها. لأن شعراءنا هنا عاشوا القضية وذاقوا مرارتها على جلودهم، جاء شعرهم متميزا بمميزات خاصة اشتركت مع الشعر التقدمي العالمي في كثير، واختلفت عنه في كثير، وظلت محافظة على محلية خاصة ونكهة خاصة فلسطينية. فكان شعرنا شعرا تقدميا ثوريا وامتدادا لتراث شعري عظيم كان منتشرا قبل نكبة (1948)، ولقد اكتسب شعراؤنا هذه الرؤى بسبب اطلاعهم على ما أنتجته أقلام الأدباء التقدميين في العالمين العربي والعالمي وذلك عن طريق ما كانت تنشره صحف ومجلات الحزب الشيوعي الاسرائيلي في فترة كانت حالكة من حيث شح المصادر وانعدام الكتب التقدمية.
حديثنا عن الشعر الفلسطيني المحلي بكل ما فيه من روعة ومن نكهة خاصة، يقودنا إلى الحديث عن شاعر بارز كان له دور كبير في إعلاء شأن شعرنا وفي صبغه بصبغة تقدمية ثورية، الشاعر هو سالم جبران.
كرس سالم جبران معظم شعره لمقاومة الاحتلال ورفضه وتعرية أساليبه وممارساته، لذلك فالحديث عن شعر سالم يعني الحديث عن المقاومة فالمقاومة تغطي مساحة كبيرة في دواوينه الثلاثة المنشورة بين الأعوام 1975- 1967 (1).
لا مقاومة بدون حُب، فكي يكون الشاعر مقاوما يجب أن يتعمد في تجربة الحُب، فحُب الوطن وحُب الشعب وحُب الأرض، هو المنطلق والأساس لشعر المقاومة، وللحقيقة نقول ان سالما يكن لوطنه ولشعبه ولأرضه حُبا عميقا يبلغ حد العبادة، فمنذ بدأ يمارس الشعر لخص سالم حُبه في قصيدة رائعة وبسيطة، لكنها رغم بساطتها تكشف عن جمالية رائعة وإحساس مرهف، وتبشر بميلاد شاعر عظيم، يقول سالم في قصيدة بعنوان :"حُب" (2):
كما تحب الأم طفلها المشوها
أحبها
حبيبتي بلادي:
هذا الحُب الكبير لبلاده يجعله يحس بكل ضربة تصيبها،وبكل عملية اغتصاب تنفذ فيها فيسجل الشاعر كل ما مر على شعبه ووطنه من محن إبتداء من نكبة 1948، في قصائد معبرة تنضج ألما وحسرة، ولكنها تنضج أيضا ثورية وبعد رؤيا:
كان ليل النكبة الأسود لا إشعاع فيه
غير إشعاع القنابل ليست تقاتل!
ولماذا يا بلادي!
قالت الأعين، في رعب
ولم تفهم تفاصيل القضية (3)
في هذا المقطع البسيط يختزل سالم جبران نكبة (1948)، ويسجل عدم فهم الشعب لتفاصيل المؤامرة التي حاك خيوطها الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية في حينه.
كانت النكبة وكان التهجير واللجوء والتشريد وقد رأى شاعرنا كل هذه المآسي وعايشها فدونها شعرا لكنه لم يكن يستبق الأحداث، بل كان على درجة من الوعي كبيرة عارفا بتفاصيل المؤامرة ملما بأهدافها وأبعادها، فلم يستسلم فجاء شعره في هذه المرحلة حاثا الناس على البقاء وعدم ترك الأرض والوطن مهما حدث، فقد عرف ورفاقه أن المؤامرة كانت تستهدف أولا وقبل كل شيء ترك الوطن، فكان صوته ينادي بالبقاء وبالتشبث بكل حجر وبكل شبر أرض، وهذا التصميم على البقاء كان خطوة سالم الأولى في شعره نحو المقاومة.
يقول سالم في قصيدة بعنوان "بقاء " (4).
الأرض خناجر
تحت الأقدام الوحشية
والأرض مقابر للأحلام الهمجية
سأظل هنا
في بيت يبنى من أحجار
في كوخ مصنوع
من أغصان الأشجار
أو في إحدى مغر بلادي
يا جزار
الأرض الفلسطينية عند سالم جبران مزروعة بالخناجر تزعج أقدام المحتل، وترفض كل قدم غريبة، والأرض الفلسطينية مقبرة لأحلام الصهيونية الهمجية التي بنيت على تشريد شعب كامل. لكن الشاعر رغم وحشية المحتل سيظل على أرضه وفي بيته صامدا يحلم بغد مشرق، بأمل حلو أخضر، فهمة الشاعر مهما قست أقدام المحتلين لا تفتر وتفاؤله لا يزول، فهو مؤمن بقدرة شعبه، مؤمن بأن مستقبل الظلم الزوال إذا صمدنا وقاومنا:
سأظل هنا
أمسك جرحي بيد
وألوح بالأخرى لربيع،
يحمل لبلادي
دفء الشمس وباقات الأزهار (5).
وفي قصيدة "أغنية" (6)، يمجد سالم جبران الشعب الذي يتحمل كل ما أصابه من صدمات فيلملم جراحه ويسير فوق الأشواك سعيا للربيع، كما أنه يقرر بقاءه وشعبه على تراب وطنه فالوطن لا يقوم إلا بشعبه، والشعب لا يقوم إلا بوطنه، لذلك وانطلاقا من هذه الفكرة يهيب سالم بأبناء شعبه أن يتكاتفوا ويتماسكوا ويتوحدوا من أجل معركة البقاء ومن أجل معركة الرجوع، فما من طريقة سوى الاتحاد ما من وسيلة لرد الغاصب سوى الصمود في وجهه:
كالسنديان هنا سنبقى
كالصخور
كعرائس الزيتون فوق ربى بلادي
كالنهور كحمائم البرية الخضراء
أنا سوف نخفق فوق أرضك
يا بلادي
كالنسور
هنا باقون كجذور أشجارنا لا شيء يستطيع اقتلاعها- اقتلاعنا- فجذورنا في الأرض الفلسطينية عميقة تضرب في الرحم، يأتي الشتاء ويذهب وتظل الجذور حالمة بالربيع معانقة الحياة، فكل عواصف المؤامرات لن تزحزحنا شبرا واحدا عن أرضنا ووطننا:
سأظل فوق ترابك المذبوح يا وطني
مع المزمار، أنشد الربيع
وأقول للباكين والمتشائمين
إن الشتاء يموت فابتسموا
ولا تتخاذلوا تحت الدموع
هاتوا اياديكم، فمعركة البقاء
تريدكم سندا ومعركة الرجوع (7).
فالمعركة إذا معركة مصير، معركة بقاء ورجوع للوطن وللأرض، ولا يمكن أن يتحقق كل هذا بالبكاء والتشرنق بل بالاتحاد والتفاؤل والإقبال على الحياة، لأنها نصير الفقراء والمظلومين.
وفي قصيدة "القائمة السوداء" (8)، يتحدى سالم السلطة ويعرض بالمتعاونين معها، ويعري أساليبها، فمهما حاولت السلطة إغراء شاعرنا- شعبنا- كي يتنازل عن أرضه وعن وطنه، كي يصبح عميلا يخدم أجهزة الظلام سيرفض ذلك وسيبقى حرا شريفا يدافع عن شعبه ويحثه على البقاء ويهديه إلى الصواب:
سجل إسمي في القائمة السوداء
سجل إسم أبي، أمي، إخواني
سجل حتى حيطاني
في بيتي لن تلقى إلا شرفاء
لا تنظر نحوي بعيون باردة بلهاء
سجل إسمي
فأنا لن أتنازل
عن أرضي الطيبة المعطاء
لن أعمل جاسوسا للأجهزة السوداء
ويختتم شاعرنا قصيدته بمقطع رائع يسجل فيه حبه لوطنه ويسخر فيه من أجهزة السلطة فيقول:
وطني ملكي
أبقاه لي أجدادي
وسأبقيه للأبناء
حر فيه أنا..
أتجول كيف أشاء
خبئ في غير ملفاتك بالقائمة السوداء (9).
جاءت النكبة وجاء معها التشريد فانقسم الشعب الفلسطيني، قسم بقي على أرضه وتمسك بها وآخر هجر قسرا وعنوة، ولكن السلطة ما كفت يوما عن مضايقة الباقين، بل حاولت بكل ما تملكه من أساليب ووسائل قمعه وتضييق الخناق عليه في شتى مرافق الحياة. ولم تمر سنوات قلائل إلا والشعب العربي يقع في نكبة أخرى هي حرب حزيران (1967)، هذه الحرب التي تصدع معها المارد العربي الوهمي، وبتصدع هذا المارد الوهمي تحطمت كل الأوهام التي كانت تحملها الناس، فكانت نكسة أرخت ظلالها على العالم العربي برمته فعاش فترة من الألم واليأس والتشاؤم.
لكن شعراءنا هنا رأوا في الحرب شيئا غير النكسة، فقد كانوا على وعي تماما بما يحدث، لذلك كانت النكسة بالنسبة لهم بعثا جديدا نهاية لمرحلة من الأوهام مريضة، رأوا فيها ناقوسا يدق في رأس كل عربي كي ينهض من جديد، كي يركل كل تراكمات الوهم وينفض عنه كل أثر منه ليتسربل بأفكار جديدة ورؤيا جديدة. رأى شعراؤنا هنا أن النكسة كانت بمثابة هزة أفاقت العالم العربي والفلسطيني من سباته. هكذا رأى سالم وزملاؤه نكسة حزيران. فسالم يسجل أثر النكسة وعاصفة الهزيمة كهزة تدمرعالمنا الشائخ ناسا وأفكارا وها هو يقول في قصيدة عاصفة الهزيمة" (10).
هزي من الأعماق، يا عاصفة الهزيمة
عالمنا الشائخ
فليدمر الإعصار كل التحف القديمة ناسا وأفكارا
ليحرق لهب الثورة كل أراضينا
كي لا تحاك، من جديد، فوقها مهزلة
كي لا تعاد، من جديد، فوقها جريمة
عملاق هذا العصر، هب اطلع النصر
فكل السابقين أطلعوا الهزيمة
كان لا بد من هزيمة كي تحرك الأجيال الجديدة، كي تخلق إنسانا متفائلا لا يؤمن بالأوهام بل بالعمل والفعل فسالم يشكر في قصيدة أخرى بعنوان "يوم العار" هذه الهزيمة على ما فعلته يقول (11):
الغرين الناعم صار نار
والأشجار
غصونها صارت رماحا
بعد أن ملت عطاء الزهر والأثمار
والميتون
استيقظوا ثوار
شكرا ليوم العار
فنحن لولاه بقينا مثلما كنا، نمص جرحنا في ذلة الكلاب
أو نخمس الأشعار
شكرا لهزيمة هزتنا من الأعماق وأصبحت جسرا نحو مستقبل ثائر. فهذه الهزيمة وضعت حجرا على رأس مرحلة عمرها "مليون" سنة، لم نكن نتقن فيها سوى البكاء وتخميس الأشعار واجترار الحزن والمهانة.
بكيت مليون سنة
لم تبق بوابة شعب ما وقفت عندها كالكلب أروى-
كالكلب أروى- آه من يسمع؟
أخبار الضياع المحزنة
بكيت حتى سقطت عيناي في شوارع الأرض
دموعا ودما
سخفي دفعت ثمنه
عرفت أن الدمع لا يمنح للضائع أرضا آمنة (12)
الدموع لا تحل المشكلة، البكاء لا يرجع الأرض المفقودة ولا يرجع وطنا فقدناه، استجداء الحلول ما عاد ينفع، إنتظار الفرج من الآخرين ما عاد يجدي، فالحل هو الاتحاد والمقاومة، أن يأخذ الفلسطيني الأمر بيديه، الحل ليس فرديا بل هو ثورة جماهيرية، فلنمزق كل الأشياء بما فيها شهاداتنا ولنحمل السلاح دفاعا عن الوطن:
كل الشهادات إلى المرحاض
كل كتب الدراسة
تعلم التياسة
فلتعلم الجبال أن ثائرا جديدا
آت
لكي يسهم في تحرير أرض الشمس
أو يهرق في محرابها انفاسه (13)
الهدف إذا تحرير "أرض الشمس" وهذا التحرير لا يتم بشكل فردي وانطوائي، بل بالمقاومة الشعبية، فمرحلة الحلول الفردية ولت، ولأن الشاعر بدأ بحُب بلاده في المرحلة السابقة فهو يبدأ مرحلته الجديدة بنفس هذا الزخم فالمقاومة فاشلة إن لم تكن نابعة من حُب كل ذرة تراب ومن كل حاكورة وبيت في الوطن:
يمكنكم أن تقلعوا الشجر
من جبل في قريتي
يعانق القمر
يمكنكم أن تحرثوا كل بيوت قريتي
فلا يظل، بعدها أثر
يمكنكم أن تأخذوا ربابتي وتحرقوها بعد أن تقطعوا الوتر
يمكنكم
لكنكم لن تخنقوا لحني
لأني عاشق الأرض مغني الريح والمطر (14).
مهما فعلتم فلن تستطيعوا مصادرة حُبي لأرضي ولشعبي ولبلادي، فالجليل جنتي على الأرض بتربته الخضراء ومائه الصافي لأجله بقيت ولأجله سأبقى، سأحافظ عليه بدمائي، فحُب الشاعر لجليله- وهو ابن الجليل حُب عميق فها هو يقول:
كان الجليل ناسا وتربة خضراء وماء
وبعد أن حرمت أن أزوره
صار الجليل جنة
وناسه آلهة
وصار حتى ليلة ضياء
أقول للقياصر الصغار: ما أضعفكم
قد تحبسون خطوتي
لكن قلبي هائم في وطنه
يزور أي بقعة يشاء يفعل ما يشاء (15)
لأجل هذا الحُب العميق القائم بين الشاعر وبلاده، بينه وبين جليله وشعبه يهون الموت، وتجدر المقاومة وهل هناك أقدس من الاستشهاد في سبيل قضية عادلة! يقول سالم:
تشتعل المقاومة
في كل شبر
يعلن الإصرار
إصراره أن تبصق العدوان كل دار
شعبي أنا أعرفه إن أظلمت
ينبح من دمائه نهار (16)
الشاعر مؤمن بشعبه، مؤمن بقوته وبصلابته وبقدرته على العيش الكريم ورفض الذل والهوان، فالشعب تعلم درسا من الهزيمة، تعلم من التجارب القاسية التي مر بها وعايشها، فكان الدرس رفضا وإصرارا وعزيمة متحدية:
يتعلم الشعب المعذب كيف يسرق من عيون
جلاده حتى النعاس
وكيف يقتحم الحصون
ليقول للمحكوم ألف مؤبد!
إن الخلاص غدا
إذا استنطقت لا تنطق
وإن عذبت
أبصق في عيون الصالبين! (17)
إذا أهين الشعب ومست كرامته يصبح مستعدا لأن يدفع أغلى ما يملك في سبيل رد هذه الكرامة يتعلم الشعب المعذب كيف يدفع للبطولة
بنتا لحد الآن لم تحلم بغير العرس
لم تتقن سوى لم الجديلة
وفتى بعمر الورد يقرأ في الكتاب
ويحفظ الأشعار والقصص الجميلة
يتعلم الشعب المعذب
كيف يحترف البطولة (18)
هذا هو الشعب المقاوم، شعب عايش أزمنة القهر وألف الحزن والعذاب، ولكنه نفض عنه غبار الزمن الرديء، وانتصب ماردا بطلا يركل الذل ويعانق الحرية، الحرية التي تجعله مستعدا لأن يبذل دماءه من أجلها، الحرية التي تجعله يتحول إلى ثائر يدافع عن قضية عادلة حتى النخاع:
يتعلم الشعب المعذب كيف يجعل من تراب من حجار أرض الحمى
أكلا كأسماك المسيح ومن المغائر في الجبال قصور عز لا تهين
سيان يصبح كل موقع ثائر في عينه
مهدا لنصر أو ضريح
ويظل يمشي
والدماء تزيده بذلا
لميلاد النهار (19)
من أجل هذا النهار، نهار الحرية يقاوم الشعب، يتحمل المصاعب يدخل السجون، يضحي، يكتب بدمه نشيد النصر يروي بدمه أرض بلاده، ولكنه مهما حدث يظل متفائلا، يرى النهار يقترب، يراه يتحقق أمامه أملا:
أسند ظهري لجدار أبي التاريخ
وأسدد طرفي عن بعد في وجه أخي المستقبل
وأقول بثقة نبي مصلوب يعلن آخر كلمة إني متفائل
الدرب طويل
والأهل يموتون من الجوع
والشهداء جحافل
وأنا متفائل
دمي النازف مطر
لحمي المطحون سماء
وأنيني أهزوجة الغد مرج سنابل الغد عرس سنابل (20)
كي يصبح الغد مرج سنابل، كي تصبح الدنيا عرس سنابل لا بد من أن يقاوم الجميع:
إبن عشرين يقاتل وإبن سبعين يقاتل
والتي مات أخوها تنسج الصوف لمن قام مكانه (21)
هكذا ويتحقق النصر ويطلع النهار، نهار الحرية من جديد، بالاتحاد، في عرس من المقاومة بالقتال، فالصمت لا ينفع فالمرحلة الآن تتطلب التضحيات والشعب مستعد لذلك:
والتي مات فتى أحلامها
خرجت تحمل بارودته تغسل عن أرض البطولات المهانة
والتي مات ابنها
تحلم أن يطلع تينا وسنابل
عله يطعم في معركة النصر مقاتل (22)
وهذا الشعب الذي تغنى له هذه القصائد هو شعب صهرته نار الاحتلال عملاقا، صهرته بطلا يفدي أرضه بدمه، والشاعر في كل هذا متفائل بغد جميل، متفائل بانهيار السجون وانقلاب الأمور لصالح شعبه:
اه شعبي
صهرتك النار عملاقا
ستفنى هذه الدنيا ولا تفنى، ستبني
بالدم الغالي ونيران القنابل
غدك الحلو، أسمع الجلاد يبكي ثم ينهار
ومن كفيك
كالصابون
تنهار السلاسل (23)
لا بد للشعب أن ينتصر مهما طال ليل الاحتلال والظلم، فالشعب مهما حاولوا خنقه والبطش به لا يفنى، وشعب عرف معنى التضحية سيخلق النصر حتما. و (سالم) يحترم شعبه ويجله ويعرفه حق المعرفة، ويقدر تضحياته، يحترم المقاومين منه المنتظرين النصر.
سوف أغني للسنين
قصة طويلة طويلة
عن فاطمة
تلك التي كانت تخبئ بين نهديها
الدناميت
لكي توصله
عابرة في خندق الموت
إلى المقاومة (24)
هذا هو شعب الشاعر، شعب لا يهاب الموت بل يقتحمه وما ذلك إلا لأنه مؤمن بقضيته العادلة
عندما يصبح الموت بالقنبلة
خطرا فوق رأس ثلاثين مليون راجل
تصبح المرحلة
قدرا
كل فرد يصير مقاتل (25)
إذا نحن لا نرغب القتال، بل نحن شعب مسالم، ولكن إذا اعتُدي علينا لا يمكن أن نسكت.
إذا أصبح الخطر يهددنا ليل نهار كلنا نصبح مقاتلين، فالموت لا يخيفنا بل يصبح حافزا آخر للقتال وللتضحية:
يا دماء أبي وأخي وابن عمي
يا دماء رفاقي البواسل أنت، بعد التراب الذي
يتنزى أسى في السلاسل
والبيوت التي دمرت
والألوف التي هجرت
والصفاء الذي
حرقته على النيل نار القنابل
حافز آخر كي نقاتل (26)
هذا هو شعبنا الحقيقي شعب لا يرتضي الهوان، يثور على الظلم، يطالب بحقه حتى لو كلفه ذلك عمره، ولأنه كذلك يبايعه (سالم) قائدا لهذه المرحلة:
كل الذين تزعموا
قبلك
ساقونا قطيعا أعزلا للموت
فدس على قبورهم -المجرمين
وتزعم أنت (27)
زعمناهم سنين طويلة، فكانت النكبة تتلو النكبة، أما الآن فلا زعامة لفرد، بل لشعب يقاوم ويقاتل.
الزعامة لشعب يقاوم ويقاتل الزعامة لشعب تعمد بالتجربة فخرج منها أكثر صلابة وأشد بأسا، وخرج منها ثائرا لا يهاب، يعرف عدوه، ويعرف كيف يسترد حقه المغتصب، لذلك يغني (سالم) للمقاومين وللثوار، يغني لأصحاب الحق، ولكنه يخجل منهم، يخجل من هؤلاء الذين ضحوا بأرواحهم من أجلنا، من أجل شعبهم بينما هو لا يتقن سوى فن الكلمة، مع أن الكلمة أيضا إذا جندت بشكل صحيح في المعركة تصبح خطيرة خطر الرصاص والقنابل، ها هو (سالم) يرثي أحد الشهداء دون أن يجرؤ على زيارة قبره، لأنه يخجل من تضحيته الكبيرة:
أمجد ذكراك من غير أن ازور ضريحك يا صانع المعجزات
لأني إذا زرته سأموت حيا
أنا كل ما صنعته يدي كلمات (28)
هذا هو سالم جبران بشعره الزاخر حيوية ورفضا، وسالم في كل ما كتب كان منحازا للكادحين. هذا هو سالم الذي يصب لهب قصائده على رؤوس الزعماء التقليديين الذين باعوا القضية وسالم وهو يكتب عن مقاومة شعبه البطل لا ينسى أن يتغنى بكل ثورة قامت على الظلم، وبكل شعب ثار على المحتل الغاصب، فهو مع كل كادح يقاوم من أجل لقمة العيش ومن أجل الحق والعدالة.
بهذه الرؤية التقدمية والإنسانية صنع سالم قصائده المقاومة، ولا يسعنا في هذا المجال إلا أن نقول مخلصين: إن سالم منذ بدأ يمارس الشعر كان شاعرا ملتزما بقضية شعبه، فهي هاجسه اليومي فكل كلمة قالها جاءت تحمل بذرة المقاومة، وكل قصيدة نظمها إنطلقت من تجربة شعب كاملة، وما يميز سالم عن الآخرين بساطته، فكلماته تصل قلب القارئ بسهولة، وخير اسم نطلقه على سالم هو شاعر الشعب والبساطة، شاعر الحُب والمقاومة، وما ذلك إلا لأنه وقف دائما وما زال إلى جانب شعبه حاثا ومحرضا يرسم لشعبه طريق الحرية، ذلك الطريق الوعر الشائك الذي يرى سالم نهايته القريبة الحتمية.
ولأجل الوطن ولأجل حُب الوطن كتب. فبوركت يا سالم شاعرا يرهق الكلمة ويوظفها في خدمة القضية، معك على هذا الطريق دائما.
"كما تحب الأم طفلها المشوها أحبها حبيبتي بلادي"
// الإشارات:
إعتمدنا هنا على دواوين سالم جبران الثلاثة:
1. ديوان: كلمات من القلب، منشورات دار القبس العربي، عمان بدون تاريخ.
2. ديوان: قصائد ليست محددة الإقامة، مطبعة النهضة الناصرة، 1972.
3. ديوان: رفاق الشمس، دار الحرية للطباعة والنشر، الناصرة، 1975.
4.كلمات من القلب، ص102، 1964.
5. ن.م. قصيدة 1948، ص50، 1964.
6. ن.م.بقاء، ص 10 ، 1964.
7. ن.م. ص10.
8. ن.م. قصيدة أغنية، ص 20، 1964.
9. ن.م. ص 21.
10. ن.م. قصيدة القائمة السوداء، ص55، 1963.
11. ن.م. ص55.
12. قصائد ليست محددة الإقامة، قصيدة عاصفة الهزيمة ص 36، ص 37.
13. ن.م. قصيدة يوم العار، ص 32.
14. ن.م. قصيدة نهاية المليون سنة ، ص 34.
15. ن.م. قصيدة الطالب الذي عشق الثورة، ص 31.
16. ن.م. قصيدة بشير الريح والمطر، ص 10.
17. ن.م. قصيدة ما يشاء، ص 14.
18. ن.م. قصيدة نهار شعبي، ص 22.
19. ن.م. قصيدة بلا أوسمة، ص 64.
20. ن.م. قصيدة ص 65.
21. ن.م. قصيدة ص 66.
22. رفاق الشمس، قصيدة كتابة على جدار معسكر الأسرى ، ص 9.
23. ن.م. قصيدة آه شعب، ص 34.
24. ن.م. ص 38
25. ن.م. ص 39.
26. ن.م. قصيدة فاطمة، ص 34- 33.
27. ن.م. قصيدة أغنية المقاومة الشعبية ص 54.
28. ن.م. ص 55.
29. ن.م. قصيدة مبايعة، ص 23.
30. ن.م. قصيدة مرثية، ص 50.
حبيب بولس من ابرز النقاد العرب قي الثقافة العربية في اسرائيل وهو محاضر جامعي