في بيتنا رئيس !!

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • طارق السكري
    أديب وكاتب
    • 10-05-2011
    • 21

    في بيتنا رئيس !!

    تحت جنح الليل والعيون تسبح تسبح تسبح في عوالم الغيب . والوهاد والجبال تغرق تغرق في الفضاء اللانهائي ! كانت في الطابق العلوي من عمارتنا غرفة صغيرة . كنا نرى على القرب منا مناراة الحرم المكي تشق عنان السماء في شموخ وجلال ! كانت الكواكب تجلس قربا منها .. كان يقيم في تلك الغرفة زوجان غريبان , لم يكن يشعر بهما أحد من السكان ! تقوم الأعراس في العمارة , يجتمع أهل الحي . فلا نكاد نرى منهما أحدا ! أما الزوج فلم نكن نراه إلا في المسجد ينقح في كتاب أو يقرأ في مصحف أو عائدا من البقالة القريبة ! أما الزوجة فلا يعلم بيت من نساء هذا الحي من أمرها شيئا إلا أنها تحفظ القرآن الكريم !
    بعد سنين .. سنين طويلة ! مر فيها الخريف والخريفان ! عادت الطيور من المهاجر ! بعد سنين .. سنين طويلة ! شاهدت على التلفاز ذات يوم خطابا لأحد رؤساء الدول العربية ! تحققت من ملامح هذا الرئيس جيدا , لم أصدق أول الأمر ! أمن المعقول أن يكون هو ؟! أيمكن أن يكون الشبه إلى هذا الحد ؟! نعم ! إنه هو ! إنه هو ! اجتمع من في الدار إثر صياحي ! إنه هو ! أمن المعقول ؟! ياالله نعم إنه هو بعينه ! لم يتغير فيه شيء ! كأن الأيام أخطأته فما شاب منه عارض ولا لانت منه عزيمة ! إنه هو !

    ,.,.,.,.,.,.,.,.,.,.,
    أستميحك عذرا سيادة الرئيس ! فإني سأقص على الناس مارأيت بأمانة ! تبدأ القصة عندما جاءنا الوالد في ساعة متأخرة من الليل !
    - السلام عليكم
    - وعليكم السلام ورحمة الله .قلقنا عليك ! أم العيال وقد قامت باشتياق إليه !
    - يابني إذهب إلى السواق وأمره أن ينظف الغرفة الصغيرة فوق . الجميع مندهش !
    لا بأس عليكم ! ستعرفون السبب في حينه ! كانت الغرفة مكتظة بالكراتين والأدوات القديمة كرسي مهترئ . مكيف تراكم عليه الغبار جدار متشقق سقف يكاد أن يسقط بلاط الغرفة متآكل آثار قطة ميتة هناك ! حنفيات مكسرة حمام بلا باب النوافذ بلا شباك تمنع البعوض والذباب ! كانت الأرضة قد أتلفت بقية من كتب كانت لي ! حين رأيت ما رأيت ! الغبار يتطاير من أرضية الغرفة ومن سقفها ومن جدرانها في وقت واحد ومن كل مكان , كأنها صاروخ يود أن يقلع ! صدتني الروائح عن مساعدة السائق المسكين في التنظيف ! بعد أن صارت الغرفة شبه جاهزة وبعد ساعة من التشطيف وقفت أمام البيت سيارة تاكسي نزل منها شاب في العشرينات من العمر وزوجته ! كان الشاب حنطي اللون ! حاسر الرأس , متوسط الطول رشيق الجسم ! استقبلتهما إلى الغرفة الفارغة .. الفارغة من كل شيء إلا قطعة لحاف متآكل الأطراف ! كان الوقت في شدة الصيف وكان مكيف الغرفة يعيش مرحلة الخرف من العمر فهو لا يبخ هواء وإنما يبخ ترابا ورملا ! صوته أشبه بسعلة مدفع ! أبلغت الوالد بأن تم الأمر ! ثم شرع لنا في ذكر القصة ! قصة هذا الشاب وزوجته !
    كنت في المعرض على أطراف المدينة حين داهمنا وقت صلاة المغرب فتقدمنا بالصلاة شاب حسن الصوت عذب النغمة حلو الجرس كنت استمع إليه وإذا بيداي ترتعشان وعيناي تهملان وفرائصي ترتعد وكنت أظن مرضا داهمني إلا أني وجدت الذي عن يميني كذلك والذي عن يساري يتفاعل مع الآيات ويبكي ! وكنت أظن أن الناس لا يبكون إلا في رمضان ! أخذت جدران المسجد تتمايل كأنها السنابل كان الشاب يقرأ بطريقة أخاذة عجيبة كأنه من خلال أداءه يريد أن يوصل لنا شيئا ما ! أحسست لأول مرة في حياتي أن هذا القرآن أحلى شيء في الدنيا ! لقد انتابني شيء غريب في الصلاة ! لقد ظننت أن هذا الشاب يعاني كثيرا ! يخال إليَّ أنه يبكي في أعماقه ولكن دون دموع ! كان أبي يروي لنا ماحدث تلك الليلة التي صلى فيها لأول مرة في حياته وقد بلغ منه التأثر الغاية ! قال : وكنت قد عقدت العزم على أن أرسل إليه وأستطلع أمره وكأن شيئا ما في داخلي يدفعني إلى ذلك بقوة ! كأن صائحا في دموعي يصيح بي أن اذهب إليه ! إن خطرا يحيط به وأن إنقاذه لن يكون إلا على يديك ! أسرع هيا أسرع ! وما أن فرغنا من الصلاة إلا ورؤوس الناس تشرأب إليه : كأنها تقول : شكرا لك ولكن من أنت ؟!
    - يافلان إذهب إلى ذلك الشاب واعزمه على فنجان شاي لدينا ؟
    - ياعم أنا الذي جئت بهذا الشاب إلى هنا عنوة لتسمعه أنت بالذات !
    - والله يابني ماساورني الشك لحظة بأن هذا الفتى يقاسي ظلما كبيرا !هل هو يعاني من شيء ؟
    - لقد قام كفيله بطرده من العمل وهو يبحث عنه وقد أبلغ عنه الأجهزة الأمنية !
    - قام بطرده ؟! بطرد من ؟! أمثل هذا يطرد ؟! لماذا ؟ لماذا قام بطرده ؟!
    - تأخر إمام الجامع لدينا في الحارة شهر رمضان الذي مر ! عن صلاة التراويح فماكان من الناس إلا أن قدموا هذا الشاب , فتقدم للصلاة بهم وهو على وجل من كفيله ! فلما أن أتم ركعتين جاء الإمام , فانطلق إلى دكانه وإذا بكفيله قد سبقه إليه ! فبادره قائلا ودخان السيجارة يملأ المكان :
    - أين كنت ؟! ( نبرة تعال ٍ واحتقار )
    - اعذرني سيدي !
    - أين كنت ؟
    - تأخر الإمام فقدمني الناس للصلاة و...
    - جيد ! أغلق المحل واذهب لتتهجد ! خلي التهجد ينفعك !
    - فأجابه وقد ثقلت عليه قدماه حتى كاد أن يسقط : سيدي ! إن كان طردي من أجل الصلاة ! فأي سعيد أنا ؟! أي سعيد أنا ؟! لن يضيعني الله أبدا !
    ثم لما انقضى أسبوع على الحادثة , أحس كفيله بالخطيئة وعضه الندم فأراده على الرجوع ولكن هيهات فقد فتح الله على هذا الشاب بعمل هو خير من الدنيا وما فيها وبراتب لا يطمح إليه أحد !
    - ماشاء الله !
    - لكن المشكلة في كفيله ! لا يريد أن يخلي سبيله ! جاءه مدير التحفيظ واتصل به إمام الحرم ولكن دون جدوى !
    - وماذا يريد منه ؟
    - يريده على العمل لديه بذلك الراتب الدنيء وتلك النفسية القلقة ! لذا قصدناك على الفور وأردناك , فأنت محام معروف وهذه قضية تستحق !
    ولما علمت أن هذا الشاب بلا مأوى رأفت لحاله فجئت به إلى البيت ! هذا كل ما في الأمر !! ثم إن هذا الشاب مكث لدينا عشر سنوات , ومع رياح التغيير القادمة من قلوب البؤساء , طار عنا كما تطير الأماني الشاردة , لا ندري إلى أين , كانت الشمس تتثائب على رأس الجبال , وراء الأبراج العالية , وأخذت عواميد الكهرباء بالتنفس من جديد , كان الأطفال في الحارة قبل أن يصدح الأذان كطيور القلق تنصتُ في همس إلى أصوات الموج .
يعمل...
X