رحلة خارقة
" سننزل هنا " !
قال السائق بلهجة حازمة باترة فلم نملك إلا إطاعته !
كنا قد قطعنا مسافة كبيرة خلال الحقول الخضراء الشاسعة المغلفة بالضباب ولم نعرف أين نتجه بالضبط..
لقد فقدنا الاتجاه منذ عدة ساعات، أو لعلها عدة أيام ، وأخذنا ندور وندور حول حافة الحقول المجللة بالضباب الرمادي المبلل بالماء الذي لا ينجلي أبداً .. لا نعرف أبداً من أين بدأنا رحلتنا وإلى أين ستنتهي بنا !
" سننزل هنا " !
أعاد السائق الأمر لنا فأخذنا نتحرك متململين في مقاعدنا وبعضنا، الأكثر تسرعاً، بدأ يستعد للهبوط من السيارة بالفعل ..
ولكن أحدهم صاح بقلق :
" رويدك .. أين سنهبط ؟! ولماذا ؟! "
فأجاب السائق بهدوء ودون أن يلتفت إليه:
" لقد أعدوا لنا الأسرة للمبيت والوليمة جاهزة ! "
" الوليمة ؟! "
هتف الجميع بشراهة وكأنهم من جوعي الصومال وأخذوا ينسلون واحداً وراء الآخر متوجهين نحو المنزل الذي أشار إليه السائق .. ولكن الغريب أن السائق نفسه لم يغادر السيارة !
هبطنا جميعاً ووقفنا على حافة الحقل المجلل بالضباب الكثيف وأمامنا مباشرة منزل صغير من طابقين مطلي بلون الضباب تلمع الأنوار في نوافذه وينادينا بإصرار..
نزلنا جميعاً من السيارة ووقفنا ننتظر مجيء السائق .. تخيلنا أنه سيطفئ المحرك ويلحق بنا .. ولكن لا .. لقد زاد من سرعة المحرك ثم أنطلق مغادراً تاركاً إيانا في هذا المكان المجهول المريب وعبر من أمامنا بسرعة البرق ولكنه أطل من السيارة ليقول لنا بصوت غريب عن صوته الذي ألفناه لعدة أيام :
" سأعود لألتقطكم بعد أن تنتهي الوليمة .. تجمعوا معاً هنا في نفس المكان بعد الانتهاء من الوليمة .. لن أبحث عن الضالين منكم ! "
وبهذه الكلمات تركنا على حافة الحقل وأمام المنزل المجلل بالضباب !
................................
فتحت لنا الباب سيدة عجوز مغضنة ذات شعر أبيض كثيف لامع ورحبت بنا ببرود .. وقادتنا إلى حيث أعدت الوليمة !
كانت وليمة بحق .. عشرات الديوك الرومية والدجاج والحمام والبط والإوز والسمان وكميات هائلة من اللحوم والأسماك امتدت على مائدة ضخمة تبلغ مساحتها عشرات الأمتار .. وبسرعة البرق جلس الرفاق الجياع المتعبين وتحلقوا حول المائدة التي لا مثيل لها في الدنيا وأخذوا يأكلون بشراهة عجيبة ..
وبسرعة مخيفة بدأت كميات الطعام الهائلة تتلاشي من على المائدة وتنتقل، وكأنها تنتقل عبر الزمان والمكان، إلى جوف الرفاق الذين غلبت شراهتهم كل ما هو متوقع ..
فقط وقفت أنا بجوار المائدة أتطلع في دهشة إلى رفاقي المصابين بالسعار وأخذت أحذرهم مراراً من تناول هذا الطعام الغريب الشكل دون فائدة .. فقد أنقضوا على الطعام كما تنقض النسور على كومة من الجيف .. بينما على الناحية الأخرى وقفت المرأة ذات الشعر الأبيض تحدجني بنظرات مريبة مخيفة من تحت حاجبيها الأبيضين الخفيفين وتبتسم في شراسة !
............................
بعد خمسة أيام تحديداً فتحت عيني في المستشفي !
وجدت نفسي راقداً وسط آلات طبية مزعجة الشكل وحولي خراطيم وأكياس سوائل معلقة من كل ناحية ومن خلال ساعتي التي كانت ما تزال معلقة في ساعدي عرفت أنني فاقد الوعي منذ خمسة أيام !
أقترب منى رجل صغير أنيق يرتدي معطفاً طبياً أبيض شاهق البياض إلى حد يؤذي العينيين وتأملني للحظة ثم قال لفتاة واقفة بجواره :
" لقد أفاق .. نادي الطبيب " !
وبعد لحظة حضر طبيب آخر عجوز قبيح وأخذ يفحصني طويلاً فحصاً مرهقاً مقززاً حتى امتلأت نفسي اشمئزازا ونفوراً منه ..
وتركني أخيراً ولكن بعد خروجه جاء عدة رجال يلبسون بزات أنيقة رمادية ، وكأنه زى موحد ، وأخذوا يوجهون أسئلة متلاحقة إلى الطبيب الصغير ولكن إجابته كانت واحدة :
" إنه فاقد الذاكرة يا سيدي لن يستطيع إفادتك بشيء ! "
فألتفت أكثر الرجال أناقة إلى مساعده الذي يحمل دفتراً هائلاً وقال ورفيقه يسجل كل كلمة بسرعة خارقة :
" أقفل المحضر في ساعته وتاريخه وتتوقف القضية حتى يسترد الشاهد الوحيد ذاكرته ! "
...........................
من قال إنني فاقد الذاكرة .. إنني أتذكر كل شيء !
أتذكر وقت المغيب وبحثنا عن سيارة تقلنا إلى قريتنا لنقضي وقفة العيد وسط أهلنا .. وأتذكر موقف السيارات الخالي منتصف الليل والبرد والضباب الأخضر المتكثف حوله .. وأتذكر السيارة التي خرجت بغتة من قلب الضباب وعرض علينا سائقها توصيلنا إلى قريتنا على شرط أن يقضي مشوار صغير أولاً ثم يقلنا حيث نشاء دون أجرة !
قال لنا السائق بحميمية :
" أنا أبحث عن رفقة في هذه الليلة المباركة .. لا أريد منكم أجرة .. فقط سنذهب إلى قريتي ، وهي في طريقكم على أية حال ، ونسلم أمانة صغيرة لأهلي من على الباب ثم أوصلكم حيث تشاءون .. لن نستغرق سوي نصف ساعة ! "
عرض مغري في هذا الظلام والبرد والموقف المقفر .. وركبنا جميعاً معه..
كيف يقولون إنني فاقد الذاكرة ؟!
إنني أتذكر رحلتنا الخارقة التي استمرت أياماً طويلة وداورننا حول أنفسنا وسط الضباب المتكاثف الذي كان يزداد إظلاماً وكثافة كل لحظة ..
إنني أتذكر حافة الحقول المجللة بالضباب التي درنا حولها بالسيارة أياماً طويلة لا نعرف كيف نجد المخرج ..
إنني أتذكر البيت والوليمة المعدة لنا ، والسائق الذي غادرنا تاركاً إيانا بمفردنا .. إنني أتذكر المائدة الضخمة والطعام الكثير الذي لم أتناول منة لقمة واحدة .. كما أتذكر السيدة العجوز ذات الشعر الأبيض اللامع والنظرات المريبة .. كل شيء كان مجللاً بالضباب لكنني أذكره جيداً .. فكيف يدعون بعد ذلك إنني فاقد الذاكرة ؟!!
....................................
" ذاكرته مشوشة تماماً ولا يكاد يتذكر شيء من أحداث الجريمة " !
" جريمة هل هناك جريمة في الأمر ؟! "
" طبعاً ماذا تظن ؟! سيارة متروكة على جانب الطريق وبداخلها متعلقات وثياب ملطخة بالدماء ولا أثر للضحايا أو للجاني .. كيف لا تكون هناك جريمة ؟! "
.......................
بعد يومين حضر نفس الأشخاص المتأنقين ذوي الزى الرمادي الموحد وجلسوا حولي وأخذ من يبدو عليه أنه كبيرهم يسألني :
" اسمك وسنك وعنوانك .."
فأخبرته باسمي وسني وعنواني بثقة ، معلومات سهلة محفوظة ولكني وجدته ، ولا أدري لم ، يحدق في وجهي بدهشة كبيرة .. تحاملت على نفسي وأخذت أجيب على الأسئلة الروتينية المملة التي سألني إياها ثم بدأ يسألني برفق :
" ماذا تذكر من أحداث ليلة الجريمة ؟! خذ وقتك وفكر بهدوء وأجب قدر استطاعتك.. "
أجبته قائلاً بهدوء كما أمرني :
" أذكر كل شيء جيداً .. أذكر أنني ذهبت برفقة عدد من أصحابي ومعارفي إلى موقف السيارات لنستقل سيارة إلى قريتنا ولكننا ظللنا واقفين فترة طويلة دون أن نعثر على واحدة .. "
صمت قليلاً ثم واصلت :
" ولكن العربة ظهرت فجأة من وسط الضباب .. سيارة كبيرة رمادية بلون الضباب .. "
وسكت ثانية ولكن ليس لأستريح أو لأبتلع ريقي بل لأنني شعرت فجأة بالضباب يحوم حولي عقلي ويغشاه ببطء حتى لم أعد أتذكر حرف واحد بعد ذلك .. الأغرب أن الضباب بعدها تسرب من داخل رأسي وأخذ يخرج على شكل سحابات كثيفة ويملأ الغرفة من حولي :
" الضباب .. الضباب .. الضباب ! "
أخذت أصرخ وأصرخ وأحاول انتزاع كل الخراطيم والإبر المعلقة حولي .. كنت أريد أن أتحرر من الفراش .. أريد أن أغادر الفراش وأسرع هارباً بعيداً عن هذا الضباب الكثيف ..
ولكن الأطباء والممرضات تجمعوا حولي وقيدوا حركتي بالقوة وبعدها شعرت بإبرة تنغرس في لحمي .. وبعد لحظة كنت قد غبت عن الوعي !
................................
" إن نوبات الهلع هذه تصيبه عدة مرات كل يوم .. وهي تزيد يوماً بعد يوم ! "
" والعلاج ؟! "
" ليس له أثر واضح عليه حتى الآن .. والمهدئات والمنومات بدأت تفقد تأثيرها عليه مما يضطرنا لزيادة الجرعة المعطاة له "
" وما أخبار ذاكرته ؟! "
" لا تزال مشوشة تماماً .. إنه حتى لا يذكر اسمه الحقيقي ولا عمله ولا أي معلومات عن حياته ! "
" والضباب الذي يراه دائماً ؟! "
" لا تزال أوضاعه مقلقة وتزداد سوء يوماً بعد يوم "
كنت أسمع هذه الكلمات في رأسي بينما كنت نائماً .. لا لم أكن نائماً بل كنت أسبح وسط الضباب الذي يحيط بي من كل ناحية .. ضباب كثيف رمادي كئيب تلمع فيه أنوار غامضة .. أنوار تشع من نوافذ منزل صغير يقع على حافة الحقول المغلفة بالضباب وتدعوني إليه بإصرار .. رغم إنني لا أريد الدخول لكنني مضطر لذلك .. فلا ملاذ لي وسط هذا الضباب سوي هذا المنزل اللعين .. المنزل الذي فيه الوليمة والمرأة العجوز ذات الشعر الأبيض والنظرات المريبة المخيفة !
..........................
" كيف يقولون إنني فاقد الذاكرة ؟! إنني أذكر كل شيء ! "
بعد أن دخلنا المنزل وجدنا الوليمة في انتظارنا .. وليمة هائلة ،عشرات الديوك الرومية والدجاج والحمام والبط والإوز والسمان وكميات هائلة من اللحوم والأسماك امتدت على مائدة ضخمة تبلغ مساحتها عشرات الأمتار .. وبسرعة البرق جلس الرفاق الجوعي المتعبين وتحلقوا حول المائدة التي لا مثيل لها في الدنيا وأخذوا يأكلون بشراهة عجيبة ..
وبسرعة مخيفة بدأت كميات الطعام الهائلة تتلاشي من على المائدة وتنتقل، وكأنها تنتقل عبر الزمان والمكان، إلى جوف الرفاق الذين غلبت شراهتهم كل ما هو متوقع ..
فقط وقفت أنا بجوار المائدة أتطلع في دهشة إلى رفاقي المصابين بالسعار وأخذت أحذرهم مراراً من تناول هذا الطعام الغريب الشكل دون فائدة .. فقد أنقضوا على الطعام كما تنقض النسور على كومة من الجيف .. بينما على الناحية الأخرى وقفت المرأة ذات الشعر الأبيض تحدجني بنظرات مريبة مخيفة من تحت حاجبيها الأبيضين الخفيفين وتبتسم في شراسة !
" كيف يقولون إنني فاقد الوعي وفاقد الذاكرة ؟! أنا واعي تماماً وأتذكر كل شيء .. أنا أري وأشعر وأسمع كل ما حولي .. أنا أذكر كل شيء سمعته أو رأيته أو قرأته في حياتي .. إنني أذكر كل شيء .. كل شيء منذ بدأت رحلتنا الخارقة .. منذ أن استقللنا السيارة وحتى وصلنا إلى البيت المغلف بالضباب الواقع على حافة الحقول المجللة بالضباب .. أذكر المرأة العجوز ذات الشعر الأبيض التي فتحت لنا الباب وقادتنا إلى حيث أعدت الوليمة .. وليمة هائلة ..........................."
..........................
لم تصل تحقيقات النيابة إلى شيء ذي بال .. فكل الأدلة كانت ناقصة ومبتورة ولا تعطي فكرة حتى عن كيفية تنفيذ الجريمة ولا مسرحها ولا الأشخاص المتورطين فيها ..
فكل ما وصلت إليه الشرطة من أدلة هو سيارة متعطلة متوقفة على أحد الجوانب المهجورة من الطريق الزراعي بين القاهرة والإسكندرية وبداخلها عُثر على ثياب نسائية ورجالية ملطخة بالدماء .. ولم يكن بالسيارة أي أوراق أو متعلقات تدل على شخصية السائق أو مالك السيارة أو شخصيات أصحاب الثياب الملطخة بالدماء ..ولم يكن هناك من أحياء في المنطقة كلها سوي رجل فاقد الوعي في حالة إعياء شديد ملقي على أحد جوانب الطريق بالقرب من السيارة المقصودة ..
في البداية أنتظر الجميع أن يفيق الرجل المصاب بالإعياء الذي يشتبه في علاقته بالحادث .. ولكن بعد مرور أسبوع أفاق في المستشفي ليكتشف الجميع أنه فقد ذاكرته تماماً وأنه لا يذكر حتى اسمه ولا عنوانه .. وبعدها ركزت سلطات البحث والتحقيق على الأدلة المادية التي عُثر عليها في مسرح الجريمة لعلها تقودهم إلى معلومات عن الضحايا والجناة ..
وتم فحص الثياب وتحليل الدماء الموجودة عليها وإخضاعها لتحليل الحمض النووي ..
ولكن المعلومات التي قدمها التحليل كانت بالغة الغرابة .. فالثياب قد تعرضت لعملية غسيل محكمة محت أي أثر للحمض النووي أو بقايا الجلد والشعر من عليها ..
" ما معني ذلك ؟! "
" معني ذلك ببساطة أن الثياب غُسلت أولاً ثم تم تلطيخها بالدماء !"
" ولكن هذا مستحيل .. هل غسلوا الثياب ثم ألبسوها للمجني عليهم ثم تم قتلهم ؟! "
" لا طبعاً .. الأقرب أن الثياب لم تُلبس أصلاً بعد عملية الغسيل بل تم غسلها وتلطيخها بالدماء ! "
" ولكن لأي هدف ؟! "
" التضليل طبعاً .. وجعلنا نبحث في طريق آخر غير الطريق الصحيح ! "
" وما معني ذلك كله ؟! "
" معناه أن هذه الثياب ليست ثياب المجني عليهم .. هذا إذا كان هناك مجني عليهم أصلاً ! "
بعدها خضعت الدماء للفحص وخرجت النتيجة لتؤكد أن الدماء التي وجدت على الثياب ليست دماء بشرية أصلاً !
" والدماء ؟! "
" ليست بشرية ! "
" هل هي دماء حيوانات ؟! "
" نعم دم أسد الجبال ؟! "
" ماذا ؟! "
" أسد الجبال .. حيوان مفترس لا وجود له في مصر من القطط الوحشية الكبيرة ويعرف بالكوجر ! "
" من أين جاء إذن ؟! "
" لا أحد يعرف .. إنها قضية غامضة من بدايتها ! "
.....................
مرة أخري عاد الضباب !
هذه المرة دخل من خلال النافذة الصغيرة المفتوحة عن يميني .. كنت قد توسلت لهم عدة مرات ألا يتركوا أية نافذة مفتوحة حتى لا يتسرب منها الضباب ..
الضباب يلاحقني بإصرار .. أي نافذة ، أي شرفة ، أي فتحة صغيرة تترك يتسرب منها ويحيط بي .. ضباب رمادي كثيف مخيف .. ضباب مخيف لامع يحيط بي تماماً كما كان يحيط بنا على حافة الحقل المغلف بالضباب وأمام المنزل الملون بلون الضباب
.. لماذا يصرون على ترك النافذة مفتوحة ؟!
هل يريدون أن يصيبوني بالجنون ؟!
هل يريدونني أن أموت ذعراً وخوفاً ليتخلصوا مني ؟!
إنهم يريدون كل ذلك .. والسبب ؟!
" إنهم يعملون عند الضباب .. فهو سيدهم وهو يعطيهم الأوامر وهم ينفذون ! إنهم يقبضون رواتبهم من الضباب كل يوم ! "
فجأة وجدته أمامي .. السائق ؟!
تسرب من النافذة مع الضباب ووجدته واقفاً أمامي .. ارتجفت ذعراً ولكنه مال على أذني وأخذ يحدثني بمودة وراح يكشف لي كل ما خفي عني من أسرار ..
" إنهم يعطونك المهدئات والمنومات ليبقوك في حالة نوم دائمة ويجعلوك فريسة سهلة للضباب .. "
جف حلقي رعباً ولكنني سألته بحذر وأمل :
" أين الباقون .. أين بقية رفاقي ؟! "
" هناك ! "
أشار السائق إلى باب أبيض في طرف غرفتي ، لم أراه من قبل ، ثم أختفي .. تبخر السائق فجأة كما ظهر أمامي فجأة !
لم أبالي به بل أنصرف كل همي إلى رفاقي الموجودين في الغرفة المجاورة لي تماماً .. لماذا لم يخبرني أحد أنهم هنا معي في المستشفي ؟!
لماذا لم يسمحوا لي برؤيتهم حتى الآن ؟!
ولماذا لم يأتي أحد منهم ليسأل عني وليساعدني ؟!
.....................
فتحت الباب الثقيل ببطء شديد .. كنت أحاول إلا أحدث أي صوت حتى لا يجذب أي أحد من العاملين في المستشفي ..
وهناك وجدت غرفة صغيرة جدرانها بيضاء .. وأسرتها وملاءاتها بيضاء .. وحتى الأجساد الممددة فوقها كانت بيضاء !
على الأسرة وجدت رفاقي الأعزاء .. كانوا ممددين على الأسرة تحيط بهم خراطيم ضخمة لها هدير يصم الآذان وتدخل إلى كل جزء من أجسامهم وقد تحولوا إلى اللون الأبيض الشاحب حتى أصبحوا مثل قطع من الثلج الأبيض وحتى كدت لا أفرق بينهم وبين الملاءات البيضاء ..
كانوا شاحبين تماماً وفاقدين الوعي تماماً تماماً .. هززتهم واحداً واحداً .. ناديت عليهم ، صرخت فيهم .. هززتهم بعنف أكثر وأكثر .. ولكنهم لم يستجيبوا لي !
في اللحظة التالية فوجئت بهم يقتحمون الغرفة ..
الرجل الصغير الأنيق الذي يرتدي معطفاً طبياً أبيض شاهق البياض إلى حد يؤذي العينيين ، والطبيب الآخر العجوز القبيح الذي فحصني فحصاً طويلاً فحصاً مرهقاً مقززاً حتى امتلأت نفسي اشمئزازا ونفوراً منه ..والرجال الذين يلبسون بزات أنيقة رمادية ، وكأنه زى موحد ، كانوا كلهم هناك .. وفي لحظة أحاطوا بي وأمسكوني بقسوة وقيدوني .. وأخذ الرجال ذوي الزي الرمادي ينهالون على بالصفعات والركلات القاسية بينما دنا منى الطبيب العجوز القبيح ، وفي يده حقنة ذات إبرة هائلة وغرسها بعنف في ذراعي وهو يقول بشراسة :
" هذه الحقنة ستؤدبك وستعلمك ألا تتدخل فيما لا يعنيك مرة أخري ! "
...........................
" ما سبب الجروح والكدمات في وجهه ؟! "
" نوبة غضب عنيفة أصابته الليلة الماضية في غرفته .. نهض صارخاً من فراشه وأنتزع كل خراطيم المحاليل والفضلات ثم أنهال تحطيماً وتكسيراً على كل شيء بالغرفة .. بعدها أنهال ضرباً على نفسه محاولاً إيقاع أكبر أذي ممكن بنفسه .. لم نتمكن من السيطرة عليه إلا بالاستعانة بعشرة ممرضين أقوياء ! "
..............................
ولكن ما فائدة استمرار التحقيقات ولأي شيء تستمر ؟!
" لنركز على محاولة العثور على قائد السيارة أو الشخص المسجلة باسمه ! "
" ليست مسجلة لأي شخص .. بل لا وجود لها في كل سجلات السيارات التي دخلت مصر في العشرين سنة الأخيرة .. حتى لوحاتها المعدنية تحمل أرقاماً ليست مستخدمة في أي دولة في العالم !! "
" والنتيجة ؟! "
" سيارة مجهولة وبها ثياب عليها دماء حيوان ليس موجوداً في مصر كلها .. الدماء ليست بشرية ولا يوجد أي دليل يستدل به على أصحاب هذه الثياب .. فلا دم ولا حمض نووي ولا دليل من أي نوع .. لا بلاغات عن غائبين أو مفقودين .. القضية مغلقة .. لا توجد قضية أصلاً ! "
" والمجني عليه الذي في المستشفي ؟! "
" مجني عليه في أي شيء ؟! إنه مجرد مجنون ليس إلا .. ومستشفي الأمراض العقلية خير مأوي له ! "
" ألم تتوصل التحريات إلى أي معلومات عنه ؟! "
" بلي توصلت ! لقد عرفنا أنه مجنون رسمي ! "
" ما معني ذلك ؟! "
" إنه مختل عقلياً من القليوبية مبلغ عن غيابه منذ أكثر من عامين ! "
" رباه ! "
" الأكثر من ذلك أنه دخل مصحة عقلية ثلاث مرات خلال عشرة أعوام ! "
" ومعني كل ذلك ؟! "
" أنسي الأمر وتعالي لنلعب دورين شطرنج ! "
..........................
في احدي غرف المستشفي كان هناك حارسين بدينين يجلسان بجوار سرير ويلعبان الشطرنج بمهارة وتركيز كامل .. كان انتباه الحارسين مركزاً تماماً على قطع الشطرنج المتراصة أمامهما .. ولذلك لم يباليا بالمريض الخطير الراقد على الفراش مقيداً بحبال بلاستيكية شدته إلى الفراش وقيدت حركته تماماً .. وحتى عندما دخل طبيب عجوز قبيح حاملاً في يده حقنة هائلة الحجم وتوجه نحو المريض المقيد في الفراش وغرسها بغل وقسوة في لحم ذراعه حتى انفجرت نقطة كبيرة من الدماء من مكان الحقن ، كل ذلك لم يصرف انتباه الحارسين لحظة عن لعبتهما المفضلة ولم يلفت نظرهما إلى ما يحدث حولهما في الغرفة ..
لقد أعتادا على ذلك ..
ستة أعوام مرت على هذا الفأر الحقير وهو في هذه المصيدة .. إنه لا يستحق بركات الرحلة الخارقة ولا متعتها لذلك فهو يستحق الحبس الأبدي في فراشه .. وأبداً لن يسمح له باللحاق بالآخرين وليبق حيث هو حتى يتعفن !
" سننزل هنا " !
قال السائق بلهجة حازمة باترة فلم نملك إلا إطاعته !
كنا قد قطعنا مسافة كبيرة خلال الحقول الخضراء الشاسعة المغلفة بالضباب ولم نعرف أين نتجه بالضبط..
لقد فقدنا الاتجاه منذ عدة ساعات، أو لعلها عدة أيام ، وأخذنا ندور وندور حول حافة الحقول المجللة بالضباب الرمادي المبلل بالماء الذي لا ينجلي أبداً .. لا نعرف أبداً من أين بدأنا رحلتنا وإلى أين ستنتهي بنا !
" سننزل هنا " !
أعاد السائق الأمر لنا فأخذنا نتحرك متململين في مقاعدنا وبعضنا، الأكثر تسرعاً، بدأ يستعد للهبوط من السيارة بالفعل ..
ولكن أحدهم صاح بقلق :
" رويدك .. أين سنهبط ؟! ولماذا ؟! "
فأجاب السائق بهدوء ودون أن يلتفت إليه:
" لقد أعدوا لنا الأسرة للمبيت والوليمة جاهزة ! "
" الوليمة ؟! "
هتف الجميع بشراهة وكأنهم من جوعي الصومال وأخذوا ينسلون واحداً وراء الآخر متوجهين نحو المنزل الذي أشار إليه السائق .. ولكن الغريب أن السائق نفسه لم يغادر السيارة !
هبطنا جميعاً ووقفنا على حافة الحقل المجلل بالضباب الكثيف وأمامنا مباشرة منزل صغير من طابقين مطلي بلون الضباب تلمع الأنوار في نوافذه وينادينا بإصرار..
نزلنا جميعاً من السيارة ووقفنا ننتظر مجيء السائق .. تخيلنا أنه سيطفئ المحرك ويلحق بنا .. ولكن لا .. لقد زاد من سرعة المحرك ثم أنطلق مغادراً تاركاً إيانا في هذا المكان المجهول المريب وعبر من أمامنا بسرعة البرق ولكنه أطل من السيارة ليقول لنا بصوت غريب عن صوته الذي ألفناه لعدة أيام :
" سأعود لألتقطكم بعد أن تنتهي الوليمة .. تجمعوا معاً هنا في نفس المكان بعد الانتهاء من الوليمة .. لن أبحث عن الضالين منكم ! "
وبهذه الكلمات تركنا على حافة الحقل وأمام المنزل المجلل بالضباب !
................................
فتحت لنا الباب سيدة عجوز مغضنة ذات شعر أبيض كثيف لامع ورحبت بنا ببرود .. وقادتنا إلى حيث أعدت الوليمة !
كانت وليمة بحق .. عشرات الديوك الرومية والدجاج والحمام والبط والإوز والسمان وكميات هائلة من اللحوم والأسماك امتدت على مائدة ضخمة تبلغ مساحتها عشرات الأمتار .. وبسرعة البرق جلس الرفاق الجياع المتعبين وتحلقوا حول المائدة التي لا مثيل لها في الدنيا وأخذوا يأكلون بشراهة عجيبة ..
وبسرعة مخيفة بدأت كميات الطعام الهائلة تتلاشي من على المائدة وتنتقل، وكأنها تنتقل عبر الزمان والمكان، إلى جوف الرفاق الذين غلبت شراهتهم كل ما هو متوقع ..
فقط وقفت أنا بجوار المائدة أتطلع في دهشة إلى رفاقي المصابين بالسعار وأخذت أحذرهم مراراً من تناول هذا الطعام الغريب الشكل دون فائدة .. فقد أنقضوا على الطعام كما تنقض النسور على كومة من الجيف .. بينما على الناحية الأخرى وقفت المرأة ذات الشعر الأبيض تحدجني بنظرات مريبة مخيفة من تحت حاجبيها الأبيضين الخفيفين وتبتسم في شراسة !
............................
بعد خمسة أيام تحديداً فتحت عيني في المستشفي !
وجدت نفسي راقداً وسط آلات طبية مزعجة الشكل وحولي خراطيم وأكياس سوائل معلقة من كل ناحية ومن خلال ساعتي التي كانت ما تزال معلقة في ساعدي عرفت أنني فاقد الوعي منذ خمسة أيام !
أقترب منى رجل صغير أنيق يرتدي معطفاً طبياً أبيض شاهق البياض إلى حد يؤذي العينيين وتأملني للحظة ثم قال لفتاة واقفة بجواره :
" لقد أفاق .. نادي الطبيب " !
وبعد لحظة حضر طبيب آخر عجوز قبيح وأخذ يفحصني طويلاً فحصاً مرهقاً مقززاً حتى امتلأت نفسي اشمئزازا ونفوراً منه ..
وتركني أخيراً ولكن بعد خروجه جاء عدة رجال يلبسون بزات أنيقة رمادية ، وكأنه زى موحد ، وأخذوا يوجهون أسئلة متلاحقة إلى الطبيب الصغير ولكن إجابته كانت واحدة :
" إنه فاقد الذاكرة يا سيدي لن يستطيع إفادتك بشيء ! "
فألتفت أكثر الرجال أناقة إلى مساعده الذي يحمل دفتراً هائلاً وقال ورفيقه يسجل كل كلمة بسرعة خارقة :
" أقفل المحضر في ساعته وتاريخه وتتوقف القضية حتى يسترد الشاهد الوحيد ذاكرته ! "
...........................
من قال إنني فاقد الذاكرة .. إنني أتذكر كل شيء !
أتذكر وقت المغيب وبحثنا عن سيارة تقلنا إلى قريتنا لنقضي وقفة العيد وسط أهلنا .. وأتذكر موقف السيارات الخالي منتصف الليل والبرد والضباب الأخضر المتكثف حوله .. وأتذكر السيارة التي خرجت بغتة من قلب الضباب وعرض علينا سائقها توصيلنا إلى قريتنا على شرط أن يقضي مشوار صغير أولاً ثم يقلنا حيث نشاء دون أجرة !
قال لنا السائق بحميمية :
" أنا أبحث عن رفقة في هذه الليلة المباركة .. لا أريد منكم أجرة .. فقط سنذهب إلى قريتي ، وهي في طريقكم على أية حال ، ونسلم أمانة صغيرة لأهلي من على الباب ثم أوصلكم حيث تشاءون .. لن نستغرق سوي نصف ساعة ! "
عرض مغري في هذا الظلام والبرد والموقف المقفر .. وركبنا جميعاً معه..
كيف يقولون إنني فاقد الذاكرة ؟!
إنني أتذكر رحلتنا الخارقة التي استمرت أياماً طويلة وداورننا حول أنفسنا وسط الضباب المتكاثف الذي كان يزداد إظلاماً وكثافة كل لحظة ..
إنني أتذكر حافة الحقول المجللة بالضباب التي درنا حولها بالسيارة أياماً طويلة لا نعرف كيف نجد المخرج ..
إنني أتذكر البيت والوليمة المعدة لنا ، والسائق الذي غادرنا تاركاً إيانا بمفردنا .. إنني أتذكر المائدة الضخمة والطعام الكثير الذي لم أتناول منة لقمة واحدة .. كما أتذكر السيدة العجوز ذات الشعر الأبيض اللامع والنظرات المريبة .. كل شيء كان مجللاً بالضباب لكنني أذكره جيداً .. فكيف يدعون بعد ذلك إنني فاقد الذاكرة ؟!!
....................................
" ذاكرته مشوشة تماماً ولا يكاد يتذكر شيء من أحداث الجريمة " !
" جريمة هل هناك جريمة في الأمر ؟! "
" طبعاً ماذا تظن ؟! سيارة متروكة على جانب الطريق وبداخلها متعلقات وثياب ملطخة بالدماء ولا أثر للضحايا أو للجاني .. كيف لا تكون هناك جريمة ؟! "
.......................
بعد يومين حضر نفس الأشخاص المتأنقين ذوي الزى الرمادي الموحد وجلسوا حولي وأخذ من يبدو عليه أنه كبيرهم يسألني :
" اسمك وسنك وعنوانك .."
فأخبرته باسمي وسني وعنواني بثقة ، معلومات سهلة محفوظة ولكني وجدته ، ولا أدري لم ، يحدق في وجهي بدهشة كبيرة .. تحاملت على نفسي وأخذت أجيب على الأسئلة الروتينية المملة التي سألني إياها ثم بدأ يسألني برفق :
" ماذا تذكر من أحداث ليلة الجريمة ؟! خذ وقتك وفكر بهدوء وأجب قدر استطاعتك.. "
أجبته قائلاً بهدوء كما أمرني :
" أذكر كل شيء جيداً .. أذكر أنني ذهبت برفقة عدد من أصحابي ومعارفي إلى موقف السيارات لنستقل سيارة إلى قريتنا ولكننا ظللنا واقفين فترة طويلة دون أن نعثر على واحدة .. "
صمت قليلاً ثم واصلت :
" ولكن العربة ظهرت فجأة من وسط الضباب .. سيارة كبيرة رمادية بلون الضباب .. "
وسكت ثانية ولكن ليس لأستريح أو لأبتلع ريقي بل لأنني شعرت فجأة بالضباب يحوم حولي عقلي ويغشاه ببطء حتى لم أعد أتذكر حرف واحد بعد ذلك .. الأغرب أن الضباب بعدها تسرب من داخل رأسي وأخذ يخرج على شكل سحابات كثيفة ويملأ الغرفة من حولي :
" الضباب .. الضباب .. الضباب ! "
أخذت أصرخ وأصرخ وأحاول انتزاع كل الخراطيم والإبر المعلقة حولي .. كنت أريد أن أتحرر من الفراش .. أريد أن أغادر الفراش وأسرع هارباً بعيداً عن هذا الضباب الكثيف ..
ولكن الأطباء والممرضات تجمعوا حولي وقيدوا حركتي بالقوة وبعدها شعرت بإبرة تنغرس في لحمي .. وبعد لحظة كنت قد غبت عن الوعي !
................................
" إن نوبات الهلع هذه تصيبه عدة مرات كل يوم .. وهي تزيد يوماً بعد يوم ! "
" والعلاج ؟! "
" ليس له أثر واضح عليه حتى الآن .. والمهدئات والمنومات بدأت تفقد تأثيرها عليه مما يضطرنا لزيادة الجرعة المعطاة له "
" وما أخبار ذاكرته ؟! "
" لا تزال مشوشة تماماً .. إنه حتى لا يذكر اسمه الحقيقي ولا عمله ولا أي معلومات عن حياته ! "
" والضباب الذي يراه دائماً ؟! "
" لا تزال أوضاعه مقلقة وتزداد سوء يوماً بعد يوم "
كنت أسمع هذه الكلمات في رأسي بينما كنت نائماً .. لا لم أكن نائماً بل كنت أسبح وسط الضباب الذي يحيط بي من كل ناحية .. ضباب كثيف رمادي كئيب تلمع فيه أنوار غامضة .. أنوار تشع من نوافذ منزل صغير يقع على حافة الحقول المغلفة بالضباب وتدعوني إليه بإصرار .. رغم إنني لا أريد الدخول لكنني مضطر لذلك .. فلا ملاذ لي وسط هذا الضباب سوي هذا المنزل اللعين .. المنزل الذي فيه الوليمة والمرأة العجوز ذات الشعر الأبيض والنظرات المريبة المخيفة !
..........................
" كيف يقولون إنني فاقد الذاكرة ؟! إنني أذكر كل شيء ! "
بعد أن دخلنا المنزل وجدنا الوليمة في انتظارنا .. وليمة هائلة ،عشرات الديوك الرومية والدجاج والحمام والبط والإوز والسمان وكميات هائلة من اللحوم والأسماك امتدت على مائدة ضخمة تبلغ مساحتها عشرات الأمتار .. وبسرعة البرق جلس الرفاق الجوعي المتعبين وتحلقوا حول المائدة التي لا مثيل لها في الدنيا وأخذوا يأكلون بشراهة عجيبة ..
وبسرعة مخيفة بدأت كميات الطعام الهائلة تتلاشي من على المائدة وتنتقل، وكأنها تنتقل عبر الزمان والمكان، إلى جوف الرفاق الذين غلبت شراهتهم كل ما هو متوقع ..
فقط وقفت أنا بجوار المائدة أتطلع في دهشة إلى رفاقي المصابين بالسعار وأخذت أحذرهم مراراً من تناول هذا الطعام الغريب الشكل دون فائدة .. فقد أنقضوا على الطعام كما تنقض النسور على كومة من الجيف .. بينما على الناحية الأخرى وقفت المرأة ذات الشعر الأبيض تحدجني بنظرات مريبة مخيفة من تحت حاجبيها الأبيضين الخفيفين وتبتسم في شراسة !
" كيف يقولون إنني فاقد الوعي وفاقد الذاكرة ؟! أنا واعي تماماً وأتذكر كل شيء .. أنا أري وأشعر وأسمع كل ما حولي .. أنا أذكر كل شيء سمعته أو رأيته أو قرأته في حياتي .. إنني أذكر كل شيء .. كل شيء منذ بدأت رحلتنا الخارقة .. منذ أن استقللنا السيارة وحتى وصلنا إلى البيت المغلف بالضباب الواقع على حافة الحقول المجللة بالضباب .. أذكر المرأة العجوز ذات الشعر الأبيض التي فتحت لنا الباب وقادتنا إلى حيث أعدت الوليمة .. وليمة هائلة ..........................."
..........................
لم تصل تحقيقات النيابة إلى شيء ذي بال .. فكل الأدلة كانت ناقصة ومبتورة ولا تعطي فكرة حتى عن كيفية تنفيذ الجريمة ولا مسرحها ولا الأشخاص المتورطين فيها ..
فكل ما وصلت إليه الشرطة من أدلة هو سيارة متعطلة متوقفة على أحد الجوانب المهجورة من الطريق الزراعي بين القاهرة والإسكندرية وبداخلها عُثر على ثياب نسائية ورجالية ملطخة بالدماء .. ولم يكن بالسيارة أي أوراق أو متعلقات تدل على شخصية السائق أو مالك السيارة أو شخصيات أصحاب الثياب الملطخة بالدماء ..ولم يكن هناك من أحياء في المنطقة كلها سوي رجل فاقد الوعي في حالة إعياء شديد ملقي على أحد جوانب الطريق بالقرب من السيارة المقصودة ..
في البداية أنتظر الجميع أن يفيق الرجل المصاب بالإعياء الذي يشتبه في علاقته بالحادث .. ولكن بعد مرور أسبوع أفاق في المستشفي ليكتشف الجميع أنه فقد ذاكرته تماماً وأنه لا يذكر حتى اسمه ولا عنوانه .. وبعدها ركزت سلطات البحث والتحقيق على الأدلة المادية التي عُثر عليها في مسرح الجريمة لعلها تقودهم إلى معلومات عن الضحايا والجناة ..
وتم فحص الثياب وتحليل الدماء الموجودة عليها وإخضاعها لتحليل الحمض النووي ..
ولكن المعلومات التي قدمها التحليل كانت بالغة الغرابة .. فالثياب قد تعرضت لعملية غسيل محكمة محت أي أثر للحمض النووي أو بقايا الجلد والشعر من عليها ..
" ما معني ذلك ؟! "
" معني ذلك ببساطة أن الثياب غُسلت أولاً ثم تم تلطيخها بالدماء !"
" ولكن هذا مستحيل .. هل غسلوا الثياب ثم ألبسوها للمجني عليهم ثم تم قتلهم ؟! "
" لا طبعاً .. الأقرب أن الثياب لم تُلبس أصلاً بعد عملية الغسيل بل تم غسلها وتلطيخها بالدماء ! "
" ولكن لأي هدف ؟! "
" التضليل طبعاً .. وجعلنا نبحث في طريق آخر غير الطريق الصحيح ! "
" وما معني ذلك كله ؟! "
" معناه أن هذه الثياب ليست ثياب المجني عليهم .. هذا إذا كان هناك مجني عليهم أصلاً ! "
بعدها خضعت الدماء للفحص وخرجت النتيجة لتؤكد أن الدماء التي وجدت على الثياب ليست دماء بشرية أصلاً !
" والدماء ؟! "
" ليست بشرية ! "
" هل هي دماء حيوانات ؟! "
" نعم دم أسد الجبال ؟! "
" ماذا ؟! "
" أسد الجبال .. حيوان مفترس لا وجود له في مصر من القطط الوحشية الكبيرة ويعرف بالكوجر ! "
" من أين جاء إذن ؟! "
" لا أحد يعرف .. إنها قضية غامضة من بدايتها ! "
.....................
مرة أخري عاد الضباب !
هذه المرة دخل من خلال النافذة الصغيرة المفتوحة عن يميني .. كنت قد توسلت لهم عدة مرات ألا يتركوا أية نافذة مفتوحة حتى لا يتسرب منها الضباب ..
الضباب يلاحقني بإصرار .. أي نافذة ، أي شرفة ، أي فتحة صغيرة تترك يتسرب منها ويحيط بي .. ضباب رمادي كثيف مخيف .. ضباب مخيف لامع يحيط بي تماماً كما كان يحيط بنا على حافة الحقل المغلف بالضباب وأمام المنزل الملون بلون الضباب
.. لماذا يصرون على ترك النافذة مفتوحة ؟!
هل يريدون أن يصيبوني بالجنون ؟!
هل يريدونني أن أموت ذعراً وخوفاً ليتخلصوا مني ؟!
إنهم يريدون كل ذلك .. والسبب ؟!
" إنهم يعملون عند الضباب .. فهو سيدهم وهو يعطيهم الأوامر وهم ينفذون ! إنهم يقبضون رواتبهم من الضباب كل يوم ! "
فجأة وجدته أمامي .. السائق ؟!
تسرب من النافذة مع الضباب ووجدته واقفاً أمامي .. ارتجفت ذعراً ولكنه مال على أذني وأخذ يحدثني بمودة وراح يكشف لي كل ما خفي عني من أسرار ..
" إنهم يعطونك المهدئات والمنومات ليبقوك في حالة نوم دائمة ويجعلوك فريسة سهلة للضباب .. "
جف حلقي رعباً ولكنني سألته بحذر وأمل :
" أين الباقون .. أين بقية رفاقي ؟! "
" هناك ! "
أشار السائق إلى باب أبيض في طرف غرفتي ، لم أراه من قبل ، ثم أختفي .. تبخر السائق فجأة كما ظهر أمامي فجأة !
لم أبالي به بل أنصرف كل همي إلى رفاقي الموجودين في الغرفة المجاورة لي تماماً .. لماذا لم يخبرني أحد أنهم هنا معي في المستشفي ؟!
لماذا لم يسمحوا لي برؤيتهم حتى الآن ؟!
ولماذا لم يأتي أحد منهم ليسأل عني وليساعدني ؟!
.....................
فتحت الباب الثقيل ببطء شديد .. كنت أحاول إلا أحدث أي صوت حتى لا يجذب أي أحد من العاملين في المستشفي ..
وهناك وجدت غرفة صغيرة جدرانها بيضاء .. وأسرتها وملاءاتها بيضاء .. وحتى الأجساد الممددة فوقها كانت بيضاء !
على الأسرة وجدت رفاقي الأعزاء .. كانوا ممددين على الأسرة تحيط بهم خراطيم ضخمة لها هدير يصم الآذان وتدخل إلى كل جزء من أجسامهم وقد تحولوا إلى اللون الأبيض الشاحب حتى أصبحوا مثل قطع من الثلج الأبيض وحتى كدت لا أفرق بينهم وبين الملاءات البيضاء ..
كانوا شاحبين تماماً وفاقدين الوعي تماماً تماماً .. هززتهم واحداً واحداً .. ناديت عليهم ، صرخت فيهم .. هززتهم بعنف أكثر وأكثر .. ولكنهم لم يستجيبوا لي !
في اللحظة التالية فوجئت بهم يقتحمون الغرفة ..
الرجل الصغير الأنيق الذي يرتدي معطفاً طبياً أبيض شاهق البياض إلى حد يؤذي العينيين ، والطبيب الآخر العجوز القبيح الذي فحصني فحصاً طويلاً فحصاً مرهقاً مقززاً حتى امتلأت نفسي اشمئزازا ونفوراً منه ..والرجال الذين يلبسون بزات أنيقة رمادية ، وكأنه زى موحد ، كانوا كلهم هناك .. وفي لحظة أحاطوا بي وأمسكوني بقسوة وقيدوني .. وأخذ الرجال ذوي الزي الرمادي ينهالون على بالصفعات والركلات القاسية بينما دنا منى الطبيب العجوز القبيح ، وفي يده حقنة ذات إبرة هائلة وغرسها بعنف في ذراعي وهو يقول بشراسة :
" هذه الحقنة ستؤدبك وستعلمك ألا تتدخل فيما لا يعنيك مرة أخري ! "
...........................
" ما سبب الجروح والكدمات في وجهه ؟! "
" نوبة غضب عنيفة أصابته الليلة الماضية في غرفته .. نهض صارخاً من فراشه وأنتزع كل خراطيم المحاليل والفضلات ثم أنهال تحطيماً وتكسيراً على كل شيء بالغرفة .. بعدها أنهال ضرباً على نفسه محاولاً إيقاع أكبر أذي ممكن بنفسه .. لم نتمكن من السيطرة عليه إلا بالاستعانة بعشرة ممرضين أقوياء ! "
..............................
ولكن ما فائدة استمرار التحقيقات ولأي شيء تستمر ؟!
" لنركز على محاولة العثور على قائد السيارة أو الشخص المسجلة باسمه ! "
" ليست مسجلة لأي شخص .. بل لا وجود لها في كل سجلات السيارات التي دخلت مصر في العشرين سنة الأخيرة .. حتى لوحاتها المعدنية تحمل أرقاماً ليست مستخدمة في أي دولة في العالم !! "
" والنتيجة ؟! "
" سيارة مجهولة وبها ثياب عليها دماء حيوان ليس موجوداً في مصر كلها .. الدماء ليست بشرية ولا يوجد أي دليل يستدل به على أصحاب هذه الثياب .. فلا دم ولا حمض نووي ولا دليل من أي نوع .. لا بلاغات عن غائبين أو مفقودين .. القضية مغلقة .. لا توجد قضية أصلاً ! "
" والمجني عليه الذي في المستشفي ؟! "
" مجني عليه في أي شيء ؟! إنه مجرد مجنون ليس إلا .. ومستشفي الأمراض العقلية خير مأوي له ! "
" ألم تتوصل التحريات إلى أي معلومات عنه ؟! "
" بلي توصلت ! لقد عرفنا أنه مجنون رسمي ! "
" ما معني ذلك ؟! "
" إنه مختل عقلياً من القليوبية مبلغ عن غيابه منذ أكثر من عامين ! "
" رباه ! "
" الأكثر من ذلك أنه دخل مصحة عقلية ثلاث مرات خلال عشرة أعوام ! "
" ومعني كل ذلك ؟! "
" أنسي الأمر وتعالي لنلعب دورين شطرنج ! "
..........................
في احدي غرف المستشفي كان هناك حارسين بدينين يجلسان بجوار سرير ويلعبان الشطرنج بمهارة وتركيز كامل .. كان انتباه الحارسين مركزاً تماماً على قطع الشطرنج المتراصة أمامهما .. ولذلك لم يباليا بالمريض الخطير الراقد على الفراش مقيداً بحبال بلاستيكية شدته إلى الفراش وقيدت حركته تماماً .. وحتى عندما دخل طبيب عجوز قبيح حاملاً في يده حقنة هائلة الحجم وتوجه نحو المريض المقيد في الفراش وغرسها بغل وقسوة في لحم ذراعه حتى انفجرت نقطة كبيرة من الدماء من مكان الحقن ، كل ذلك لم يصرف انتباه الحارسين لحظة عن لعبتهما المفضلة ولم يلفت نظرهما إلى ما يحدث حولهما في الغرفة ..
لقد أعتادا على ذلك ..
ستة أعوام مرت على هذا الفأر الحقير وهو في هذه المصيدة .. إنه لا يستحق بركات الرحلة الخارقة ولا متعتها لذلك فهو يستحق الحبس الأبدي في فراشه .. وأبداً لن يسمح له باللحاق بالآخرين وليبق حيث هو حتى يتعفن !