ملائكة في وكر الثعلب. بقلم م. زياد صيدم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • م. زياد صيدم
    كاتب وقاص
    • 16-05-2007
    • 3505

    ملائكة في وكر الثعلب. بقلم م. زياد صيدم

    حال وصوله محطة القطارات المركزية قطع تذكرته في قطار الحادية عشرة والربع ليلا توقف عند كشك وابتاع منه بعض المجلات وصحيفة المساء فأمامه رحلة طويلة تستمر حتى الصباح ليعود إلى مدينته الصاخبة.
    صعد داخله يبحث على كبينة خالية ليستطيع فيها سحب مقعدين متقابلين على شكل سرير فيستريح قليلا من عناء يوم حافل بالإرهاق والانجازات..!! فكان ما أراد فالقي بحقيبة اليد في المكان المخصص والتي احتوت على حاجياته الضرورية في حال تعثر مهمته واضطراره للمكوث أكثر من يوم فهو لا يترك أبدا مثل هذه القضايا أن تفوته وخاصة في مثل هذه السفريات الطارئة.!!

    في المحطة الأولى على بعد ساعتين من الإقلاع توقف القطار لتبدأ حركة كثيفة للمسافرين بنزول وصعود فقد كانت محطة تبديل لملتقى قطارات المناطق الأخرى وما زال هو مستلقيا ومتظاهرا بالنوم حتى حطت الأم وابنتها في كبينته التى كان فيها حتى اللحظة وحيدا واستمر هو متظاهرا بالنوم فهناك ما يزال 4 مقاعد خالية حتى أن مفتش التذاكر لم يشاء أن يوقظه والذي عاد فيما بعد عندما علت ضحكاتهم خارج الكبينة ...مرت قرابة الساعة لينهض جالسا وبخفية تنم عن خبرة سابقة ارجع المقعدين إلى وضعهما السابق وجلس هو على أحدهما وأخرج زجاجة ماء من حقيبته وشرب قليلا ثم اتبعها بسيجارة وقبل إشعالها طلب السماح متوجها بحديثه إلى المرأة كبيرة السن كانت في الخمسينات من عمرها فردت مبتسمة لا ضرر فانا من قوم المدخنين أيضا فعزم عليها من سجائره المارلبورو المهرب عبر الحدود فهو رخيص الثمن مقارنة بمثيله من السجائر مدفوعة الجمارك ولكن كثيرين لا يعرفون أماكن بيعها فهي تجارة رائجة لكثير من الشباب العربي الهارب من العوز والحاجة وتفاقم البطالة ،ينتمون في معظمهم إلى دول شمال أفريقيا ..كانت سجائره الأمريكية قبل أن يتقيد بحملة المقاطعة على البضائع الأمريكية لاحقا تضامنا مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى بعد أن علم بان شركة فيليب موريس تمنح دولة (إسرائيل ) 12% من صافى أرباحها... فالتقطت واحدة وقام بإشعالها لها من باب الاحترام وعزم على الفتاة الشابة التى ترافقها فرفضت شاكره له كرمه وأخرجت سجائرها الخاصة بسرعة حتى تشاركهم حفلة التدخين الجماعي وقام بإشعالها لها مما جعله يرى عن قرب عيناها اللتان تشبه اللوزتين في الشكل بزرقة مائلة إلى الخضار ؟ في غاية السحر والجمال كبيرتان فعلا تكسوهما رموش طويلة تتربعان على جبهة عريضة ناصعة البياض مائلة إلى الاحمرار الوردي وتحصران بينهما أنف طويل نسبيا يتناسق مع وجهها الرفيع وينساب عليه شعر أصفر فاقع طويل ناعم كخيوط الذهب..

    لم يتعمق كثيرا في الحديث الذي انحصر في التعارف وعادات الشعوب في المأكل والملبس والقضايا الاجتماعية الخفيفة مما كانت سببا في علو الضحكات متتالية ومتبادلة لاختلاف الألفاظ أحيانا فيختلف المعنى المراد إيصاله فلم يكن قد مرت عليه فترة كافية لمعرفة أسرار المفردات ودلائلها لشعب يهتم كثيرا لما بين الجمل من عبارات المزاح والتهريج. !! فهن أيضا لم يسبق أن تقابلا مع أجنبى قبل الآن ولهذا كانت رفقة سفر متميزة كان الحديث كله يدور طوال الرحلة مع الأم حديث بسيط في معظمه أما ابنتها فكانت إما نائمة أو شاردة الذهن ؟؟ أو تنفث سجائرها الأمريكية والتي استبدلتها لاحقا وعن قناعة تامة !

    شارف القطار على الوصول مع سطوع أشعة شمس التاسعة صباحا وقبل أن يفترقوا جميعهم قامت الأم بكتابة رقم تليفون بيتهم وعنوان سكنهم الذي كان قريبا جدا من مكان مصلحته اليومية ما جعلها تتشجع في كتابته له؟؟ التقطه واحتفظ به في مدونته الخاصة التى يدون فيها عناوين وهواتف أصحابه ومعارفه فهو للحقيقة ضعيف الذاكرة بالأرقام خاصة وكما أعلمني لاحقا بأنه لم يحفظ رقم جواز السفر أو حتى بطاقته الشخصية! وكذلك فعل هو بالمقابل ولم يكن ذا أهمية لأنه لم يستقر في سكنه هذا مطولا....

    لم يكن يعلم بأن القدر سيتشكل بعد مضى قرابة أكثر من عام كامل على هذا اللقاء العابر الذي كسرته بضع مكالمات هاتفية منه متباعدة بمناسبات محددة لتبدأ بعدها الأحداث بتسلسل أشبه بأفلام كلاسيكية لتصبح الابنة فيما بعد هي الحب الكبير والأول من نوعه في حياته فقد سبقه حب من نوع آخر تمتزج فيه رائحة الأرض والطبيعة... والذي سيدوم أكثر من ثلاث سنوات كانت من أجمل أيام شبابه تتحول فيها الابنة من لا مبالية به قبل أكثر من عام إلى مدافع عنه حتى آخر رمق أمام أمها وخالها وأصدقائها فمنهم من اقتنع وصادق ومنهم من نأى بنفسه وهادن ومنهم من رفض حبها العنيف بلا حدود وقد يكون في حبها هذا سر كبير لأنها بهذا الغريب (كما أسمته الأم لاحقا ) ذو الأخلاق والشهامة والإرادة والذكاء وعنفوان الشباب الثائر والمنتمى لوطنه السليب..!! استطاعت معه أن تخرج من واقع أليم وضعف في شخصيتها وعذاباتها مع خطيبها البعيد في سكنه وتعقيدات أهله السخيفة لانتمائهم إلى العائلات الارستقراطية البائدة حتى أسدل عليها ستارا من الضجر والكآبة في معظم الأيام التى كانت تمر ثقيلة وبطيئة لتزيدها شعورا بالشيخوخة قبل أوانها فأحالها الغريب إلى امرأة قوية واثقة في مجتمع مادي مهزوز وزائف وسطحي بعيد عن قيم الخير والفضيلة لتتحدى ضعفها أمام أسرتها أولا ومجتمعها ثانيا الذي يتغنى بكرامة وحرية المرأة وهى شعارات ليس لها وجود على أرض الواقع فلا كرامة ولا عزة ولا تقدير لها عمليا بل إعجاب وشهوة للناظرين وسلعة للطامعين وضياع حقوق في العمل فقوانينه مجحفة بحقها حيث لا ينطبق على معظم أماكن العمل لقلة العدد المطلوب وهذا مقصود من أرباب العمل للتحايل على التشريعات الجائرة بحقهن....ولتجسد شخصيتها بكل ما تحويه من معاني كانت هي في أشد الحاجة لها لمجمل الظروف الصعبة المركبة والمعقدة التى أحاطتها منذ وفاة والدها وسيطرة أمها وعائلتها عليها فقد يكون أحد الأسباب القوية التى دفعتها للتشبث به وتحدى المستحيل مع هذا الغريب عن الديار ولتشهد معه وبه مجريات حياة صاخبة ونادرة من الحب والعطاء بلا حدود ومن الألم والعذاب بما لا يعقل ومن الفرح والسعادة بما لا يوصف ومن النجاح والأمل بما يبهر ويبلج الصدر...

    وفى الجانب الآخر تحولت الأم خلالها إلى أشبه بالعدو الوحيد له جراء أنانية مفرطة ومستهجنة ومخاوف وهواجس في رأسها حتى كانت سببا في نهاية الكون لاحقا ؟؟....
    فالأم بهواجسها المريضة شحذت خنجرها المسموم في قلب الحب الكبير وكانت الرصاصة في القلب لحب جارف كاسح لم يتأتى قبله أو بعده حب للبشر!! أيام كان شابا يلهو بالقدر !! و يهوى المغامرة بل ويمارسها بكل مخاطرها!!...
    كانت بمثابة الجنون بعينه جراء الطرق بسادية هوجاء عمياء محكمة ومتتالية لا تتوقف.. حاصرت الابنة لسنوات دون هوادة ؟ وفى النهاية لم يجد هو بد من شهامة وكرم العربي الأصيل فجذبته ثقافته ومعتقداته التى تسبح في دمائه فهي في جينات تكوينه ولهذا فهي بلا شك تنتصر أخيرا إنها ثقافات الخير والتسامح والتضحية....

    فالأم لم تكن هواجسها القاتلة كلها خاطئة فحسب وإنما كانت خطيئتها تجاه ابنتها وخطيبها قد تحولت إلى خطايا مع مرور الزمن وما نهجها في ساديتها تجاه نفسها وتفاقمها يوما بعد يوم إلا كورقة ضاغطة على الابنة مما أسرع بالغريب ليتخذ القرار الصعب والذي لابد منه وان كان مؤلما وقاسيا وتداعياته ستستمر طويلا .. ولكنه كان تعبيرا عن حب كبير يسمو على مغالطات وهواجس الأم التى تحولت إلى أشبه بمرض نفسي خطير لم يفارقها حتى كادت أن تفقد ابنتها الوحيدة التى أصابها انهيار عصبي كاد أن يذهب بها في عوالم المجهول لولا وقوف الحبيب إلى جانبها حتى شفيت سريعا وخرجت من أزمتها فبادرت بعدها الأم مهزومة كي تبدل شيئا من أطباعها المقيتة ولكنه كان قد فات الأوان فالقرار بالتضحية كان قد وقع ونفذ الأمر..

    مرت شهور طويلة على فراق قد أفجع الاثنين معا ولكنها التضحية وشهامة رجل أبى أن يكون سببا في مصيبة لحبيبته فهي الوحيدة لأمها أو أن يسجل في قاموس حياته شيئا يخدش من مروءته وأصالته وشهامته يكون له كابوس في المستقبل ينخر بضميره الحي فينحرف عن القيم الأصيلة والذي كان حجته بعدم شعوره بالندم فابتعد نهائيا عنها واختفى بتغيير عنوان سكنه والابتعاد عن أصدقاء قد يرشدونها إليه مختفيا عن العيون ولكنه مع كل الأحزان التى واكبت هذا القرار الصعب وما بعده .

    في يوم دق تليفون المنزل ..كان حلاقه المفضل الذي تعرف عليه عن طريق خال حبيبته منذ سنوات وما يزال عليه.. كان يتحدث بتأثر واضح حيث اعلمه بأن أم (....) قد توفيت ليلا نتيجة لانهيار عصبي شديد في بيتها فهرع هناك صباحا معزيا أخاها الذي ما يزال يقدر ويحترم له موقفه الرجولي والشهم.. بحث بعينيه الحائرتين ليراها لتقديم واجب العزاء فلم يجدها فشعر بدوار في رأسه وصداع كاد أن يطيح به أرضا وهم بالانصراف فناداه خالها قائلا تعلم بان أختي سامحها الله قد وقعت مريضة بشكل جدي وها هي كما ترى انقلبت عليها أفلامها بشكل حقيقي منذ أن رحلت عنها (....) وتركت البيت بعد شهر تقريبا على خلفية ما حدث بينكما.. لقد نقلت عملها كخبيرة في أكبر مؤسسات التأمين إلى خارج البلاد و.....و......

    في هذه اللحظات لم يعد يستمع له ولم يمهله مواصلة حديثه ولم يدعه يسترسل أكثر.....
    فقد شعر برغبة في البكاء ما لبث أن فاضت عيناه بدموع حارقه شعر بسخونتها تسيل من أسفل نظاراته لتغسل لحيته الخفيفة...
    وأحس بخفقان قلبه من جديد..وبأفكار تبادرت يقينا إلى ذهنه !!.

    أخيرا عندما سأله الراوي عن اسم حبيبته أصر الصديق على عدم البوح به على الرغم من مرور أكثر من 20 عاما على قصة حبه الكبير...؟؟؟

    إلى اللقاء
    أقدارنا لنا مكتوبة ! ومنها ما نصنعه بأيدينا ؟
    http://zsaidam.maktoobblog.com
يعمل...
X