مراجعة كتاب للأديب الراحل حبيب بولس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • نبيل عودة
    كاتب وناقد واعلامي
    • 03-12-2008
    • 543

    مراجعة كتاب للأديب الراحل حبيب بولس


    مراجعة كتاب للأديب الراحل حبيب بولس


    قرويات - بين الحنين والجذور


    نبيل عودة



    ألكتاب قرويّات ( نوستالجيا / حنين )

    ألمؤلف الدكتور حبيب بولس





    الناقد الراحل د. حبيب بولس ترك تراثا واسعا وهاما يشكل أحد أعمدة ثقافتنا العربية داخل اسرائيل. ويمكن القول انه كان عمود الخيمةالمركزي في حركتنا ألنقدية اذ خص معظم اعمالهالنقدية وكتاباته التنظيرية لطرح قضايا ثقافية من صميم ما يؤثر على مسيرتنا الثقافية ، سلبا او ايجابا.

    بعض مقالاته اثارت ضجيجا كبيرا، اذ طرح فيها ظواهر سلبية انتقدها بحدة وسخرية،ولم يشملها حبيب في كتبه.

    وكنت قد نشرت تلك المقالات في جريدة ألأهالي (2000 – 2005) التي كنت نائبا لرئيستحريرها الكاتب والمفكر والشاعر سالم جبران، الذي قال عنه حبيب انه كان وراء تحولهالى النقد، اذ رصد قدرات حبيب النقدية وحثه على للانخراط في النقد. قال لي حبيب مراتعديدة انه ناقد بفضل "المعلم سالم جبران" كما كان يصفه حبيب.

    انخراط حبيب بولس بالحركة النقدية المحلية اخرجها من كونها حركة لا تتعامل إلامع اسماء محددة،وحركة نقدية معزولة عن ابداعات الشباب. الى حركة نشطة ترصد الابداعاتكلها، وأقول ذلك بغض النظر عن حالتنا النقدية المترهلة اليوم.

    بالطبع لا انفي اسماء نقدية بارزة ودورها، ولكني اتحدث عن خصوصية مدرسة حبيببولس النقدية.

    حبيب اعتنق الفكر الماركسي الذي أثر على اتجاهه النقدي، ولكنه الى جانب الفكرالماركسي كان يتمتع بحس لغوي وذوقي مرتفع جدا أشبه بالبارومتر .

    وليس من الصعب الملاحظة ان حبيب دمج بين الفكر الماركسي والاتجاه الذوقي فيتقييمه النقدي. كان أديبا في روحه ، وأكبر اثبات على ما ادعيه كتابه "قرويات"الذي أعتبره من أجمل ابداعات صدرت في ادبنا المحلي، ومن أجمل كتابات حبيب بولس، وقدصارحته مرات عديدة بموقفي، وسألته لماذا لم يتجه للكتابة الابداعية وهو يثبت بقروياتهانه يملك الحلم القصصي واللغة السردية الجميلة؟

    لا اتذكر اجابته ألمحددة

    سألته: هل يكون سالم جبران بدفعه للنقد قد حرمنا من كاتب قصصي مبدع؟

    كل أجوبته كانت ابتسامته العريضة وتعليقات عن اهمية النقد في ثقافتنا، التيتشعرك انك امام انسان معطاء بنكران للذات، وان نشاطه الثقافي هو مهمة وطنية من الدرجةالأولى. كان على وعي بحالتنا الثقافية المأزومة بعد فترة شعراء المقاومة، وانبهار العالمالعربي بشعرنا المقاوم. فنجده ينتقد بلا مواربة، بلا حساسيات وحساب للعلاقات الشخصية،فغضب من يظنون انفسهم فوق النقد. حبيب استمر في قناعاته ، وقال لي ما معناه أن كلمةالحق يجب ان تقال ، والا تحولنا الى مهرجين.

    كان مستشاري الخاص أحيانا قبل نشر بعض المقالات، او الكتابات الفكرية او الأدبية الابداعية،التي اشعر بتردد من نشرها، بل وقال لي مرة عن احدى قصصي الطويلةانها تراجعا عما انتجته،ونصحني بعدم نشرها،فأسقطها من حسابي !!

    حبيب بولس كما قلت كان يملك زمام الكتابةالابداعية القريبة من أجواء النص الروائي. وهذا يبرز بقوة في قروياته، التي كتبت مراجعة عنها بعد صدورها. انشرها اليومضمن تعريف القراء على هذا الأديب الانسان المناضل والمعلم، الناقد د. حبيب بولس.



    *******



    "قرويات" حبيب بولس- حتى لا نفقد ذاكرتنا الجماعية



    "المفارقات بين واقعنا وماضينا".. هذا ما يتجلّى للوهلة الأولى أمام قارئكتاب "قرويّات" للدكتور حبيب بولس. لكن الإبحار مع نص "قرويات"يكشف لنا نوستالجيا غير عادية عايشها حبيب بولس في قروياته، مسجلاً تفاصيل بدأت تختفيمن أجواء قرانا ومدننا العربية، من علاقاتنا وممارساتنا اليومية، من شوارعنا وبيوتنا،من ألعابنا وتسالينا، ومن وسائل تنقِّلنا، من مدارسنا، من معلمينا، من أفراحنا وأتراحنا،من مفاهيمنا السياسية ووطنيتنا، من مواسمنا وسهراتنا، من أعيادنا وعقائدنا الدينية،من ثقافتنا وفنوننا ونضالاتنا.

    التغيير الذي يرصده حبيب كان أعمق من الشكل، لدرجة انه شكل لنا مضامين جديدة،أفكاراً جديدة، رؤية سياسية جديدة، ثقافة جديدة، أطعمة جديدة، بل ولغة جديدة أيضاًفي مفهوم معين. كأني به يرصد التاريخ والعوامل "التاريخية" والثقافية التيغيّرت مسقط رأسه، قريته الجليلية "كفرياسيف" بشكل خاص وغيّرت واقع بلداتناكلها بشكل عام وغيرتنا نحن (الناس) في الحساب الأخير. الى حدّ ما تذكِّرني "قرويَّات"حبيب بولس بكتاب للروائي السعودي عبد الرحمن منيف عن مدينة "عمّان".. حيثيعود بذاكرته الى عمّان في سنوات العشرين من القرن الماضي ليعيد تشكيلها.

    حبيب في قروياته يرسم "لوحة نثرية" ان صحَّ هذا التعبير، لقرية عَلَمٍمن قرانا، كانت عَلَماً سياسياً وعلماً ثقافياً، وهو بذلك يضيف لها بعداً جديداً، علماًتراثياً أصيلاً، وربما يريد ان يقول لنا ان هذه الأصالة التي عرفتها كفر ياسيف، هيأصالة دائمة لا تنتهي، انما تتحول وتنطلق نحو أصالات جديدة دوماً.

    حبيب في قروياته يريد ان يقول لكل واحد منا ان في داخله أصالة حقيقية، يجب انيخرجها من داخله ويورثها لأبنائه. وهذا بالضبط ما يفعله حبيب بولس، وهو بالطبع يختارابنه، ليورثه أصالة أجداده وأصالة قريته، وأصالة شعبه.. يختار ابنه ليورثه أهم ما يملكهالانسان في حياته، ذاكرته الخصبة.. وليملأه بالكرامة وعزة النفس، مقدِّماً نموذجاًشخصياً، استفزازيا لكل واحد منا، ولكنه استفزاز طيب وانساني، يحثنا بسياقه على الكشفعن جذورنا الأصيلة، عن نقاوتنا، عن قيمنا المغروزة بأعماقنا الانسانية، عنى جوهرناالطيب الذي كان العنصر الحاسم في صيانة شخصيتنا الوطنية والانسانية أمام ما يجري فيمجتمعنا من ردّة حضارية، وتعصّبات قبلية وسياسية ودينية حمقاء، هذه هي المفارقة الاخرىالتي يصدمنا بها حبيب في كشفه عن جوهر اللؤلؤة المكنونة كفر ياسيف، بصفتها نموذجاًوطريقاً وتاريخاً. هذا النص الأدبي يتجاوز الكتابة التسجيلية التاريخية، ويقترب منالنص الثقافي الحكائي، البطل فيه هي قرية كفر ياسيف وأهلها، والهدف حفظ الذاكرة الجماعيةلكفر ياسيف، ولعلها الخطوة الاولى لبدء حفظ ذاكرة شعبنا الجماعية في كل أماكن تواجده."البطل" الآخر في هذا النص هو الراوي نفسه، وكأني به يعود الى الأيام الخوالي،ليتقمّص شخصية الراوي التي عرفتها قرانا وسهراتنا ايام زمان، وليجعل من هذه الشخصيةذاكرة للزمن ايضاً، يستعين بها الراوي- الكاتب لينقل للأجيال الجديدة، ابنه في المفهومالضيق، وأبناء كفر ياسيف، وكل ابناء شعبنا من الأجيال الناشئة في المفهوم الواسع، أصالةالماضي وأصالة الانسان، وأصالة الشعب وليس فقط الحنين الذاتي (النوستالجيا ).

    ربما هي نوستالجيا فعلا، ولكنها نوستالجيا لأبناء جيلنا الذي حان الوقت ليسجلواذاكرتهم حفظاً من الضياع. حبيب اختار اسلوباً جيداً ليروي لنا روعة الماضي، عبر المقارنةالدائمة مع الواقع اليوم، وذلك ليعمق، ليس روعة الماضي فحسب، بل روعة الانسان الذياجتاز المأساة الوطنية وصمد، وواجه القمع القومي بأبشع أشكاله، ولم يفقد بوصلته الانسانية..وبدأ يبني نفسه من جديد وينطلق الى آفاق رحبة من العلوم والثقافة والتطور والصمود.في قروياته نكتشف حبيب بولس الآخر، حبيب الحالم، نصاً ولغة، فنراه يقترب من لغة القصفي سرده، ليتغلب على السرد التوثيقي والتاريخي، ونراه يستطرد في إعطاء النماذج والحكاياتليجعل قروياته أكثر قرباً للرواية والدهشة الروائية وعناصر التشويق الحكائية، وليسمجرد تسجيل توثيقي للذاكرة.

    و

    أقول بلا وجل: هي حقاً رواية من نوع جديد بطلتها قرية بناسها وأحداثها. قد لايوافقني بعض الزملاء على تصنيفي لقرويات حبيب بولس ضمن النصوص الروائية، قد يكونواصادقين شكلياً، وأقول شكلياً، اذا التزمنا المفاهيم المتعارف عليها في التعريفات الأدبية.ولكن من يملك الحق في جعل التعريفات قانوناً، وهل يعترف الإبداع بقوننة جنونه؟

    الأمر الأساسي، هل من قيمة للتصنيف الأدبي؟ وهل يضيف التصنيف لقيمة العمل؟ ألايكفي الكاتب، انه أعطى القارىء نصاً لا يفارقه بعد طيّ الصفحة الأخيرة؟ حبيب في قروياته،أعطانا عملاً توفرت فيه العديد من المركبات الناجحة، اللغة اولاً، الفكرة ثانياً، والأسلوب.

    كتاب "قرويات" يسد فراغاً كبيراً بمضمونه المميز، وهو ليس مجرد نوستالجيا(حنين) بل كشف عن ثراء شعبنا وأصالته وعمق جذوره في هذه الأرض الطيبة. ولعل قروياتيكون فاتحة لتسجيل التاريخ الشفهي، والتراث الشعبي المتوارث شفهياً، وسجل نضالنا الأسطوريالذي يملأ صفحات، اذا ما سجلت ستشكل ثروة اجتماعية سياسية ثقافية، عن بقايا شعب، لميفقد ثقته بنفسه، واجه المستحيل وانتصر.. واجه الضياع وبنى ذاته من جديد، ليقف اليومفي مرتبة متقدمة بين الشعوب، فخوراً معتزّاً متفائلا..

    وأخيرا : ادعو مؤسسات شعبنا الى اعادة طباعة أعمال الراحل خاصة كتابه الهامقرويات لما فيه من نقل للتجربة الحياتية الغنية والمثمرة نضالا وابداعا ادبيا .

    حبيب خاطب ابنه في نص قرويات، وهو يعني ابناء كل أب وكل ام يعز عليهم ابنائهم ومستقبلهم ووطنهم وكرامتهم.





    nabiloudeh@gmail.com
يعمل...
X