توظيف الأغنية الشعبية في شعر حسين عبد اللطيف
الدكتور مرتضى الشاوي – جامعة البصرة
والأغنية الشعبية جزء من الفلكور الشعبيبوصفه الفن القولي المؤلف باللهجة الشعبية الدارجة , المعبر عن تراث المجتمع الشعبي , من قيم وأمثال وحكم وأغان وحكايات ، إلا أنّ الذي يفرق بين ما شاع في المجتمعات من تلك العبارات , والألفاظ , وظلت محافظة على بقائها , على الرغم من مرور تلك السنوات حتى أصبحت تلك المفردات بتناقلها جيلاً عبر جيل تتميز عن السوقي المبتذل بكثافته الشعورية , ودلالاته المعنوية المركزة ، وقد حاول الشاعر العراقي المعاصر, الاستفادة من هذه اللغة الغنية بمدلولاتها , وإيحائها في الأداء الشعري , وعاد إلى ما تحت يده منة هذه العروة , فوجد الكثير من مخزونها في ذاكرته بعد أن راجع حكايات الطفولة , ومجالس السمر الليلية في القرية , حيث كان المجتمع القروي يتناول سير الإبطال , والحكايات الشعبية , والطرف والملح في أحاديثه الليلية .
والأغنية الشعبية فن من فنون الأدب الشعبي الشفوية المتناغمة باللهجة العربية الدارجة أبدعها واحد أو أكثر من مبدعي التراث في وقت مضى أو معاصر للشاعر وصادفت صدى في نفوس الأكثرية لا لأنّها جاءت معبرة عمّا يجول في خواطرهم ، فشاعت بينهم وظلت أجيالهم تتناقلها بعد ذلك جيلاً بعد جيلاً فصارت مجهولة المؤلف مملوكة للشعب معبرة عن وجدانه وتحمل صفاء النفس , وعمق المغزى , وبساطة التعبير الموحي ( سهل ممتنع ) وعلى الأخص تلك الأغاني النابعة من صدق الإحساس , وبراءة النية , وسمو القيم , فأصبحت هذه الأغاني محط أنظار الشعراء .
وإنّ الذي يحدو بالشعراء المعاصرين إلى التوجه إلى الفلكلور, أنّه تمثل تجربة إنسانية صادقة فيعزز تجربته الخاصة من خلال طلب العون من التراث , لتصوير ما يعجز عن تصويره ليشكل مظهراً من مظاهر التواصل الفكري مع المتلقي ؛ لأنّ ( التراث جزء من التكوين الذاتي , والنفسي للشاعر, مثلما هو جزء من التكوين الثقافي والفكري له ) ، وربما كانت الأغنية صوتاً آخر إضافة إلى صوت الشاعر, وكلا الصوتين يمثلان طبقات المعنى , آو تمثل الأغنية الشعبية بؤرة من بؤر القصيدة , وانَّ التأثر بالآخرين يمثل نوعاً من أنواع الغربة النفسية للشاعر.
وأبرز خصائص الأغنية الشعبية الغنائية والسهولة والجماعية والإنشاد والشيوع والأصالة والحداثة والشمولية في موضوعيتها .
إذ تسللت الأغنية الشعبية إلى نصوص الشعراء البصريين لغرض تعميق الدلالة وسرعة توصيل النص إلى المتلقي بوصفها عنصرا يغني عن الإسهاب والتفسير للموقف أو المشهد أو الوضع النفسي الذي يعيشه الشاعر
إذ نجد الشاعر حسين عبد اللطيف يضمّن كلمات الأغاني الشعبية في نصوصه ولا سيما كلمات الأغنية الكويتية التي شاعت أواخر الخمسينيات ومطالع الستينات من القرن الماضي كما أشار الشاعر نفسه في نهاية مجموعته الشعرية في حقل ( إشارات ) إلى مطلع الأغنية :
" أنا ودّي ولكن ما حصلي
أشوف اللي يبيه الكلب ساعه
ألا لا عاد كربك يا حولي
حرمت العين من شوف الجماعه "
وقد ضمّنها بإيجاز في نصه الشعري :
" وها جئنا
ندق البابَ
من بابٍ
إلى بابِ
ولم نسمعْ
سوى الدقة
كأنَّ الدارَ غيرُ الدار
ترى هل يذبل الجوري
وينسى عطره القداح ؟!
00 عسىه لا طال عمرك يا حولي 00
يا حولي 00
يا 000 "
ومن هنا يتضح أنّ الأغنية بكلّ أبعادها تمنح القصيدة صلة تربطها بالذاكرة أو بالماضي البعيد أو القريب أو بالتراث بشكل شمولي ممّا يحرص النص الشعري على بلورتها في أفق خاص تمنح نفسها الذوبان والانصهار بفعل ابتكار الشاعر في توليد المعاني .
أو تضمين سطراً من أغنية ( أحبابنا يا عين ، ما هم معانا ) بمفرداتها وهي أغنية مصرية لـ( فريد الأطرش ) وقد غنتها المطربة ( وردة الجزائرية ) من بعده ، كما في قوله :
" الخفاجي ، الباقري ، الزيدي ، العاصي ، الحلي أمير
ملتمون كأصابع اليد ، محتشدون كالظلال
عند منعطف الفرات
يغنون لأمير أور ( أحبابنا يا عين ) "
ويعدّ هذا التضمين في النقد المعاصر تناصّاً مع الأغنية الشعبية في حقل الأداء بالأسلوب المحكي ، كما أشار إليه النقاد والدارسون بصورة عامة إلى الشعر العراقي المعاصر في تضمين الشعراء أشعارهم الألفاظ المتداولة من الكثير من مفردات الأغاني إذ وجدوا فيها ما يستعينوا على أداء معنى لا تحتمله البدائل
وتعدّ الأغاني الشعبية ظاهرة بارزة في لغة الأداء الشعري الجديد ، وقد جاء استخدامها – إما تضميناً أو تصعيداً إلى اللغة الفصحى مع الاحتفاظ بالصورة في محاكاة غربة الشاعر النفسية ويبدو لنا أنّ الشعراء يلجئون إلى تضمينهم الأغاني الشعبية تنفيساً عن واقعهم المرير وضرامة الأبعاد الاجتماعية حولهم .
وكذلك نجد ذلك في قوله :
" في خفوت المغارب
تمضي القطارات بي ،
متلاحقة كالقطا .. عادية
الرفاعي :
صدى أغنية
يمسك اليأس في الأغنية
بتلابيبنا مرة ثانية
ويحثّ الخطى
مسرعا ، برهائننا ، نحو أفخاخه القاسية
وهي ذي الشطرة
خنجر وخباء وبر
وأنا - ميت – وأريد صورتك "
لقد أشار الشاعر إلى ما تضمنه من أغنية المطرب العراقي ( حضيري أبو عزيز) :
" لجل المودة البينك وما بيني رسمك أريده
تذكار عندي كل وكت كبال عيني رسمك أريده "
وهي حالة استذكار للماضي في الرؤية للصور الفوتوغرافية التي تعبر عن جانب نفسي في وجود الأشياء بشخوصها على الرغم من جمادها .
فصلاً عن ترديدات طفولية أيام الصبا في الذاكرة الجمعية للشاعر إذ يتذكرها ليعيدها من جديد في شعره كما يذكر بقوله كنا إبّان الطفولة عندما يمرّ سرب اللقالق في سماء الجنوب نهتفُ به هكذا معلقين على نسق طيرانه
وكذلك نجد ذلك في قوله :
" فهل في الصباح
الضحى بعده
الآن قبل الظهيرة
تمرّ اللقالق
زوارق ملأى زنابق
ترى السرب منها يعود تر...ا...ه !
فقصّر حبلك
طوّل حبلك ..آ..ه
يصيح الشقراق .. آ...ه
جناحي
جناحي ....." ، إذ طبع شعره بطابع التطريب بسبب حالة التحسر والحيرة على شيء ما مهم عنده وليضفي على شعره حيوية الترديد الفلكلوري الشعبي بأبعاده الفنية ؛
لأجل الخلاص من الأسى والحزن .
وكذلك نجد قوله في نقل الترديدة الشعبية عند البحارة في وقت الصيد لبعث الهمة في النفس والحماس وهي من التصبر الإنساني قوله :
" وها أنا أبحث عن مقعد أو حديقة
وعن موعد أخلفته السنون
أعيد بشأني النظر
وأبحث عن ظلة في العراء
برغم المطر
وفوق السكركب
أشدّ الشكيمة
وأركب
وأدعو الطفوله
لتجلس قربي فمالي سواها حموله
ومالي سواها متاع "
قيل إنّ السكركب – رجع بعيد للترديدة الفولكلورية " كاعدة على الشط " كما أشار إليها الشاعر نفسه
فضلاً عن تضمينه الأغنية العراقية الشعبية المشهورة ( يا شاتل العودين ، خَضّر فرد عود ) كما في قوله :
" يا شاتلَ العودين : مالك
سوى عود
- لا غير عودٍ واحدٍ فقط -
يخضرَّ منهما
لا تنعقدْ
له سوق
ولا النظير منه موجود " في حالة تطهير للنفس بعد موت ولده ( حازم ) على نحو مفاجيء إذ فجع بهذا المصاب فرثاه بقصيدة تختزن أسى الشاعر فأراد أن يصف حياته بعده بوجود ( غصن ) بجانبه يتأمل فيه الحياة فكنّى الاثنين من أولاده بالعودين ( غصنين ) فلم يبق سوى واحد يسلو به ، على الرغم من أنّ المفقود لا يشبه الآخر الحيّ .
ومن هنا نفهم أسرار توظيف الأغاني الشعبية في التصوير الفني في الشعر إذ توحي إلى رموز لها دلالات كنائية .
فكانت تجربة حسين عبد اللطيف في توظيف الأغنية بوصفها موروثاً شعبياً تجربة متميزة تسجل لنا ذوبان اللغة المحكية بدلالتها المختلفة في الشعر المعاصر، وقد تعد ملمحاً أسلوبياً لجأ إليه لإضفاء طابع التزاوج والتداخل والتعشيق اللفظي بين المفردات في النص الشعري مما يعرف في النقد المعاصر ( التعالق ) أو التناص في حقل واحد .