ربما ينبغي لنا أن نستفتح بقصيدة " لا أريد منك سوى نفسي " من الديوان الجديد
" تلاوة الطائر الراحل " للشاعر سامي مهنا .
فهذه القصيدة تفصح عن نفسها كقصيدة محورية ، أو مركزية ، وهي مغرية للنقد بحيث يجْتَس القلم فيها دروبا عدة تفضي الى ملامح مختلفة ، يبدو أنها حصيلة مخاض عقلي وشعوري مكثف ، أثمر كمًا كبيرا كان ضرورة لاكتمال السياق بشكله الطبيعي .
لقد عرّف رومان جاكبسون الشعر بأنه : " اللغة الموظفة جماليا " . وهذه الجمالية تتوافر عند سامي مهنا ، تترغل في القصيدة ومنذ لحظاتها الأولى : " ضعْ وردة بيني وبينكَ / واحتضن ضوءا تهافت / من جموح الموج ..... " .
ولا يخفى ولع الشاعر بانتقاء واختيار المفردات وبكل عناية . وإن كانت هذه العملية مستحسنة في الشعر ، إلا أنها تقلص من نسبة العفوية ، وقد يقع الشاعر في التكلف كقوله : " الوعي المرتّب " .
والشاعر يتخطى في بعض سطوره ما ألفته الأسماع من الشعر ، مما يتواءم مع ما نادى به حازم القرطاجني : وجوب الغرابة والتعجب في الشعر .
" لنفترش نهرا يهب / على نواحي الروح في فيض الضفاف " .
ويتكرر ذكر الروح ( النفس ) إحدى ملكات الإدراك عند الانسان ، ترتاد هنا ما يوافق هواها ويغذي رغبتها : " في هذا المدى القُدسي / يحتفل المكان بعاشقين تدرجا شغفا / كعزف يرتقي بالروح نحو الانخطاف " .
تعبير ثري ، بإيحائه ، وبصيغته الحداثية ! .
كذلك يتكرر ذكر " النبيذ " ، السائل المعشوق عند الشعراء منذ الجاهلية ، مرورا بالعصر العباسي ، حتى اليوم . إلتهمناه سالفا شعرا مضفورا بأغنى الدلالات واصدق المناسبات . واليوم نتلقاه وقد فرغ ـــ غالبا ـــ من المعاني العميقة وفنون القول ، يُزَج في النصوص تزويقا ، أو تقليدا ، أو تيمنا بالملك الضليل : "لا صحو اليوم ولا سكر غدا ، اليوم خمر وغدا أمر " .
ماذا ترون في التعبير التالي لسامي مهنا : " ضعْ وردة فوق انكسار الضّوء / في صحو النبيذ ..... لنرتقي " .
وإذا كان الشعراء قد تناولوا وبكثرة " القُبّرة " ، التي " تحمل الى السماء فرح الأرض " كما عبر ميشليه . فقد أصبح طائر النورس محط الإهتمام ؛ ويمكن القول أنه أصبح أسلوبا جماعيا في الشعر . لذلك ليس من السهل دائما ـــ ولظروف مختلفة ـــ أن يحوّل الشاعر ، أي شاعر ، الأسلوب الجماعي الى تجربة ذاتية . يكفي في هذا الصدد أن سامي مهنا قد أولَ هذا الطائر الرمز أهمية متشحة برؤية إبداعية :
" دعْ موعد اللاوعي يكتب نوتة الخطوات / فوق الشاطئ المنسيّ / لا تتركْ نوارس بحرك / المنثور بين حديقتين من الغروب " .
من اللافت أن الشاعر يطمح بأن يكوّن له عالما شعريا متميزا مبتكرا . بيد أنه ينساق أحيانا الى تكريس حقائق عامة معروفة ، كقوله : " لا جمالا دون رأي
الذوق " .
ان ضرورة الذوق للإنسان اجتماعا وفنيا ، قضية ثابتة ومفروغ منها .
وقوله : " فالشعر لا يتنفس الإلهام إلا في السماء " .
فهذه مسألة حُسمّت من زمان : ان الشعر يحتاج الى مناخ من الحرية كي ينمو وينتشر
القصيدة مشحونة بالتخييل والخيال والرموز . وإذ نمعن النظر في هذه الخطوط ، نجد التخييل وفيه جوانب من الوهم والمبالغة ! ثم نكتشف الخيال المحلق يبعث في نفوسنا التشوق والإثارة ! . وكأني بالشاعر في لمحة من هذا الخيال يحاول الهروب من واقع ما ، واقع مزعج ربما ؟ ! .
وفي الرموز التي هي وسيلة توفير لعمليات عقلية – كما مر معنا – استغلها الشاعر في تكثيف العبارة ؛ مما يتيح لنا استشفاف أشياء كثيرة في ثوان ، زمن القراءة :
" وأريد صوتكِ كي أرى الأسماء في الأشياء / كي أتنفس البَرّ المشع على عيون غزالة / وأضيع كالسحب الشّريدةْ " .
وثمّة نقطة تستحق الإنتباه ، وهي أن الشاعر يواكب عجلة التطور اللغوي لفظا واسلوبا :
" يا امرأة تعيد تشكل الدنيا / وتحملني إلى السُدُم البعيدةْ " ( النجوم ) .
لو قال الأرض البعيدة ، لَمّا كان للمعنى من أثر يذكر ، نظرا لوسائل النقل الحديثة أذابت المسافات .
أيمكننا اعتبار قوله مجازا ؟ . على أساس ان المجاز ظاهرة لغوية تقوم قبل كل شيءعلى نقل الألفاظ من المعاني القديمة الى المعاني الجديدة .
وبخصوص الفكرة فهي جيدة دون شك ، لكن الشاعر يسعى إلى إظهار فكرته ، وكأنه يحثنا على الإعجاب بها ! وهذا مأخذ عليه ،إذا سلمنا بقول بول فاليري : " يجب أن تكون الفكرة خفية في الشعر ، كما هي القيمة الغذائية للثمر " .
لقد قرر الأولون استحالة الخلق من العدم ، في الأدب وغيره من الإنجازات البشرية. وحديثا أوضح أدونيس النظرة الاتباعية للشعر ، والتي ترى أنه كسب لا خلق .
وفي هذا ما يدعم رأينا ان ثقافة سامي مهنا الواسعة المتنوعة ، ساهمت بأن يرقى بقصيدته إلى مستوى يؤكد مصداقية هذه الشاعرية المعطاء .
" تلاوة الطائر الراحل " للشاعر سامي مهنا .
فهذه القصيدة تفصح عن نفسها كقصيدة محورية ، أو مركزية ، وهي مغرية للنقد بحيث يجْتَس القلم فيها دروبا عدة تفضي الى ملامح مختلفة ، يبدو أنها حصيلة مخاض عقلي وشعوري مكثف ، أثمر كمًا كبيرا كان ضرورة لاكتمال السياق بشكله الطبيعي .
لقد عرّف رومان جاكبسون الشعر بأنه : " اللغة الموظفة جماليا " . وهذه الجمالية تتوافر عند سامي مهنا ، تترغل في القصيدة ومنذ لحظاتها الأولى : " ضعْ وردة بيني وبينكَ / واحتضن ضوءا تهافت / من جموح الموج ..... " .
ولا يخفى ولع الشاعر بانتقاء واختيار المفردات وبكل عناية . وإن كانت هذه العملية مستحسنة في الشعر ، إلا أنها تقلص من نسبة العفوية ، وقد يقع الشاعر في التكلف كقوله : " الوعي المرتّب " .
والشاعر يتخطى في بعض سطوره ما ألفته الأسماع من الشعر ، مما يتواءم مع ما نادى به حازم القرطاجني : وجوب الغرابة والتعجب في الشعر .
" لنفترش نهرا يهب / على نواحي الروح في فيض الضفاف " .
ويتكرر ذكر الروح ( النفس ) إحدى ملكات الإدراك عند الانسان ، ترتاد هنا ما يوافق هواها ويغذي رغبتها : " في هذا المدى القُدسي / يحتفل المكان بعاشقين تدرجا شغفا / كعزف يرتقي بالروح نحو الانخطاف " .
تعبير ثري ، بإيحائه ، وبصيغته الحداثية ! .
كذلك يتكرر ذكر " النبيذ " ، السائل المعشوق عند الشعراء منذ الجاهلية ، مرورا بالعصر العباسي ، حتى اليوم . إلتهمناه سالفا شعرا مضفورا بأغنى الدلالات واصدق المناسبات . واليوم نتلقاه وقد فرغ ـــ غالبا ـــ من المعاني العميقة وفنون القول ، يُزَج في النصوص تزويقا ، أو تقليدا ، أو تيمنا بالملك الضليل : "لا صحو اليوم ولا سكر غدا ، اليوم خمر وغدا أمر " .
ماذا ترون في التعبير التالي لسامي مهنا : " ضعْ وردة فوق انكسار الضّوء / في صحو النبيذ ..... لنرتقي " .
وإذا كان الشعراء قد تناولوا وبكثرة " القُبّرة " ، التي " تحمل الى السماء فرح الأرض " كما عبر ميشليه . فقد أصبح طائر النورس محط الإهتمام ؛ ويمكن القول أنه أصبح أسلوبا جماعيا في الشعر . لذلك ليس من السهل دائما ـــ ولظروف مختلفة ـــ أن يحوّل الشاعر ، أي شاعر ، الأسلوب الجماعي الى تجربة ذاتية . يكفي في هذا الصدد أن سامي مهنا قد أولَ هذا الطائر الرمز أهمية متشحة برؤية إبداعية :
" دعْ موعد اللاوعي يكتب نوتة الخطوات / فوق الشاطئ المنسيّ / لا تتركْ نوارس بحرك / المنثور بين حديقتين من الغروب " .
من اللافت أن الشاعر يطمح بأن يكوّن له عالما شعريا متميزا مبتكرا . بيد أنه ينساق أحيانا الى تكريس حقائق عامة معروفة ، كقوله : " لا جمالا دون رأي
الذوق " .
ان ضرورة الذوق للإنسان اجتماعا وفنيا ، قضية ثابتة ومفروغ منها .
وقوله : " فالشعر لا يتنفس الإلهام إلا في السماء " .
فهذه مسألة حُسمّت من زمان : ان الشعر يحتاج الى مناخ من الحرية كي ينمو وينتشر
القصيدة مشحونة بالتخييل والخيال والرموز . وإذ نمعن النظر في هذه الخطوط ، نجد التخييل وفيه جوانب من الوهم والمبالغة ! ثم نكتشف الخيال المحلق يبعث في نفوسنا التشوق والإثارة ! . وكأني بالشاعر في لمحة من هذا الخيال يحاول الهروب من واقع ما ، واقع مزعج ربما ؟ ! .
وفي الرموز التي هي وسيلة توفير لعمليات عقلية – كما مر معنا – استغلها الشاعر في تكثيف العبارة ؛ مما يتيح لنا استشفاف أشياء كثيرة في ثوان ، زمن القراءة :
" وأريد صوتكِ كي أرى الأسماء في الأشياء / كي أتنفس البَرّ المشع على عيون غزالة / وأضيع كالسحب الشّريدةْ " .
وثمّة نقطة تستحق الإنتباه ، وهي أن الشاعر يواكب عجلة التطور اللغوي لفظا واسلوبا :
" يا امرأة تعيد تشكل الدنيا / وتحملني إلى السُدُم البعيدةْ " ( النجوم ) .
لو قال الأرض البعيدة ، لَمّا كان للمعنى من أثر يذكر ، نظرا لوسائل النقل الحديثة أذابت المسافات .
أيمكننا اعتبار قوله مجازا ؟ . على أساس ان المجاز ظاهرة لغوية تقوم قبل كل شيءعلى نقل الألفاظ من المعاني القديمة الى المعاني الجديدة .
وبخصوص الفكرة فهي جيدة دون شك ، لكن الشاعر يسعى إلى إظهار فكرته ، وكأنه يحثنا على الإعجاب بها ! وهذا مأخذ عليه ،إذا سلمنا بقول بول فاليري : " يجب أن تكون الفكرة خفية في الشعر ، كما هي القيمة الغذائية للثمر " .
لقد قرر الأولون استحالة الخلق من العدم ، في الأدب وغيره من الإنجازات البشرية. وحديثا أوضح أدونيس النظرة الاتباعية للشعر ، والتي ترى أنه كسب لا خلق .
وفي هذا ما يدعم رأينا ان ثقافة سامي مهنا الواسعة المتنوعة ، ساهمت بأن يرقى بقصيدته إلى مستوى يؤكد مصداقية هذه الشاعرية المعطاء .