في رواية مجانين في زمن عاقل لـ مرمر القاسم
بين الكتابة بالحروف و الكتابة بالأرقام للأعداد في المتن السردي ما يحيل على التساؤل ، إذ قد يتهرب البعض إلى الكتابة بالرقم من النحو و ذلك يمكن تجاوزه بإعادة التصحيح ، أو عدم الاهتمام أوان التسرع بيد أن الرواية فعل عاقل متأني ، فهل يكون إعطاء نفس الانطباع اليومي بين النظرة و الحالة و نقله للرواية كلوح تسعيرة للخضر و الفواكه يقوم به البائع بكامل الأمانة يحويه المتن السردي كتيمة تحيلنا إلى ردة الفعل التي نقوم بها و نحن نقرأ الرقم بدل الكتابة بالحروف التي يشغلنا فيها النحو عن المشهد.
تأتي الأرقام في عشرين حالة في مجانين في زمن عاقل للكاتبة مرمر القاسم الصادرة عن دار فضاءات للنشر و التوزيع و الطباعة بالأردن عارية حافية ، و توشك الرواية بدءا على التصريح بعدم أهمية كتابة الأعداد بالحروف و نحن في زمن الأرقام الضوئية :
إلا أنه في هذا الكوكب الترابي اللولبي أصبح ذا أرقام ضوئية لكل رقم خاصية فيزيائية قابلة للقسمة و للربح و الخسارة .
و لعلي أتورط في إعطاء المبرر الفني و أنا الذي طالما كنت أأنف من القول عرب 48 و اقترحت بدلا منها ما أعده أكثر دلالة و أرحم من التجزئة الظالمة و أكثر عمقا في أن نقول : فلسطين العميقة ،
و الكاتبة من مدينة حيفا في فلسطين العميقة تورد الأرقام بمرارتها كما نقولها في يومياتنا و كما تطالعنا بها نشرات الأخبار : 67 ، 48 و قد عنونت بعض الفصول بهذه المرارة : ضفة 67 ، ضفة 48 ، 5-21 ، بيد أنها تكتب بالحروف ما تعلق من أعداد بالحالات العادية التي لا تخص فلسطين وحدها كعمر فرد مثلا : في السابعة و العشرين من عمره ، أو النسبية : لم تتجاوز عشر اشتهائنا ،
نقرأ في مجانين في زمن عاقل :
غير أنه لا يليق بمصاهرة أهل ليالي لكونه من المقيمين في الرقم 67 و حجج أخرى ..
فالقول هنا : الرقم ينم عن امتعاض من هذه التجزئة ، و لو أنها وردت مثلا أراضي الـ 67 لأوحت ببعض القابلية لها كتسمية ، و لو جاءت بالحروف بدل الأرقام لأوحت ببعض التثبيت لها ، غير أن كتابتها كرقم يوحي بالآنية و الزوال كالكتابة بالطبشور سرعان ما تندثر بفعل مسح أو غسيل ، و هو الشأن في القول :
...لكونها منعت من الحصول عليه داخل أراضي الرقم 48 لعدم حصولها على الهوية الإسرائيلية ..
و عودا على بدء نجد الكاتبة تورد العدد في نفس السطر بالحروف حينما يتعلق بحالة عادية تتشارك فيها كل البشرية و هي سن التاجر :
بدأت علاقتهما عام 1997 كانت علاقة صداقة عفوية عادية جدا ، شاب فلسطيني من 67 تاجر في السابعة و العشرين من عمره ...
بينما تدخل الأرقام في ذكر السنة
...إلى أن حدثت كارثة أخرى عندما نفذت عملية اجتياح مخيم جنين في أبريل نيسان 2002 ، مازلت أذكر تفاصيل ذلك اليوم،
و الـ 67 التي أتت لاحقا كعنوان :
ضفة 67 عنوان و ضفة 48 عنوان
هذه الأرقام المرتبطة بتاريخ الاستيلاء و الاحتلال و المصادرة و الهزائم لم ترد لتحمل هذا المضمون فقط ، بل شديد القهر الذي تحسه الكاتبة في خلفيتها التاريخية و يومياتها ، بل و في العلاقة بين هذه التجزئات الرقمية :
...من بين تلك المشكلات أساليب تعامل أبناء الـ 67 مع أبناء الـ 48 و العكس.
وهي هنا تفتح الجرح عميقا و لا يذهبن الحال بالقاريء إلى اعتمادها كتأثيث للرواية فحسب ، فهي الواقع المعاش و الحقيقة المرة التي يتعامل فيها الفلسطيني مع الفلسطيني ، و ممارسة جلد الذات الفلسطينية من باب إحياء الهوية و الأخوة و وحدة الصف أكثر من ضرورة ،
...توقفت مع ليالي في أحد المحال لشراء عباءة لأمي فطلب ثمنها 250 شيكلا ...أخبرها صاحب المحل بأن سعرها 100 شيكل ، تعجبت لأمره فسألته ما السبب و ما الفرق بين العباءتين حتى أدفع ثمنها 250 و هي 100 ؟ فقال أنت من الـ 48 و هي ابنة البلد.
و كم هو مرير العمل ليس على قبول هذه التجزئات فحسب بل و تجزئة المجزأ بكينونات تنسينا كلمة فلسطين و تحيلنا إلى زايب لكل زريبة فيها سلطة و نظرة معاداة لباقي أجزاء الوطن الواحد:
...فإن الداخل الـ67 عمل القادة على تقسيمه و إحباط أية محاولة للمقاومة تجابه بالردع ، من تقسيم الضفة إلى –الضفة السلطة فتح ، و غزة حماس-...
هي المرارة التي تحيل الكاتبة الى الترقيم الذي يدل على السرعة و يقرأ بسرعة أيضا أسرع مما لو جاء بالحروف :
...رغم تقديري الجم لأحلامنا الصغيرة إلا أنني نويت التعرض إليها بوضعها في دورة و نصف الدورة في غسالة أمي الأوتوماتيكية ، بسرعة 800 دورة في الدقيقة ، فليس ثمة ما يشبه الأشياء النقية،
ختاما جاءت الرواية مثخنة بالمعاناة و سيجد القارئ فيها التفاصيل المريرة لحياة الفلسطيني الحاضر يوميا في التأبين الغائب عن ساحته الحب ، و كما كتبت مرمر القاسم لي مرة على ورقة هامشية و كنا حينها بمقهى جفرا بعمان : نفرط في انتمائنا للألم ، لكننا في الحب متقشفون جدا.