" ذكريات عصفورة " تأليف:حميد ركاطة / وقـفـة تـأمـلـيـة : محمد المهدي السقال

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد المهدي السقال
    مستشار أدبي
    • 07-03-2008
    • 340

    " ذكريات عصفورة " تأليف:حميد ركاطة / وقـفـة تـأمـلـيـة : محمد المهدي السقال

    "ذكريات عصفورة"
    تأليف: حميد ركاطة


    وقـفـة تـأمـلـيـة

    محمد المهدي السقال

    * ثمة تصوران يحكمان كتابة القصة القصيرة جدا من السرد إلى اللاسرد:
    أحدهما يحرص على استمرار الارتباط بالرؤية التأصيلية للقصة،
    فيَشترِط لصِحَّتها استحضارَ الحدث والشخصية والحوار و الزمكان،
    مع الاتجاه نحو التطوير بالاستفادة من مستجداتها
    في التعامل مع تلك المكونات،
    من قبيل الإيجاز و التكثيف و الإيحاء و التركيز و التصوير و الإضمار و التلميح و التضمين و زاوية النظر في السرد.

    * أما التصور الثاني فينحاز لفك ذلك الارتباط عبر اتجاهين:
    - اتجاهٍ يكتبها من موقع رفض تشكيلها بآليات بنية النص القصصي أو الروائي، لكونه يمنعها من الوصول إلى هوية نوعية فنية، لكنه يظل مؤمنا بإمكانية تجديد التوظيف الفني لخصائص مكوناتها البنائية و اللغوية، مع مواكبة مستجدات الرؤى النقدية لتلك الخصائص، من قبيل الاشتغال على العناوين و العتبات والتشكيل البصري و الجملة السردية.
    - واتجاهٍ يكتبها من موقع البحث لها عن مصادر وفضاءات تتجاوز نمطية الحكاية وصيغ تأليفها، تحت عناوين تُبقي على جذر القصة، لكنها تصلها بمسميات جديدة تسعى لتأسيس اصطلاحي مغاير، مثل: القصة اللحظة، و القصة البرقية،
    و القصة الذرية، و القصة الومضة، والقصة اللوحة،والقصة الشذرة،و القصة .......
    * بموازاة ذلك، ثمة تصور يرفض تداول الاختلافات حول تعريفها ومكوناتها، وبالتالي يستبعد إمكانية الاشتغال النقدي على قضاياها الشكلية واللغوية، بداعي نفي القول ببلوغ ما يسمى بالقصة القصيرة جدا، مستوى من التخصص و الاستقلالية بفرادة فنية في التأليف.

    اقتضتْ هذا التمهيدَ حاجةُ السؤال عن التصنيف الممكن لمجموعة" ذكريات عصفورة"

    * بداءة، لا بأس من إثارة صعوبة منهجية تواجه التعامل معها، ليس فقط بسبب اتساع مساحة المجموعة و التي بلغت خمسا وتسعين نصا قصصيا،
    ولكن بسبب جرأة كاتبها في توصيف نصوصها ضمن التحديد المعلن عن انتمائها النوعي للقصة القصيرة جدا،
    الشيء الذي يفرض على المهتم بها التزام الحذر في متابعته النقدية، و الانضباط في تعامله معها لمرجعياتها،
    سواء فيما يُتداول من تنظيرات لها،
    أو فيما كُتب حول إبداعاتها من تحليلات و تطبيقات،
    على خلاف ما ورد لدى البعض من تصنيفات لنصوصهم من خارج النوع،
    إما لعدم اقتناعهم بالانتماء مع شعور برضاء بسيط عنها،
    و إما استباقا للنقد بما يضيق عليه مجال الاشتغال بالتعويم،
    وبالتالي تلافي الحكم لها أو عليها من منظورات تحديد النوع بصريح النسبة للقصة القصيرة جدا، فيرِد تصنيفها ضمن " نصوص سردية" مثلا.
    * فهي أولا قصة من حيث قيامها على الحكاية بالتخيل لحدث أو موقف أو رؤيا،
    فيفترض فيها استحضار عناصر الفعل الحكائي من حدث شخصية في الزمان والمكان.
    * وهي ثانيا قصيرة، باعتمادها نسقا في التركيب الفني باللغة، فيفترض فيها التكثيف والتضمين و الإيحاء بعد تجاوز ما يتحقق للقصة الطويلة من استرسال واستطراد وتفصيل.
    * وهي ثالثا قصة قصيرة جدا، بانتهائها إلى أقصى الاختزال غير المخل، بعد الحرص على تمكين الإبلاغ بصيغتها المركزة، للوصول إلى ذلك الإقناع بمشروعيتها في الخطاب السردي بما يستدعيه من إمتاع.

    * هل انسجمت مجموعة " ذكريات عصفورة"، مع مقتضيات النوع السردي المعلن عنه، وما تستحضره من آليات صارت من صميم تشكيلها البنائي والفني؟
    تساؤل عريض أزعم أنه صعب المقاربة في إطار القراءة العاشقة توسلا بالنقد،
    لذلك حصرتُ اهتمامي بالمجموعة من خلال:
    المجموعة / الطبعة/ المجموعة العناوين / المجموعة من وجهة النظر إلى زاوية النظر.

    المجموعة / الطبعة:
    *
    شغلت المجموعة بياض مائة وسبعة وثلاثين صفحة من الحجم المتوسط، أخذ منها خمس وتسعون نصا مساحة مائة وست صفحات، بينما توزعت الباقي مؤثتات المجموعة قبل النصوص، من توثيق و وعرض نقدي حولها و إهداء و تقديم وكلمة للمؤلف أو بعدها من تعريف بالسيرة الإبداعية للكاتب وختم بالفهرس التفصيلي لعناوينها و ترقيم صفحاتها.
    * يلفت الانتباه في هندسة إخراج المجموعة، تسبيق قراءة تحليلية للمجموعة تحت عنوان "شعرية القص وغواية الحكي" للناقد العراقي د.جاسم خلف الله، على التقديم المخصص لها من طرف الناقد المغربي د.محمد رمصيص.

    *
    بدت القراءة مُقحمة لا مبرر لها، بحكم ما يمكن أن تسبِّبَهُ من تشويش على التلقِّي الإمتاعي، بعد فرض رؤية قد يُفهم منها التوجيه الإقناعي بالقراءة المدرجة، إلا إذا كان الباعث على حضورها مساهمةَ من الكاتب في الاستئناس باشتغالها، بعد الاطمئنان لإصابتها أقصى ما راهن عليه في كتابته للقصة القصيرة جدا.
    * ثمة ملاحظة أخرى لا بأس من إثارتها، تتعلق بترتيب النصوص وفق ما تضمنه فهرس محتويات المجموعة، فقد وردت عارية من أي ضبط للأمكنة أو الأزمنة التي ارتبط بها التأليف،
    الشيء الذي يلغي إمكانية تساؤل القارئ عن المسار الزمني الذي استغرقته، بحثا عن الخيط الناظم لتطور الكتابة القصصية القصيرة جدا عند الكاتب حميد ركاطة، بالرغم من حضور أكثر من مؤشر يجد صداه في المتداول إعلاميا من قبيل الأحداث التي يحبل بها الواقع اجتماعيا وسياسيا.

    *و اتصالا بما عرفته مجموعة " ذكريات عصفورة" من اهتمام على مستوى الحضور في لقاءات التوقيع، يلاحظ شـُـحٌّ في نشر المعالجات النقدية ذات الصلة، عدا ما جاء على سبيل التقديم بورقات محتشمة، تقف عند التغطية العامة، دون بلوغ مستوى الاشتغال المتفرِّغ لها نقديا.
    (سأعتذر عن قصوري في مواكبة ما كـُتِب عنها إن ظهر ما يثبتُ العكس).

    * هل يرجع ذلك لعلة في ذات المجموعة، باعتبارها لم تحقق ما يكفي من الإغراء بقراءتها دراسة و نقدا؟
    ( إغراء بالإخراج المكتمل بعد الحرص على تلافي معيقات القراءة المستقيمة/ و إغراء بالتجديد في بنية النص القصير جدا جماليا ودلاليا)
    * يندرج عندي غيابُ الإغراء بالإخراج، ضمن جملة ملاحظات تتصل بالطبعة، من قبيل تغييب علامات الترقيم، بالرغم من أهميتها في تشكيل التعبير باللغة في النص السردي،
    فهي ليست فقط علامات مرور و إشارات تنبه إلى مواقع الفصل والوصل
    بين الجمل، كما أنها ليست محطات للتوقف لاستعادة النفس بعد استرسال، و إنما هي أيضا جزء لا يتجزأ من وسائطِ بلوغِ الكتابة جمالية في التأليف، باعتبار ما تحيل عليه في رسمها من معان تؤديها ضمن سياقاتها،كالاستفهام والتعجب الاقتباس الشرح والتفسير و السببية .
    * في البداية، اعتبرت
    ُ ظاهرة القفز على علامات الترقيم جزءا من اختيار الكاتب في هندسة النص، من قبيل ما صار مألوفا لدى البعض، حين يتعمدون خلق فراغات بالبياض و الحذف، لما يجدون فيها إمكانية تحقيق بُعد في الدلالة، وغِنى في التحفيز على التلقي المشارك في بناء المعنى أو رسم الصورة، انسجاما مع ما تقتضيه العبارة من تتابع و اتصال بين مكوناتها.
    * و قد كاد التركيز على متابعة وضعيات غياب تلك العلامات الترقيمية في نصوص المجموعة، أن يفضي إلى الاقتناع بأن الأمر لا يعدو أن يكون من تبعات الإخراج عند النشر، مثله في ذلك، ما أصاب الطبع من محو بعض الحروف في أول السطر أو سقوطها وسطه،
    إضافة لما عرفته كلمات و جمل من تقطيع إلى حروف منفصلة دونما داع دلالي أو جمالي يبررها في رأيي المتواضع،
    لولا إقرار الكاتب حميد ركاطة بقصدية ذلك التغييب، ضمن تعليقه على الملاحظة خلال إلقاء هذا العرض بحضوره، و هو ما سيكون موضوع مساءلة منفصلة لاحقا على سبيل الاستدراك للمستجدِّ.
    * أما شـُحُّ التفرغ للمجموعة نقديا، خارج فضاءات الاحتفاء والتوقيع، بعلة غياب الإغراء بالتجديد، فليس وارداً في تصوري، إلا إذا قُرئ من زاوية عمق أزمة التعاطي النقدي الجاد مع القصة القصيرة جدا، لاعتبارات لا مجال لاستعراضها أو مناقشتها ، من قبيل الاتجاه الانتظاري في النقد، بدعوى حاجته إلى تراكم كيفي في إبداعها بصفتها النوعية، بعدما صارت القصة القصيرة جدا مترهلة بمشاعها وشيوعها، فأمست عاجزة حتى عن مواكبة ربيبتها في الومضة و الشذرة.

    * علما بأن الكاتب "حميد ركاطة" حاضر بقوة في الساحة الأدبية ضمن الكتاب باللغة العربية إبداعا ونقدا و حوارات، بحيث يشكل رقما لا يمكن تجاوزه في معادلة التداول حول المنجز القصصي المغربي.
    المجموعة / العناوين:

    * وصفيا، يمكن التمييز بين ثلاث مستويات لوضعية العنوان في المجموعة:
    * ما يأتي دالا بصيغته على مضمونه، تصريحا حينا و تلميحا حينا آخر. ( ثعالب/محنة / راديو المدينة/ مروءة / فخ / بائع الأوهام ).
    * ما يأتي متصلا بلفظه حرفيا من منطوق النص، كلا أو بعضا، مع حفظ التطابق بين لفظ العنوان و مضمون النص( مقام الجنون : كيف أدخلتني مقام الجنون؟ / خرافة : أتممت خرافتي/ شيطان طيب: لكنه ظل شيطانا / ثقب : من ثقب سري / نذر: و نذرت جسدها / حب لأية معادلة : حب هذا بأية معادلة ؟ / الجدار: ما الفائدة من بناء جدار / - almaati Echec/ أوصيك خيرا بالأزهار: أوصيك خيرا بالأزهار/ سلة المهملات : ألقت به في سلة مهملاتها / المسخ : أنت مجرد مسخ.
    * ما يأتي منفصلا ظاهر القيام بذاته، لكنه بالرغم من تجريديته أحيانا، يبقى متصلا بالمتن على الإحالة من حيث معناه أو رمزيته (حي و ميت/مروءة / سريالية / فوبيا / ليلى / الجرافة / انفصام /
    GAME ). *يطرح تشكيلُ العنوان سؤال القيمة الدلالية و الفنية لاختيار توظيفٍ بعينهِ يتقصَّدُهُ الكاتب في المجموعة، على الأقل من زاوية ما يثار في الحقل التداولي حول مستواه التغريضي و أدائه الإبلاغي للرسالة،
    *
    و أزعمُ على سبيل الشك في وقفتي التأملية عند العنوان في مجموعة " ذكريات عصفورة "،
    أن العناوين بالرغم من تنوع مستوياتها، كما توحي بذلك متابعتها الوصفية تبقى أحادية الاتجاه في مكاشفة المتلقي بمضامين المتون، وما ستحيل عليه من حدثية حينا و تصورات حينا آخر، بحيث يتم الاتكاء عليها كقنوات مساعدة على توجيه القراءة تحقيقا للانسجام مع الخبر، أكثر من استهدافها إشراك القارئ في الممكن من احتمالات التأويل، و ما يتيحه العنوان من
    امتدادات في وعي القارئ بالنص و تذوقه الفكري والجمالي ( أبريت الربيع العربي/ من يوميات شيخ قريتنا / قد يفعلها الحب ..)
    *
    يبقي الإشكالُ المُعلق حول إقحام عناوين بالفرنسية أو الانجليزية لنصوص مكتوبة باللغة العربية خارج المساءلة،لأن الاقتصار على البياض دونها، ربما كان سيكون أكثر دلالة من حضورها .
    *
    هل وجدَ الكاتبُ في صيغها باللغة الأجنبية تمثلا أقوى في الدلالة و الإيحاء من أصولها بالعربية، بعد الإقرار بالعجز عن وجود الكلمة المناسبة، لتجاوزها؟
    أم أن الإشارة كانت واضحة باستهداف فئة معينة بالتلقي، يفترض فيها التعرف على الأقل إلى لغتين بعد العربية ؟
    و إلا ماذا تضيف الترجمة إن لم نقل ماذا يضير العنوان أن يكون: الساعة واللعبة و لعب ممنوع و كافكا؟

    *
    علما بأن ورود كلمات بتلك اللغات، يمكن أن يكون مقبولا و مستساغا ضمن سياق حواري فرضا، يمثل فيه أحد الأطراف انتماءا أو استلابا. L’horloge/ Kafka / Game / SILENCE ON TOURNE / Overdose / Echec maati / Toys /Jeu interdit.
    *
    بمتابعة سبع وثمانين نصا، بعد استثناء العناوين بالأجنبية(8)،
    لوحظت هيمنة صيغة العنوان بالمفرد (اثنان وخمسون نصا):
    (نرسيس/هوميروس/ ليلى/ رباعيات/ الحربائي/ محنة/ مروءة/ فوضى/ هولاكو).
    وما لحق به موصوفا ( شيطان طيب/ وجبة خفيفة/عمر المختار)،
    أو معطوفاً ( الممحاة والأقلام/ قيس والكتب/ الصغير والبهلوان/ حي و ميت).

    *
    وإذا كان العنوان المفرد حمَّالَ أوجُهٍ باعتبار تعدّدِ إحالاته التاريخية أو إيحاءاته الرمزية، بحيث قد تجد في العنوان الواحد مفردا، نصا مفتوحا ينجح في استدراج القارئ لتخيلات و تصورات ترتبط بوعيه الأدبي أو مخزونه الثقافي والفكري، فيشارك المبدع مصادر استلهامها من واقع موضوعي أو تاريخي، أو من متخيل قصصي أو أسطوري.
    *
    فإن العنوان المفرد موصوفا أو معطوفا، يَمنعُ ذلك الانطلاق في التأويل، برهن وجوده في حيز ضيق يفرضه الكاتب، فلا يقف الأمر عند الوقوع في مباشرة أو تقرير يقوم فيهما العنوان بوظيفة الخبر عن، بل يتعداه إلى إعاقة بلوغ لذة اكتشاف النص عند تلقيه عاريا من هكذا وصف أو عطف.
    *
    ويأتي في المرتبة الثانية إحصائيا العنوان الجملة، (خمس وثلاثون نصا ).
    منها اثنتان، جملتهما حقيقية بالفعلية: ( أوصيك خيرا بالأزهار/ قد يفعلها الحب). و اثنتان جملتهما حقيقية بالاسمية: (الفتنة ألذ من القتل/الموت تلك الأسطورة).
    أما باقي العناوين، فقد توزعت بين شكلي الجملة:

    *
    تركيباً بالإضافة:( رجل النبيذ / إعادة التأهيل / صلاة جنازة / ثورة العبيد / كأس الحكاية / ذكريات عصفورة / موت الديك / حكاية قطار/ سيد النمل / سر الغواية / بوابة الحارة / ولد المجنون / سيادة المتسول/ سفير الآخرة/ بائع الأوهام / سلة المهملات / حارس الظل / تفسير الأحلام/ لقاء المتحضرين/ حقل ألغام / راديو المدينة / لعبة النسيان / مقام الجنون / حوار العربة والكراسي / روح المواطنة / أوبريت الربيع العربي).
    *
    أو تركيبا بشبه الجملة بحرف جر: (في حضرة الشباك الأوتوماتيكي/ يوم في مذكرة/ الغارقون في الجحيم) * أو بالظرف، مريض فوق العادة / بين زهرة الياسمين وزهرة اللوتس).
    *
    إذا كان يقصد بالجملة الحقيقية، ذلك التركيب اللغوي التام المعنى بذاته، باستيفائِه التركيب الإسنادي المفيد بالوضع. فإن التركيب بالإضافة أو بشبه الجملة،، لا يرقى إلى مستوى إفادةِ معنىً بتشكيله من مضاف ومضاف إليه، كما تدل عليه الجملة الاسميةً أو الفعلية، بسبب غياب الدَّلالةِ في بنية الكلام، ما دام السكوت عند التركيب الإضافي غير ممكن، بحيث يبقي المضاف إليه مُتعلقا بحاجته لما يُخْبَر بِهِ عن مُضافه.
    *
    ولعل إمكانيات التحليل السيميائي للعناوين المركبة أوفر منها في العناوين المفردة، باعتبار ما يقيد هذه الأخيرة من إحالاتها على مرجعية في التاريخ والفلسفة و الأسطورة، بينما تكون دلالة المسكوت عنه بالحذف أقوى من الدلالة بالخبر، من حيث قابليتها للتأويلات المنفتحة على أكثر من قراءة. المجموعة / من وجهة النظر إلى زاوية النظر:
    * سيتم هنا تقديم وجهة النظر على زاوية النظر(الرؤية السردية) في مقاربة مجموعة" ذكريات عصفورة"، لما ظهر من انشغال لدى الكاتب برصد نبض المعيش في حياة الفرد والمجتمع بمختلف تجلياته في الواقع بأوسع معانيه ومجالاته، رغبة في تمرير رسالة/ صوت، يجد نفسَه مسؤولا عن الصدح به عبر القناة الممكنة لديه فنيا، وهي الخطاب القصصي القصير جدا، سواء حكَى من الواقعيّ معاينة ومعايشة، أو من التخيليّ تأملاتٍ و تصورات، من أجل الارتقاء بالحكاية عنه إلى مستوى التمثل الإنساني لمعاناة الوجود الممتد في التاريخ.
    *
    يمكن لمْسُ وجهة النظر باعتبارها بوصلة الوعي المحَرِّكِ للكاتب بمرجعياته الفكرية والسياسية والاجتماعية، على خلفية هواجسَ وجودية، لا يشكل المبدع حميد ركاطة استثناءاً في النهل من رصيدها، لكونها من المشترك الإنساني. *و سيوظف الكاتب لتجسيد زاوية النظر أو الرؤية السردية أصواتا تحيل عليها ضمائر الحكي في وضعيات سردية متنوعة بين المتكلم والغائب والمخاطب، أو بين ما يصطلح عليه تعميما بالأبعاد الثلاثة لوضعية الراوي/السارد، للتواري خلفها بحيث تقوم مكانه والنيابة عنه في مكاشفة العالم بتفكيره وموقفه ورؤيته لمختلف نواحي الحياة الإنسانية في ذاته أو في المحيط الفاعل في وجوده النفسي و الثقافي.
    *
    و يبدو جليا اشتغال المؤلف على تنويع مقامات الراوي/ السارد بتنوع ضمائره في الحكي، من زاوية نظر بانورامية متعددة الإسقاطات مما تلتقطه العين أو تتلقفه الأذن، بحيث يكون لهذا التنويع أثره في كسر أفقية الحكي بما يخلقه من توتر لدى المتلقي.
    * و ارتباطاً
    بحمولة وجهة النظر و ما استدعته من زوايا النظر/ الرؤى السردية، لا بأس من إثارة ملمح متميز غلب على انشغالات المبدع حميد ركاطة في مجموعته" ذكريات عصفورة" وقد تمثل فيما يصدر عنه في كتابته، حين تكون المرأة موضوعا للحكاية.
    *
    إن القارئ،لا يفتأ أن يشعر لأول وهلة ببعض من الاشمئزاز والامتعاض من الصور التي ركز عليها الكاتب في رصده لوضعياتها في الحياة الاجتماعية، فهي باستمرار امرأة تمارس كينونتها بمقايضة الجسد عملة لحفظ وجودها المادي في مواجهة عوامل الإقصاء،
    بل يبدو له أن المؤلف سائر في اتجاه واحد، هو تقديم المرأة معادلا للشر والغواية والرذيلة والمكر و الخداع و العري، يمكن ربط صورتها التي صارت نمطية في المجموعة، بلوحة الغلاف الأولى، والتي تتصدرها امرأة عصرية تلقي بظهرها للناظر إليها، بينما هي تخطو حاملة مظلة وسط طريق يغلب على فضائها الليلي لون الإشراق (
    ما يقرب من أربعين نصا حول المرأة: الفتنة ألذ من القتل/تفسير الأحلام/ OVERDOSE/ مجلة / سلة المهملات...).
    *قد يوحي التأمل في توظيف الكاتب لتلك الصور الكاريكاتورية عن المرأة، بكونه يصدر فيها عن وجهة نظر تفَجِّرُ إِراديا ترسّباتِ النظرة الدونية للمرأة في وجودها السلبي،
    لكن التأمل نفسه قد يذهب إلى تفسيره باعتباره إدانة ضمنية لعوامل انحدارها وسقوطها في المجتمع الأبيسي المعاصر، بدليل حضور هش للرجل، لا يكون فيه إلا تابعا بسبب عجزه عن مجاراة نوازعها حين تستفرد به، وإلا فأين تلك النماذج المشرقة للمرأة الإنسان من خلال تجسيدات الأمومة و العشق و النضال، والتي ظلت مغيبة في نصوص المجموعة؟.

    *
    أما بعد، فبالرغم مما تم تجاوزُهُ قسرا على التأجيل في هذه الوقفة التأملية مع "ذكريات عصفورة" لمبدعها الكاتب والناقد حميد ركاطة، فإن ثمة نقطة يصعب تجاوزها، تتصل بغياب ما يصطلح عليه في الكتابة السردية بتيار الوعي الذاتي في نصوص المجموعة، زعما بأنها لم تبد منشغلة بتوظيف هذا المكون في نصوصها، رغم استدعاءات بعض المواقف للتداعي الانسيابي و الانفلات لما يمكن أن يؤول إلى الصدور فيه عن اللاوعي اختيارا، فبقيت نصوصُ المجموعة في عمومها خاضعة لهيمنة تحكُم الكاتبَ في مساره السردي وبنائِه الفني بحضور تيار الوعي الموضوعي.
    *و أزعم أن غياب تيار الوعي الذاتي بمستواه الانفلاتي عن المجموعة، إنما يرتبط برؤية الكاتب للقصة القصيرة جدا، من موقع اشتغاله النقدي بقضاياها و إشكالاتها، مع ما يحمله لها من عشق كبير عبَّر عنه في أكثر من حوار و مناسبة.
    *
    ولعلَّهُ بذلك التغييب، إنما يقصد الاحتفاظَ للقصة القصيرة جدّاً بهوِيَّتها السَّرديَّة، الحكائية، من حيثُ اعتمادُها على الحكاية منطلقا، مع تفاوت في التوظيف الفني لمكونات القصة في تشكيل نوع القصة القصيرة جدا.
    وهي الرؤية نفسُها التي تحكمت في اختيار انتماءٍ مُحددٍ لنصوص مجموعة "ذكريات * عصفورة"، فكان الكاتب حميد ركاطة منسجما مع تصوره لها، حين أعلن عن تسميتها بقصص قصيرة جدا، حتى لا يلتبس التصنيف على من يخلطون بينها وبين الومضة و الشذرة مثلا.

    *
    فإذا كانت القصة القصيرة تمتح من الحكائي في صياغتها السردية، بحيث تبقى لصيقة بالأدب الوصفي أو الإنشائي.
    فإن الشذرة تمتح من رحيق التأمل الفلسفي والتفكير الوجودي مصدرا لإلهامها، دون انضباط لقوانينَ أو في بنائها الفني و تعبيرها اللغوي، ليكون الخروج عن النمطية و النسقية، مقدمة كلِّ تشكيل لوجودها.

    ***********


    * " ذكريات عصفورة " قصص قصيرة جدا.
    المؤلف : حميد ركاطة الطبعة الأولى: دار الوطن 2013

    " مُـجَـرَّدُ كَـلاَمِ عَـجُـوزٍ لَـمْ يُـدْرِكْـهُ الْـبُـلُـوغ "
يعمل...
X