لا أنت رأيتنا ولا نحن رأيناك:عبد الحميد الغرباوي ج 4 محمد المهدي السقال

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد المهدي السقال
    مستشار أدبي
    • 07-03-2008
    • 340

    لا أنت رأيتنا ولا نحن رأيناك:عبد الحميد الغرباوي ج 4 محمد المهدي السقال

    من الإيهام بالواقع إلى الإيهام بالحلم
    أو
    القصة الذهنية
    فيالمجموعة القصصية الجديدة:
    " لا أنت رأيتنا ولا نحن رأيناك "
    للسارد المغربي عبد الحميد الغرباوي.
    محمد المهدي السقال

    ج 4

    تبدأ القصة السابعة " الخروج من المرآة "، بحوار السارد النفسي متسائلا عما حدث " له " متكلما و" لها " مخاطبة على الإفراد، قبل الاستدراك بالسؤال عما وقع لهما على الجمع بعد تحقق اللقاء بينهما، دلالة على قوة المشترك الحدثي بينهما، إلا أنك لن تقبض على وقوع حدثي في الزمان والمكان مما يمكن ربطه بظرف واقعي أو تخيلي، لأن الإحالة فيه على غوصهما معا في المرآة نفسها على الاشتراك فيما يحسان به إزاء بعضهما البعض
    .
    يتوجه السارد بالخطاب إلى مؤنث مستفهما عما حدث لها، و دون انتظار جواب، يعيد الاستفهام عينه على نفسه ، قبل الاستدراك بالتساؤل عما حدث لهما معا، لدرجة لهاج كل منهما باسم الآخر، و سيشتغل النص على الحوار الأحادي المصدر لمكاشفة الذات قبل الآخر، بما يعتمل في تكوينها النفسي بمستوييه الشعوري واللاشعوري، و هي أبعدُ في التمثيل على القصة القصيرة، حين تكون سردا مشتغلا على الذاتي المغلق، قريبا من الحكاية عن هواجس القلق الوجودي ( يعول على القارئ في تحديد طرفيْ الحوار، في غياب أي وصل بعوارض القول أو تخصيص لجهة معينة يصدر عنها ذلك القول).ستغيب الشخصية الواقعية أو التخيلية بمفهومها العام في السرد القصصي، لتحضر الشخصية الذهنية بحمولة وعيها بذاتها عبر ثلاث محطات، يمكن فهم طبيعتها استئناسا بما تروجه المقاربة الفرويدية لبنية الجهاز الدماغي، بصيغته الثلاثية : الهو/ الأنا الأعلى / الأنا، على افتراض أن القصة بلسان السارد عن نفسه، ليست في النهاية سوى تركيب فني لانشغالات وعي الكاتب نفسه بوجوده الذاتي والموضوعي بين الاختيار والاضطرار، قبل وبعد الخروج من تلك المرآة.يمكن توزيع القصة إلى ثلاثة مشاهد سردية، تبدأ بالحكاية عن واقع اللقاء المتناغم بين مكوني "الهو" و " الأنا" في الوجود الإنساني الفردي، بعد التماهي مع حلم الإقامة في الحلم، حيث تحقق الركض و الرقص والشدو، بعيدا عن تدخل رقابة "الأنا الأعلى" و إلزاماتها بالانضباط حتى لما يخالف الطبع الإنساني في مستواه الأصيل. غير أن الذات المستحلية وجودها على هامش الواقع بإرادة الانفصال عنه، ستجد نفسها مطالبة بالتفاعل مع محيط يلفظها من موقع لا يقف عند عدم تصديق ما هي فيه من سمو وعفة ونقاء وبهاء، بل يمارس ضغطه عليها بالتلصص و استراق سمعها، فلا يكون للسارد بوجوده الثنائي المتكامل داخل المرآة سوى خيار الخروج منها وبالتالي الخروج من الحلم والنزول إلى الأرض، بعدما تنكر لها و هو في أوجه توهجه داخل المرآة.ويكون ختم الرحلة من السماء إلى الأرض في حياة السارد، ذلك التمني بأن لا تكون البوابة قد أغلقت لتجديد العودة إلى الداخل عقب تضخم الشعور بإلحاح الرغبة في استعادة جمال الانفصال عن الواقع في حضرة الاتصال مع حقيقة النفس " يدا في يد ".هل جاءت القصة بعنوانها "الخروج من المرآة"، لتقدم شكلا مغايرا للتمرئي القائم على الدخول إليها وليس على الخروج منها، بعد خرق المألوف في التعامل مع المرآة، و هو انعكاس الذات من الخارج إلى الداخل لاكتشاف وجهها الآخر، عن طريق الاستبطان و الاستقراء، و بالتالي كسر حاجز الفصل بين "الأنا الموضوعي" و ما أعبر عنه بـ "الأنا الذاتي"، باعتباره الجزء اللاحق و المكتسب للهو" بعد تخطي عتبة الغريزي في الإنسان، عسى أن يكون سؤال الاتصال والانفصال بين الرغبة اللاواعية وبين إكراهات المنع والإحباط، قاعدة البحث عن معنى للتوازن في مواجهة الصدام والتناقض.تقمص السارد بضمير المتكلم، شخصية المعني بذلك الحوار النفسي من خلال تقنية التمرئي، لتصوير تجاذبات تيار الوعي الموضوعي المنعكس عن واقع "الأنا"، والتداعي الذاتي المنبعث من اللاوعي في منطقة "الهو"، لكن ليس بأصله الغريزي الموصول بالفطرة، بل بما صار مكتسبا في ذلك اللاوعي، من عمليات ذهنية تنتج الرؤى و المفاهيم المتعارضة مع منطق وأخلاق والواقع، حين تصير المواضعات المتداولة بعيدة عن تجديد القيمة الإنسانية للكينونة الغائبة. في حضور الشخصية الذهنية بتشكيل وجودها النفسي الثلاثي الأبعاد كما تصورتها القراءة، يمكن الحديث عن بناء نص" الخروج من المرآة"، على التأمل في صيغة ممكنة لتجديد المصالحة مع الذات عبر التمرئي في الحلم، بالدخول ثانية في المرآة، بعد استحالة التواصل خارجها، بسبب فشل الاستجابة والتجاوب، و هو تأمل لا يخلو من صراع، إلا أنه لا يرقى إلى ذلك المستوى من الصدامية بعمقها الدرامي بين " الهو" و " الأنا" بامتدادها في " الأنا الأعلى"، بحيث توقف عند الشخصية الإشكالية من الداخل الذهني، دون دفعها إلى تصعيد الصدام مع الواقع.هل كان الخروج من المرآة بدافع الرغبة في الانفلات و التحرر من معاناة كينونة الذات الموزعة بين حلم النوم و حلم اليقظة؟ حلم مطلق الانفصال عن العالم في اللاوعي، و حلم إمكانية الاتصال بالإرادة، دون التنازل عن مثالية " الأنا" في مواجهة رقابة الواقع في شخص " الأنا الأعلى"،إذا صح ذلك، فإن القصة تصور عمق إشكالية التنازع داخل النفس الإنسانية، بين ما تريد وما لا تريد، شعوريا أو لاشعوريا، باعتبارها الخلفية الفكرية التي تحكمت في أكثر من موقف لشخوص المجموعة.يظل الكاتب، مصرا على اعتماد البنية السطرية في التعبير، بلغة ينتقي مفرداتها من معجم الحالة الوجودية لشخصية السارد، (الحلم 7/ المرآة 5 / الطيف5 / الداخل 5 / الخارج6 / الاستفهام8 / التعجب 4/ البوابة6/)، فيستغرق السطر جملة سردية تصويرية للحظة في حركيتها ضمن سياق تنامي القصة: "كل الأصوات من حولنا لم تكن سوى تهويمات، دندنات، والوجوه مجرد خيالات ممسوحة القسمات.. " / " بدل الاختناق أحسسنا بانتعاش، كما لو سائلا نورانيا صب في داخلنا مزيلا كل ما علق بنا من أدران و أوساخ.." /" وعندما تضاء حبابات الكلمات و تتوهج في دواخلنا،نجلس نكتب قصصا، ننظم أشعارا، و حولنا تجتمع فراشات و عصافير و حيوانات من ضوء لتنصت، في طقس عجائبي، مشدوهة، إلى حكاياتنا وقصائدنا..."/ " وهكذا خرجنا من الحلم، في مساء والسماء متدرجة بشكل مستو للغاية، كما لو أن ريشة فنان رسمتها، من الأفق حتى السمت بدرجات من الأبيض والأزرق.." كما يقف السطر عند الجملة الفعلية بمضارع لازم لا يتعدى إلا إلى الحال، مثل:" نركض " - " نرقص" - " نشدو/ أو بحرف مثل:" بلى" - " ربما "/ أو بشبه الجملة بالظرف و حرف الجر: ذات يوم/ إلى الداخل، مع تجدد ملاحظة انضباط الكاتب لمستلزمات القواعد النحوية والصرفية قبل التركيبية، نظرا لاستمراره في توظيف الجملة المتقطعة بحيث تتحول من أفقيتها في بنية اللغة العربية إلى عمودية سطرية أقرب إلى التشبه بتنسيق العبارة في الشعر الحر.اتخذت القصة الثامنة في المجموعة العدد 9999 عنوانا لها، دون وجود ما يؤشر في النص على احتمال دلالة أو إيحاء، علما بأن العنوان القصصي بلغة الأرقام لمنافسة لغة الحروف بالكلمة أو الجملة، لا يستقيم إلا إذا كان يحيل على حمولة تجد مرجعها في الدين أو الثقافة أو السياسة أو العلوم، بحيث يصير العنوان بالرقم العددي أكثر دلالة و أبعد في الرمز و الإيحاء على حدث أو شخصية أو زمكان.بعد الوقوف في مطلع هذه القراءة، على احتفاء الكاتب عبد الحميد الغرباوي بالعدد (9)، تصورت إمكانية الامتداد لبنية العنوان بالعدد "9999"، باعتباره رقما كاملا بصورته أو تكرارا لوحدته، فبحثت بما وسعني من الجهد بين المظان، عسى أن أجد مدخلا مما يمكن أن يكون له وجود أو صدى في الذاكرة التاريخية الإنسانية، غير أني بعد فشلي في الوصول لما يمكن الاستئناس به في فهم أو تبرير اختياره لذلك العنوان، عدلت عن أية محاولة للربط بينه وبين النص، رغم غلبة ظني بأن اختيار الكاتب لا يمكن ان يكون اعتباطيا، بعد لمس اهتمامه بقيمة عناوينه كعتبات دالة على قصصه. لقد كانت هذه القصة بالذات، مصدر تفكيري فيما انتهيت إلى تصوره خاصية متفردة في الكتابة القصصية الغرباوية من خلال مجموعته" لا أنت رأيتنا ولا نحن رأيناك"، و أعني تقنية الإيهام بالحلم في البنية السردية القصيرة.تنطلق القصة في مشهدها الأول من لحظة استيقاظ "الهو"على كابوس حلم مزعج في التوقيت نفسه فجر كل يوم، لاستئناف حياته الاجتماعية والمهنية، لكنه يبقى متأثرا بما رأى، فيتذكر وهو الشارع أنه نسي ساعته فوق المائدة قرب سريره، كما نسي تشغيل حاسوبه لمتابعة علبة رسائله في "الفيس بوك" أو استدراك تعديلات الرسوم التي يشتغل عليها، و حتى حين عودته مساء من مكتبه، ظل مضطربا في بيت " يعمه صمت رهيب"، لم ينقذه من وحشته سوى استجابة حاسوبه أخيرا حين " ضغط على وثيقة من وثائقه التي يكتبها ويحتفظ بها فانفتحت، شعر بارتياح خفيف، قرأها بشكل لاإرادي، كانت خطابا موجها إلى أحد الأصدقاء، يستنكر فيها تصرفات بعض النماذج من البشر، التي لا تعمل وتكتفي بالتشكي والتظلم".قبل استعادة ذلك الكابوس الغريب بمتنه الحكائي كما عاشته الشخصية في نومها الليلة ، فانفزعت له عند استيقاظها مضطربة لدرجة أنساها ضغطه حتى عاداتها، لا بأس من وضع القارئ أمام طبيعة المعني بالحلم، لاعتقادي بأهمية ذلك في تفسيره على أساس وجود سياق تحكّمَ في طفوه من اللاوعي في المنام، فهو في النهاية كما قدمه السارد، إنسان بسيط يعيش حياته الاجتماعية و المهنية بشكل عادي، ولا يختلف عن فعاليات محيطه الثقافي سوى في تلك الرؤية النقدية لهشاشة الوعي بالتحولات في المحيط سياسيا، ممثلة في " تصرفات بعض النماذج من البشر، التي لا تعمل و تكتفي بالتشكي و التظلم..".غير أن انتقاده سينصب أكثر، على تلك النخبة الطليعية، وهي تعبر من منطلق وعي زائف، عن مشاعر الإحباط من عدم الوصول إلى تلك الثورة المنشودة لتغيير الأنظمة الاستبدادية، في غياب وعي حقيقي بالنسبة إليه، يرى أنها " لا تدري أن البديل سيكون أكثر استبدادا لأنه كان أكثر جاهزية من الناحية السياسية، فقفز على السلطة دون عناء وفاز بالغنيمة بينما دفع الثمن الباهظ آخرون من البسطاء الحالمين بدولة القانون و المواطنة و المساواة والعدالة الاجتماعية".تبدو الشخصية بهذا المنطق في التفكير، تعبيرا عن اتجاه ثقافي وسياسي سائد أو يراد له أن يسود، من منظور تبسيطي للحالة المعقدة في الواقع بتطورات أحداثه، فيحتكم في تقييم مسار التحولات من خلفية النتائج الظرفية، دون استحضار التاريخ الإنساني و معاناة الشعوب قبل الانتهاء إلى نجاح ثوراتها ضد الظلم والطغيان، على الأقل من زاوية نظر تؤمن بمعنى مقولة" الثورة تأكل أبناءها".أمام هذا التباين في المواقف والرؤى من إشكالية التغيير السياسي بين شخصية القصة و "الآخرين"، و ما يمكن أن يتشكل لدى القارئ من اختيار ينحاز فيه لاتجاه دون آخر، قد يبدو واردا و بإلحاح ذلك التساؤل عن موقع كابوس الحلم من السياق، منظوراً إليه من زاوية تعبيره عن صدى تيار الوعي لدى كاتب القصة متواريا خلف بالسارد، عن طريق الإيهام بالحلم كما أزعم، مادام بطل القصة قد " رأى فيما لا يراه نائم"، كابوسا مفصلا بجزئيات لا يمكن أن تمسك بها سوى اليقظة بإحساسها و إدراكها الواعيين، وليس ما يراه النائم في العادة والمتداول، من مقاطع يغلب عليها الانفلات و التشتت وصعوبة بل استحالة إعادة تركيب تناميه. رأى الرجل" امرأة مسنة تبدو في غاية الطيبة،تستدرجه للكلام، في مكان غير واضح المعالم، وفي زمان لم يتمكن من تحديده بالدقة اللازمة"،و ستنجح العجوز في استمالته لتناول شراب منعش، لكنه " ما أن أفرغ كل محتوى الكأس في جوفه، حتى أحس بخدر لذيذ" ، شعر خلاله بأنه يفقد وعيه بين يديها "غير آبهة بترنحه وسقوطه أرضا"، ولعل حضور المسنة بصفتها الأنثوية يشي باتجاه الحلم نحو تهيؤات كثيرة في تصور القارئ، أبسطها ما يمكن أن يتصل بالجنس، بعد تكرار الحديث عن تلك الرجولة ذكورة و قوة و فتوة( الرجل/الذكر، 8 مرات)، إلا أن تدرج الحلم سيسير في اتجاه مخالف تماما، انتفض معه الرجل دخولا في اليقظة، بعدما رفعت المسنة " فأسها عاليا ثم هوت.." عليه.انطلاقا من تصور كون الحلم في القصة، لا يرد إلا على سبيل الإيهام بما يمكن تفسيره اتصالا بواقع، فيكون في ذلك أقرب إلى المعادل الموضوعي في توظيف تقنية الإيهام بالواقع، يمكن الذهاب إلى قراءة تقارب المحتمل من التأويل، بالنظر إلى ما وقع للرجل، على أنه عقاب لوعيه بالواقع في تشكله الموضوعي بين الأنا و الأنا الأعلى، بحيث يصبح الحلم انعكاسا للموقف المترسب في اللاوعي، والقائم على رفض رؤية الرجل وموقفه مما يجري حوله من أحداث.فجاء اختيار العقاب بصناعة صابون ممتاز من الرجل الذكر الشاب والقوي بعد قتله بهوي الفأس على رأسه، للتخلص من وجوده الذهني في الحاضر أولا، واعتماد مسحوقه للتنظيف من وسخ أو درن محتمل في الواقع ثانيا، و بالتالي قطع دابر استمرار أو امتداد وعي الرجل بصفته السلبية في اللاشعور كمصدر للحقيقة في حياة الإنسان.يمكن تفسير اختيار صناعة الصابون من الرجل في الحلم، بما يحيل عليه الفعل في الذاكرة التاريخية، و تحديدا ما يتصل بأسطورة " الهلوكست "، إذا استحضرنا مبرر أو منطق لجوء ألمانيا الهتلرية لحرق اليهود، والقائم على اعتبارهم جنسا منحطا لا يستحق الحياة، فهل كان حضور المحرقة خلفية تصوير العقاب المتناسب مع تفكير واختيارات الرجل في القصة؟ علما بأنه ظل مواطنا هادئا ومسالما لم يتجاوز تفكيره في التغيير، موقف الناقد والمنتقد بظاهر الوعي بالعالم و تطور أحداثه داخلا وخارجا.على غرار مجمل النصوص، ينوب السارد عن الشخصية القصصية بالحكاية عنها بضمير الغائب منفصلا و متصلا بالاسم أو بالفعل أو بالحرف/ أما هو/ ينفض عنه/ أحلامه...، لكن بحضور لافت يكون فيه صاحب العلم بالتفاصيل و العارف بما كان وبما سيكون، ليس فقط فيما يعود على دينامية الشخصية في واقع اليقظة، بل في كل ما يعيشه حتى في نومه مع أحلامه و كوابيسه.و كما أسلفت في تقديمي للشخصية القصصية عند الكاتب في هذه المجموعة، فإن المهين هو تعامل السارد مع جل شخصيات المجموعة كذوات ذهنية بعيدا عن الاهتمام بأسمائها و هيآتها، مهما بدا عليها عن طريق الإيهام بالواقع من تمثيل مادي لنماذج واقعية.هذا الغنى في إمكانيات التأويل النصي، بتوظيف مستويي الإيهام بالواقع تارة، و الإيهام بالحلم تارة أخرى، يعتبر إضافة نوعية للسرد القصصي عند الكاتب، إن لم يكن أبرز خاصية في كتابته القصصية القصيرة.في القصة التاسعة والأخيرة من مجموعة " لا أنت رأيتنا ولا نحن رأيناك"، تحت عنوان" أسير الرائحة"، سنلتقي مع شكل مغاير لوضعية السارد، إذ يحضر فيها بضمير المتكلم حكاية عن قصته مع رائحة الزعتر، بعدما صار أسيرا لها في تعامله مع الواقع اجتماعيا وسياسيا، وقد توسل بإيهام المتابع لعرضه، بواقع يصدر عنه في نقله لتجربته الشخصية، منذ ظهور تلك الرائحة في حياته مع الاستيقاظ ذات صباح، إذ صارت معياره في التمييز بين النافع و الطالح في علاقته العاطفية والاجتماعية والثقافية والسياسية مع العالم.و لنفي الطابع المادي عن تلك الرائحة التي صار أسيرا لها بعدما سكنته، سيروي السارد لجمهوره/ المتلقي، قصة " عليّ " مع تمكن رائحة منه هو الآخر، فكان من نتائج علاقته بها طرده من العمل عند بائع الدجاج، غير أنه استدرك نفسه بالتخلص منها، لاستئناف حياته المهنية، والعودة إلى التأقلم مع ما لا يرفضه الواقع، على عكس السارد الذي ظل متمسكا بتلك الرائحة مطلقا، رافضا أن يكون لوجوده معنى في الحياة الخاصة والعامة من دونها، لأنها عنده أكبر من رائحة القرنفل العابرة عند"علي".ثمة فرق إذن، بين رائحة الزعتر التي يشمها السارد ملازمة له في مطلق الزمكان الذي يعيشه، و رائحة القرنفل التي شمّها " عليّ " عابرة فتأثرت في وجودها بإكراهات الخارج، و مرجع الاختلاف جوهري كما استدل السارد عليه، حين فصل بين رائحة أصيلة وأخرى اصطناعية، منتهيا إلى رفع اللبس عن المتلقي بخصوص تلك الرائحة التي يعنيها منذ البداية، وهي " رائحة الإنسان"، تلك " الرائحة الأصيلة المتجذرة فينا" والتي" تولد مع كل واحد منان وتنمو وتكبر وتشيخ معنا".بهذه الرؤية، يعيدنا عبد الحميد الغرباوي إلى الشخصية الذهنية التي يراهن عليها في نصوصه القصصية منذ البداية، شخصية لا يهمها أن تكون متصالحة مع العالم في واقعها المادي، بقدر ما يهمها التصالح مع الذات في عمقها الطبيعي القريب من الفطرة الإنسانية الأولى، قبل تدخل رقابة الأنا الأعلى لصياغة شكل وجودي للأنا.أما باقي التفاصيل التي تؤثث القصة مما يدخل في صميم الإيهام بالواقع، فإنها لم تكن ذات إشعاع فني بعيد الإيحاء بصورها أو نماذج شخوصها،أمام انشغال الكاتب بما هو أعمق من القصة وأعني به البعد الفكري للتصورات التي توجه السارد وخلفه الكاتب كما قلت.تلك انطباعات تشكلت خلال قراءة المجموعة، فانتهت تحت عنوان عريض يميل إلى تغليب خروج النصوص عن مداخل التقليد في بنية القصة الكلاسيكية، بانحيازها لتطوراتها الحديثة، وما تستدعيه من واستثمار مجمل التقنيات السردية في بنينة القصة في المجموعة، التوظيف الفني لتقنيات الاسترجاع والإيهام بالواقع أو بالحلم، وما يستدعيه السياق السردي من تيار الوعي الموضوعي أو تيار التداعي الذاتي، مع ما يمكن أن يظهر من ملامح التجديد في بنينة القصة على أكثر من وضعية للسارد، عدا ما تم استثماره من بعد انحيازها الواعي بياضات أو حذوف، راهنت على تفاعل المتلقي مع مضمراتها و إيحاءاتها، بحيث يصعب الاقتصار على مساءلة القصص بما يجرها إلى المحافظة على الاتباع، في حضور أكثر من ملمح فني يدفع بها نحو المغايرة على الإبداع،خاصة فيما يتصل بتصور قيام المجموعة على بنية الشخصية الذهنية اعتمادا على تقنية الإيهام بالحلم.أما بعد، فإني لم أجد وصفا أبعد في تمثيل تجربة الكاتب المغربي عبد الحميد الغرباوي مع القصة القصيرة من عنوان القصة الذهنية، بحكم انشغاله بالنفس الإنسانية و اشتغاله على طبيعة الوعي بالذات وبالعالم، رغم الاقتصار على الوجود الذكوري في غياب المرأة، والمجتمع المديني دون تشكيلات المجتمع القروي، بالإضافة إلى تأجيل التعاطي مع اللغة اليومية المرتبطة بمقامات الحوار، و التي بقيت على هامش التوظيف المعياري للفصحى، دون استثمار إمكانيتها لتعميق التواصل بالمشترك الدلالي في بيئة و مجتمع الشخوص والأحداث التي تعاملت معها نصوص المجموعة.

    " مُـجَـرَّدُ كَـلاَمِ عَـجُـوزٍ لَـمْ يُـدْرِكْـهُ الْـبُـلُـوغ "
يعمل...
X